كاملة بدارنه
01-12-2013, 04:26 PM
ويلي! ماذا سألاقي من أبي؟ لقد لفّ الظّلام الكون بوشاحه الدّاكن، وبات الوقت متأخّرا، ولم ننهِ بعد لعبة الشّطرنج، والنّارجيلة لم تخمد نارها... ماذا سأقول له؟
دهمتني التّساؤلات حين تذكّرت العواقب الوخيمة لرجوعي المتأخّر إلى البيت، والذي تكرّر في الأسابيع الأخيرة، فتنازلت عن شغفي وإصراري على اللّعب حتّى الفوز، واستأذنت أصدقائي.
تراءت لي أشباح تتجمّع حول بيتنا.. توقّفت لأمعن النّظر فظهرت لي رؤوس كثيرة العدد.. أسرعت بالمشي، وأنفاسي يسمع صفيرها، ورجلاي تكادان لا تحملانني حين خطر ببالي أنّ أختي الصّغيرة ربّما أصابتها نوبة سعال شديدة نتيجة إصابتها ب"الرّبو"، خاصّة ونحن في أوائل الرّبيع.
وصلت البيت ليطرق مسامعي صوت عويل يؤكّد شكوكي، ويزيد من مخاوفي وارتباكي، ودثّرتني الدّهشة لدى سماع أختي تصيح: لماذا تركتنا يا أبي؟ لماذا؟
أبي؟! إلى أين ذهب؟ هل تقصد أنّه مات؟ أم ماذا؟
اخترقت الجموع ودخلت البيت، وإذ بأمّي تتقدّم منّي، وتحتضنني قائلة:
رحل أبوك يا ولدي... ذهب رجل البيت وترككم أيتاما... لقد مات أبوك، وألقى على كاهلك حملا ثقيلا!
عقد الخبر لساني ولم أستطع الرّدّ .
ظلّ التّجمهر حتّى منتصف اللّيل، حيث غادر النّاس بيتنا ليعودوا صباحا لإتمام مراسم دفن أبي الذي توفي إثر نوبة قلبيّة وهو في مكتبه، ولم يسعفه النّقل السّريع إلى المستشفى!
بقيت وعائلتي في غرفة واحدة. أمّي تعدّد، وأنا وإخوتي تتلاقى نظراتنا الذّاهلة، فيعاودون النّحيب... وتظلّ نظراتي مسمّرة فيهم بدون أن أذرف دمعة مثلهم!. وخوفا من اتّهامي بعدم الاكتراث لموت أبي، تركتهم ودخلت غرفتي.
لا أدري لمَ تجمّدت مشاعري بعد سماع النّبأ المفجع والمحزن للكثيرين إلّاي؟! لمَ لمْ أواسِ أمّي ولو بكلمة؟
ترى هل كان بسماع الخبر نوع من الرّضا؛ لأنّي نجوت من العقاب ؟ أم أنّي لست عاطفيا؟ أم لا أفهم معنى الموت والغياب؟
أوقف أذان الفجر وديان تفكيري التي صبّت في أعماق ذاتي تساؤلات كثيرة ظلّت بلا إجابات، فشعرت ببعض الرّاحة؛ لأنّ خيوط نور النّهار ستبدّد حبال ظلمة اللّيل.
يسير الموكب الجنائزيّ بصمت، وأحد أقاربي يمسك بيدي ويضغط عليها أحيانا، وأنا أحاول أن أجبر عينيّ على البكاء ولا أفلح!
غادرت أفكاري المكان لتأخذني إلى حفلة التّوبيخ التي أقامها لي والدي قبل أسبوع، بعدما أوصلني صديقي بسيّارة أبيه الفخمة. فما إن سمع صوت هديرها حتّى خرج مسرعا ليرى مَن السّائق – ويبدو أنّه كان قلقا وينتظر رجوعي جالسا على الشّرفة – فخاطبه موبّخا ومهدّدا إيّاه بإبلاغ أبيه؛ لأنّه متأكد أنّه سرق السّيّارة ليوصلني.
أمّا أنا، فلا أعرف كيف لم أقع أرضا بعد صفع رقبتي، فيما كان يسوقني أمامه كالنّعجة. ولكنّ تلك الصّفعة أصمّت أذنيّ عن سماع التّوبيخ وكلمات الإهانة!
تمّت عمليّة الدّفن، وعدت مع أفراد العائلة الموسّعة لاستقبال المعزّين في بيت العزاء، مردّدا بعض الكلمات التي لُقّنتها للرّدّ على المواسين.
انقضت الثلاثة الأيّام، وأحسستها ثلاث سنين. واعتكفت في غرفتي مسترجعا كلّ ما حدث، وكأنّي أرى فيلما سينمائيّا. وفيما الأفكار والصّور تتدفّق ينابيعها، سرقت عيناي نظرة ألقيت على غرفة والديّ، وجرّتني ساقاي إليها. لم تكن أمّي في الداخل وسمعت صوتها مع بعض النّسوة في غرفة الاستقبال، فانتابتني رغبة في النّوم مكان أبي. ألست رجل البيت؟ ولكنّي لم أجرؤ... وحدّثتني نفسي أن أفرح بالمنصب الجديد؛ كوني تخلّصت من قيود وضعها أبي حول معصمي بتدخّلاته الكثيرة، وملاحظاته المقيتة. أمسكت مخدّته مخاطبا إيّاها:
أنا حرّ اليوم... لا أحد سيسألني متى أخرج، ولن تحدّد لي مواعيد عودتي. وهذا لا يعني الّا أكون مسؤولا عن إخوتي. فأختاي اللتان تكبرانني، وأخواي الصّغيران سيكونان تحت إمرتي. أمّا أنا فلن يتدخّل أحد بشؤوني. سأخبر والدتي بهذا، ومؤكّد أنّها ستفرح .
يا لسعادتي! لقد أصبحت رجلا بعد أن كنت قبل أسبوع (شرشوحا)، ابن ستّة عشر عاما لا أعرف مصلحتي ولا أهتمّ لمستقبلي... ها أنا ذا رجل يا أبي! أنا رجل ... وأثناء محاولتي أن أثبت لنفسي رجولتها، وقع نظري على دفتر صغير سقط عليه إشعاع اخترق الغرفة من شقّ الباب. تناولته وقلّبت صفحاته وقرأت في الصّفحة الأخيرة :
اليومَ أغضبني ابني كثيرا... وأغضبت نفسي أكثر، لكنّه سيفهمني ويسامحني حينما يصبح أبا غيورا على مصلحة أبنائه. فهو لن يسمح لابنه بالعقوق والرّجوع ليلا مع سائق غير مؤهّل.
آهٍ، أُحسُّ بضيق وضغط في صدري لحزني وغضبي عمّا فعلت، لكن لا بأس، غدا سأراجع طبيبي المختصّ. هداك الله يا عزيزي!
لم أستطع تمالك نفسي، فوقع الدّفتر من يدي وخرجت من البيت متّجها صوب المقبرة وصارخا: أبي... أ ب ي...
دهمتني التّساؤلات حين تذكّرت العواقب الوخيمة لرجوعي المتأخّر إلى البيت، والذي تكرّر في الأسابيع الأخيرة، فتنازلت عن شغفي وإصراري على اللّعب حتّى الفوز، واستأذنت أصدقائي.
تراءت لي أشباح تتجمّع حول بيتنا.. توقّفت لأمعن النّظر فظهرت لي رؤوس كثيرة العدد.. أسرعت بالمشي، وأنفاسي يسمع صفيرها، ورجلاي تكادان لا تحملانني حين خطر ببالي أنّ أختي الصّغيرة ربّما أصابتها نوبة سعال شديدة نتيجة إصابتها ب"الرّبو"، خاصّة ونحن في أوائل الرّبيع.
وصلت البيت ليطرق مسامعي صوت عويل يؤكّد شكوكي، ويزيد من مخاوفي وارتباكي، ودثّرتني الدّهشة لدى سماع أختي تصيح: لماذا تركتنا يا أبي؟ لماذا؟
أبي؟! إلى أين ذهب؟ هل تقصد أنّه مات؟ أم ماذا؟
اخترقت الجموع ودخلت البيت، وإذ بأمّي تتقدّم منّي، وتحتضنني قائلة:
رحل أبوك يا ولدي... ذهب رجل البيت وترككم أيتاما... لقد مات أبوك، وألقى على كاهلك حملا ثقيلا!
عقد الخبر لساني ولم أستطع الرّدّ .
ظلّ التّجمهر حتّى منتصف اللّيل، حيث غادر النّاس بيتنا ليعودوا صباحا لإتمام مراسم دفن أبي الذي توفي إثر نوبة قلبيّة وهو في مكتبه، ولم يسعفه النّقل السّريع إلى المستشفى!
بقيت وعائلتي في غرفة واحدة. أمّي تعدّد، وأنا وإخوتي تتلاقى نظراتنا الذّاهلة، فيعاودون النّحيب... وتظلّ نظراتي مسمّرة فيهم بدون أن أذرف دمعة مثلهم!. وخوفا من اتّهامي بعدم الاكتراث لموت أبي، تركتهم ودخلت غرفتي.
لا أدري لمَ تجمّدت مشاعري بعد سماع النّبأ المفجع والمحزن للكثيرين إلّاي؟! لمَ لمْ أواسِ أمّي ولو بكلمة؟
ترى هل كان بسماع الخبر نوع من الرّضا؛ لأنّي نجوت من العقاب ؟ أم أنّي لست عاطفيا؟ أم لا أفهم معنى الموت والغياب؟
أوقف أذان الفجر وديان تفكيري التي صبّت في أعماق ذاتي تساؤلات كثيرة ظلّت بلا إجابات، فشعرت ببعض الرّاحة؛ لأنّ خيوط نور النّهار ستبدّد حبال ظلمة اللّيل.
يسير الموكب الجنائزيّ بصمت، وأحد أقاربي يمسك بيدي ويضغط عليها أحيانا، وأنا أحاول أن أجبر عينيّ على البكاء ولا أفلح!
غادرت أفكاري المكان لتأخذني إلى حفلة التّوبيخ التي أقامها لي والدي قبل أسبوع، بعدما أوصلني صديقي بسيّارة أبيه الفخمة. فما إن سمع صوت هديرها حتّى خرج مسرعا ليرى مَن السّائق – ويبدو أنّه كان قلقا وينتظر رجوعي جالسا على الشّرفة – فخاطبه موبّخا ومهدّدا إيّاه بإبلاغ أبيه؛ لأنّه متأكد أنّه سرق السّيّارة ليوصلني.
أمّا أنا، فلا أعرف كيف لم أقع أرضا بعد صفع رقبتي، فيما كان يسوقني أمامه كالنّعجة. ولكنّ تلك الصّفعة أصمّت أذنيّ عن سماع التّوبيخ وكلمات الإهانة!
تمّت عمليّة الدّفن، وعدت مع أفراد العائلة الموسّعة لاستقبال المعزّين في بيت العزاء، مردّدا بعض الكلمات التي لُقّنتها للرّدّ على المواسين.
انقضت الثلاثة الأيّام، وأحسستها ثلاث سنين. واعتكفت في غرفتي مسترجعا كلّ ما حدث، وكأنّي أرى فيلما سينمائيّا. وفيما الأفكار والصّور تتدفّق ينابيعها، سرقت عيناي نظرة ألقيت على غرفة والديّ، وجرّتني ساقاي إليها. لم تكن أمّي في الداخل وسمعت صوتها مع بعض النّسوة في غرفة الاستقبال، فانتابتني رغبة في النّوم مكان أبي. ألست رجل البيت؟ ولكنّي لم أجرؤ... وحدّثتني نفسي أن أفرح بالمنصب الجديد؛ كوني تخلّصت من قيود وضعها أبي حول معصمي بتدخّلاته الكثيرة، وملاحظاته المقيتة. أمسكت مخدّته مخاطبا إيّاها:
أنا حرّ اليوم... لا أحد سيسألني متى أخرج، ولن تحدّد لي مواعيد عودتي. وهذا لا يعني الّا أكون مسؤولا عن إخوتي. فأختاي اللتان تكبرانني، وأخواي الصّغيران سيكونان تحت إمرتي. أمّا أنا فلن يتدخّل أحد بشؤوني. سأخبر والدتي بهذا، ومؤكّد أنّها ستفرح .
يا لسعادتي! لقد أصبحت رجلا بعد أن كنت قبل أسبوع (شرشوحا)، ابن ستّة عشر عاما لا أعرف مصلحتي ولا أهتمّ لمستقبلي... ها أنا ذا رجل يا أبي! أنا رجل ... وأثناء محاولتي أن أثبت لنفسي رجولتها، وقع نظري على دفتر صغير سقط عليه إشعاع اخترق الغرفة من شقّ الباب. تناولته وقلّبت صفحاته وقرأت في الصّفحة الأخيرة :
اليومَ أغضبني ابني كثيرا... وأغضبت نفسي أكثر، لكنّه سيفهمني ويسامحني حينما يصبح أبا غيورا على مصلحة أبنائه. فهو لن يسمح لابنه بالعقوق والرّجوع ليلا مع سائق غير مؤهّل.
آهٍ، أُحسُّ بضيق وضغط في صدري لحزني وغضبي عمّا فعلت، لكن لا بأس، غدا سأراجع طبيبي المختصّ. هداك الله يا عزيزي!
لم أستطع تمالك نفسي، فوقع الدّفتر من يدي وخرجت من البيت متّجها صوب المقبرة وصارخا: أبي... أ ب ي...