الدكتور أحمد قاسم العريقي
16-10-2013, 09:46 AM
بِنْتُ الوادي
تدقُّ أجراسُ القلبِ كُلمّا يأتي وقتُ الحكايةِ، لتُعلنَ نُزهة الروحِ مِن أعباءِ الحياةِ المُثقلةِ بحلمِ الوجودِ، ويرقصُ جذلاً على نقراتِ الأجراسِ المُموسقة بألحانِ الحنينِ المُوشّى بحروفِ السؤالِ عن حكايةٍ جديدةٍ، فتنمو أجنحةُ الفرحةِ فينا لتطيرَ بنا إلى مجلسِ الحكايةِ، مُحلّقةً بنا عبرَ الزمن، تطوفُ بِنا في أرجوحةِ حلمٍ في بُستانِ الحكاية لنستمع ، إلى دهشةٍ جديدةٍ تتدلى عناقيدَ روعةٍ وخيالاً، تقطفُ منهُ الجدةُ حمامةُ كُلَّ يومٍ حكايةً جديدةً، تخطّها في صفحاتِ الذاكرةِ البيضاءِ فينا، لترسم روحَ المحبّةِ والفضيلةِ التي يدعو إليها الأنبياء والحكماء. بينما كنا نضحكُ للدنيا أقبلت الجدةُ حمامةُ ببهائها وروعتها.
جلستْ، ونحن ننظرُ إلى شفتيها، متى ستنثرُ الدُّررَ من فمها التي نُعلّقهن سمطاً على صدورنا من الداخلِ. بدأنا نستعجلها: هيَّا ، هيَّا يا جدّة . احكِ (سُمّاية) اليومِ، ردّتْ: ماذا تريدون أنتم ؟ هل أحكي حكايةَ بنتِ السُّلطانِ أو شيخِ الجانِ أو (بِنْتِ الوادي) يا فِتيان
هتفنا جَميعاً بِنْتِ الوادي، بِنْت الوادي... فنحنُ لم نسمعها مِن قَبلُ يا جَدة .
بدأتْ تحكي حكايتها، قالتْ :
ـــ بسمِ الله الرحمنِ، أعوذُ بالله مِن كُلِّ شيطانٍ أو شَرِّ يأتي مِن جانٍ في صورة إنسانٍ أو يَنْبتُ في الأرضِ وما يخرجُ منها. نسألهُ الرشدَ مِنَ المهدِ إلى اللّحدِ.
يحكى يا أحفادي أنّ بِلاداً تُدعى (أرضُ السَعدِ) فيها تُزرعُ فاكهةٌ , ونخيلٌ، أعنابٌ ما لذّ وطابَ، فيها الخيرُ وفيرٌ، والماءُ غزيرٌ.
في يومٍ فاضت بِئرُ الوادي والماءُ جرى غيلاً، هبَّ رِجالُ القريةِ نحو البئرِ، والدهشةُ تملأ عقلَ الناس، وجدوا بِنتاً عمرها يوماً تطفو في ماءِ البئرِ، فاندهشَ الناسُ وكُلٌّ يسأل : أيُّ امرأةٍ ألقتْ بِرضِيعتها في البئرِ ؟! مِنهم مَنْ قالَى: كيف تسيئون الظنّ بقريتنا، هيَ مُعجزةُ الله، أترون البئرَ تفيضُ لنا أوّل مرّة !. والطفلةُ هذه تطفو فيها لم تغرقْ، هي مُعجزةٌ الله،.... صاحَ الناسُ : حقًّا هيَ مُعجزةُ اللهِ وقد نضحتها البئرُ.
جلسوا جمعاً كُلٌّ يَتساءلُ مَن يَكفلْها، فإذا امرأةٌ تُدعى (وضْحى) ليس لها أولادٌ في الدنيا. أخذتها والفرحُة تملؤها فالطفلةُ مُعجزةُ اللهِ لهم، أسمتها (بِنْت الوادي).
بلغتْ عُمرَ الوردِ، شعّتْ حُسناً ودلالاً في القريةِ . والقرية لمّا شحّت فيها الأمطارُ وجفّت فيها الآبارُ يبسَ الزرعُ. خرجت بِنْت الوادي تمشي في حقلٍ وتغنّي قائلةً: يا أرضُ اخضرّي اخضرّي، بعدَ الخطوةِ مِن سيري ...
ظلّت تمشي حتى بلغتْ طرفِ الحَقلِ اليابس .
في الصبحِ الباكرِ مرّ على الحقلِ الأخضرِ؛ مالكُهُ فرآهُ مُخضرًّا، ملأتهُ الدهشةُ حين رأى الخُضرةَ تكسو الحقلَ تماماً والناسُ إلى الحقلِ اندفعت فرأوا فيهِ مُعجزةً، عرفوا بعدئذٍ, قالوا: بِنتَ الوادي كانت تلعبُ في الحقلِ.
ذهبوا سألواها : يا بِنتَ الوادي كيف اخضرّ الحقلُ، فقالت : كُنتُ أنا أمشي فيهِ أدعو اللهَ بأنْ يخضرَّ الحقلُ فاخضرّ. قالوا: إنّ دُعاءك هذا مَقبولٌ عند الله ، أنتِ بِنْتُ سحابٍ فلتأتِ الأن إلى البئرِ فقد غاض الماءُ بها ، ولتدعين اللهَ لنا لتفيضَ بماءٍ للقرية.
وقفتْ بِنْتُ الوادي فوق البئرِ، وقالت : يا نبعُ تدفّقْ ، وارحمْ بالقريةِ واشفقْ .. يا نبعُ تدفّقْ. فاضت يا أحفادي، بئرُ لهُم القريةِ بالماءِ وانسابَ على الوادي غيلاً ، والناسُ كثيراً فرحَت لمَّا نضحت ماءُ البئر، ذهبوا يرجون لكي تخطوَ في أرضٍ قد يبست، حتى يخضرَّ الزرعُ بها .
مرّت فيها بِنتُ الوادي فاخضرّ العُشبُ، ولكنَّ حين تقولُ الكلماتِ كثيراً تشعرُ بالتعبِ المُضنى، تزدادُ نحولاً.
عرفتْ أنّ كرامتها لن تبقى طويلاً إنْ ظلّت تستخدمها في الأرضِ لتخضر.
عَلِمتْ يا أولادي، كُل قُرى الوادي، وقرىً أخرى بكراماتٍ تعملها بِنْتُ الوادي. طلبت يوماً إحْداها مِن قريّةِ (أرضِ السعدِ ) لتمنحهم بِنتَ الوادي أياماً ؛ كي تمشيَ في أرضٍ أصفرّ الزرعُ بها، لكنَّ القرية ردّتْ قائلةً: ابنتنا مرِضت لن تقدرَ أن تأتيْ معكم.
كان في تلك القريةِ سَحّارٌ يُدعى (رعّاشُ)، يخدمهُ جِنّيٌّ يُدعى (بِرقاشُ)، فحين يُناديهِ الساحرُ يحضرُ في الحالِ، فناده ُ: احضرْ يا بِرقاشُ هنا، فأتى الجِنّيْ من تحتِ الأرضِ، وقالَ: نَعمْ لبّيك . عبدكُ برقاشُ يمثلُ بين يديك . قالَ الساحرُ : يا برقاشُ احضرْ بِنْتَ الوادي في الساعةِ والحينِ لأقتلها، قالَ الجِنّيُّ: لبّيك. سأحضرها بين يديك. طارَ وغابَ عنَ الأبصار.
بِرقاشُ عادَ يا أحفادي مَقروراً، مرعوباً، سألَ الساحرُ: ما يجرى يا برقاشُ ؟ قالَ الجِنّيُّ مُرتجفاً: مولاي مددتُ يدي كي أخطفَ بِنت الوادي، إذ بي أتجمّدُ كالثلجِ، كِدتُّ أن أفنى فتوسّلتُ إليها أن تعفوَ عنّي ولها أعطيتُ العهدَ بأنْ لا أمسسها يوماً بالضرِّ أبداً، فعفتْ عنّي وأتيت إليك .
غِضبَ الساحرُ رعّاشُ قال لهُ: يا برقاشُ فشلتَ ولم تقدرْ أن تأتيَ بفتاةٍ هيَ أدنى من إصبعك الصُغرى، فسأحبسكَ الآن سنيناً في الخاتم هذا إن لم تأتِ بها في الساعةِ والحين. بكى الجنّيُّ، وقالَ: اغفرْ لي اغفرْ لي فسأحضرُ غيري مَن يقتلها، قالَ الساحرُ: مَن ذاك وهلْ هو عفريتٌ
من جانٍ. ؟ ردّ الجنيُّ : لا، لا يا مولاي... بل هيَ من أشجارِ الحيوان. زُرعت يوماً من قَرْنِ يغرس الشيطان. نبتتْ في أرضِ السودانِ، ستقضي على بِنتِ الوادي، وتشرّدُ قريتها . صاحَ رعّاشٌ : يا جنيْ عليك الآنَ أن تأتِ بها...أو تُحبسُ في الخاتم حتى يومَ الدين.
طار الجنّيُ أيا أحبابْي بين رُكامِ سحابٍ مرّ جبالاً وبحاراً وصحارٍ، عادَ ليحملها بين يديهِ يشكو مِن عرفِ الشجرةْ . رعّاشُ قال والبهجةُ في عينيه : فلتزرعْ في أرضِ السعدِ ليلاً، نظرَ الناسُ إليها فامتلأوا رعباً مِنها، وجدوا فيها ثمراً كالعلقمِ، والأوراقُ بها شوكٌ كالصبّارِ تشبهُ رُمحَ سِنانٍ ولِحاها جِلدُ الثُّعبان. قالَ الناسُ : هذه مِن أشجارٍ لم تُعرفْ مِن قبلُ لا يرضى أحدٌ أن تبقى في أرضه.
رعّاشٌ قال لهم : لابدّ وأن تتحوّلَ غُصناً فتّاناً يرقصُ بين الأغصانِ يسرُّ القلبَ، ويفتنُ مِثل حبيبٍ، أحلى مِن عنبٍ وزبيبٍ، يجري الكُلُّ إليهِا قبل الزادِ .
يا أحباب رمى برقاشُ رماداً مسحوراً فيها حوّلها غُصناً كالزهرِ، لهُ رائحةُ العطرِ، وطعمُ التمرِ، فيه سرورٌ
والعقلُ يُحلّقُ منهُ في الكون يطيرُ، وقالَ لِمن كان بجانبه: خُذها ليلاً ولتزرعْ سِرًّا في إحدى أراضي شيخِ القريةِ . زرعوها في أرضِ الشيخِ ، كبُرتْ قبلَ الأشجارِ الأخرى. في يومٍ مرّ الشيخُ بجانبها وتنسّمَ عطراً منها، مضغ الأوراق ,سرى سحرٌ فيهِ، فدوام يأكلُ منها فأحسَّ بنشوتها وكعنترِ بن شدادٍ. وكسلطانٌ في كُلِّ بلادْ ...، وأحسّ بقرنينِ كما التيسِ على الرأسِ تنمو مُسرعةً، خافَ منِ القِرنين، توقّف عن مضغِ الأوراقِ وأخرجَ من فمهِ المحشوَّ رماداً أخضرَ، إذ بالقرنين اختفيا.
فرحَ الشيخُ قال يحدّث نفسهُ: لن أتذوّقَ منها بعد الآنِ ولكن في اليومِ الثاني قطفَ الأوراقَ ،حشى الفمَّ وقالَ سأخفي القِرنينِ عنِ الناسِ، وداوم مضغ الأشجار حتى انتفخَ الخدُّ بهِ كالزمّار .
كثُرت في أرضِ الشيخِ وتحتاج إلى الماءِ كثيراً، أجبرَ بِنتَ الوادي لتمرّ عليها كي تخضرّ ولا تذبلَ. كثرت تلك الأشجارُ على الأرضِ يا أحفادي، وانتشرت في أرضِ القريةِ والوادي
يتقوّتها الناسُ جهاراً كالأغنامِ وكالثيران.
بدأ الناسُ نِزاعاً عن بِنتِ الوادي وعلى الأرضِ أنسابَ دمٌ ِكي تمشيَ بين الأشجارِ لتخضرّ ولا تذبل. قالوا لابدّ لبِنْتِ الوادي أنْ تمشي في كُلِّ حقولِ القريةِ كي تنبتَ فيها الأشجار وتخضرُ.
ظلت بِنتُ الوادي زمناً تمشي بين الأشجارِ، وتزداد نحولاً شيئاً شيئاً، حتى مرضت، لم تقدرْ أن تمشي، وبقت تبكي تبكي...حتى جفّت عيناها. في يومٍ قالت : إنّي اشتقتُ إلى البئرِ، خذوني حالاً لأراها،.... أخذوها، نظرت فيها لم يبقَ الماء بها غير قليلٍ، قالت: يا رب، ارجعني من حيث أتيتُ ومن ثمَّ ألقتْ جثّتها في الماءِ وذابت مِلحاً لم يبقَ في البئرِ منها غير الثوب على الماءِ طافٍ فيها.
غار الماء يا أحفادُ ولم يبق أصبح غوراً. أهلُ القرية جاءوا يبكون لفُقدانِ أعزّ الأشياءِ لهم.
غادر أهلُ القريةِ قريتهم بحثاً عن ماءٍ ساحوا في البلدان وحين يمرّون ببلادٍ يجدون البِنت ينادون: يا بِنت الوادي مُتِّ في قريتنا، كيف أنتِ هنا ؟!
؟!قالت : إنّي أحيا وأموتُ لأحيا وأعيشَ كثيراً بين أناسٍ يسعون لكسبِ رضاى، لا يسعون هلاكي.
صارت يا أحفادي بلدَ السعِد تندبُ حظاًّ خسرتهُ، تلطم خديها لفناء النِّعمةِ في بلدتهم وصلاتي وسلامي على رسول الله، محمد بن عبد الله .
تأهّبت الجدةُ للعودةِ فسألناها : ماذا ستحكين لنا يا جدةُ في الغدِ ؟ ردت : سأحكي لكم يا فتيان، حكايةَ ليلى وشيخَ الجان .
ألتفت عبد الحق إلى الخلفِ رأى سالماً نائماً فصاحَ قريباً من أذنه: قُمْ يا كيسَ النومِ بِنت الوادي ماتت، صحى سالمُ وهو يقولُ : ها .. ماذا جرى لبِنتِ الوادي، هل مات من قتلها .!؟ ( الحكاية منضومة بشعر التفعيلة)
تدقُّ أجراسُ القلبِ كُلمّا يأتي وقتُ الحكايةِ، لتُعلنَ نُزهة الروحِ مِن أعباءِ الحياةِ المُثقلةِ بحلمِ الوجودِ، ويرقصُ جذلاً على نقراتِ الأجراسِ المُموسقة بألحانِ الحنينِ المُوشّى بحروفِ السؤالِ عن حكايةٍ جديدةٍ، فتنمو أجنحةُ الفرحةِ فينا لتطيرَ بنا إلى مجلسِ الحكايةِ، مُحلّقةً بنا عبرَ الزمن، تطوفُ بِنا في أرجوحةِ حلمٍ في بُستانِ الحكاية لنستمع ، إلى دهشةٍ جديدةٍ تتدلى عناقيدَ روعةٍ وخيالاً، تقطفُ منهُ الجدةُ حمامةُ كُلَّ يومٍ حكايةً جديدةً، تخطّها في صفحاتِ الذاكرةِ البيضاءِ فينا، لترسم روحَ المحبّةِ والفضيلةِ التي يدعو إليها الأنبياء والحكماء. بينما كنا نضحكُ للدنيا أقبلت الجدةُ حمامةُ ببهائها وروعتها.
جلستْ، ونحن ننظرُ إلى شفتيها، متى ستنثرُ الدُّررَ من فمها التي نُعلّقهن سمطاً على صدورنا من الداخلِ. بدأنا نستعجلها: هيَّا ، هيَّا يا جدّة . احكِ (سُمّاية) اليومِ، ردّتْ: ماذا تريدون أنتم ؟ هل أحكي حكايةَ بنتِ السُّلطانِ أو شيخِ الجانِ أو (بِنْتِ الوادي) يا فِتيان
هتفنا جَميعاً بِنْتِ الوادي، بِنْت الوادي... فنحنُ لم نسمعها مِن قَبلُ يا جَدة .
بدأتْ تحكي حكايتها، قالتْ :
ـــ بسمِ الله الرحمنِ، أعوذُ بالله مِن كُلِّ شيطانٍ أو شَرِّ يأتي مِن جانٍ في صورة إنسانٍ أو يَنْبتُ في الأرضِ وما يخرجُ منها. نسألهُ الرشدَ مِنَ المهدِ إلى اللّحدِ.
يحكى يا أحفادي أنّ بِلاداً تُدعى (أرضُ السَعدِ) فيها تُزرعُ فاكهةٌ , ونخيلٌ، أعنابٌ ما لذّ وطابَ، فيها الخيرُ وفيرٌ، والماءُ غزيرٌ.
في يومٍ فاضت بِئرُ الوادي والماءُ جرى غيلاً، هبَّ رِجالُ القريةِ نحو البئرِ، والدهشةُ تملأ عقلَ الناس، وجدوا بِنتاً عمرها يوماً تطفو في ماءِ البئرِ، فاندهشَ الناسُ وكُلٌّ يسأل : أيُّ امرأةٍ ألقتْ بِرضِيعتها في البئرِ ؟! مِنهم مَنْ قالَى: كيف تسيئون الظنّ بقريتنا، هيَ مُعجزةُ الله، أترون البئرَ تفيضُ لنا أوّل مرّة !. والطفلةُ هذه تطفو فيها لم تغرقْ، هي مُعجزةٌ الله،.... صاحَ الناسُ : حقًّا هيَ مُعجزةُ اللهِ وقد نضحتها البئرُ.
جلسوا جمعاً كُلٌّ يَتساءلُ مَن يَكفلْها، فإذا امرأةٌ تُدعى (وضْحى) ليس لها أولادٌ في الدنيا. أخذتها والفرحُة تملؤها فالطفلةُ مُعجزةُ اللهِ لهم، أسمتها (بِنْت الوادي).
بلغتْ عُمرَ الوردِ، شعّتْ حُسناً ودلالاً في القريةِ . والقرية لمّا شحّت فيها الأمطارُ وجفّت فيها الآبارُ يبسَ الزرعُ. خرجت بِنْت الوادي تمشي في حقلٍ وتغنّي قائلةً: يا أرضُ اخضرّي اخضرّي، بعدَ الخطوةِ مِن سيري ...
ظلّت تمشي حتى بلغتْ طرفِ الحَقلِ اليابس .
في الصبحِ الباكرِ مرّ على الحقلِ الأخضرِ؛ مالكُهُ فرآهُ مُخضرًّا، ملأتهُ الدهشةُ حين رأى الخُضرةَ تكسو الحقلَ تماماً والناسُ إلى الحقلِ اندفعت فرأوا فيهِ مُعجزةً، عرفوا بعدئذٍ, قالوا: بِنتَ الوادي كانت تلعبُ في الحقلِ.
ذهبوا سألواها : يا بِنتَ الوادي كيف اخضرّ الحقلُ، فقالت : كُنتُ أنا أمشي فيهِ أدعو اللهَ بأنْ يخضرَّ الحقلُ فاخضرّ. قالوا: إنّ دُعاءك هذا مَقبولٌ عند الله ، أنتِ بِنْتُ سحابٍ فلتأتِ الأن إلى البئرِ فقد غاض الماءُ بها ، ولتدعين اللهَ لنا لتفيضَ بماءٍ للقرية.
وقفتْ بِنْتُ الوادي فوق البئرِ، وقالت : يا نبعُ تدفّقْ ، وارحمْ بالقريةِ واشفقْ .. يا نبعُ تدفّقْ. فاضت يا أحفادي، بئرُ لهُم القريةِ بالماءِ وانسابَ على الوادي غيلاً ، والناسُ كثيراً فرحَت لمَّا نضحت ماءُ البئر، ذهبوا يرجون لكي تخطوَ في أرضٍ قد يبست، حتى يخضرَّ الزرعُ بها .
مرّت فيها بِنتُ الوادي فاخضرّ العُشبُ، ولكنَّ حين تقولُ الكلماتِ كثيراً تشعرُ بالتعبِ المُضنى، تزدادُ نحولاً.
عرفتْ أنّ كرامتها لن تبقى طويلاً إنْ ظلّت تستخدمها في الأرضِ لتخضر.
عَلِمتْ يا أولادي، كُل قُرى الوادي، وقرىً أخرى بكراماتٍ تعملها بِنْتُ الوادي. طلبت يوماً إحْداها مِن قريّةِ (أرضِ السعدِ ) لتمنحهم بِنتَ الوادي أياماً ؛ كي تمشيَ في أرضٍ أصفرّ الزرعُ بها، لكنَّ القرية ردّتْ قائلةً: ابنتنا مرِضت لن تقدرَ أن تأتيْ معكم.
كان في تلك القريةِ سَحّارٌ يُدعى (رعّاشُ)، يخدمهُ جِنّيٌّ يُدعى (بِرقاشُ)، فحين يُناديهِ الساحرُ يحضرُ في الحالِ، فناده ُ: احضرْ يا بِرقاشُ هنا، فأتى الجِنّيْ من تحتِ الأرضِ، وقالَ: نَعمْ لبّيك . عبدكُ برقاشُ يمثلُ بين يديك . قالَ الساحرُ : يا برقاشُ احضرْ بِنْتَ الوادي في الساعةِ والحينِ لأقتلها، قالَ الجِنّيُّ: لبّيك. سأحضرها بين يديك. طارَ وغابَ عنَ الأبصار.
بِرقاشُ عادَ يا أحفادي مَقروراً، مرعوباً، سألَ الساحرُ: ما يجرى يا برقاشُ ؟ قالَ الجِنّيُّ مُرتجفاً: مولاي مددتُ يدي كي أخطفَ بِنت الوادي، إذ بي أتجمّدُ كالثلجِ، كِدتُّ أن أفنى فتوسّلتُ إليها أن تعفوَ عنّي ولها أعطيتُ العهدَ بأنْ لا أمسسها يوماً بالضرِّ أبداً، فعفتْ عنّي وأتيت إليك .
غِضبَ الساحرُ رعّاشُ قال لهُ: يا برقاشُ فشلتَ ولم تقدرْ أن تأتيَ بفتاةٍ هيَ أدنى من إصبعك الصُغرى، فسأحبسكَ الآن سنيناً في الخاتم هذا إن لم تأتِ بها في الساعةِ والحين. بكى الجنّيُّ، وقالَ: اغفرْ لي اغفرْ لي فسأحضرُ غيري مَن يقتلها، قالَ الساحرُ: مَن ذاك وهلْ هو عفريتٌ
من جانٍ. ؟ ردّ الجنيُّ : لا، لا يا مولاي... بل هيَ من أشجارِ الحيوان. زُرعت يوماً من قَرْنِ يغرس الشيطان. نبتتْ في أرضِ السودانِ، ستقضي على بِنتِ الوادي، وتشرّدُ قريتها . صاحَ رعّاشٌ : يا جنيْ عليك الآنَ أن تأتِ بها...أو تُحبسُ في الخاتم حتى يومَ الدين.
طار الجنّيُ أيا أحبابْي بين رُكامِ سحابٍ مرّ جبالاً وبحاراً وصحارٍ، عادَ ليحملها بين يديهِ يشكو مِن عرفِ الشجرةْ . رعّاشُ قال والبهجةُ في عينيه : فلتزرعْ في أرضِ السعدِ ليلاً، نظرَ الناسُ إليها فامتلأوا رعباً مِنها، وجدوا فيها ثمراً كالعلقمِ، والأوراقُ بها شوكٌ كالصبّارِ تشبهُ رُمحَ سِنانٍ ولِحاها جِلدُ الثُّعبان. قالَ الناسُ : هذه مِن أشجارٍ لم تُعرفْ مِن قبلُ لا يرضى أحدٌ أن تبقى في أرضه.
رعّاشٌ قال لهم : لابدّ وأن تتحوّلَ غُصناً فتّاناً يرقصُ بين الأغصانِ يسرُّ القلبَ، ويفتنُ مِثل حبيبٍ، أحلى مِن عنبٍ وزبيبٍ، يجري الكُلُّ إليهِا قبل الزادِ .
يا أحباب رمى برقاشُ رماداً مسحوراً فيها حوّلها غُصناً كالزهرِ، لهُ رائحةُ العطرِ، وطعمُ التمرِ، فيه سرورٌ
والعقلُ يُحلّقُ منهُ في الكون يطيرُ، وقالَ لِمن كان بجانبه: خُذها ليلاً ولتزرعْ سِرًّا في إحدى أراضي شيخِ القريةِ . زرعوها في أرضِ الشيخِ ، كبُرتْ قبلَ الأشجارِ الأخرى. في يومٍ مرّ الشيخُ بجانبها وتنسّمَ عطراً منها، مضغ الأوراق ,سرى سحرٌ فيهِ، فدوام يأكلُ منها فأحسَّ بنشوتها وكعنترِ بن شدادٍ. وكسلطانٌ في كُلِّ بلادْ ...، وأحسّ بقرنينِ كما التيسِ على الرأسِ تنمو مُسرعةً، خافَ منِ القِرنين، توقّف عن مضغِ الأوراقِ وأخرجَ من فمهِ المحشوَّ رماداً أخضرَ، إذ بالقرنين اختفيا.
فرحَ الشيخُ قال يحدّث نفسهُ: لن أتذوّقَ منها بعد الآنِ ولكن في اليومِ الثاني قطفَ الأوراقَ ،حشى الفمَّ وقالَ سأخفي القِرنينِ عنِ الناسِ، وداوم مضغ الأشجار حتى انتفخَ الخدُّ بهِ كالزمّار .
كثُرت في أرضِ الشيخِ وتحتاج إلى الماءِ كثيراً، أجبرَ بِنتَ الوادي لتمرّ عليها كي تخضرّ ولا تذبلَ. كثرت تلك الأشجارُ على الأرضِ يا أحفادي، وانتشرت في أرضِ القريةِ والوادي
يتقوّتها الناسُ جهاراً كالأغنامِ وكالثيران.
بدأ الناسُ نِزاعاً عن بِنتِ الوادي وعلى الأرضِ أنسابَ دمٌ ِكي تمشيَ بين الأشجارِ لتخضرّ ولا تذبل. قالوا لابدّ لبِنْتِ الوادي أنْ تمشي في كُلِّ حقولِ القريةِ كي تنبتَ فيها الأشجار وتخضرُ.
ظلت بِنتُ الوادي زمناً تمشي بين الأشجارِ، وتزداد نحولاً شيئاً شيئاً، حتى مرضت، لم تقدرْ أن تمشي، وبقت تبكي تبكي...حتى جفّت عيناها. في يومٍ قالت : إنّي اشتقتُ إلى البئرِ، خذوني حالاً لأراها،.... أخذوها، نظرت فيها لم يبقَ الماء بها غير قليلٍ، قالت: يا رب، ارجعني من حيث أتيتُ ومن ثمَّ ألقتْ جثّتها في الماءِ وذابت مِلحاً لم يبقَ في البئرِ منها غير الثوب على الماءِ طافٍ فيها.
غار الماء يا أحفادُ ولم يبق أصبح غوراً. أهلُ القرية جاءوا يبكون لفُقدانِ أعزّ الأشياءِ لهم.
غادر أهلُ القريةِ قريتهم بحثاً عن ماءٍ ساحوا في البلدان وحين يمرّون ببلادٍ يجدون البِنت ينادون: يا بِنت الوادي مُتِّ في قريتنا، كيف أنتِ هنا ؟!
؟!قالت : إنّي أحيا وأموتُ لأحيا وأعيشَ كثيراً بين أناسٍ يسعون لكسبِ رضاى، لا يسعون هلاكي.
صارت يا أحفادي بلدَ السعِد تندبُ حظاًّ خسرتهُ، تلطم خديها لفناء النِّعمةِ في بلدتهم وصلاتي وسلامي على رسول الله، محمد بن عبد الله .
تأهّبت الجدةُ للعودةِ فسألناها : ماذا ستحكين لنا يا جدةُ في الغدِ ؟ ردت : سأحكي لكم يا فتيان، حكايةَ ليلى وشيخَ الجان .
ألتفت عبد الحق إلى الخلفِ رأى سالماً نائماً فصاحَ قريباً من أذنه: قُمْ يا كيسَ النومِ بِنت الوادي ماتت، صحى سالمُ وهو يقولُ : ها .. ماذا جرى لبِنتِ الوادي، هل مات من قتلها .!؟ ( الحكاية منضومة بشعر التفعيلة)