فوزي الشلبي
10-12-2013, 04:25 PM
قصةُ إبريقِ الزَّيتِ!
كان َ "عجوانُ" يسكنُ بيته الطينيِّ الصَّغيرِ الذي يقبعُ خلفَ البُيوتِ التي بُنيَ أغلبُها من الطِّين، إلا قليلاً من البُيوتِ التي بُنيتْ بالطُّوبِ. عبرَ ممرٍ ضيِّقٍ من التُّرابِ والحصى. إذكان يغدو ويروحُ وصينيةُ الهريسةِ التي يحملُها على رأسهِ مُتوسِدةً طوقاً من القُطنِ المحشوِّ في قماشٍ ليخففَ ثِقْلَ الصينيةِ على رأسِهِ. قال بعضُ النّاسِ؛ إنه كان يذهبُ إلى القُرى البعيدةِ، ليبيعَ هذه الحلوى، ولا يؤوبُ إلا عندَ الغروبِ.
كان عجوانُ يعيشُ في بيتهِ الطينيِّ المختبي خلفَ البيوتِ، يغدو إليهِ عبرَ ممرٍ ضيِّقٍ يفترشُ الترابَ والحصى. كان يعيشُ فيه وحيدا، بعد أن اعتزل الحياة بفقدِ عائلتهِ التي جرفها السّيلُ في البيتِ عندَ قعرِ الوداي ذاتَ شتاءٍ عندما كان يبيعُ ويشتري في السُّوق بما يدبرُ أمورَ معاشهِ وأهلهِ. وكانَ عجوانُ في موسمِ قطافِ الزَّيتونِ يبيعُ الزيتَ لأهلِ قريتهِ، أي عندما يرحلُ أيلولُ ويقبلُ تشرينُ، وعندَ سقوطِ المطرِ لأولِ مرة. وكان يكيلُ لهم الزَّيتَ بإبريقٍ عَرفهُ أهلُ القريةِ بلونهِ البُنيِّ الذي غلبَ على لونهِ الفضيِّ من الألومنيومِ لكثرةِ ما اكتالَ بهِ من الزَّيت.
لاحظ أهلُ القريةِ ذاتَ موسمِ زيتٍ أن "عجوان" استحدثَ إبريقاً آخرَ غير ذاكَ القديمِ، ولمّا سُئل أجابَ: لقد أكلَ الدهرُ على ذلك الإبريقِ وشربَ، فاستفلَهُ خَرْقٌ جعلهُ لا يصلحُ للقسطاسِ المستقيم، فاعتاد الناسُ مواسمَ أخرى على المكيالِ الجديدِ.
ولمّا وافت المنيةُ "عجواناً"، هُرعَ الناسُ وأقبلوا على بيتِ عجوانَ مُغتمِّينَ محزونينَ، وأحسَّ أهلُ القرية أن كلَّ بيتٍ فيها فقدَ عزيزاً لديه. ولما لم يكنْ هناكَ وريثٌ لعجوانَ فاقتحموا أسرارَه، وخبايا أمرِه. واقتلعوا قفلَ الصُّندوقِ، فوجدوا لفيفةً تختزنُ خمسةَ آلافِ دينار...وأكثرَ ما أثارهم أن وجدوا إبريقَ الزَّيتِ القديم.
أما وقد صعقَ "غاشم" أمرُ بيعِ الأرضِ... فأخذَ يلفُّ ويدورُ حولَ نفسهِ..وكيف لا يصعقُهُ، وقد أرسلَ ألفي دينارٍ لعلاجهِ في المستشفى من المرضِ الذي ألمَّ به قبلَ الموتِ...فأراد أن يتصلَ بقريبهِ ليصنعَ اصطفافاً آخرَ، مع الذين يؤثرُ عليهمِ بمعسولِ قولٍ أو ببعض مالٍ.. رفعَ سماعةَ الهاتفِ ...وأدارَ القرصَ مرّاتٍ...ثمّ صوتُ طنين متصل... ثم ضغطَ الزرَّ الذي يجعلُ الصوتَ متاحاً لاستماعِ من حولَهُ، وكانوا في العادةِ ثلَّةً من الرِّجالِ ينصتون، قال: هل علمتَ من أمرِ الأرضِ التي خلَّفها والدي؟!... أجابَ الصوتُ على الطَّرفِ الآخرَ: لا..ماذا لديكَ؟! ..قال: لقد كتبَ أبي كلَّ الأرض لأخواتي في صكِّ بيعٍ عندَ محامٍ...قالَ الطرفُ الآخرُ: وماذا في ذلك؟ ..وقد أحسنَ أبوك إذ فعلَ...قال: أتعني أنَّه لم يعد لي حقٌ في أرضِ والدي... قال الطرفُ الآخرُ: ولكنَّك قبلَ أن يموتَ أبوكَ بعشرِ سنينَ ، اقتطعتَ منَ الأرضِ أغلبَها...وسجَّلتها باسمِك...فماذا أبقيتَ للآخرينَ... ولا تنسَ يا عزيزي أنَّنا ناقشنا هذا الموضوعَ عند حدوثِه ...ثمّ في كلِّ مرٍّة نلتقي فيها بعدَ ذلكَ...فحاولتَ عبثاً أن تقنعَني بوجيهِ رأيِك ..وكانت وجهةُ نظري أن ما اقترفتَه يداكَ اغتصابٌ!.. قال: وَيْ كأنَّكَ تقولُ أن أزواجَ أخواتي همْ من سيرثُ أبي...ثم قطعَ الاتصالَ مُغاضباً..فقلتُ محدثا نفسي...لن ألوِّثَ صوتي بشهادةِ زورٍ لأنضمَّ إلى القومِ!
كم كنتُ أحبُّ أن أسمعَ قصةً لم تكتملْ. تلكَ قصةُ إبريقِ الزَّيتِ التي كانت تقصُّها علي أختي صغيراً، مما هوّنَ علي..
وذلك أنَّ أختي التي كانتْ تكبرُني خمسَ سنينَ...تقصُّ علي قصةَ إبريقِ الزَّيتِ فُبيل النومِ في المساءِ عندما كنتُ طفلاً صغيرا.. فوجهي إلى وجهِها... أنام إلى جوارِها...قالت" أَخَرْفَكْ.. ولّا ما أخرْفكْ..أخرْفَك قصةَ إبريقِ الزَّيت".. فكنت أقول: إمْ بلى"...فتعيدُ لي الجملةَ ذاتَها...فيتكررُ الأمرُ هكذا بيني وبينَها.. حتى أستسلمُ غارقاً في النَّومِ..
وكانَ من أمرِ أهلِ القريةِ قبلَ أن يذهبوا بعجوانَ إلى القبرِ أن قلَّبوا إبريقَ الزيتِ فلم يجدوا فيه عُوارَ ثقبٍ، فاستغربوا لذلك، وأقبلوا على الإبريقِ الجديدِ فعاينوا الإثنينِ وتبادلوا النظراتِ فعمِدَ عمدةُ القريةِ إلى جرَّة الزيتِ الموجودة بالجوارِ فاغترفَ منها وملأ الإبريقَ القديمَ، حتى إذا أُترعَ استدعى الجديدَ فأُتي به فأُفرغَ فيهِ ففاضَ وانسكبَ ما فاضََ على الأرض. ولما تشاور القومُ في الأمر قَضَوْا أن يُدفنَ الإبريقانِ معَ "عجوان" إلى قبرِه..
كان َ "عجوانُ" يسكنُ بيته الطينيِّ الصَّغيرِ الذي يقبعُ خلفَ البُيوتِ التي بُنيَ أغلبُها من الطِّين، إلا قليلاً من البُيوتِ التي بُنيتْ بالطُّوبِ. عبرَ ممرٍ ضيِّقٍ من التُّرابِ والحصى. إذكان يغدو ويروحُ وصينيةُ الهريسةِ التي يحملُها على رأسهِ مُتوسِدةً طوقاً من القُطنِ المحشوِّ في قماشٍ ليخففَ ثِقْلَ الصينيةِ على رأسِهِ. قال بعضُ النّاسِ؛ إنه كان يذهبُ إلى القُرى البعيدةِ، ليبيعَ هذه الحلوى، ولا يؤوبُ إلا عندَ الغروبِ.
كان عجوانُ يعيشُ في بيتهِ الطينيِّ المختبي خلفَ البيوتِ، يغدو إليهِ عبرَ ممرٍ ضيِّقٍ يفترشُ الترابَ والحصى. كان يعيشُ فيه وحيدا، بعد أن اعتزل الحياة بفقدِ عائلتهِ التي جرفها السّيلُ في البيتِ عندَ قعرِ الوداي ذاتَ شتاءٍ عندما كان يبيعُ ويشتري في السُّوق بما يدبرُ أمورَ معاشهِ وأهلهِ. وكانَ عجوانُ في موسمِ قطافِ الزَّيتونِ يبيعُ الزيتَ لأهلِ قريتهِ، أي عندما يرحلُ أيلولُ ويقبلُ تشرينُ، وعندَ سقوطِ المطرِ لأولِ مرة. وكان يكيلُ لهم الزَّيتَ بإبريقٍ عَرفهُ أهلُ القريةِ بلونهِ البُنيِّ الذي غلبَ على لونهِ الفضيِّ من الألومنيومِ لكثرةِ ما اكتالَ بهِ من الزَّيت.
لاحظ أهلُ القريةِ ذاتَ موسمِ زيتٍ أن "عجوان" استحدثَ إبريقاً آخرَ غير ذاكَ القديمِ، ولمّا سُئل أجابَ: لقد أكلَ الدهرُ على ذلك الإبريقِ وشربَ، فاستفلَهُ خَرْقٌ جعلهُ لا يصلحُ للقسطاسِ المستقيم، فاعتاد الناسُ مواسمَ أخرى على المكيالِ الجديدِ.
ولمّا وافت المنيةُ "عجواناً"، هُرعَ الناسُ وأقبلوا على بيتِ عجوانَ مُغتمِّينَ محزونينَ، وأحسَّ أهلُ القرية أن كلَّ بيتٍ فيها فقدَ عزيزاً لديه. ولما لم يكنْ هناكَ وريثٌ لعجوانَ فاقتحموا أسرارَه، وخبايا أمرِه. واقتلعوا قفلَ الصُّندوقِ، فوجدوا لفيفةً تختزنُ خمسةَ آلافِ دينار...وأكثرَ ما أثارهم أن وجدوا إبريقَ الزَّيتِ القديم.
أما وقد صعقَ "غاشم" أمرُ بيعِ الأرضِ... فأخذَ يلفُّ ويدورُ حولَ نفسهِ..وكيف لا يصعقُهُ، وقد أرسلَ ألفي دينارٍ لعلاجهِ في المستشفى من المرضِ الذي ألمَّ به قبلَ الموتِ...فأراد أن يتصلَ بقريبهِ ليصنعَ اصطفافاً آخرَ، مع الذين يؤثرُ عليهمِ بمعسولِ قولٍ أو ببعض مالٍ.. رفعَ سماعةَ الهاتفِ ...وأدارَ القرصَ مرّاتٍ...ثمّ صوتُ طنين متصل... ثم ضغطَ الزرَّ الذي يجعلُ الصوتَ متاحاً لاستماعِ من حولَهُ، وكانوا في العادةِ ثلَّةً من الرِّجالِ ينصتون، قال: هل علمتَ من أمرِ الأرضِ التي خلَّفها والدي؟!... أجابَ الصوتُ على الطَّرفِ الآخرَ: لا..ماذا لديكَ؟! ..قال: لقد كتبَ أبي كلَّ الأرض لأخواتي في صكِّ بيعٍ عندَ محامٍ...قالَ الطرفُ الآخرُ: وماذا في ذلك؟ ..وقد أحسنَ أبوك إذ فعلَ...قال: أتعني أنَّه لم يعد لي حقٌ في أرضِ والدي... قال الطرفُ الآخرُ: ولكنَّك قبلَ أن يموتَ أبوكَ بعشرِ سنينَ ، اقتطعتَ منَ الأرضِ أغلبَها...وسجَّلتها باسمِك...فماذا أبقيتَ للآخرينَ... ولا تنسَ يا عزيزي أنَّنا ناقشنا هذا الموضوعَ عند حدوثِه ...ثمّ في كلِّ مرٍّة نلتقي فيها بعدَ ذلكَ...فحاولتَ عبثاً أن تقنعَني بوجيهِ رأيِك ..وكانت وجهةُ نظري أن ما اقترفتَه يداكَ اغتصابٌ!.. قال: وَيْ كأنَّكَ تقولُ أن أزواجَ أخواتي همْ من سيرثُ أبي...ثم قطعَ الاتصالَ مُغاضباً..فقلتُ محدثا نفسي...لن ألوِّثَ صوتي بشهادةِ زورٍ لأنضمَّ إلى القومِ!
كم كنتُ أحبُّ أن أسمعَ قصةً لم تكتملْ. تلكَ قصةُ إبريقِ الزَّيتِ التي كانت تقصُّها علي أختي صغيراً، مما هوّنَ علي..
وذلك أنَّ أختي التي كانتْ تكبرُني خمسَ سنينَ...تقصُّ علي قصةَ إبريقِ الزَّيتِ فُبيل النومِ في المساءِ عندما كنتُ طفلاً صغيرا.. فوجهي إلى وجهِها... أنام إلى جوارِها...قالت" أَخَرْفَكْ.. ولّا ما أخرْفكْ..أخرْفَك قصةَ إبريقِ الزَّيت".. فكنت أقول: إمْ بلى"...فتعيدُ لي الجملةَ ذاتَها...فيتكررُ الأمرُ هكذا بيني وبينَها.. حتى أستسلمُ غارقاً في النَّومِ..
وكانَ من أمرِ أهلِ القريةِ قبلَ أن يذهبوا بعجوانَ إلى القبرِ أن قلَّبوا إبريقَ الزيتِ فلم يجدوا فيه عُوارَ ثقبٍ، فاستغربوا لذلك، وأقبلوا على الإبريقِ الجديدِ فعاينوا الإثنينِ وتبادلوا النظراتِ فعمِدَ عمدةُ القريةِ إلى جرَّة الزيتِ الموجودة بالجوارِ فاغترفَ منها وملأ الإبريقَ القديمَ، حتى إذا أُترعَ استدعى الجديدَ فأُتي به فأُفرغَ فيهِ ففاضَ وانسكبَ ما فاضََ على الأرض. ولما تشاور القومُ في الأمر قَضَوْا أن يُدفنَ الإبريقانِ معَ "عجوان" إلى قبرِه..