فكير سهيل
02-12-2013, 10:04 AM
العدل في الإسلام و أهميته في بناء الدول
-نبذة عن دوره في التسييرالمعاصر
تمهيد: بيان الخلق, سببه, الحكمة منه, و ميزان العدل فيه.
1-1العدل عند الله عز وجل و وجوبه على المخلوقين.
1-2العدل: أنواعه وشموليته. -العدل مع الله - العدل مع النفس - العدل مع الغير – الفرق بين العدل والمساواة و إزالة الشبهة بينهما.
1-3 دور العدل في بناء واستقرار الأمم و الحضارات.
–بيان أهمية العدل في بناء الدول وبقائها - بيان مغبة الظلم ودوره في تقهقر والأمم والحضارات و اندثارها (ولو كانت مسلمة)
2- العدل في التسيير المعاصر وآثار الظلم فيه
2-1 مفهوم التسيير و إدارة الموارد البشرية.
2-2 سياسات الموارد البشرية و دور العدل في نجاحها.
2-3 بيان مدى تأثير الظلم في وسائل التسيير (مهما بلغت درجة تطورها).
3- الخاتمة
-I- العدل في الإسلام و الحث عليه
خلق الله الخلق –جل في علاه- وسن لهم سننا يتبعونها وجعل لهم أوامر يأتمرون بها, فمنهم مكلف محاسب بعمله, ومنهم غير مكلف, ومنهم مكلف غير محاسب, لهم مهام لا يخرجون عنها, فهم لا يفترون ولا يملون ولا يخطئون و يتمونها خير إتمام, هؤلاء هم ملائكة الله عز وجل على اختلاف أشكالهم وأدوارهم وعلى رأسهم جبريل, أمين الوحي,واسرافيل و ميكال و حملة العرش,... عليهم صلوات الله أجمعين فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) - سورة فاطر).
وخلق الله المكلفين المحاسبين بأعمالهم يوم يبعثون, وهم اثنين لا ثالث لهما, الجن وهم أسبق, ثم الإنس وأبوهم آدم عليه السلام. فهؤلاء جميعا خلفاء الله في أرضه, حملة الأمانة التي كلفوا بها ألا و هي أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئا, فيأتمرون بأوامره و ينتهون عما نهوا عنه. فمن آمن و أصلح فقد فاز ومأواه الجنة, ومن عصى و كفر فقد خسر ومثواه النار و بئس المصير, فلا أفلح من كان الله خصمه ولا خسر من كان ناصره, فنعم المولى و نعم النصير.
وخلق الله خلقا غير مكلفين, ذوات أرواح و غيرذوات أرواح, فهؤلاء لا يحملون أمانة التكليف, فلا تتجاوز حياتهم الحياة الدنيا, كالأشجار والنبات والجماد, وسائر الحيوانات التي يبعثها الله يوم القيامة ثم يقول لها كوني ترابا.
نعم, فقد خلق الله الخلق و أحكم صنعه وهو القائل (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ-7- سورة السجدة), و جعل لذلك ميزانا دقيقا ومتينا لا يزيغ عنه إلا هالك ألا و هو العدل وقد قال (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز- سورة الْحديد), فهو أساس الخلق كله وأساس الأمانة التي حملها الثقلان (الإنس والجن), فمن أقامه في أرض الله فقد أحسن و أصاب, و من خالف الله في حكمه فقد أخطأ وليس له إلا الخسران المبين, فقد أوحى الله إلى عباده في الحديث القدسي:( يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي ، و جعلته محرما بينكم فلا تظالموا... صححه الألباني)
و من تمام عدله – ورحمته - عز وجل أنه جعل من خلقه رسلا, ملائكة وبشرا, يبلغون رسالته إلى عباده من الإنس والجن عبر كامل العصور يدعونهم إلى عبادة الله وحده ويذكرونهم بالعهد الذي قطعه الله عليهم, وأعظمهم و آخرهم محمد–صلى الله عليه وسلم-, و أولو العزم من الرسل وهم: رسول هده الأمة محمد ورسالته القرآن, جده إبراهيم, موسى ورسالته التوراة, نوح أبو البشرية بعد آدم, وعيسى ابن مريم ورسالته الإنجيل, عليهم سلام الله وصلواته أجمعين. فهؤلاء كلهم أرسلوا لدعوة الناس إلى الحق وإحقاق العدل في الأرض وإفراد الله بالعبادة وهو أعدل العدل, وهم الذين جعلوا كل همهم تبليغ رسالة الله لعباده وإحقاق العدل في الأرض بالأدلة والبراهين والآيات,... وهم كلهم في دلك صابرون ثابتون لا يخافون في الله لومة لائم وهم أعدل الناس.
ومن هنا تتجلى مكانة العدل عند الله عز وجل وأهمية إحقاقه في الأرض, ومغبة الظلم وأثره.
فظهر لنا أن نبين أهمية العدل ودوره في الأرض وبناء الدول واستمرارها ومغبة الظلم في الأرض وأنه سبب تراجع الشعوب وتفككها دولا وأمما وحضارات, فالعدل أساس بقائها, فهي تعلوا وتنتصر كلما قوي عدلها, وتضعف وتخسر كلما ضعف والله المستعان.
ويتعين علينا ابتداء أن نذكر تعريف العدل لغة و شرعا حتى يتسنى لنا أن نبسط, فيما يلي, أهميته, شموليته و دوره في حياة الشعوب بعد استخلافها في الأرض.
تعريف العدل:
العدل لغة هو ضد الجور(الفيروز أبادي), وهو القصد في الأمور, والعدل شرعا هو وضع الشيء في مواضعه الشرعية, وهو عكس الظلم الذي يعرف بوضع الشيء في غيرموضعه الشرعي (قاله ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري).
فمن هاته التعاريف, نجد أن العدل هو وضع الأشياء في مكانها دون نقصان أو زيادة في الوقت الذي جُعل لها وهو الذي ألزم به الله عباده أساسا, وألزم به نفسه جل وعلا.
-1العدل عند الله عز وجل و تحريمه على المخلوقين:
خلق الله الخلق و عدل في خلقه– و هو أعدل العادلين- وهو القائل عز وجل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ – 46 -سورة فصلت), وجاءت 'ظلام' بصيغة المبالغة مقرونة بالنفي لبيان كمال العكس وهو العدل عند الله عز وجل, والمعصوم من عصمه الله. ومن خلْقه تعالى الإنس والجن خلقها ليحسن إليها واشترط عليها أن تعبده و لا تشرك به شيئا و جعل أساس ذلك كله العدل, فمن أطاع الله فقد عدل ومن عصاه فقد ظلم و أعظم الظلم الشرك بالله, فلا تستقيم أمورهم إلا به ولا تحيا حياة طيبة إلا ببسطه في الأرض ولا تسعد في الآخرة إلا به.
والعدل أساس العبادة كلها و هو نتاجها فمن أطاع الله فقد عدل ومن العدل كذلك طاعة الله, بل هي العدل كله من حيث أن طاعة الله تتوسع لتشمل الحياة بكل عناصرها, فإذا كنا نعدل مع الخلق بما شرعه الله فقد حققنا جزءا من العدل, و إذا كنا نعدل مع الله فقد حققنا الجزء المتبقي وهو الأساس وهو مفتاح الفوز والذي من دونه لا ينفعنا عدل لقوله تعالى (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ-65- سورة الزمر). وذلك أن الشرك ظلم عظيم (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ -13- سورة لُقْمَان). و من هنا يتبين لنا أن العدل بتنوعه لا يخرج في محتواه عن طاعة الله, فالعدلُ الأصلُ طاعةُ الله والذي تتفرع عنه بقية أنواعه, فلو ما أمرنا الله به لما وجب علينا وهو خير العادلين ولا تبديل لكلمات الله.
-2العدل: أنواعه وشموليته.
قد يبدو أن العدل يختص بالمخلوقين و تحديدا البشر ولا يصلح إلا أن يكون معهم ومنهم, وهذا فهم قاصر للعدل ويناقض مبدأ شموليته, وينتج عنه مفاسد عديدة. فالعدل بأنواعه يكون مع الله ويكون مع النفس كما يكون مع الغير, والعدل مع الغير لا يخص فقط البشر بل يتعداه إلى ما سوى ذلك من المخلوقين كالجن والملائكة والحيوانات وربما سائر الجمادات, و الإخلال بأحد هاته العناصر يكون له من دون شك آثارا سيئة. لذلك نجد أن العديد من الأمم التي تعتبر العدل فإنها تعتبره من حيث إحقاقه بين الناس وقد يتعد ذلك عندها إلى الحيوانات و"البيئة", و نجدها بالمقابل لا تعتبره في تعاملها مع الله -عز وجل. وإن كان لها شيء من الديانة فإنها لا تعده من العدل في فقهها, بل نجد أنها تفصل الدين عن الدولة تماما. والعدل لا يكون من جانب البشر فقط بل يكون في حقهم أيضا, فالله يعدل معهم كما يعدل مع سائر المخلوقين, وأمر الملائكة بما يوافق عدلهم مع البشر فعدلُهم من عدل الله, كما أمر الجن بأن يعدلوا مع البشر فلا يؤذونهم. فللعدل أنواع وهو يشمل كل شيء.
- العدل مع الله :
العدل مع الله هو أن نأتمر بأوامره جميعها كالصلاة والصيام والزكاة والعدل والإحسان,...وننتهي عما نهانا عنه كالسحر والقتل بغير حق والزنا وشرب الخمر,... وأعظم أوامره أن نعبده وحده, وأعظم نواهيه أن لا نشرك به شيئا فقد قال تعالى (...وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا...-36-سورة النساء ). فإنه تعالى قد أمر الإنس والجن أن تعبده وحده وبين كيفية تحقيق ذلك, وذلك بنهيه عن الشرك و بيان أنواعه وطرقه–الظاهرة البينة, والدقيقة الخفية. فلا يجوز لنا أن نشرك معه شيئا لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ولا أي شيء آخر. كما بين الطرق المؤدية إلى الشرك وجعلها من المحظورات, وحرم ما من شأنه أن يؤثر على عبادة الفرد وأدائه لها فكل معصية لها أثرها السلبي على قلب العبد وإيمانه فعبادته, ومنها ما يؤدي إلى الشرك والعياذ بالله, وتلك خطوات الشيطان (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ-168- سورة البقرة).
- العدل مع النفس:
يعدل الإنسان مع نفسه بأن يربيها على طاعة الله عز وجل وعبادته حق عبادة فقد قال تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه...-1- سورة الطلاق), ويجنبها ما يسخطه عليه, ويعدل مع نفسه بأن يجنبها المهالك ما استطاع إلى ذلك سبيلا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُحْسِنِينَ 195-سورة البقرة4) فيدفع الأمراض بالوقاية و التداوي والرقية الشرعية, ويدفع الفقر بالعمل, ويدفع أذى الناس بالإحسان, ويدفع كيد الشياطين والأرواح الشريرة بالتحصن وبالرقى الشرعية, ويطفيء غضب الله بالصدقات والطاعات. ويعدل الإنسان بأن يعطي نفسه حقها من الراحة والترفيه وفق طرق شرعية, فلا يرهقها بالأعمال الدنيوية والطاعات فيحملها بذلك ما لا تطيقه, ويأخذ بالرخص الشرعية فإن الله (يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) والضرورة تقدربقدرها والله المستعان.
- العدل مع الغير:
لا يخفى أن العدل مع الآخرين من العدل مع الله من باب أنه –عز وجل- أمرنا به, سواء كان الغير من زمرة المسلمين أو من غيرهم (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)- سورة الممتحنة), جمادا كان أو بهيمة, فلا يصح أن نهلكها دون سبب شرعي أو لمجرد الإفساد والعلو في الأرض بغير الحق لقوله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ -205- سورة البقرة).
وظلم الناس من الكبائر وهي المظالم التي لا تغفر إلا باستسماح صاحب الحق ذلك أن حق الله مبني على المسامحة, وحقوق العباد مبنية على المُشاحّة فلا يجعلن الإنسان لغيره عليه سلطانا يوم لا ينفع مال ولا بنون والدرهم يومئذ الحسنات (الحديث:ما تعدون المفلس فيكم...) . قد يكون الظلم بمجرد الكلام كالغيبة والنميمة والسّب والشتم وغيرها من أمراض اللسان والتي تكب صاحبها على وجهه في جهنم قال صلى الله عليه وسلم (...وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم- الحديث), وهذا هو حال الكثير من, فرب كلمة قتلت صاحبها ورب كلمة أدخلت صاحبها النار, ورب كلمة أشعلت فتيل الحرب والفتن, ورب كلمة قطعت رحما, ورب كلمة فرقت أسرة, فالصمت حكمة في مواضع كثيرة خاصة في ظل انتشار الفتن, قال تعالى وقوله الحق ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا -53- سورة الإسراء) وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (من كان متكلما فليقل خيرا أو ليصمت).
و قد يكون الظلم باليد وغيرها من وسائل البطش والأذى, وقد يكون بالحسد, أو بالسحر وآثاره قد تكون مهلكة وهو من أشد أنواع الأذى والظلم, فقد كفَّر الله الساحر وطالبه لقوله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ-102- سورة البقرةما.
وقد يظلم الرجل من يعول وقد قال صلى الله عليه و سلم "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول", وقد يظلم الراعي رعيته, وقد تظلم شعوب حكامها سواء بالغيبة وبالتكفير-من غير بينة- أو بالخروج عن طاعتها فتفتح بذلك بابا للفتنة عظيم.
و قد يظلم المعلم تلامذته فلا يحسن تعليمهم, ويظلم الطلاب معلميهم و علماءهم بالإنقاص من قيمتهم لدى العامة أو بالتجريح –عن غير علم- أو بمجرد الخطأ وهو باب للفتنة لا يقل عن سابقه خاصة إذا كان في حق علماء ربانيين فتكون فتنة الدين, والفتنة في الدين أشد وأبقى.
وقد يصلح أن نقول مجازا أن الإنسان يظلم الشجر والحجر والجمادات,... فيقطع أشجارا, ويحرق الزرع, ويلوث الهواء والماء وهذا كله من الظلم, وظلمها يقع من حيث أثرها على عمار الأرض و كذلك من حيث عدم الإمتثال لأمره عز وجل, ويظلم كذلك البهائم فيهلك الحرث والنسل, وهذه ملائكة الله تسأل الله في قوله تعالى ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون-30- سورة البقرة) أي أنه –عز وجل- يعلم أنه سيكون له عباد يقيمون شرعه في الأرض ويحكمون بالعدل ويصلحون فيها فلا يفسدون.
فالعدل كما تبين من قبل هو جعل الشيء في مكانه والظلم أو الجور هو جعل الشيء في غير مكانه وهذا كفيل بأن يجعل هذا المصطلح بمنأى عن التشويه والخلط مع مفاهيم أخرى.
- الفرق بين العدل والمساواة و إزالة الشبهة بينهما:
مما يتعين ذكره هو مصطلح المساواة والذي قد يبدو موافقا لمعنى العدل أو من مرادفاته, وهما يختلفان ولا وجه للتساوي بينهما. وبتعريف المساواة يتضح لنا الفرق, فالمساواة هي تقسيم الأشياء-سواء كانت مادية أو غير مادية- وتوزيعها بالتساوي بين الأفراد, وهذا لا يحقق معنى العدل ويخالف ما جاء به الشرع كقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ...-11- النساء) في تقسيم الميراث, فليس على الأب طاعة ولده بل تجب عليه النفقة والتربية والرعاية وتجب على الإبن الطاعة, وليس على الحاكم طاعة الرعية, بل تجب عليها الطاعة و قد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا -59- النساء), ويتعين عليه الحكم بالعدل وإيتاء كل ذي حق حقه.
ومما لاتزال تنادي به الدول الغربية المساواة بين الرجل والمرأة و تسوقه في غطاء منمق يكاد يبهر. فقد حكم الله تعالى بالاختلاف بين الذكر والأنثى وهو القائل في كتابه العزيز (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ -36- سورة آل عمران) والقائل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ -14- سورة الملك), وجعل لكل منهما خصوصياته في الخلق والتكاليف, وفضل الرجل درجة وجعل له من التكاليف ما ليس للأنثى كالقوامة والنفقة والجهاد وصلاة الجماعة واتباع الجنائز بما يناسب خلقته, ونجد أن هاته التكاليف تتطلب إما الخروج والسفر أو الجهد والمشقة والمخاطرة.
ومن هنا يتجلى لنا الفرق بين العدل والمساواة, بل قد يكونا متضادين في الكثير من الأحوال وبالمساواة قد يقع الظلم, وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
. فمفهوم العدل شامل ولا ينحصر في العلاقات والمعاملات التي تكون بين البشر, وهو من الأهمية بمكان في بناء الدول واستقرارها.
-3 دور العدل في بناء الدول واستقرارها:
لا شك في أن للعدل دور رئيس في بناء الدول واستقرارها ومتى ظهر فيها الظلم وتفشى فقد آذنت بالخراب والانهيار. وأول العدل وأوجبه هو العدل مع الله تعالى وهو أن نعبده لا نشرك به شيئا ونقيم شرعه في الأرض, وأن نحكم بالعدل فقد قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا -58- سورة النساء), فكم من أمم أهلكها الله بكفرها وإصرارها عليه كقوم نوح أغرقهم الله بالطوفان, وقوم هود الذين أهلكم الله بالريح العاتية, وقوم لوط الذين جعل الله عليهم الأرض عاليها سافلها, والأمثلة كثيرة, بل لم ينجو منها إلا قليل, فهؤلاء قوم يونس تاب الله عليهم بفضل توبتهم بفضل توبتهم وقد قال الحق تعالى فيهم (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ -98- سورة يونس), ولا نغتر باستقرار دول الكفر وسطوتهم فهم آيلون إلى الزوال مهما طالت المدة ومهما بلغت العدة وما فرس كسرى وروم قيصر منا ببعيد (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ -197- سورة آل عمران), ومتى توفرت الشروط وأقام المسلمون شرع الله في الأرض فإنه ناصرهم ومنجز وعده ولو قلّت العدّة فقد قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ -60- سورة الأنفال) واشرط عليهم بالمقابل الإيمان الكامل وقال (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ-103-سورة يونس).
والحذر كل الحذر من ظلم الناس, فإنه يوجب انتقام الله تعالى وقد يسلط به الأعداء فإنه تعالى لا يرضى أن يكون الظلم في أرضه فيُقهر عباده الضعفاء فقد قال تعالى في الحديث القدسي –كما سبق ذكره-( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا), والشواهد على ذلك كثيرة في القرآن والسنة وفي أخبار الأولين والآخرين من الظالمين وبيان سوء عاقبتهم وخاتمتهم. فهذا فرعون –إمام المعطلة- والذي اتخذ من نفسه إلها من دون الله ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ -38- سورة القصص) واستعبد بني إسرائيل كلها وأخذ يستحيي نساءهم ويقتّل أطفالهم ويستعمل السّحرة والكهنة وقد بلغ السحر في عصره مبلغا عظيما (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ -116- سورة الأعراف) ويعذب و يقتل من يدعوا إلها غيره, ثم لا يخاف ولا يرعوي رغم كل آيات الله التي جاء بها مو سى عليه السلام بل يحارب الله من جهله أنه يقدر على الوصول إليه –جل وعلا- ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ -38- سورة القصص) وهو مع هذا مغرور بإمهال الله له وحلمه عليه والله رؤوف بالعباد, ثم يأخذه الله على حين غرة وهي سنة الله في أرضه وعاقبة الظالمين ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ -3- سورة ص), فيغرقه في اليم هو وجنوده, ثم استخلف من بعده بني إسرائيل وأورثهم الأرض وجعل فيهم النبوة والكتاب فلم يرعوها حق رعايتها وظلموا أنفسهم واستكبروا بغير الحق وقالوا على الله بهتانا عظيما وأشركوا به وفشت فيهم المعاصي والمظالم وقد قال تعالى في حقهم (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...-85- سورة البقرة), وقال (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ -78- سورة المائدة) والآيات كثيرة في كتابه عزوجل لا يسعنا ذكرها, وقبل هؤلاء فرعون و النمرود و قبلهم وبعدهم كثير.
فالعدل يورث الإطمئنان والراحة في قلوب الناس, والثقة في النفس وفي الناس, فتقوى بذلك عزيمتهم في طلب العلم والعمل والإجتهاد وبذل المال والجهد فتقوى بذلك دعائم بناء الدولة من علوم و بحوث وفنون وصنائع شتى وتقوى روابط المجتمع ويهتم الناس بما هو أصلح لدنياهم وأخراهم وملاك ذلك كله الدين الصحيح فتحسن أخلاقهم وترتفع هممهم وتعلوا أنفسهم أن تدنسها بسفساف الأمور فضلا عن أراذلها.
وبالمقابل نجد أن الظلم يورث لدى الناس فقدان الثقة والغبن فتضعف عزيمتهم ويقل بذلك عزمهم وعملهم واجتهادهم وبذْلهم وذلك بحسب ما يجدونه من الظلم وشدة وطأته عليهم وربما تضعف روحهم, فتضعف الصنائع والعلوم والتجارة وغيرها من ركائز بناء الدول وقد يضعف دينهم لما يجدونه من شدة الظلم فتميل أنفسهم إلى الكسب المحرم من الرشوة والسرقة وغيرها من وسائل أكل مال الناس بالباطل –وهذا بحسب المقدرة والوازع الديني- وربما مالت إلى المحرمات كالزنا وشرب الخمور والدجل وغيرها من المعاصي, فإذا حدث هذا أوشكت الدولة على الانهيار وأوشك الله أن يصيبهم بعذاب من عنده إلا أن يتداركهم برحمة من عنده فيتوبوا ويصلحوا ويعدلوا.
وفي هذا يقول ابن خلدون "...وكلُّ من أخذ مُلك أحد أو غصَبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه عليه الشرع فقد ظلمه فجُباة الأموال بغير حقها ظَلمَةٌ والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة و خُصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري...فكان تحريمه (الظلم) مُهِمًّا وأدلته من القرآن والسّنة كثيرة..." (المقدَّمة, الفصل الثالث ولأربعون في أن الظلم موذن بخراب العمران).
ومما لا شك فيه أن سنة الله جارية في خلقه مهما تغير المكان والزمان إلى يوم الدين ذلك أنه لا تبديل لكلمات الله وأن سنن الله لا تحابي أحدا, فمن عدل فمآله مآل سلفه من بني آدم ومن ظلم فموعده موعد سلفه وباب التوبة مفتوح إلى أن تبلغ الروح الحلقوم وإلى أن تطلع الشمس من مغربها(الحديث). وهذا ما لا يمكننا أن نحيد عنه في زمننا هذا فمهما تطورت العلوم والأبحاث وتنوعت وسائل و أساليب العيش, فإن العدل يبقى العنصر الرئيس في هذا كله وبغيره تزول الأمم.
ومما لا شك فيه كذلك, وانطلاقا مما سبق, أن وسائل تنظيم شؤون الناس لا بد وان تخضع لميزان العدل كعنصر رئيس لئلا تذهب المجهودات هباء منثورا. ومن وسائل تنظيم شؤون الناس حسن إدارتهم داخل مختلف المؤسسات والمنظمات وهذا ما نسميه في عصرنا هذا بإدارة -أو تسيير- الأفراد أو الموارد البشرية, فتختلف بذلك المفاهيم وتتطور المصطلحات ويبقى الجوهر سائدا.
-II- العدل في التسيير المعاصر وآثار الظلم فيه
ممّا يتفق عليه أرباب الأعمال وأصحاب النظريات الحديثة في شؤون المنظمات والباحثون هو الدور الأساسي الذي تلعبه الموارد البشرية أو المستخدمين في نجاح المنظمات بمختلف أنواعها, وهذا ما يفسّر كثرة البحوث والكتابات في هذا المجال, والتي تصب أكثر اهتماماتها في كيفية تطوير قدرات هذا العنصر وإيجاد الأنظمة المناسبة والكفيلة برفع مردوده عن طريق تحفيزه واستخراج عناصر الدافعية لديه بالخصوص واستغلالها.
(Equity)ونجد أنه من بين العناصر الأساسية التي تعد من أسس نجاح إدارة الموارد البشرية, يتبوأ العدل مكانة عالية.
-1 مفهوم التسيير و إدارة الموارد البشرية:
يمكننا أن نعرف التسيير على أنه توفير مختلف الوسائل والموارد الضرورية وتنظيمها لبلوغ أهداف محددة مسبقا في آجال معلومة. وتعد الموارد البشرية من أهم الموارد المطلوبة لتطوير المنظمات والتي تحتاج بدورها إلى نمط تسييري خاص لوجود عنصر الطبيعة البشرية.
ونعرّف إدارة الموارد البشرية باختصار على أنها تلك الوسائل المُعدّة لتطوير مردود العاملين في المنظمة, وتظم أنظمة التحفيز والدافعية وكذلك سياسات الحصول على الكفاءات وتطويرها والحفاظ عليها داخل المنظمة.
-2 سياسات إدارة الموارد البشرية و دور العدل في نجاحها:
تعتمد الإدارة المعاصرة للموارد البشرية على إشراك العاملين في تسيير وتحديد أهداف المنظمة وذلك باللجوء إلى وسائل التحفيز والدافعية المختلفة.
أ- السياسات المكونة لإدارة الموارد البشرية: تعتمد سياسات إدارة الموارد البشرية على أربع عناصر, سياسة التشغيل أو الحصول على الكفاءات, سياسة التكوين او تطوير الكفاءات, سياسة التقييم وسياسة التعويض والتي تهدف إلى الحفاظ على الكفاءات.
أ-1 سياسة التشغيل: وهي حسن استقطاب واختيار الكفاءات الموجودة خارج محيط المؤسسة والتي ستلعب دورا أساسيا في تطوير المؤسسة وتحقيق أهدافها. وتعتمد في ذلك على طرق ووسائل متنوعة يطول ذكرها.
أ-2 سياسة التكوين: تهدف إلى تطوير كفاءات العاملين بالمنظمة (الجدد و القدماء) بصورة تمكنهم من القيام بدورهم المطلوب على أحسن وجه. فهي تهدف أساسا إلى تكييف العامل باستمرار مع أهداف الوظيفة التي يشغلها أو التي يفترض له أن يشغلها- مستقبلا.
أ-3 سياسة التقييم والتعويض: يعتمد التقييم داخل المنظمة على عنصرين هما ما يمكن للعامل تقديمه للمؤسسة وهذا انطلاقا من تقييم كفاءاته ابتداء (المستوى التأهيلي, التخصص, المهارات, الأبحاث, ... ) من جهة, وما يقدمه العامل حقيقة للمنظمة وهو مردوده في إطاره الفردي والجماعي, من جهة أخرى.
ب- أنظمة التحفيز والدافعية: هي أنظمة التنشيط بالمنظمة والتي تهدف إلى رفع مردود العامل. تعتمد أساسا على استغلال إرادة العامل ذاته في دفعه لبذل جهود أكبر مستقبلا والتي تكلّل برفع مردوده كمًّا وجودة. وأهم هاته السياسات التعويض على المردود الفردي والجماعي, التعويض على بلوغ أهداف المنظمة, إشراك العاملين في تحديد أهداف المنظمة, الإحترام, التقدير والإعتراف بالمجهودات, التشكرات,....
ويعد العدل من أعظم وسائل الدافعية داخل المنظمة بحيث أنه يخلق الثقة والرضى لدى العامل. مما يدفعه لبذل مجهودات أكبر. فهو عنصر أساسي ومفتاح في معادلة إدارة الأعمال عموما والذي علية تبنى مختلف أدواتها. ونجد أن الباحثين و أصحاب التخصص (*) عموما يولون أهمية كبرى للعدل داخل المنظمة والذي من دونه لا يمكن لسياسات المؤسسة المختلفة أن يكتب لها النجاح مهما بلغت درجة تطورها.
فالعدل في سياسات التشغيل واستقطاب الكفاءات يتيح للمنظمات إختيار أحسن الكفاءات وهذا ما يؤثر إيجابا على مردودها وتنافسيتها واستمراريتها. وله بالمقابل أثرا إيجابيا على أصحاب الكفاءات وطالبي العمل من حيث رفع معنوياتهم وإتاحة فرص العمل بصورة عادلة تتطابق مع مبدأ الكفاءة (بمختلف عناصرها من تخصص, مهارات, قدرات خاصة,...) فتزداد بذلك دافعيّتهم وهمتهم للعمل مما يؤثر مباشرة على حياتهم الشخصية. وهذا مما لا شك فيه أنه له دور في تطويرإقتصاد الدولة باعتبار أن المنظمة فاعل إقتصادي أساسي, وله دوره كذلك في الإستقرار الإجتماعي والسياسي للدول.
والعدل في سياسات التكوين يسمح بتطوير الكفاءات الفردية والجماعية– بحسب الحاجة الحقيقية للمنظمة- مما يعود بالإيجاب على نفس الفرد ومردود المنظمة واستمراريتها.
العدل في سياسة تقييم العامل وتعويضه (الأجر الأساسي ولواحقه) على المردود الحقيقي بالخصوص هو من أهم العوامل المحافظة على استقرار المنظمة وتطويرها من حيث أثره على نفسية العامل ورضاه داخل المنظمة وهذا نتيجة للمقارنة التي يجريها بين مجهوداته المبذولة والتعويض الذي يحصل عليه وهذا ما يمكن أن نسميه المقارنة الذاتية ( المقارنة الذاتية = التعويض المقدر من طرف المنظمة/المجهود الشخصي المقدر من طرف العامل), وكذا المقارنة النسبية التي يجريها مع زملاءه داخل المنظمة, وربما تمتد المقارنة لتشمل منظمات أخرى.
-3 بيان مدى تأثير الظلم في وسائل التسيير (مهما بلغت درجة تطورها).
ومما لا شك فيه أن للظلم أثره داخل المنظمة وهو ضد العدل فيكون بهذا أثره عكسيا لأثر للعدل فيرجع بالسلب عليها.
والظلم في سياسات التشغيل بسبب تغييب عنصر الكفاءة كعامل أساسي واعتبار عناصر أخرى كالقرابة والمصلحة الشخصية في الإختيار له أثره السلبي على مردود المنظمة واستمراريتها كونها تفوتها فرصة اختيار الكفاءات المناسبة. فيؤثر سلبا على مختلف وظائفها نتيجة لعدم توفر الكفاءة الملائمة للوظيفة عند صاحبها فيختل بهذا العمل داخل مختلف الوظائف ويختل توازن المنظمة.
الظلم في سياسات التكوين له أثره السلبي على تطوير كفاءات العاملين بما يناسب وظائفهم والذي يهدف أساسا إلى ملء الفارق في الكفاءات الموجود لدى صاحب الوظيفة مقارنة بمتطلباتها. وهذا ما يؤثر سلبا على ميزان الكفاءات لدى المنظمة على المدى المتوسط والطويل وتتعاظم الفوارق بين الوظائف وكفاءات شاغليها لاختلال ميزان التكوين فتتراجع مكانتها.
الظلم في سياسات التقييم والتعويض له أثره الشديد على المنظمة بسبب الأثر النفسي الكبير الذي يحدثه عند العاملين وحالة عدم التوازن الداخلي التي يخلقها عندهم منشأه حالة عدم الرضى متسببة بذلك في فقدانهم الثقة وكذا تراجع مردودهم فيتأثر بذلك مردود المنظمة وتكون حياتها في خطر.وهذا هو سبب انتقاد بعض نظريات الموارد البشرية كونها لا تولي إهتماما لمردود العامل داخل المنظمة وإنما تعتمد في تقييمها أساسا على تقييم الوظيفة ذاتها وكذا مؤهلات العامل الملائمة فتحدد بذلك الأجر المناسب اعتمادا على مبدأ " نفس الوظيفة نفس الأجر" أي مهما كان المردود فيقع الظلم (نظرية المدرسة البيروقراطية, ماكس ويبر), وبإغفالها لهذا جانب فإنها تهمل جزءا أساسيا في سياسات التقييم.
الخاتمة
يتبين لنا مما سبق مدى تأثير الظلم على الأفراد والدول, فالفرد بطبيعته البشرية التي فطره الله عليها أينما كان وحل فإنه يعتمد العدل عنصرا أساسيا في تقديره للأمور وهو بذلك يفهم الأمور و يقيس ويقارن ويوازن ويقرر وقراراته لها تأثيراتها الأكيدة على المجتمع والدول, ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب إهتمام الدول الغربية بالعدل وكيف تضع له بذلك حدودا دقيقة وقواعدا صارمة, وعدلها بشرطه هذا لا يغنيها وإنما يتعين عليها الإيمان بالله وتوحيده (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين), فما وافق أمر الله فهو مصيب وما خالفه فذلك الخِطأ الذي يعود عليها بالشر.
فالعدل بشموليته يخص كل المجالات وأعدل العدل عبادة الله وتوحيده وتطبيق شرعه في جميع الميادين. فمتى حققت الأمم ذلك فإن الله ناصرها ولها الثواب في الدنيا والآخرة ومتى خالفته فليس لهل إلا الخسران, فنعم المولى ونعم النصير والله أعلم وهو المستعان.
أخوكم في الله
أبو عبد الله سهيل الجزائري
محرم 1434/نوفمبر 2013
-نبذة عن دوره في التسييرالمعاصر
تمهيد: بيان الخلق, سببه, الحكمة منه, و ميزان العدل فيه.
1-1العدل عند الله عز وجل و وجوبه على المخلوقين.
1-2العدل: أنواعه وشموليته. -العدل مع الله - العدل مع النفس - العدل مع الغير – الفرق بين العدل والمساواة و إزالة الشبهة بينهما.
1-3 دور العدل في بناء واستقرار الأمم و الحضارات.
–بيان أهمية العدل في بناء الدول وبقائها - بيان مغبة الظلم ودوره في تقهقر والأمم والحضارات و اندثارها (ولو كانت مسلمة)
2- العدل في التسيير المعاصر وآثار الظلم فيه
2-1 مفهوم التسيير و إدارة الموارد البشرية.
2-2 سياسات الموارد البشرية و دور العدل في نجاحها.
2-3 بيان مدى تأثير الظلم في وسائل التسيير (مهما بلغت درجة تطورها).
3- الخاتمة
-I- العدل في الإسلام و الحث عليه
خلق الله الخلق –جل في علاه- وسن لهم سننا يتبعونها وجعل لهم أوامر يأتمرون بها, فمنهم مكلف محاسب بعمله, ومنهم غير مكلف, ومنهم مكلف غير محاسب, لهم مهام لا يخرجون عنها, فهم لا يفترون ولا يملون ولا يخطئون و يتمونها خير إتمام, هؤلاء هم ملائكة الله عز وجل على اختلاف أشكالهم وأدوارهم وعلى رأسهم جبريل, أمين الوحي,واسرافيل و ميكال و حملة العرش,... عليهم صلوات الله أجمعين فقد قال الله تعالى في كتابه العزيز, أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّاللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) - سورة فاطر).
وخلق الله المكلفين المحاسبين بأعمالهم يوم يبعثون, وهم اثنين لا ثالث لهما, الجن وهم أسبق, ثم الإنس وأبوهم آدم عليه السلام. فهؤلاء جميعا خلفاء الله في أرضه, حملة الأمانة التي كلفوا بها ألا و هي أن يعبدوا الله لا يشركوا به شيئا, فيأتمرون بأوامره و ينتهون عما نهوا عنه. فمن آمن و أصلح فقد فاز ومأواه الجنة, ومن عصى و كفر فقد خسر ومثواه النار و بئس المصير, فلا أفلح من كان الله خصمه ولا خسر من كان ناصره, فنعم المولى و نعم النصير.
وخلق الله خلقا غير مكلفين, ذوات أرواح و غيرذوات أرواح, فهؤلاء لا يحملون أمانة التكليف, فلا تتجاوز حياتهم الحياة الدنيا, كالأشجار والنبات والجماد, وسائر الحيوانات التي يبعثها الله يوم القيامة ثم يقول لها كوني ترابا.
نعم, فقد خلق الله الخلق و أحكم صنعه وهو القائل (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ-7- سورة السجدة), و جعل لذلك ميزانا دقيقا ومتينا لا يزيغ عنه إلا هالك ألا و هو العدل وقد قال (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيز- سورة الْحديد), فهو أساس الخلق كله وأساس الأمانة التي حملها الثقلان (الإنس والجن), فمن أقامه في أرض الله فقد أحسن و أصاب, و من خالف الله في حكمه فقد أخطأ وليس له إلا الخسران المبين, فقد أوحى الله إلى عباده في الحديث القدسي:( يا عبادي إني قد حرمت الظلم على نفسي ، و جعلته محرما بينكم فلا تظالموا... صححه الألباني)
و من تمام عدله – ورحمته - عز وجل أنه جعل من خلقه رسلا, ملائكة وبشرا, يبلغون رسالته إلى عباده من الإنس والجن عبر كامل العصور يدعونهم إلى عبادة الله وحده ويذكرونهم بالعهد الذي قطعه الله عليهم, وأعظمهم و آخرهم محمد–صلى الله عليه وسلم-, و أولو العزم من الرسل وهم: رسول هده الأمة محمد ورسالته القرآن, جده إبراهيم, موسى ورسالته التوراة, نوح أبو البشرية بعد آدم, وعيسى ابن مريم ورسالته الإنجيل, عليهم سلام الله وصلواته أجمعين. فهؤلاء كلهم أرسلوا لدعوة الناس إلى الحق وإحقاق العدل في الأرض وإفراد الله بالعبادة وهو أعدل العدل, وهم الذين جعلوا كل همهم تبليغ رسالة الله لعباده وإحقاق العدل في الأرض بالأدلة والبراهين والآيات,... وهم كلهم في دلك صابرون ثابتون لا يخافون في الله لومة لائم وهم أعدل الناس.
ومن هنا تتجلى مكانة العدل عند الله عز وجل وأهمية إحقاقه في الأرض, ومغبة الظلم وأثره.
فظهر لنا أن نبين أهمية العدل ودوره في الأرض وبناء الدول واستمرارها ومغبة الظلم في الأرض وأنه سبب تراجع الشعوب وتفككها دولا وأمما وحضارات, فالعدل أساس بقائها, فهي تعلوا وتنتصر كلما قوي عدلها, وتضعف وتخسر كلما ضعف والله المستعان.
ويتعين علينا ابتداء أن نذكر تعريف العدل لغة و شرعا حتى يتسنى لنا أن نبسط, فيما يلي, أهميته, شموليته و دوره في حياة الشعوب بعد استخلافها في الأرض.
تعريف العدل:
العدل لغة هو ضد الجور(الفيروز أبادي), وهو القصد في الأمور, والعدل شرعا هو وضع الشيء في مواضعه الشرعية, وهو عكس الظلم الذي يعرف بوضع الشيء في غيرموضعه الشرعي (قاله ابن حجر العسقلاني في شرح صحيح البخاري).
فمن هاته التعاريف, نجد أن العدل هو وضع الأشياء في مكانها دون نقصان أو زيادة في الوقت الذي جُعل لها وهو الذي ألزم به الله عباده أساسا, وألزم به نفسه جل وعلا.
-1العدل عند الله عز وجل و تحريمه على المخلوقين:
خلق الله الخلق و عدل في خلقه– و هو أعدل العادلين- وهو القائل عز وجل (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ – 46 -سورة فصلت), وجاءت 'ظلام' بصيغة المبالغة مقرونة بالنفي لبيان كمال العكس وهو العدل عند الله عز وجل, والمعصوم من عصمه الله. ومن خلْقه تعالى الإنس والجن خلقها ليحسن إليها واشترط عليها أن تعبده و لا تشرك به شيئا و جعل أساس ذلك كله العدل, فمن أطاع الله فقد عدل ومن عصاه فقد ظلم و أعظم الظلم الشرك بالله, فلا تستقيم أمورهم إلا به ولا تحيا حياة طيبة إلا ببسطه في الأرض ولا تسعد في الآخرة إلا به.
والعدل أساس العبادة كلها و هو نتاجها فمن أطاع الله فقد عدل ومن العدل كذلك طاعة الله, بل هي العدل كله من حيث أن طاعة الله تتوسع لتشمل الحياة بكل عناصرها, فإذا كنا نعدل مع الخلق بما شرعه الله فقد حققنا جزءا من العدل, و إذا كنا نعدل مع الله فقد حققنا الجزء المتبقي وهو الأساس وهو مفتاح الفوز والذي من دونه لا ينفعنا عدل لقوله تعالى (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ-65- سورة الزمر). وذلك أن الشرك ظلم عظيم (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ -13- سورة لُقْمَان). و من هنا يتبين لنا أن العدل بتنوعه لا يخرج في محتواه عن طاعة الله, فالعدلُ الأصلُ طاعةُ الله والذي تتفرع عنه بقية أنواعه, فلو ما أمرنا الله به لما وجب علينا وهو خير العادلين ولا تبديل لكلمات الله.
-2العدل: أنواعه وشموليته.
قد يبدو أن العدل يختص بالمخلوقين و تحديدا البشر ولا يصلح إلا أن يكون معهم ومنهم, وهذا فهم قاصر للعدل ويناقض مبدأ شموليته, وينتج عنه مفاسد عديدة. فالعدل بأنواعه يكون مع الله ويكون مع النفس كما يكون مع الغير, والعدل مع الغير لا يخص فقط البشر بل يتعداه إلى ما سوى ذلك من المخلوقين كالجن والملائكة والحيوانات وربما سائر الجمادات, و الإخلال بأحد هاته العناصر يكون له من دون شك آثارا سيئة. لذلك نجد أن العديد من الأمم التي تعتبر العدل فإنها تعتبره من حيث إحقاقه بين الناس وقد يتعد ذلك عندها إلى الحيوانات و"البيئة", و نجدها بالمقابل لا تعتبره في تعاملها مع الله -عز وجل. وإن كان لها شيء من الديانة فإنها لا تعده من العدل في فقهها, بل نجد أنها تفصل الدين عن الدولة تماما. والعدل لا يكون من جانب البشر فقط بل يكون في حقهم أيضا, فالله يعدل معهم كما يعدل مع سائر المخلوقين, وأمر الملائكة بما يوافق عدلهم مع البشر فعدلُهم من عدل الله, كما أمر الجن بأن يعدلوا مع البشر فلا يؤذونهم. فللعدل أنواع وهو يشمل كل شيء.
- العدل مع الله :
العدل مع الله هو أن نأتمر بأوامره جميعها كالصلاة والصيام والزكاة والعدل والإحسان,...وننتهي عما نهانا عنه كالسحر والقتل بغير حق والزنا وشرب الخمر,... وأعظم أوامره أن نعبده وحده, وأعظم نواهيه أن لا نشرك به شيئا فقد قال تعالى (...وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا...-36-سورة النساء ). فإنه تعالى قد أمر الإنس والجن أن تعبده وحده وبين كيفية تحقيق ذلك, وذلك بنهيه عن الشرك و بيان أنواعه وطرقه–الظاهرة البينة, والدقيقة الخفية. فلا يجوز لنا أن نشرك معه شيئا لا ملك مقرب ولا نبي مرسل ولا ولي صالح ولا أي شيء آخر. كما بين الطرق المؤدية إلى الشرك وجعلها من المحظورات, وحرم ما من شأنه أن يؤثر على عبادة الفرد وأدائه لها فكل معصية لها أثرها السلبي على قلب العبد وإيمانه فعبادته, ومنها ما يؤدي إلى الشرك والعياذ بالله, وتلك خطوات الشيطان (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ-168- سورة البقرة).
- العدل مع النفس:
يعدل الإنسان مع نفسه بأن يربيها على طاعة الله عز وجل وعبادته حق عبادة فقد قال تعالى (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَه...-1- سورة الطلاق), ويجنبها ما يسخطه عليه, ويعدل مع نفسه بأن يجنبها المهالك ما استطاع إلى ذلك سبيلا (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّالْمُحْسِنِينَ 195-سورة البقرة4) فيدفع الأمراض بالوقاية و التداوي والرقية الشرعية, ويدفع الفقر بالعمل, ويدفع أذى الناس بالإحسان, ويدفع كيد الشياطين والأرواح الشريرة بالتحصن وبالرقى الشرعية, ويطفيء غضب الله بالصدقات والطاعات. ويعدل الإنسان بأن يعطي نفسه حقها من الراحة والترفيه وفق طرق شرعية, فلا يرهقها بالأعمال الدنيوية والطاعات فيحملها بذلك ما لا تطيقه, ويأخذ بالرخص الشرعية فإن الله (يحب أن تؤخذ رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه) والضرورة تقدربقدرها والله المستعان.
- العدل مع الغير:
لا يخفى أن العدل مع الآخرين من العدل مع الله من باب أنه –عز وجل- أمرنا به, سواء كان الغير من زمرة المسلمين أو من غيرهم (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)- سورة الممتحنة), جمادا كان أو بهيمة, فلا يصح أن نهلكها دون سبب شرعي أو لمجرد الإفساد والعلو في الأرض بغير الحق لقوله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ -205- سورة البقرة).
وظلم الناس من الكبائر وهي المظالم التي لا تغفر إلا باستسماح صاحب الحق ذلك أن حق الله مبني على المسامحة, وحقوق العباد مبنية على المُشاحّة فلا يجعلن الإنسان لغيره عليه سلطانا يوم لا ينفع مال ولا بنون والدرهم يومئذ الحسنات (الحديث:ما تعدون المفلس فيكم...) . قد يكون الظلم بمجرد الكلام كالغيبة والنميمة والسّب والشتم وغيرها من أمراض اللسان والتي تكب صاحبها على وجهه في جهنم قال صلى الله عليه وسلم (...وهل يكب الناس على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم- الحديث), وهذا هو حال الكثير من, فرب كلمة قتلت صاحبها ورب كلمة أدخلت صاحبها النار, ورب كلمة أشعلت فتيل الحرب والفتن, ورب كلمة قطعت رحما, ورب كلمة فرقت أسرة, فالصمت حكمة في مواضع كثيرة خاصة في ظل انتشار الفتن, قال تعالى وقوله الحق ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا -53- سورة الإسراء) وقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- (من كان متكلما فليقل خيرا أو ليصمت).
و قد يكون الظلم باليد وغيرها من وسائل البطش والأذى, وقد يكون بالحسد, أو بالسحر وآثاره قد تكون مهلكة وهو من أشد أنواع الأذى والظلم, فقد كفَّر الله الساحر وطالبه لقوله تعالى (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ-102- سورة البقرةما.
وقد يظلم الرجل من يعول وقد قال صلى الله عليه و سلم "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول", وقد يظلم الراعي رعيته, وقد تظلم شعوب حكامها سواء بالغيبة وبالتكفير-من غير بينة- أو بالخروج عن طاعتها فتفتح بذلك بابا للفتنة عظيم.
و قد يظلم المعلم تلامذته فلا يحسن تعليمهم, ويظلم الطلاب معلميهم و علماءهم بالإنقاص من قيمتهم لدى العامة أو بالتجريح –عن غير علم- أو بمجرد الخطأ وهو باب للفتنة لا يقل عن سابقه خاصة إذا كان في حق علماء ربانيين فتكون فتنة الدين, والفتنة في الدين أشد وأبقى.
وقد يصلح أن نقول مجازا أن الإنسان يظلم الشجر والحجر والجمادات,... فيقطع أشجارا, ويحرق الزرع, ويلوث الهواء والماء وهذا كله من الظلم, وظلمها يقع من حيث أثرها على عمار الأرض و كذلك من حيث عدم الإمتثال لأمره عز وجل, ويظلم كذلك البهائم فيهلك الحرث والنسل, وهذه ملائكة الله تسأل الله في قوله تعالى ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُون-30- سورة البقرة) أي أنه –عز وجل- يعلم أنه سيكون له عباد يقيمون شرعه في الأرض ويحكمون بالعدل ويصلحون فيها فلا يفسدون.
فالعدل كما تبين من قبل هو جعل الشيء في مكانه والظلم أو الجور هو جعل الشيء في غير مكانه وهذا كفيل بأن يجعل هذا المصطلح بمنأى عن التشويه والخلط مع مفاهيم أخرى.
- الفرق بين العدل والمساواة و إزالة الشبهة بينهما:
مما يتعين ذكره هو مصطلح المساواة والذي قد يبدو موافقا لمعنى العدل أو من مرادفاته, وهما يختلفان ولا وجه للتساوي بينهما. وبتعريف المساواة يتضح لنا الفرق, فالمساواة هي تقسيم الأشياء-سواء كانت مادية أو غير مادية- وتوزيعها بالتساوي بين الأفراد, وهذا لا يحقق معنى العدل ويخالف ما جاء به الشرع كقوله تعالى ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ...-11- النساء) في تقسيم الميراث, فليس على الأب طاعة ولده بل تجب عليه النفقة والتربية والرعاية وتجب على الإبن الطاعة, وليس على الحاكم طاعة الرعية, بل تجب عليها الطاعة و قد قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا -59- النساء), ويتعين عليه الحكم بالعدل وإيتاء كل ذي حق حقه.
ومما لاتزال تنادي به الدول الغربية المساواة بين الرجل والمرأة و تسوقه في غطاء منمق يكاد يبهر. فقد حكم الله تعالى بالاختلاف بين الذكر والأنثى وهو القائل في كتابه العزيز (فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ -36- سورة آل عمران) والقائل (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ -14- سورة الملك), وجعل لكل منهما خصوصياته في الخلق والتكاليف, وفضل الرجل درجة وجعل له من التكاليف ما ليس للأنثى كالقوامة والنفقة والجهاد وصلاة الجماعة واتباع الجنائز بما يناسب خلقته, ونجد أن هاته التكاليف تتطلب إما الخروج والسفر أو الجهد والمشقة والمخاطرة.
ومن هنا يتجلى لنا الفرق بين العدل والمساواة, بل قد يكونا متضادين في الكثير من الأحوال وبالمساواة قد يقع الظلم, وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون
. فمفهوم العدل شامل ولا ينحصر في العلاقات والمعاملات التي تكون بين البشر, وهو من الأهمية بمكان في بناء الدول واستقرارها.
-3 دور العدل في بناء الدول واستقرارها:
لا شك في أن للعدل دور رئيس في بناء الدول واستقرارها ومتى ظهر فيها الظلم وتفشى فقد آذنت بالخراب والانهيار. وأول العدل وأوجبه هو العدل مع الله تعالى وهو أن نعبده لا نشرك به شيئا ونقيم شرعه في الأرض, وأن نحكم بالعدل فقد قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا -58- سورة النساء), فكم من أمم أهلكها الله بكفرها وإصرارها عليه كقوم نوح أغرقهم الله بالطوفان, وقوم هود الذين أهلكم الله بالريح العاتية, وقوم لوط الذين جعل الله عليهم الأرض عاليها سافلها, والأمثلة كثيرة, بل لم ينجو منها إلا قليل, فهؤلاء قوم يونس تاب الله عليهم بفضل توبتهم بفضل توبتهم وقد قال الحق تعالى فيهم (فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آَمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آَمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ -98- سورة يونس), ولا نغتر باستقرار دول الكفر وسطوتهم فهم آيلون إلى الزوال مهما طالت المدة ومهما بلغت العدة وما فرس كسرى وروم قيصر منا ببعيد (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ -197- سورة آل عمران), ومتى توفرت الشروط وأقام المسلمون شرع الله في الأرض فإنه ناصرهم ومنجز وعده ولو قلّت العدّة فقد قال تعالى (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ -60- سورة الأنفال) واشرط عليهم بالمقابل الإيمان الكامل وقال (ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ-103-سورة يونس).
والحذر كل الحذر من ظلم الناس, فإنه يوجب انتقام الله تعالى وقد يسلط به الأعداء فإنه تعالى لا يرضى أن يكون الظلم في أرضه فيُقهر عباده الضعفاء فقد قال تعالى في الحديث القدسي –كما سبق ذكره-( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا), والشواهد على ذلك كثيرة في القرآن والسنة وفي أخبار الأولين والآخرين من الظالمين وبيان سوء عاقبتهم وخاتمتهم. فهذا فرعون –إمام المعطلة- والذي اتخذ من نفسه إلها من دون الله ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ -38- سورة القصص) واستعبد بني إسرائيل كلها وأخذ يستحيي نساءهم ويقتّل أطفالهم ويستعمل السّحرة والكهنة وقد بلغ السحر في عصره مبلغا عظيما (قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ -116- سورة الأعراف) ويعذب و يقتل من يدعوا إلها غيره, ثم لا يخاف ولا يرعوي رغم كل آيات الله التي جاء بها مو سى عليه السلام بل يحارب الله من جهله أنه يقدر على الوصول إليه –جل وعلا- ( وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ -38- سورة القصص) وهو مع هذا مغرور بإمهال الله له وحلمه عليه والله رؤوف بالعباد, ثم يأخذه الله على حين غرة وهي سنة الله في أرضه وعاقبة الظالمين ( كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ -3- سورة ص), فيغرقه في اليم هو وجنوده, ثم استخلف من بعده بني إسرائيل وأورثهم الأرض وجعل فيهم النبوة والكتاب فلم يرعوها حق رعايتها وظلموا أنفسهم واستكبروا بغير الحق وقالوا على الله بهتانا عظيما وأشركوا به وفشت فيهم المعاصي والمظالم وقد قال تعالى في حقهم (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ...-85- سورة البقرة), وقال (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ -78- سورة المائدة) والآيات كثيرة في كتابه عزوجل لا يسعنا ذكرها, وقبل هؤلاء فرعون و النمرود و قبلهم وبعدهم كثير.
فالعدل يورث الإطمئنان والراحة في قلوب الناس, والثقة في النفس وفي الناس, فتقوى بذلك عزيمتهم في طلب العلم والعمل والإجتهاد وبذل المال والجهد فتقوى بذلك دعائم بناء الدولة من علوم و بحوث وفنون وصنائع شتى وتقوى روابط المجتمع ويهتم الناس بما هو أصلح لدنياهم وأخراهم وملاك ذلك كله الدين الصحيح فتحسن أخلاقهم وترتفع هممهم وتعلوا أنفسهم أن تدنسها بسفساف الأمور فضلا عن أراذلها.
وبالمقابل نجد أن الظلم يورث لدى الناس فقدان الثقة والغبن فتضعف عزيمتهم ويقل بذلك عزمهم وعملهم واجتهادهم وبذْلهم وذلك بحسب ما يجدونه من الظلم وشدة وطأته عليهم وربما تضعف روحهم, فتضعف الصنائع والعلوم والتجارة وغيرها من ركائز بناء الدول وقد يضعف دينهم لما يجدونه من شدة الظلم فتميل أنفسهم إلى الكسب المحرم من الرشوة والسرقة وغيرها من وسائل أكل مال الناس بالباطل –وهذا بحسب المقدرة والوازع الديني- وربما مالت إلى المحرمات كالزنا وشرب الخمور والدجل وغيرها من المعاصي, فإذا حدث هذا أوشكت الدولة على الانهيار وأوشك الله أن يصيبهم بعذاب من عنده إلا أن يتداركهم برحمة من عنده فيتوبوا ويصلحوا ويعدلوا.
وفي هذا يقول ابن خلدون "...وكلُّ من أخذ مُلك أحد أو غصَبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه عليه الشرع فقد ظلمه فجُباة الأموال بغير حقها ظَلمَةٌ والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة و خُصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري...فكان تحريمه (الظلم) مُهِمًّا وأدلته من القرآن والسّنة كثيرة..." (المقدَّمة, الفصل الثالث ولأربعون في أن الظلم موذن بخراب العمران).
ومما لا شك فيه أن سنة الله جارية في خلقه مهما تغير المكان والزمان إلى يوم الدين ذلك أنه لا تبديل لكلمات الله وأن سنن الله لا تحابي أحدا, فمن عدل فمآله مآل سلفه من بني آدم ومن ظلم فموعده موعد سلفه وباب التوبة مفتوح إلى أن تبلغ الروح الحلقوم وإلى أن تطلع الشمس من مغربها(الحديث). وهذا ما لا يمكننا أن نحيد عنه في زمننا هذا فمهما تطورت العلوم والأبحاث وتنوعت وسائل و أساليب العيش, فإن العدل يبقى العنصر الرئيس في هذا كله وبغيره تزول الأمم.
ومما لا شك فيه كذلك, وانطلاقا مما سبق, أن وسائل تنظيم شؤون الناس لا بد وان تخضع لميزان العدل كعنصر رئيس لئلا تذهب المجهودات هباء منثورا. ومن وسائل تنظيم شؤون الناس حسن إدارتهم داخل مختلف المؤسسات والمنظمات وهذا ما نسميه في عصرنا هذا بإدارة -أو تسيير- الأفراد أو الموارد البشرية, فتختلف بذلك المفاهيم وتتطور المصطلحات ويبقى الجوهر سائدا.
-II- العدل في التسيير المعاصر وآثار الظلم فيه
ممّا يتفق عليه أرباب الأعمال وأصحاب النظريات الحديثة في شؤون المنظمات والباحثون هو الدور الأساسي الذي تلعبه الموارد البشرية أو المستخدمين في نجاح المنظمات بمختلف أنواعها, وهذا ما يفسّر كثرة البحوث والكتابات في هذا المجال, والتي تصب أكثر اهتماماتها في كيفية تطوير قدرات هذا العنصر وإيجاد الأنظمة المناسبة والكفيلة برفع مردوده عن طريق تحفيزه واستخراج عناصر الدافعية لديه بالخصوص واستغلالها.
(Equity)ونجد أنه من بين العناصر الأساسية التي تعد من أسس نجاح إدارة الموارد البشرية, يتبوأ العدل مكانة عالية.
-1 مفهوم التسيير و إدارة الموارد البشرية:
يمكننا أن نعرف التسيير على أنه توفير مختلف الوسائل والموارد الضرورية وتنظيمها لبلوغ أهداف محددة مسبقا في آجال معلومة. وتعد الموارد البشرية من أهم الموارد المطلوبة لتطوير المنظمات والتي تحتاج بدورها إلى نمط تسييري خاص لوجود عنصر الطبيعة البشرية.
ونعرّف إدارة الموارد البشرية باختصار على أنها تلك الوسائل المُعدّة لتطوير مردود العاملين في المنظمة, وتظم أنظمة التحفيز والدافعية وكذلك سياسات الحصول على الكفاءات وتطويرها والحفاظ عليها داخل المنظمة.
-2 سياسات إدارة الموارد البشرية و دور العدل في نجاحها:
تعتمد الإدارة المعاصرة للموارد البشرية على إشراك العاملين في تسيير وتحديد أهداف المنظمة وذلك باللجوء إلى وسائل التحفيز والدافعية المختلفة.
أ- السياسات المكونة لإدارة الموارد البشرية: تعتمد سياسات إدارة الموارد البشرية على أربع عناصر, سياسة التشغيل أو الحصول على الكفاءات, سياسة التكوين او تطوير الكفاءات, سياسة التقييم وسياسة التعويض والتي تهدف إلى الحفاظ على الكفاءات.
أ-1 سياسة التشغيل: وهي حسن استقطاب واختيار الكفاءات الموجودة خارج محيط المؤسسة والتي ستلعب دورا أساسيا في تطوير المؤسسة وتحقيق أهدافها. وتعتمد في ذلك على طرق ووسائل متنوعة يطول ذكرها.
أ-2 سياسة التكوين: تهدف إلى تطوير كفاءات العاملين بالمنظمة (الجدد و القدماء) بصورة تمكنهم من القيام بدورهم المطلوب على أحسن وجه. فهي تهدف أساسا إلى تكييف العامل باستمرار مع أهداف الوظيفة التي يشغلها أو التي يفترض له أن يشغلها- مستقبلا.
أ-3 سياسة التقييم والتعويض: يعتمد التقييم داخل المنظمة على عنصرين هما ما يمكن للعامل تقديمه للمؤسسة وهذا انطلاقا من تقييم كفاءاته ابتداء (المستوى التأهيلي, التخصص, المهارات, الأبحاث, ... ) من جهة, وما يقدمه العامل حقيقة للمنظمة وهو مردوده في إطاره الفردي والجماعي, من جهة أخرى.
ب- أنظمة التحفيز والدافعية: هي أنظمة التنشيط بالمنظمة والتي تهدف إلى رفع مردود العامل. تعتمد أساسا على استغلال إرادة العامل ذاته في دفعه لبذل جهود أكبر مستقبلا والتي تكلّل برفع مردوده كمًّا وجودة. وأهم هاته السياسات التعويض على المردود الفردي والجماعي, التعويض على بلوغ أهداف المنظمة, إشراك العاملين في تحديد أهداف المنظمة, الإحترام, التقدير والإعتراف بالمجهودات, التشكرات,....
ويعد العدل من أعظم وسائل الدافعية داخل المنظمة بحيث أنه يخلق الثقة والرضى لدى العامل. مما يدفعه لبذل مجهودات أكبر. فهو عنصر أساسي ومفتاح في معادلة إدارة الأعمال عموما والذي علية تبنى مختلف أدواتها. ونجد أن الباحثين و أصحاب التخصص (*) عموما يولون أهمية كبرى للعدل داخل المنظمة والذي من دونه لا يمكن لسياسات المؤسسة المختلفة أن يكتب لها النجاح مهما بلغت درجة تطورها.
فالعدل في سياسات التشغيل واستقطاب الكفاءات يتيح للمنظمات إختيار أحسن الكفاءات وهذا ما يؤثر إيجابا على مردودها وتنافسيتها واستمراريتها. وله بالمقابل أثرا إيجابيا على أصحاب الكفاءات وطالبي العمل من حيث رفع معنوياتهم وإتاحة فرص العمل بصورة عادلة تتطابق مع مبدأ الكفاءة (بمختلف عناصرها من تخصص, مهارات, قدرات خاصة,...) فتزداد بذلك دافعيّتهم وهمتهم للعمل مما يؤثر مباشرة على حياتهم الشخصية. وهذا مما لا شك فيه أنه له دور في تطويرإقتصاد الدولة باعتبار أن المنظمة فاعل إقتصادي أساسي, وله دوره كذلك في الإستقرار الإجتماعي والسياسي للدول.
والعدل في سياسات التكوين يسمح بتطوير الكفاءات الفردية والجماعية– بحسب الحاجة الحقيقية للمنظمة- مما يعود بالإيجاب على نفس الفرد ومردود المنظمة واستمراريتها.
العدل في سياسة تقييم العامل وتعويضه (الأجر الأساسي ولواحقه) على المردود الحقيقي بالخصوص هو من أهم العوامل المحافظة على استقرار المنظمة وتطويرها من حيث أثره على نفسية العامل ورضاه داخل المنظمة وهذا نتيجة للمقارنة التي يجريها بين مجهوداته المبذولة والتعويض الذي يحصل عليه وهذا ما يمكن أن نسميه المقارنة الذاتية ( المقارنة الذاتية = التعويض المقدر من طرف المنظمة/المجهود الشخصي المقدر من طرف العامل), وكذا المقارنة النسبية التي يجريها مع زملاءه داخل المنظمة, وربما تمتد المقارنة لتشمل منظمات أخرى.
-3 بيان مدى تأثير الظلم في وسائل التسيير (مهما بلغت درجة تطورها).
ومما لا شك فيه أن للظلم أثره داخل المنظمة وهو ضد العدل فيكون بهذا أثره عكسيا لأثر للعدل فيرجع بالسلب عليها.
والظلم في سياسات التشغيل بسبب تغييب عنصر الكفاءة كعامل أساسي واعتبار عناصر أخرى كالقرابة والمصلحة الشخصية في الإختيار له أثره السلبي على مردود المنظمة واستمراريتها كونها تفوتها فرصة اختيار الكفاءات المناسبة. فيؤثر سلبا على مختلف وظائفها نتيجة لعدم توفر الكفاءة الملائمة للوظيفة عند صاحبها فيختل بهذا العمل داخل مختلف الوظائف ويختل توازن المنظمة.
الظلم في سياسات التكوين له أثره السلبي على تطوير كفاءات العاملين بما يناسب وظائفهم والذي يهدف أساسا إلى ملء الفارق في الكفاءات الموجود لدى صاحب الوظيفة مقارنة بمتطلباتها. وهذا ما يؤثر سلبا على ميزان الكفاءات لدى المنظمة على المدى المتوسط والطويل وتتعاظم الفوارق بين الوظائف وكفاءات شاغليها لاختلال ميزان التكوين فتتراجع مكانتها.
الظلم في سياسات التقييم والتعويض له أثره الشديد على المنظمة بسبب الأثر النفسي الكبير الذي يحدثه عند العاملين وحالة عدم التوازن الداخلي التي يخلقها عندهم منشأه حالة عدم الرضى متسببة بذلك في فقدانهم الثقة وكذا تراجع مردودهم فيتأثر بذلك مردود المنظمة وتكون حياتها في خطر.وهذا هو سبب انتقاد بعض نظريات الموارد البشرية كونها لا تولي إهتماما لمردود العامل داخل المنظمة وإنما تعتمد في تقييمها أساسا على تقييم الوظيفة ذاتها وكذا مؤهلات العامل الملائمة فتحدد بذلك الأجر المناسب اعتمادا على مبدأ " نفس الوظيفة نفس الأجر" أي مهما كان المردود فيقع الظلم (نظرية المدرسة البيروقراطية, ماكس ويبر), وبإغفالها لهذا جانب فإنها تهمل جزءا أساسيا في سياسات التقييم.
الخاتمة
يتبين لنا مما سبق مدى تأثير الظلم على الأفراد والدول, فالفرد بطبيعته البشرية التي فطره الله عليها أينما كان وحل فإنه يعتمد العدل عنصرا أساسيا في تقديره للأمور وهو بذلك يفهم الأمور و يقيس ويقارن ويوازن ويقرر وقراراته لها تأثيراتها الأكيدة على المجتمع والدول, ومن هنا يمكننا أن نفهم سبب إهتمام الدول الغربية بالعدل وكيف تضع له بذلك حدودا دقيقة وقواعدا صارمة, وعدلها بشرطه هذا لا يغنيها وإنما يتعين عليها الإيمان بالله وتوحيده (ومن يبتغي غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين), فما وافق أمر الله فهو مصيب وما خالفه فذلك الخِطأ الذي يعود عليها بالشر.
فالعدل بشموليته يخص كل المجالات وأعدل العدل عبادة الله وتوحيده وتطبيق شرعه في جميع الميادين. فمتى حققت الأمم ذلك فإن الله ناصرها ولها الثواب في الدنيا والآخرة ومتى خالفته فليس لهل إلا الخسران, فنعم المولى ونعم النصير والله أعلم وهو المستعان.
أخوكم في الله
أبو عبد الله سهيل الجزائري
محرم 1434/نوفمبر 2013