المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الشبح



هشام النجار
27-10-2013, 01:16 PM
كان وحده.. الشارع خال تماماً من المارة.. أضواء لامعة على الجانبين وسكون لم يعهده من قبل على المدينة الصاخبة .

أين ذهب الناس ؟
في هذا الوقت يومياً يضج هذا المكان بالبشر ، وتختلط فيه أصواتهم وصيحاتهم ونكاتهم وتعليقاتهم السياسية ومصطلحاتهم التجارية ووشوشاتهم الغرامية وثرثرتهم اليومية .

في هذا الوقت يزدحم الميدان بالمارة والباعة والسيارات والدراجات البخارية على اختلاف أنواعها وأشكالها .. وتمتلئ المحلات بالشباب والفتيات والخليجيين والأجانب .. ما الذي حدث؟
أين اختفوا فجأة ؟

توقف بالسيارة الكاديلاك السوداء في منتصف الطريق بمحازاة الكورنيش .. ضغط بعنف على أزرار هاتفه.. حاول مرة ثانية .. جرب مرات ومرات.. اتصل بمن يعرف ومن لا يعرف ، وفي كل مرة يأتيه ذلك الصوت الآلي الرتيب البارد ( الهاتف قد يكون مغلقاً أو خارج نطاق الخدمة )

خرج من سيارته.. دارَ حول نفسه في ميدان الكورنيش.. ماذا ؟
هل أصبح وحده في هذه الدنيا الواسعة ؟
هل فني الناس جميعاً في لحظة واحدة ولم يتبق إلا هو على سطح الأرض ؟

رفع صوته زاعقاً .. ردد في هستيريا كل الأسماء التي خطرت على باله.. نادى على أقاربه وأصدقائه وعلى الموظفين عنده في المؤسسة وعلى الخدم عنده في القصر .
استصرخ الأحياء والموتى .. توسل إلى المشهورين والمغمورين .. استنجد بالقدامى والمحدثين .

البيوت خالية ، يسكنها الصمت.. والشرفات والشركات والأندية والمحلات التجارية .. ما الذي حدث؟ هل اتفق الناس جميعا على أن يلعبوا معه (الكاميرا الخفية) ؟
ماذا أصابهم ، هل أغار عليهم العدو بسلاح كيميائي أو بيولوجي .. إذن، أين رفات الموتى .. أين جثثهم ؟

استقل سيارته التي صارت وحيدة هي الأخرى في شوارع المدينة الخاوية .. وبسرعة جنونية تمنى معها أن يصطدم بأحدهم أو أن يصدمه أحدهم .. أو أن يستوقفه واحد من رجال المرور الذين طالما تكبر عليهم ليسجل عليه مخالفة ويفرض عليه غرامة.. تمنى أن يقابل ولو أبغض الناس لديه وأشدهم عداوة له .. تمنى لو يرى خيال إنسان أو أن يشم رائحة عرق كائن حي .. تمنى لو يعترضه أحد اللصوص أو قطاع الطرق ويخيره بين حياته وممتلكاته.. تمنى لو يستوقفه أحد الفقراء الذين طالما احتقرهم وأعرض عنهم وأغلق دونهم بابه .. تمنى لو يسمع توبيخ أحدهم له ودعائه عليه .

توقف أمام المقهى الأثير لديه في حى الحسين .. أخرج علبة سجائره المستوردة ووضع نظارته السوداء.. ونزل من سيارته بكبريائه القديم .
جلسَ كعادته على كرسيه منتفخاً .. أشعل سيجارته وطلب قهوته وأخذ في الحديث مع رفاقه الذين تخيلهم أمامه .. وارتج المقهى بضحكاته المعتادة الممتدة العالية .. انتفض من مكانه مذعوراً عندما استيقظ على خلو المقهى .. خاف على نفسه الجنون .. نزع النظارة وقذف بالسيجارة على الأرض .. وفي طريقه إلى السيارة مرة ثانية أطاح بموائد وكراسي المقهى الخالية .

توجه إلى قصره .. بحث في كل مكان .. لجأ إلى مؤسسته حيث لم يستدل على أثر إنسان .

توجه إلى الحارة القديمة حيث وُلد وتربى .. اشتم رائحة البؤس التي نسيها منذ زمن بعيد .. أحسَ بأنه يسير وسط القبور .. وبأنه إما ميت لا يزال متعلقاً بدنياه التي فاتها متحسراً عليها ، حيث المتع والنعيم.. وإما أنه لا يزال حياً ولكنه أدرك نهاية العالم أو أصابته لوثة من جنون .

توقف أمام بيت عائلته القديم في أحد الأزقة الضيقة .. لم يصدق نفسه عندما لمحَ شيئاً يتحرك كأنه إنسان جالس على أحد الأرائك الخشبية المتهالكة .

انطلق ناحيته .. توقف خلفه وراح يراقبه في صمت.. انه شبح لا ملامح له ولكنه يتحرك .. يضع شيئاً من الملح الذي أمامه في قطعة خبز ويأكل .

أصابه الفزع من منظر ذلك الكائن الغامض.. فكر في الهرب.. وعندما هم بالرحيل سمعَ من يناديه باسمه ويدعوه للجلوس .

تقدم مرعوباً بقدمين مرتجفتين .. جلسَ على حافة الأريكة خائفا منزوياً .

ألا تعرفني ؟

نظر إلى وجه غائر أسطوري لم يرَ مثله من قبل .. وسأله من أنت .. وأين أهل الحارة.. وأين عائلتي.. وأين الناس؟

لا تسألني عن أحد.. اسألني عن نفسي فقط ؟

إذن من أنت ؟

أنا أحد أصدقائك القدامى .. أنا واحد من أبناء الحارة.. أنا أحد الفقراء الذين طردتهم من قصرك .
ألا تذكر ذلك اليوم الذي جئتك فيه وطلبت مقابلتك.. كان لي طلب واحد فقط .. كنت أحمل أمنية واحدة وحلم بسيط .. سألتني ابنتي عن أصدقائي فذكرتك من ضمنهم.. وذكرت ثراءك وشهرتك.. فرحت ابنتي لأن لي صديق مثلك.. وتمنتْ لو نقوم بزيارتك ونقضى يوماً كاملاً في قصرك ونتناول غذاءً فاخراً في حضرتك.. ألا تذكر؟
يومها رفضت حتى رؤيتي .. وعدتُ أنا إلى ابنتي التي سألتني عن موعد الزيارة.. فلما أخبرتها بما حدث ، عيرتني بك.
تقابلَ الوجهان فى نظرة تاريخية ، عينا بقايا انسان تنزف خزياً وشكوى جارحة أمامَ عينى آخر انسان على الأرض .
قامَ الرجل الشبح.. وسار في الزقاق الضيق إلى أن اختفي عن الأنظار .. اختفي هو الآخر مثل الباقين .. وتركه وحيداً خائفاً منزوياً على الأريكة المتهالكة .

اختفي الشبح وترك له الدنيا .
تركها له وحده .

تجمدَ في مكانه ، وشيعَ الشبح بنظرات يائسة.. وتمنى لو بقى معه قليلاَ ليحدثه ويؤنسه .. وليأكل معه ( عيش وملح )

آمال المصري
29-10-2013, 09:06 AM
هو من صنع بيديه مدينة أشباح موحشة لاينفعه فيها ثراء ولا قصور
نص يحمل الحكمة فلا يستطيع أحد الحياة وحيدا لافظا للمجتمع بتعالٍ لأنه يرى نفسه فوقهم وهنا تكبر ومنع وأهان ونسى أنه " من تكبَّر ذلَّ "
سرد جميل سلس ولغة انطاع لها البيان وحبكة قصصية متينة
سررت بمعانقة جميلتك أديبنا الفاضل
بوركت واليراع

عبد السلام هلالي
29-10-2013, 11:27 AM
في غياب الآخرين نتحول إلى أشباح ، لأننا نحتاج دوما لوجود من يسلط الضوء على ذواتنا و يقنعنا بوجودنا
''حتى الحاكم لا يكون سعيدا بحكمه إلا بشعب يحكمه''
لا يمكن لأحد العيش دون الآخرين مهما علا شأنه و قوي سلطانه و عظمت ثروته.
حكمة قدمها لنا النص باشتغال جميل على اللغة و السرد.
تحيتي و تقديري أخي هشام

سامية الحربي
30-10-2013, 03:30 PM
ما قيمة هذه الدنيا بكل ملذاتها إن لم يتقاسمها معك الأخرون؟
سرد ماتع ولغة أنيقة أديبنا الكريم .دمت موفقًا .تحياتي وتقديري.

خلود محمد جمعة
04-11-2013, 09:31 AM
الغنى غنى النفس
وهذا الأنسان عاش فقيرا ومات فقيرا
قد يكون حولك مئات الأشخاص وتشعر بالوحدة
وقد تكون بمفردك وتشعر انك ملكت كل شيء لان الله معك
دام حرفك جميلاً
مودتي وتقديري

كاملة بدارنه
04-11-2013, 08:24 PM
قصّة رائعة السّرد والفكرة التي عرضت بأسلوب شائق
كلّ شيء يتغيّر والإنسان يحتاج دائما للضّمير الصّاحي ليذكّره وينبّهه
بوركت
تقديري وتحيّتي
( تمنّيت خلّوها من بعض الأخطاء اللّغويّة)

هشام النجار
04-11-2013, 11:49 PM
هو من صنع بيديه مدينة أشباح موحشة لاينفعه فيها ثراء ولا قصور
نص يحمل الحكمة فلا يستطيع أحد الحياة وحيدا لافظا للمجتمع بتعالٍ لأنه يرى نفسه فوقهم وهنا تكبر ومنع وأهان ونسى أنه " من تكبَّر ذلَّ "
سرد جميل سلس ولغة انطاع لها البيان وحبكة قصصية متينة
سررت بمعانقة جميلتك أديبنا الفاضل
بوركت واليراع

شرف لنا هذا الحضور سيدتى الكريمة المبدعة الكبيرة أستاذتنا آمال المصرى ، شكراً جزيلاً لحرفك الراقى وباقات امتنان لهذا الثناء المبهج الذى يجعلنا نواصل المسير فى العمق الانسانى لخدمته وتهذيبه بفرح .
جعله الله فى موازيننا وتقبله منا خالصاً لوجهه الكريم .
دمت بألف خير .. تحيتى ودعواتى وعظيم امتنانى

هشام النجار
05-11-2013, 05:14 PM
في غياب الآخرين نتحول إلى أشباح ، لأننا نحتاج دوما لوجود من يسلط الضوء على ذواتنا و يقنعنا بوجودنا
''حتى الحاكم لا يكون سعيدا بحكمه إلا بشعب يحكمه''
لا يمكن لأحد العيش دون الآخرين مهما علا شأنه و قوي سلطانه و عظمت ثروته.
حكمة قدمها لنا النص باشتغال جميل على اللغة و السرد.
تحيتي و تقديري أخي هشام

صدقت أخى الكريم الأديب الكبير عبد السلام الهلالى فى هذا الطرح النقدى المتوازن المكثف الذى أضاء أبعاد القصة وحدد مراميها .. نحن بمفردنا لا شئ بل نتحول لكائنات أسطورية مرعبة توشك على الانقراض .
أكرمك الله أخى وممتن لهذا التواصل الثرى .. مودتى وتحياتى .

هشام النجار
05-11-2013, 05:22 PM
ما قيمة هذه الدنيا بكل ملذاتها إن لم يتقاسمها معك الأخرون؟
سرد ماتع ولغة أنيقة أديبنا الكريم .دمت موفقًا .تحياتي وتقديري.

هذا هو السؤال سيدتى الكريمة والذى يجب أن يكون منطلق حضورنا الانسانى فى الحياة : ما قيمة هذه الدنيا بكل ملذاتها إن لم يتقاسمها معك الأخرون؟ الحياة أخذ وعطاء وتواصل واثراء ، ولقد تساءلتُ أنا ماذا لو قبل الرجل دعوة رفيقه الفقيرة ولبى طلب صغيرته شفقة بها واحتراماً لانسانيتها ومشاعرها وطفولتها وطموحها .. ربما أوصلها هذا الطموح يوماً الى مستوى يليق علميا واجتماعيا ومكانة لأن يخطبها الثرى لابنه فيما بعد فى اثراء لحكايات الانسان والسعادة والنهايات المبهجة لابقاء هذا المجتمع متماسكا وابقاء نسله على نفس القيم من الود والمحبة الخالصة والتواضع ... اما بدون ذلك فنحن فى شبه انقطاع ..
ما أردت قوله استاذة غصن أن الحياة بدون التواصل الانسانى والعطاء المجرد هى فى حالة انقراض وفناء ودمار .. لا تغرك مظاهر الحياة والتقنية والرفاهية والبشر الكثيرين .. انها كثرة كغثاء السيل لا قيمة ولا معنى ولا أسس وعوامل للبقاء .
شكراً جزيلاً لك ايتها المبدعة الكبيرة .. تقبلى تحياتى وتقديرى .

هشام النجار
05-11-2013, 05:25 PM
الغنى غنى النفس
وهذا الأنسان عاش فقيرا ومات فقيرا
قد يكون حولك مئات الأشخاص وتشعر بالوحدة
وقد تكون بمفردك وتشعر انك ملكت كل شيء لان الله معك
دام حرفك جميلاً
مودتي وتقديري

أتشرف دائماً بهذا الحضور السخى سيدتى الكريمة خلود جمعة ، ولقد أوجزت هنا القضية فى كلمات مكثفة ومعبرة ، فلا انسان بلا تواصل ولا قيمة لوجوده بدون عطاء وبذل وتضحية لأجل الآخر .
دام لنا عطاؤك وألقك أيتها المبدعة الكبيرة .

هشام النجار
05-11-2013, 05:28 PM
قصّة رائعة السّرد والفكرة التي عرضت بأسلوب شائق
كلّ شيء يتغيّر والإنسان يحتاج دائما للضّمير الصّاحي ليذكّره وينبّهه
بوركت
تقديري وتحيّتي
( تمنّيت خلّوها من بعض الأخطاء اللّغويّة)

تقديرى الكبير واحترامى لهذا الطرح النقدى المتوازن باظهار المزايا والاشارة الى العيوب ، ودائما نتعلم فى ساحة الكبار كيف نكتمل لغةً وأداءاً ، فعلى الدرب نحن سائرون سيدتى الكريمة والمبدعة الكبيرة كاملة بدارنة .
تحيتى ودعواتى الخالصة .

ربيحة الرفاعي
12-12-2013, 12:20 AM
أجمل الأفكار القصّية هي تلك التي لم تطرق أبوابها من قبل أو أنها طرقت بأساليب مختلفة ومن زوايا أخرى ، وأرقاها نلك التي تعالج قضايا إنسانية سامية بغاياتها وتنجح بتفوقها السردي في إحداث التأثير المطلوب لها في لا وعي المتلقي .. وقد تحقق في نصك البديع ذلك كلّه
سرد شائق وفكرة مائزة وقصد نبيل

شكرا لروعة الحرف والهدف

دنت بخير

تحاياي

سعاد محمود الامين
12-12-2013, 01:48 PM
الاديبة ربيحة
تحية طيبه
روحك الأنسانية تنساب من تعليقاتك الباهرة
أحاول دائما أن أكتب عن الأنسان فى كل مواقع الحياة..ا
لسجن الاستغلال وكرب الحياة العاصفة..
بشر نمر بهم دون أن نراهم وهم يروننا..
شكرا لك على التشجيع
والحس الموغل فى انسانيتة..
دمت بخير

نداء غريب صبري
04-02-2014, 10:27 PM
كانت جدتي تقول
الجنة من غير ناس ما بتنداس
والذي يجعل الدنيا حوله فارغة ليس فيها بشر ولا محبون له ولا مؤمنون به
هو الخاسر الوحيد

قصة فيها حكمة
شكرا لك أخي

بوركت

هشام النجار
20-05-2014, 01:37 AM
أجمل الأفكار القصّية هي تلك التي لم تطرق أبوابها من قبل أو أنها طرقت بأساليب مختلفة ومن زوايا أخرى ، وأرقاها نلك التي تعالج قضايا إنسانية سامية بغاياتها وتنجح بتفوقها السردي في إحداث التأثير المطلوب لها في لا وعي المتلقي .. وقد تحقق في نصك البديع ذلك كلّه
سرد شائق وفكرة مائزة وقصد نبيل

شكرا لروعة الحرف والهدف

دنت بخير

تحاياي
الشكر لروعة الحضور والتوقيع المميز لقلمك الكبير القدير أديبتنا الراقية
خالص الشكر والتقدير
تقبلى دعواتى وخالص أمنياتى

هشام النجار
20-05-2014, 01:39 AM
كانت جدتي تقول
الجنة من غير ناس ما بتنداس
والذي يجعل الدنيا حوله فارغة ليس فيها بشر ولا محبون له ولا مؤمنون به
هو الخاسر الوحيد

قصة فيها حكمة
شكرا لك أخي

بوركت

نعم الجنة من غير ناس ما بتنداس
والانسان بمفرده دون احبة ومن يتواصلون معه بالزيارة والمشاركة .. لا شئ وليس كائن حى انما مجرد شبح
شكرا جزيلاً أختنا الكريمة الفاضلة
تقبلى خالص تحيتى وتقديرى

هشام النجار
22-04-2015, 07:46 AM
الاديبة ربيحة
تحية طيبه
روحك الأنسانية تنساب من تعليقاتك الباهرة
أحاول دائما أن أكتب عن الأنسان فى كل مواقع الحياة..ا
لسجن الاستغلال وكرب الحياة العاصفة..
بشر نمر بهم دون أن نراهم وهم يروننا..
شكرا لك على التشجيع
والحس الموغل فى انسانيتة..
دمت بخير

شكرا جزيلاً لروعة تفاعلك ايتها الاديبة القديرة سعاد الأمين
وعذرا لتقصيرنا الكبير معك
تقديرى وخالص احترامى