المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الظــــــــــــــل



هيثم السليمان
18-11-2013, 08:54 PM
الظـــــل



كانَ واقفاً عندَ الظهيرةِ وحرُّ الشمس ِ يلفحُ وجههُ المتعبَ من عناءٍ لم يعرفْ هو سببه .
كانتْ تتضاربُ في رأسه الأفكارُ ، وتدورُ في محورٍ يتسعُ ويضيقُ على قدرِ النوبةِ التي تشكلها هذه الأفكارُ .
كلما حاولَ التركيزَ على فكرة ٍ ما انفلتَ رباطُ حسّهِ وفقدَ السيطرةَ عليها ؛ الأمرُ الذي جعلهُ يثورُ ويتخبطُ ببعضهِ .
كانت ْ تبدو عليه أماراتُ الخيبةِ ، ترافقها علاماتُ التوتر ِ التي تظهر جليّاً في تقاطيعِ وجههِ المتعبِ .
لم يكنْ يعرفُ سببَ هذه ِ الحيرةِ التي تسيطرُ على نفسه ، وهذا الوجومِ الذي يخيّم ُ عليه .
كانَ كلما التفتَ حولَ نفسهِ تراءتْ لهُ خيالاتٌ يتداعى فيها طيفٌ مجهولُ الهويةِ يظهرُ ويختفي بسرعةٍ قبلَ أن يستطيعَ تحديدَ ملامحهِ أو الوقوفَ على شخصيتهِ .
تلكَ الخيالاتُ كانتْ تمرُّ أمامَ عينيهِ وكأنها فلاشاتٌ ضوئيةٌ تشتعلُ وتنطفئ ، دونَ أن يعرفَ المسببَ لها .
أرادَ أن ينهي هذهِ الانفعالات في داخله ، والتي كانتْ تسببُ له إزعاجاً كبيراً ، بالخروجِ من هذا الجوِّ الذي سيطرَ عليه ، وجعلهُ يرى أشياءَ غيَر معقولةٍ .
حاولَ أن يتقدمَ خطوةً للأمامِ باتجاه ِ غرفتهِ ، لكنَّ شيئاً ما أوقفَ حركتهُ ، وأبطأَ خطوتهُ ، إنّه عاجزٌ عن التقدمِ للأمامِ , أو التراجع ِ إلى الخلفِ .
تبسمرَ في مكانهِ وكأنَّ على رأسهِ الطيرَ .
بدأَ يحدثُ نفسهُ : " يا إلهي ما الذي يجري ؟ أأنا في حلم ؟ إنني عاجزٌ عن الحركة " .
ـ لا ، لستَ عاجزاً عن الحركةِ ، لكنك تتوهمُ ذلك َ . " أجابهُ صوتٌ لم يعرفْ مصدرهُ " .
ـ مَنْ أنتَ ؟ " سألَ بخوفٍ شديدٍ " .
ـ أنا أنتَ ، ألا تراني ؟
أخذَ يتلفتُ يميناً وشمالاً دونَ أن يرى أحداً .
ـ أين أنتَ ؟ "سألَ بدهشة ٍ بدتْ على وجههِ"
ـ أنا هنا أمامكَ .
ـ أيـ......ـن ؟
ـ تحتكَ ، تحتَ أقدامكِ ، انظرْ جيداً .
نظر َ تحتَ أقدامهِ لكنهُ لم يرَ شيئاً ، فأخذتْ ترتعدُ فرائصهُ ، وبدأتْ تختلجُ مفاصلهُ ، وأماراتُ الخوفِ ترتسم ُ على وجههِ ، فما هذا الشيءُ الذي يُحدِّثهُ دونَ أن يراهُ .
ـ من أنتَ يا هذا ؟ إنسٌ أم جانٌ ؟
ـ لستُ إنساً ولا جاناً ، أنا أنتَ ، ألم تسمعني ؟ أنـ.....ـت .
ـ كيفَ تكونُ أنا ، وهل لي غيري ؟ أنا لا أعرفُ لنفسي أحداً سواي .
ـ بلى ، أنا .
ـ أتريدُ أن تصيبني بجنون ؟ عَرِّفْ عن نفسكَ وإلا فاتركني وارحلْ بعيداً .
ـ لا أستطيعُ ذلكَ ، فقدري أن أرافقكَ طيلةَ حياتك َ ، ولا أترككَ لحظةً واحدةً .
ـ ماذا ؟ ترافقني ؟ أأنت مجنونٌ ؟
ـ هذا يتوقفُ عليكَ ، فإن كنتَ مجنوناً أكونُ مجنوناً مثلكَ ، وإن كنتَ عاقلاً أكونُ عاقلاً مثلكَ .
ـ يا إلهي ، هل أصابني مسٌّ شيطاني حتى غدوتُ أتوهمُ أشياءَ غيرَ موجودةٍ ؟
ـ أنتَ دائماً تلقي بضعفكَ إلى الشيطانِ لتتهربَ من المسؤوليةِ . حاولْ مرة ً أن تواجهَ الأشياء َ ، أن تسجلَ موقفاً في حياتكَ ، أن تقفَ على أرضِ الواقعِ بعيداً عن التخيلات التي تتقوقعُ داخلها لتهربَ من نفسكَ الحائرة ِ .
ـ أهربُ ..! كيفَ ذلك ؟
ـ نعمْ تهربُ ، فأنتَ لا تمتلكُ القوةَ لمواجهةِ الحياةِ ، أو عملِ شيءٍ يكونُ له صدىً في مجتمعكَ ، كلما فكرتَ في شيءٍ تراجعتَ عنهُ مخافةَ أن يسببَ لـكَ مشكـلات ، أو يدخـلكَ في أمـورٍ تتصـورُ أنَّكَ في غنى ً عنها ، فبقيتَ مجهولاً لا يعرفُ لكَ اسمٌ ولا هويةٌ ، منفياً في حياتكَ وفي مماتكَ ، تمرُّ عليكَ الأيامُ متشابهاتٍ دونَ أن تحرزَ تقدماً ، أو تنجزَ عملاً يسجلُ لكَ .
ـ كفى .. كفى ، لا تكملْ فقدْ أصبتَ مني مقتلاً ..
ـ وهذا الأمرُ هو الذي أوصلكَ إلى هذهِ الحالة.
ـ أيُّ أمرٍ هذا ؟
ـ خوفكَ من مواجهةِ نفسكِ قبل َ مواجهةِ الغيرِ ، فلو استطعتَ التغلبَ على هذا الخوفِ الذي يعتري نفسك لاستطعتَ مواجهةَ الآخرين دونَ أن تنتظرَ منهم بادرة َ أملٍ في مساعدة ٍ تنتشلكَ مما أنتَ فيه .
ـ خوفٌ ..! أأنا أخافُ من مواجهة ِ نفسي ؟
ـ نعمْ ، تخافُ ، تخافُ حتى من خيالكَ ، فلو تراءتْ لكَ نفسكَ المتعبةُ الخائفةُ المجهدةُ لمُتَّ فزعاً، ولبقيتَ فاغراً فاكَ إلى أمدٍ .
ـ ولكنْ ما أدراكَ بكل هذا الذي تتفوهُ به ؟
ـ هيه .. يا صاحبي أنتَ نتـاجُ جيلٍ كاملٍ ، وهذا الذي تحملهُ في نفسكَ محصلةٌ وراثية ٌ أورثكَ إيّاها والدكَ عن جدكَ عن أبيهِ ، فالحمضُ النووي الذي تحملهُ أصابهُ فيروسُ الخوفِ والجمودِ ؛ والذي نشأَ معكَ منذُ الطفولةِ ، فعشَّشَ في نفسك ، وفرّخَ بيوضهُ التي أخذتْ تسيطرُ عليك ، وتشعركَ بعدمِ القدرة ِ على تخطي أي أمرٍ يعترضكَ ، وهي في الحقيقةِ ليستْ سوى أوهام ٍ كبرتْ معكَ حيثُ وجدت البيئةَ الملائمةَ في نفسك فأخذتْ بالتوسع ِ والسيطرة ِ على عقلك َ الذي وقفَ أمامها عاجزاً عن الإتيانِ بأي حركةٍ .
ـ ولكنْ من الذي قامَ بزرع ِ هذه الأفكارِ في رأسي ورأسِ أبي وأبيه وجدّه ؟ وكيفَ استطاعتْ أن تحققَ هذا النجاحَ الذي وصلتْ إليه بهذهِ الفترةِ القصيرة ِ؟
ـ أمّا من زرعَ هذهِ الأفكارَ ، فالأمرُ يطولُ شرحهُ ، وعليكَ أن تفكرَ بهِ وحدكَ كي تستطيعَ تحديدَ ماهيةَ هذا الشيءِ الذي سيطر َ عليكَ ، وأمّا كيفَ حققَ نجاحهُ ، فقد قلتُ لك إنّه وجدَ البيئةَ المناسبةَ في نفسكَ ونفسِ أبيك َ وجدّك َ؛ هذهِ البيئة التي يملؤهـا الفراغُ ، والتي لا تمتلكُ أيَّ مقومـات ٍ تجعلها قادرةً على التصدي لمثل هذا الفكرِ .
ـ أهٍ ، يا لكَ من خبيثٍ ، من أينَ تأتي بهذه التحليلات ؟ وكيفَ استطعتَ أن ترصدَ هذه التحولات؟

ضحكَ ساخراً ثمَّ تلاشى في سكون ٍ دونَ أن يتفوهَ بأيِّ كلمةٍ ، وبقي صاحبنا على حاله لا يدركُ ما جرى معهُ .




4/2005

ريمة الخاني
19-11-2013, 09:14 AM
هي مواقف موجودة ,تحاصرنا وتخنقنا بعبرها القوية.شكرا كان نصك باذخا وقد قراته بسرعة.
مع تحيتي.

آمال المصري
20-11-2013, 05:03 PM
لو رافق كل منا ظل يرشده ويقوم اعوجاجه وحارب فيه عوامل السلبية لتغير المجتمع ولكن يسير الظل مع صاحبه في نفس الاتجاه دون أن يقف معه لائما وموجها
حوار مع الذات بأسلوب شائق ولغة أنيقة ماتعة
بوركت واليراع أديبنا الفاضل
تحاياي

ناديه محمد الجابي
20-11-2013, 05:58 PM
لقد رأيت هنا حوارا مع العقل الباطن يحثه على ان يكون إيجابياً
أو كما قال:
أنتَ دائماً تلقي بضعفكَ إلى الشيطانِ لتتهربَ من المسؤوليةِ .
حاولْ مرة ً أن تواجهَ الأشياء َ ، أن تسجلَ موقفاً في حياتكَ ،
أن تقفَ على أرضِ الواقعِ بعيداً عن التخيلات التي تتقوقعُ
داخلها لتهربَ من نفسكَ الحائرة ِ .

قرأت هنا سرد قصي شائق لقصة جميلة وفكرة قيمة
دمت بخير كاتبنا.

خلود محمد جمعة
27-11-2013, 11:41 PM
هو ضميره الذي تشكل له على هيئة الظل
ربما لأنه لا يريد الاعتراف لنفسه عن نفسه
نص ثري بالمعاني
مودتي وتقديري

كاملة بدارنه
08-12-2013, 06:17 PM
هو الضّمير الحيّ الذي يجب أن يرافق كلّا منّا خلال مسيرتنا الحياتيّة لنعيش الأفضل
سرد جاذب رغم الإسهاب
بوركت
تقديري وتحيّتي

سامية الحربي
10-12-2013, 04:10 PM
لو تمثلت هذه الأصوات لكلٍ منا و استمعنا لها بالتأكيد ستدفع بنا نحو الأمام.هذا الصوت قد يسكن كلا منا لكن هل سنسمح له بأن يعظنا و يذكرنا مهما كانت سياط كلماته ؟

حوار ماتع بلغة أنيقة . تحياتي وتقديري.

ربيحة الرفاعي
02-01-2014, 05:27 AM
طوبى لمن تحدوه نفس لوّامة بظل يوقظه من غفوة الضلال إن ضلّ
نص موفّق فكرة وسامق غاية

دمت بخير أيها الفاضل

تحاياي

نداء غريب صبري
23-03-2014, 12:24 AM
الظل يسير معنا كيفما سرنا ولا يمكنه أن يقوّم اعوجاجنا
لكن النفس اللوامة كما قالت الأستاذة ربيحة هي الدليل الذي يردّنا عن الضلاض

قصة جميلة وأسلوب مشوق

شكرا ك أخي

بوركت