كمال حيمور
23-12-2013, 09:19 AM
مع استنشاق الصباحِ لأوَّل أنفاسِهِ،كنتُ من أوائلِ المُرابطين بقاعةِ الانتظارِ بالعياداتِ الخارجيةِ للمستشفى الحُكومي؛ لقدّ كنت محظوظـًّا إذْ حظيتُ بخمسِ دقائق من وقتِ الدكتور قبل أنْ تبلغ الشمْسُ زوالها.
بعْدَ إتمام الكشفِ كان الطبيبُ صارمًا في تعليماتِهِ فقدْ شدَّد عليَّ ضَرورةِ الالتزامِ بمواعيد الدَّواءِ والحميةِ الغذائية والرِّياضةِ الصباحيةِ لمُدَّة ربع ساعةٍ يوميًا, مع ضَرورَةِ الابتعادِ عَنْ أَجواءِ الغضبِ والتوتر.
كانتْ الأجواءُ كئيبة ,ألوان الجُدرانِ والسَّتائرِ تبعثُ على الضَّجر.وروائح المواد المعقمة تزيدني كآبة.
الناسُ في الممراتِ تتعالى أصْواتُهم, منهُم مَنْ يبْحثُ عنْ مريض,وآخر يستَصرِخُ مسعفـًأ علـَّه يخفف عنهُ وطأت الألَم,وسيدة ثكلاء وأخرى تشكو ألامَ الوضْعِ و لمْ تجدْ سريرًَا؛
كانَ يخترقُ إزعاجَهم وصرخاتِهم صوتُ أنينٍ ونحيب.؛ لم تمنعه الضوضاء من طرق مسامعي, حتى استقرَّ بقلبى ليستفز فضولي بحثـًا عن مصدره.
سرتُ متتبعًا مصْدرَ النحيبِ نحوَ ستارةٍ مسْدلةٍ, رفعْتُ الستارةِ, فوجدتُ طاعِنـًا بالسِّنّ, يجلِسُ على حافَّة السّريرِ؛ يدهُ اليُمنى مجبَّصة ومعلّقة برقبَته.
كان دمعهُ يجْري في فلوعٍ متعرِّجة قد ارتسمتْ على وجههِ العَبوس تجمعتْ على فوَّهةِ ثغـْرٍ أوْهَى الزَّمان دكـَّتيهِ, كنسيجٍ يحكي قصَّة خيبةٍ وأسى.
جلستُ لأواسيه, إنحني الشيخُ برأسِه على صدْري, وأمسَكَـَتْ يسراهُ قميصي حتّى شَعرْتُ بعظامِ أصابِعهِ المرتَجِفةِ تضْغَطُ على أضْلاع صَدْري .
وَقال :أخيرًا أتَيتَ يا حَبيبي يا عُثمان؟؟.كنتُ واثقـًا أنّك سَتعود, فأنا أعْرف حَنانكَ وطيبةُ قلبِك.
قلت :وَلكنْ أنا لسْت عَثمان ياعَم , أنَا شخَصٌ غريبٌ قادني إلَيْكَ فضُولي ونحيبُك .
- ماذا تقول ؟. إرفعْ صَوتكَ يا بُني .
لقدْ أنهكتْ السّنينُ العِجافُ أنفاسَ الشيخِ ؛ وأثقلتْ أسْماعَهُ, وانتَزَعتْ نورَعينيه, ولمْ تبْقِ فيهِما إلا بَصيصًا أطْفأتهُ حرارَةُ الدمْعِ والألَم.
رفعتُ صَوتي وقلْتُ : سَلاماتْ حجّي ما عليك شَر.
قالَ الشَّيخُ : ها ؟. هلْ نزلَ المَطَر؟ حسنـًا يا بـُني, سَننتظِرُ حتّى يتوقفَ المَطرُ ثمَّ نذهب؛والله يا عثمان إنّي سَعيدٌ جدًا لعودَتك وقدْ نسيتْ كلَّ ألمي.
- يا حجّي أنا لسْتُ عثمان , أنا صالح.
- ميييين .... أسامِح ؟؟؟ طبعا أنا مُسامِح, لقدْ سامَحْتكَ في الدُّنيا والآخِرة, ودعوت الله أن يرضى عنك.
تمْتمتُ بِصوتٍ خافِتٍ : يا حجّي إفهَمني الله يهديك.
قالَ الشيخ :ها! يَدي؟؟ لا تقلقْ يابُني, فيدي تسْتحِقُّ الكسْر, لأنَّها كسَرَتْ عصاكَ ومَنعتها منْ أنْ تهْوي عَلى رأسِي وَعلى جَسَدي.
آهٍ آه يا عُثمان يا وَلدي ,أتمَنَّى أنْ لاتنكسِرَ عَصاكَ أبدًا.
ولمّا تعالتْ تنهيداتُ الشّيخ,أخرجتُ قصاصَة ورقٍ وكتبت عليها بخطٍّ عريضٍ ( أنا لستُ ابنك عثمان أنا اسمى صالح) .
صمت الكهْلُ عنْ نحيبهِ لحظةً ودقـَّق النظرَ بالقـُصاصة ثمَّ وجهي,ثمَّ قرَّب القـُصاصة منْ عينيهِ ثانية ونفثَ فيها كلَّ ما تبقى بعينيه منْ نور؛ ثمَّ عاد للبكاء و بدأ يرتـَجلُ قصيدةً بصوتٍ جهوريٍ أجَشٍّ ممزوجٍ بالتنهيداتِ والحسراتِ قائلاً:
أيا شمسُ كمْ لأجــْـــــــلهِ ســرْتُ حافـــِــــيا؟ = وكـــــمْ يا نجـوم قد سهـــرتُ اللــيالـــــيا؟
وصاحـبْتُ حرَّ الصيفِ من أجْــــــل سَـــعْدهِ = وقبـَّـــلتُ قــرَّ البردِ إنْ نـــامَ دافـــــــــــيا
فـــإنَّ بـكــــــــــاهُ كـــــــان ســـرّ كآبــــــتي = وضــــاحك ســـنـِّه للــــــحْن غنائــــــــيا
فيا كـَــــبديْ خــذ مِنْ عـُــيونـي ضــــياءَهــــا= وخــذ أنت كلَّ السَّــعدِ يبـْــقى الأسى لــيا
حـّـملتُ هُمـــومَ الــدهــــْرِ جــلـْدًا وصَــابرًا = ولكـــنْ جفــَاكَ كــان فــوقَ احتمالـــــــيا
أقلـــِّــب أطـــــيافَ الــوجــــــوه لعـــــلـَّـني = أرى فيـــــــهمُ مَنْ في شـَــــــذاهُ هنائــــيا
وحــــين يــرى الفـُـــؤادُ طــــيفك حاضِـــرًا = بقربـــي تـُكــــذِّب العــــــيونُ فؤاديـــــــا
فــــــمن لي ســـــواكَ يا ملاكـًا لرحمـَـــــتي = يخــــفـِّفُ نزعـــيْ يوم حـــــلـَّت وفاتــــــيا
وكــَــيفَ لجثـَّـتــــي هــــــناءً برمسـِــــــــها= إذا لـــــــمْ تـُهـــــلَّ راحــــــتاكَ ترابــــــيا
بنــيَّ إذا أتـَــــتك يومـــــــــًا رسالــَــــــــتى = فإنـّــــــي غــدوتُّ في ضــريحيَ ثـــــاويا
ســـَـتعلمُ أنـّــي قـَــــدْ مضيتُ إلـــى الـحِـــمَا = مِ واسـْــمكَ في قلـْـــبي وفـَـــوقَ لسانــيا
دعــوتُ بـــأنْ تبـــــقى عصـــاكَ ســليـــمةً = فــــما همَّـــني إذ كــســَّرتْ لي ذراعـــيا
وآخِــرُ دعـــــــــوةٍ بـــــقاءكَ ســــــــالــــمًا = عـزيـــزًا قـــرير العـَـين عيشكَ هانــــيا
شهق الشيخُ شهقة انقطعَ بعدها الصَّهيل الذي هزَّ أركان الممرات الضيقة؛ نظرتُ حَولي, وجدتُ جمعًا من النـّاس ,لمعَ الدَّمع في عيون بعضهمْ ,وآخرين اعتراهم الغضبُ وعلاماتُ التـَّهكـُّم.
سَكنـَتْ حَركاتُ الشيخ, وتثاقلتْ أنفاسُه, وارتختْ قبْضتهُ عنْ قميصي.
تقدّمتْ المُمرّضة ؛وأسجتْ الجسد النحيلَ على السّرير ؛وطلبتْ مني الخروج.
إنهالت الأسْئِلة عليّ كأنها حمَمٌ منصهرةٌ تحرقُ قلبي العَليل.
- سلامته الوالد ؟؟
- منْ كسرَ يده ؟... هلْ يعاني منْ مرض السكـَّري أو الضغط ؟؟
- الأبنُ يضْربُ أباه فيكسِرُ يده ؟هذا والله حَرامٌ عليك ؟؟.
– لا باركَ الله فيك منْ ابنٍ عاق.
غَمرتني لحظاتٌ من الصمت؛ وانعقدَ لساني تحْتَ وطأتِ لمزاتِهم ,إبتلَّ جبيني بالعرَق البارد ؛وشعَرْتُ بحبلٍ أسودٍ يلتفُّ حول عنقي, وصخْرةٍ ضخمةٍ تكسِّر أضْلاع صدْري.
وقـَبلَ أنْ أغرقَ في غيبوبتي, لمحْتُ ملاكَ الرحمةِ تقولُ لي : الوالد؛ ( تـِعيشْ انتَ ).
بعْدَ إتمام الكشفِ كان الطبيبُ صارمًا في تعليماتِهِ فقدْ شدَّد عليَّ ضَرورةِ الالتزامِ بمواعيد الدَّواءِ والحميةِ الغذائية والرِّياضةِ الصباحيةِ لمُدَّة ربع ساعةٍ يوميًا, مع ضَرورَةِ الابتعادِ عَنْ أَجواءِ الغضبِ والتوتر.
كانتْ الأجواءُ كئيبة ,ألوان الجُدرانِ والسَّتائرِ تبعثُ على الضَّجر.وروائح المواد المعقمة تزيدني كآبة.
الناسُ في الممراتِ تتعالى أصْواتُهم, منهُم مَنْ يبْحثُ عنْ مريض,وآخر يستَصرِخُ مسعفـًأ علـَّه يخفف عنهُ وطأت الألَم,وسيدة ثكلاء وأخرى تشكو ألامَ الوضْعِ و لمْ تجدْ سريرًَا؛
كانَ يخترقُ إزعاجَهم وصرخاتِهم صوتُ أنينٍ ونحيب.؛ لم تمنعه الضوضاء من طرق مسامعي, حتى استقرَّ بقلبى ليستفز فضولي بحثـًا عن مصدره.
سرتُ متتبعًا مصْدرَ النحيبِ نحوَ ستارةٍ مسْدلةٍ, رفعْتُ الستارةِ, فوجدتُ طاعِنـًا بالسِّنّ, يجلِسُ على حافَّة السّريرِ؛ يدهُ اليُمنى مجبَّصة ومعلّقة برقبَته.
كان دمعهُ يجْري في فلوعٍ متعرِّجة قد ارتسمتْ على وجههِ العَبوس تجمعتْ على فوَّهةِ ثغـْرٍ أوْهَى الزَّمان دكـَّتيهِ, كنسيجٍ يحكي قصَّة خيبةٍ وأسى.
جلستُ لأواسيه, إنحني الشيخُ برأسِه على صدْري, وأمسَكَـَتْ يسراهُ قميصي حتّى شَعرْتُ بعظامِ أصابِعهِ المرتَجِفةِ تضْغَطُ على أضْلاع صَدْري .
وَقال :أخيرًا أتَيتَ يا حَبيبي يا عُثمان؟؟.كنتُ واثقـًا أنّك سَتعود, فأنا أعْرف حَنانكَ وطيبةُ قلبِك.
قلت :وَلكنْ أنا لسْت عَثمان ياعَم , أنَا شخَصٌ غريبٌ قادني إلَيْكَ فضُولي ونحيبُك .
- ماذا تقول ؟. إرفعْ صَوتكَ يا بُني .
لقدْ أنهكتْ السّنينُ العِجافُ أنفاسَ الشيخِ ؛ وأثقلتْ أسْماعَهُ, وانتَزَعتْ نورَعينيه, ولمْ تبْقِ فيهِما إلا بَصيصًا أطْفأتهُ حرارَةُ الدمْعِ والألَم.
رفعتُ صَوتي وقلْتُ : سَلاماتْ حجّي ما عليك شَر.
قالَ الشَّيخُ : ها ؟. هلْ نزلَ المَطَر؟ حسنـًا يا بـُني, سَننتظِرُ حتّى يتوقفَ المَطرُ ثمَّ نذهب؛والله يا عثمان إنّي سَعيدٌ جدًا لعودَتك وقدْ نسيتْ كلَّ ألمي.
- يا حجّي أنا لسْتُ عثمان , أنا صالح.
- ميييين .... أسامِح ؟؟؟ طبعا أنا مُسامِح, لقدْ سامَحْتكَ في الدُّنيا والآخِرة, ودعوت الله أن يرضى عنك.
تمْتمتُ بِصوتٍ خافِتٍ : يا حجّي إفهَمني الله يهديك.
قالَ الشيخ :ها! يَدي؟؟ لا تقلقْ يابُني, فيدي تسْتحِقُّ الكسْر, لأنَّها كسَرَتْ عصاكَ ومَنعتها منْ أنْ تهْوي عَلى رأسِي وَعلى جَسَدي.
آهٍ آه يا عُثمان يا وَلدي ,أتمَنَّى أنْ لاتنكسِرَ عَصاكَ أبدًا.
ولمّا تعالتْ تنهيداتُ الشّيخ,أخرجتُ قصاصَة ورقٍ وكتبت عليها بخطٍّ عريضٍ ( أنا لستُ ابنك عثمان أنا اسمى صالح) .
صمت الكهْلُ عنْ نحيبهِ لحظةً ودقـَّق النظرَ بالقـُصاصة ثمَّ وجهي,ثمَّ قرَّب القـُصاصة منْ عينيهِ ثانية ونفثَ فيها كلَّ ما تبقى بعينيه منْ نور؛ ثمَّ عاد للبكاء و بدأ يرتـَجلُ قصيدةً بصوتٍ جهوريٍ أجَشٍّ ممزوجٍ بالتنهيداتِ والحسراتِ قائلاً:
أيا شمسُ كمْ لأجــْـــــــلهِ ســرْتُ حافـــِــــيا؟ = وكـــــمْ يا نجـوم قد سهـــرتُ اللــيالـــــيا؟
وصاحـبْتُ حرَّ الصيفِ من أجْــــــل سَـــعْدهِ = وقبـَّـــلتُ قــرَّ البردِ إنْ نـــامَ دافـــــــــــيا
فـــإنَّ بـكــــــــــاهُ كـــــــان ســـرّ كآبــــــتي = وضــــاحك ســـنـِّه للــــــحْن غنائــــــــيا
فيا كـَــــبديْ خــذ مِنْ عـُــيونـي ضــــياءَهــــا= وخــذ أنت كلَّ السَّــعدِ يبـْــقى الأسى لــيا
حـّـملتُ هُمـــومَ الــدهــــْرِ جــلـْدًا وصَــابرًا = ولكـــنْ جفــَاكَ كــان فــوقَ احتمالـــــــيا
أقلـــِّــب أطـــــيافَ الــوجــــــوه لعـــــلـَّـني = أرى فيـــــــهمُ مَنْ في شـَــــــذاهُ هنائــــيا
وحــــين يــرى الفـُـــؤادُ طــــيفك حاضِـــرًا = بقربـــي تـُكــــذِّب العــــــيونُ فؤاديـــــــا
فــــــمن لي ســـــواكَ يا ملاكـًا لرحمـَـــــتي = يخــــفـِّفُ نزعـــيْ يوم حـــــلـَّت وفاتــــــيا
وكــَــيفَ لجثـَّـتــــي هــــــناءً برمسـِــــــــها= إذا لـــــــمْ تـُهـــــلَّ راحــــــتاكَ ترابــــــيا
بنــيَّ إذا أتـَــــتك يومـــــــــًا رسالــَــــــــتى = فإنـّــــــي غــدوتُّ في ضــريحيَ ثـــــاويا
ســـَـتعلمُ أنـّــي قـَــــدْ مضيتُ إلـــى الـحِـــمَا = مِ واسـْــمكَ في قلـْـــبي وفـَـــوقَ لسانــيا
دعــوتُ بـــأنْ تبـــــقى عصـــاكَ ســليـــمةً = فــــما همَّـــني إذ كــســَّرتْ لي ذراعـــيا
وآخِــرُ دعـــــــــوةٍ بـــــقاءكَ ســــــــالــــمًا = عـزيـــزًا قـــرير العـَـين عيشكَ هانــــيا
شهق الشيخُ شهقة انقطعَ بعدها الصَّهيل الذي هزَّ أركان الممرات الضيقة؛ نظرتُ حَولي, وجدتُ جمعًا من النـّاس ,لمعَ الدَّمع في عيون بعضهمْ ,وآخرين اعتراهم الغضبُ وعلاماتُ التـَّهكـُّم.
سَكنـَتْ حَركاتُ الشيخ, وتثاقلتْ أنفاسُه, وارتختْ قبْضتهُ عنْ قميصي.
تقدّمتْ المُمرّضة ؛وأسجتْ الجسد النحيلَ على السّرير ؛وطلبتْ مني الخروج.
إنهالت الأسْئِلة عليّ كأنها حمَمٌ منصهرةٌ تحرقُ قلبي العَليل.
- سلامته الوالد ؟؟
- منْ كسرَ يده ؟... هلْ يعاني منْ مرض السكـَّري أو الضغط ؟؟
- الأبنُ يضْربُ أباه فيكسِرُ يده ؟هذا والله حَرامٌ عليك ؟؟.
– لا باركَ الله فيك منْ ابنٍ عاق.
غَمرتني لحظاتٌ من الصمت؛ وانعقدَ لساني تحْتَ وطأتِ لمزاتِهم ,إبتلَّ جبيني بالعرَق البارد ؛وشعَرْتُ بحبلٍ أسودٍ يلتفُّ حول عنقي, وصخْرةٍ ضخمةٍ تكسِّر أضْلاع صدْري.
وقـَبلَ أنْ أغرقَ في غيبوبتي, لمحْتُ ملاكَ الرحمةِ تقولُ لي : الوالد؛ ( تـِعيشْ انتَ ).