هشام النجار
14-10-2013, 09:41 PM
للوهلة الأولى عندما رأيته أول مرة، عرفت أن قصة ما ستجمعنا.. أحسست أن شيئا ما سيحدث بيننا، لكننى لم أتخيل هذه الأحداث والتفاصيل ، ولم أتوقع هذه النهاية .
لا أدرى لماذا أكتب اليوم بعد كل هذه السنين عنه بالذات – يوسف –
لم أفكر يوما في الكتابة.. لم أقرأ يوما كتاباً أو حتى جريدة .. ألتقط الأخبار سريعاً من نشرات التلفاز .. ولا أهتم كثيرا ببرامج الثرثرة والتحليلات والحوارات . كانت كل اهتماماتي في شكلي ومظهري ومكياجى وعطوري .. حتى علاقاتي بالآخرين وخاصة الزملاء من الرجال ، لم أكن أهتم بها كثيرا.. لم أدون حرفاً منها.. لم أكن حتى أميل إلى تذكرها والتفكير فيها.. فكلها متشابهة حتى أنني كنت أتوقع وأضع نهايات لها قبل أن تبدأ .
أنظر إلى المرآة اليوم .. أتمنى وأنا أطل على تجاعيدي وشعري الأبيض الفضي أن أعود إلى ما كنت عليه قبل ثلاثين سنة.. لا لأعيد سيناريو حياتي مرة ثانية.. ولكن لأعيش حياة مختلفة ، لأكون إنسانة أخرى غير التي كنتها .
لماذا أكتب عن يوسف اليوم ؟
ربما لأنه أصابني بما يشبه الصدمة .. أو لأنه انتشلني من واقعي وغير مسار حياتي .. ربما لأنه أفاقني من غيبوبة الأنا وعشق الذات ، وفاجأني بالحقيقة ، وألجأني إلى الحق ، ربما لأنه أسكت داخلي عواء النهم وأخرس هتافات الطموح والانطلاق المجنون بلا سقف ولا غاية .. وأوقف قطاري الذي لم أكن أدرى إلى أين يسير بي مسرعاً .
يوسف .. ربما لأنه غير نظرتي للأشخاص والأشياء والكون والانسان .. أو لأنه خلصني من عدو لم أصدق يوماً ولم أتوقع أن يكون عدواً لي .. وهو نفسي.
يوسف؟ ومن غيره؟.. نعم انه يوسف الذي ترك في أثراً لا يمحوه الزمن.. وسيظل في ذاكرتي وقلبي وروحي ووجداني إلى أن أفقد تلك الذاكرة ويتوقف ذلك القلب وتزهق تلك الروح ويموت ذلك الوجدان.
يوسف كان جميلاً .. هو أوسم من رأيت من الرجال .. قابلته أول مرة في مكتب المدير عندما كان يقدم أوراق تعيينه .. وعندما وقعت عيناي عليه ، قلت في نفسي .. هذا هو ، لقد وجدت من أبحث عنه.. هذا فعلاً هو الجدير بالاهتمام .
كانت كل محاولات الزملاء والعملاء والرؤساء معي مصيرها الفشل .. ولكن لا مانع من أن أطيب خاطر هذا بكلمة وذاك بابتسامة أو أمنى ذلك بلقاء.. كنتُ جميلة جداً.. ولازلت رغم بلوغي السبعين ، غير أن نظرتي للجمال تغيرت بفعل يوسف .. كان الجميع يخطب ودي ويتمنى نظرة منى .
سألته عن اسمه .. قال في خجل : يوسف..
سألته عن عنوانه .. قال في وجل: أقطن حيا شعبيا مظلماً مليئا بالثعالب والثعابين..
ضحكت... سألته.. أين كنت.. أين درست.. من أين أتيت.. لماذا لم أقابلك من سنين؟
يا الله.. عام بأكمله ، وهذا المارد البارد يتأبى ويتمنع ، ويرد على كلامي باقتضاب ، وينظر إلى شذراً، ويعاملني كأحد زملائه الرجال .
يا الله .. ما الذي يجعل رجلاً مثله يرفض امرأة مثلى .. أي قوة أوتيها هذا الرجل الجبل تمكنه من الإعراض عنى؟
كدتُ أجن وأنا أفقد كبريائي شيئاً فشيئاً أمام هذا المخلوق .. آثرتُ الموت على أن يتمكن من الإفلات منى .
قلت له ذات مرة.. من تظن نفسك يا هذا ؟
هل أنت يوسف الصديق هذا الزمان ؟
نظر إلى بعينين جامدتين ووجه بارد قد جف دمه.. وسرعان ما اغرورقت هاتان العينان الجميلتان بالدموع .. ثم انتفض واقفاً .. وخرج من المكتب مسرعاً ، ورأيته بعد قليل يغادر الشركة.. تابعته من النافذة ، فوجدته يعدو في الشارع بين السيارات كأن أحداً يلاحقه .
غلبني كبريائي .. لم أفكر ساعتها في اكتشاف هذا الرجل الغامض ومعرفة ما وراءه .. لم أكلف نفسي بالبحث عن سره الذي يخبئه.. كل ما أردته يومها هو هزيمته وكسره والثأر لكرامتي .
استخدمت نفوذي الأنثوي لدى الزملاء .. استغللت دلالى وسطوتي الطاغية لدى مدير الشركة .. ألبت ضده حتى عامل النظافة والساعي الذي يصنع لنا القهوة والشاي .
يومان قضاهما يوسف هذا الزمان بين السخرية والتعليقات الجارحة والتكليفات الشاقة المذلة ثم اختفي ..
اختفي كأن لم يكن .. انتظرته بمشاعر متناقضة، بين لهفة المُتيمة ورغبة التشفي والانتقام .
لكنه لم يعد ..
مرت الأيام كأنها سنوات.. صرتُ لا أفكر إلا في يوسف.. لم تعد لدى رغبة في أي شيء.. فقدت شهيتي للحياة .
بحثت عن عنوانه في أوراق تعيينه .. ذهبتُ إلى منزله.. لم أجد أحداً.. ظللتُ أتردد على الشقة المغلقة أياماً دون فائدة .. استجمعتُ قواي واستحضرت شجاعتي واستدعيت جرأتي القديمة.. وطرقت الباب على أحد جيرانه .. سألته عن يوسف.. ؟
قالها ، كأنه يقذف بها في وجهي ويصدم بها كياني : البقاء لله..
سألته مذهولة.. كيف؟
أخبرني أنه كان جاره وصديقه المقرب.. وحكي لي القصة من البداية إلى النهاية .
قص على كيف قدم يوسف من القرية هارباً من إخوته الذين حاولوا قتله بسبب قطعة الأرض التي كتبتها أمه باسمه قبيل وفاتها .. حكي لي عن زوجته التي ماتت مع جنينها أثناء الولادة.. قص لي معاناته في الشركة التي التحق بها للعمل بعد مجيئه القاهرة .. وعن تلك الزميلة الجميلة المشاكسة التي كان ينوى الزواج بها بعد أن تنقضي أحزانه ، وتبرد نيران فقده لزوجته وولده .
لا أستطيع أن أخفي توتري اليوم عندما يسألني إبنى الأكبر الباشمهندس يوسف.. لماذا تقومين الليل يا أمي بسورة يوسف بالذات.. لماذا في كل مرة أسمع نحيبك وبكاءَك وأنت ترددين قولَ الله من السورة " اقْتُلُواْ يُوسُفَ".
لا أدرى لماذا أكتب اليوم بعد كل هذه السنين عنه بالذات – يوسف –
لم أفكر يوما في الكتابة.. لم أقرأ يوما كتاباً أو حتى جريدة .. ألتقط الأخبار سريعاً من نشرات التلفاز .. ولا أهتم كثيرا ببرامج الثرثرة والتحليلات والحوارات . كانت كل اهتماماتي في شكلي ومظهري ومكياجى وعطوري .. حتى علاقاتي بالآخرين وخاصة الزملاء من الرجال ، لم أكن أهتم بها كثيرا.. لم أدون حرفاً منها.. لم أكن حتى أميل إلى تذكرها والتفكير فيها.. فكلها متشابهة حتى أنني كنت أتوقع وأضع نهايات لها قبل أن تبدأ .
أنظر إلى المرآة اليوم .. أتمنى وأنا أطل على تجاعيدي وشعري الأبيض الفضي أن أعود إلى ما كنت عليه قبل ثلاثين سنة.. لا لأعيد سيناريو حياتي مرة ثانية.. ولكن لأعيش حياة مختلفة ، لأكون إنسانة أخرى غير التي كنتها .
لماذا أكتب عن يوسف اليوم ؟
ربما لأنه أصابني بما يشبه الصدمة .. أو لأنه انتشلني من واقعي وغير مسار حياتي .. ربما لأنه أفاقني من غيبوبة الأنا وعشق الذات ، وفاجأني بالحقيقة ، وألجأني إلى الحق ، ربما لأنه أسكت داخلي عواء النهم وأخرس هتافات الطموح والانطلاق المجنون بلا سقف ولا غاية .. وأوقف قطاري الذي لم أكن أدرى إلى أين يسير بي مسرعاً .
يوسف .. ربما لأنه غير نظرتي للأشخاص والأشياء والكون والانسان .. أو لأنه خلصني من عدو لم أصدق يوماً ولم أتوقع أن يكون عدواً لي .. وهو نفسي.
يوسف؟ ومن غيره؟.. نعم انه يوسف الذي ترك في أثراً لا يمحوه الزمن.. وسيظل في ذاكرتي وقلبي وروحي ووجداني إلى أن أفقد تلك الذاكرة ويتوقف ذلك القلب وتزهق تلك الروح ويموت ذلك الوجدان.
يوسف كان جميلاً .. هو أوسم من رأيت من الرجال .. قابلته أول مرة في مكتب المدير عندما كان يقدم أوراق تعيينه .. وعندما وقعت عيناي عليه ، قلت في نفسي .. هذا هو ، لقد وجدت من أبحث عنه.. هذا فعلاً هو الجدير بالاهتمام .
كانت كل محاولات الزملاء والعملاء والرؤساء معي مصيرها الفشل .. ولكن لا مانع من أن أطيب خاطر هذا بكلمة وذاك بابتسامة أو أمنى ذلك بلقاء.. كنتُ جميلة جداً.. ولازلت رغم بلوغي السبعين ، غير أن نظرتي للجمال تغيرت بفعل يوسف .. كان الجميع يخطب ودي ويتمنى نظرة منى .
سألته عن اسمه .. قال في خجل : يوسف..
سألته عن عنوانه .. قال في وجل: أقطن حيا شعبيا مظلماً مليئا بالثعالب والثعابين..
ضحكت... سألته.. أين كنت.. أين درست.. من أين أتيت.. لماذا لم أقابلك من سنين؟
يا الله.. عام بأكمله ، وهذا المارد البارد يتأبى ويتمنع ، ويرد على كلامي باقتضاب ، وينظر إلى شذراً، ويعاملني كأحد زملائه الرجال .
يا الله .. ما الذي يجعل رجلاً مثله يرفض امرأة مثلى .. أي قوة أوتيها هذا الرجل الجبل تمكنه من الإعراض عنى؟
كدتُ أجن وأنا أفقد كبريائي شيئاً فشيئاً أمام هذا المخلوق .. آثرتُ الموت على أن يتمكن من الإفلات منى .
قلت له ذات مرة.. من تظن نفسك يا هذا ؟
هل أنت يوسف الصديق هذا الزمان ؟
نظر إلى بعينين جامدتين ووجه بارد قد جف دمه.. وسرعان ما اغرورقت هاتان العينان الجميلتان بالدموع .. ثم انتفض واقفاً .. وخرج من المكتب مسرعاً ، ورأيته بعد قليل يغادر الشركة.. تابعته من النافذة ، فوجدته يعدو في الشارع بين السيارات كأن أحداً يلاحقه .
غلبني كبريائي .. لم أفكر ساعتها في اكتشاف هذا الرجل الغامض ومعرفة ما وراءه .. لم أكلف نفسي بالبحث عن سره الذي يخبئه.. كل ما أردته يومها هو هزيمته وكسره والثأر لكرامتي .
استخدمت نفوذي الأنثوي لدى الزملاء .. استغللت دلالى وسطوتي الطاغية لدى مدير الشركة .. ألبت ضده حتى عامل النظافة والساعي الذي يصنع لنا القهوة والشاي .
يومان قضاهما يوسف هذا الزمان بين السخرية والتعليقات الجارحة والتكليفات الشاقة المذلة ثم اختفي ..
اختفي كأن لم يكن .. انتظرته بمشاعر متناقضة، بين لهفة المُتيمة ورغبة التشفي والانتقام .
لكنه لم يعد ..
مرت الأيام كأنها سنوات.. صرتُ لا أفكر إلا في يوسف.. لم تعد لدى رغبة في أي شيء.. فقدت شهيتي للحياة .
بحثت عن عنوانه في أوراق تعيينه .. ذهبتُ إلى منزله.. لم أجد أحداً.. ظللتُ أتردد على الشقة المغلقة أياماً دون فائدة .. استجمعتُ قواي واستحضرت شجاعتي واستدعيت جرأتي القديمة.. وطرقت الباب على أحد جيرانه .. سألته عن يوسف.. ؟
قالها ، كأنه يقذف بها في وجهي ويصدم بها كياني : البقاء لله..
سألته مذهولة.. كيف؟
أخبرني أنه كان جاره وصديقه المقرب.. وحكي لي القصة من البداية إلى النهاية .
قص على كيف قدم يوسف من القرية هارباً من إخوته الذين حاولوا قتله بسبب قطعة الأرض التي كتبتها أمه باسمه قبيل وفاتها .. حكي لي عن زوجته التي ماتت مع جنينها أثناء الولادة.. قص لي معاناته في الشركة التي التحق بها للعمل بعد مجيئه القاهرة .. وعن تلك الزميلة الجميلة المشاكسة التي كان ينوى الزواج بها بعد أن تنقضي أحزانه ، وتبرد نيران فقده لزوجته وولده .
لا أستطيع أن أخفي توتري اليوم عندما يسألني إبنى الأكبر الباشمهندس يوسف.. لماذا تقومين الليل يا أمي بسورة يوسف بالذات.. لماذا في كل مرة أسمع نحيبك وبكاءَك وأنت ترددين قولَ الله من السورة " اقْتُلُواْ يُوسُفَ".