تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : قراءة في عيني كبش أقرن



عبد الواحد الأنصاري
31-12-2013, 05:40 PM
قراءة في عيني كبش أقرن



سقتُ الشياه التي ألقت بأخي يوسف من على رأس الجبل ودقّتْ عنقُه، وأنا أشتمها، وألعنها. ألهبتها بالسوط حتى صارت تعدو أمامي هاربة وكأنها تهيم بوجوهها الثاغية على بساط ريح أو كأنها استعارت من الخيل شبهاً، كم هي سريعة. - قاتلة. - ملعونة. – مجرمة! في بدئها ملحمة الهرب اعترضَ كبشُها الأقرن طريقي، والتفت يتأملني وكأنه أضاع هُويتي ويريد أن يتعرّف عليّ من جديد، أو كأنه يودّ أن "يتفاهم معي" كرجل، رأساً برأس، أو يعتزم بكل بساطة أن يذبّ عن قطيعه بجسده إذا استدعى الأمر ذلك. ربما من أجل هذه الأطياف التي تتجلى وتتماوج وتنمحي في سواد عينيه تبدوان لي وكأنهما عينا إنسان، وأحياناً عينا حصان، وأحياناً عينا ثور، وأحياناً عينا ذئب. بقطع النظر عن حميميته، أنفته، غضبه، كان موقَا عينيه هما كل ما يواجهني وليس باقي كيانه المتطاول بصوفه الكثيف المشعث، واحتان سوداوان قارّيتان تلتطمان تحت سماء ملبّدة بغيم أسود متجهّم. حميميته وأنفته تغلبانه حيناً فتمنعانه من الميل ببصره إلى سوط العذاب المتوهج بالألم، ليظلّ محدّقاً في عينيّ المجهدتين، وكأنه لا يلقي بالاً إلى أطراف السوط التي تحتمي قرونها كمخالب سباع محمرّة بجمر الجحيم، لكنه يعود فيرمش بغضبه فجأة تجاه السوط وكأنه يتحداني أن أحدث به أي أثر يذكر على شعره الأجعد! هل أسوقه إلى البيوت وأجزّه ثم أوقع به التنكيل؟ أم ألقي بالسوط جانباً وأهجم عليه بذراعي وساقيّ العاريتين حتى ألقيَ به؟ عندما أفكر في ذلك أراه يرمش متوتراً تجاه ذراعيّ وقدميّ وكأنه يتحدّاهما أيضاً. أتراه يعرف السر المخبوء ويدرك الخفيّ الكتيم؟ أرى الآن قطيعه الهارب يتبعد ببطء على رغم سرعته الفائقة التي تتراقص بأذنابه وهي تتدلى من بين سيقانه من الخلف مقلوبة كوسائد المهاد، ولا يزال جسده معترضاً طريقنا الجبليّ الضيق، الذي لا يمكن أن يتّسع لشخصين يقف أحدهما في وجه الآخر، رأسه إلى اليمين جهة الهاوية بقرنين بنّيين تكاد أطرافهما مع انحدار شمس الأصيل تتقد جمراً أو تولّد نجماً، وظهره إلى صدر الجبل، تتصاعد من صوفه الأصفر المغبرّ روائح فحولة حيوان بشري، حيوان ذكر يعرف ما يريد ويصرّ على أن لا يغادر أحدنا قبل نتفاهم بصورة أو بأخرى، وكأن منظر عنق أخي يوسف المدقوقة يحاصره هو الآخر ويفرض عليه الأمر نفسه الذي يفرضه علي، على نحو لا فكاك منه. ربما هو أيضاً يدرك القصة الحقيقيّة أكثر مما أدركها أنا، أو لنقل: ربما يحكيها بأصدق مما أزعم أنها هي عليه، تلك الزاوية من المشهد التي تشهد بها الخدوش على ذراعيّ ووجهي وظهري وهذا الشق المفروق في صدر قميصي عقب العراك القصير الذي دار بيني وبين أخي، وتلك التفاصيل التي تشي بأن جريمة الشياه المزعومة لم تكن سوى زوبعة مرتبكة على هامش العراك البشري الآثم المتكئ على إدانة الشياه الغافلة لإثبات براءته المكذوبة. ربما لم يكن يدرك ذلك فحسب، وإنما هو الآن يخبرني به، ويجعلني أعي أنه لا ينوي أن يسمح لي بالتملص من الجرم بأي ذريعة أو وسيلة. طال بنا المكث، وانسدت فسحة الكلام، وقذفت الشمس المستنيمة إلى التراب ما تبقى من أتونها في نجوانا. وعلى رغم الهجوم العنيف السريع المتبادل الذي ابتدأه كلانا بكامل قواه الاختيارية المدركة للمصير، الذي يجزم بالتحام قاتل لا شك فيه ولا مفر منه، على رغم ذلك، ظلت المسافة الفارقة بيننا وكأنها لا تزال بعيدة، بعيدة جداً بقدر بعد ما بين المشرقين. وفي الجزء الواحد من الألف من الثانية التي انقض فيه كلّ منا على قرينه انقضاضته الأخيرة هجس في صدري أن هذا الذي لا أزال أراه في الواحتين المهولتين السوداوين في محجريه ربما ليس في حقيقته إلا انعكاساً حقيقياً كالمرآة لما يجول في عينيّ أنا، عينا إنسان، ربما عينا حصان، ربما عينا ثور، وربما عينا ذئب.

ناديه محمد الجابي
31-12-2013, 09:17 PM
رائع ما قرأت هنا .. بين روعة لغتك وعمق طرحك وجميل أسلوبك
وذلك السرد الدقيق المتعمق داخل النفس البشرية وجدت متعتي
قابيل آخر .. قاتل أخيه , ولكنه يلقي بالتهمة على الشياه بأنها كانت
السبب في ألقاء(يوسف) من على رأس الجبل ودق عنقه.
فيجد في نظرة عينين الكبش الأقرن إنه يعرف سره وسيواجه به
بل إنه لن يجعله يتملص من جريمته بأي وسيلة.
قصة بديعة فنيا وإنسانيا عبر أسلوب راق في السرد تعبيرا وتصويرا
شكرا لك على قصة تركت أثرا عميقا في نفسي.

عبد الواحد الأنصاري
01-01-2014, 02:58 PM
الشكر كل الشكر لامتنانك على النص بهذه القراءة العمقيقة أستاذة نادية.

سامية الحربي
01-01-2014, 07:37 PM
إبحار في عيني قاتل فقرأت كل مبراراته للبقاء .هل كنتما ندين متكافئين لتجترا الموت؟
جميل ما قرأت . تحياتي.

عبد الواحد الأنصاري
02-01-2014, 03:23 PM
شكري وتقديري لك يا أخت غصن

ولتجشمك عناء القراءة والتعليق.

آمال المصري
03-01-2014, 11:55 PM
بتسلل بديع وسرد متقن ولغة سامقة كانت تلك الجميلة التي نقلت إلينا مواجهة وتحدي بالعيون بين قاتل أخيه وكبش أراد إلصاق التهمة به ليبرء نفسه من الدم فلقنه الكبش درسا كما فعل الغراب مع ابن آدم الذي عجز أن يواري سوءة أخيه
نص ماتع أديبنا الفاضل
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

عبد الواحد الأنصاري
07-01-2014, 08:43 AM
الأستاذة آمال:

أشكر قراءتك وتعليقك وفهمك الدقيق للنص، وأكرر لك عرفاني لك ولجميع من مر وقرأ الموضوع.

ربيحة الرفاعي
22-01-2014, 06:44 PM
مدهش هذا الاقتناص لجذر الغصة التي تسكن صدر الأمة بمأساة قابيل وهابيل نستعيدها بزعم الصراعات السياسية ، نبحث فيها وبعدها عن ذئب يوسف أو شياه أوهامنا نلقي عليها باللائمة ونحملها وزر الدم المسفوح ظلما على هيكل جنوننا وأطماعنا

الفكرة بديعة والسرد شائق والأسلوب مكين لغة وأداء

دمت بخير أيها المبدع

تحاياي

نداء غريب صبري
09-02-2014, 01:57 PM
حاول اخوة يوسف قتل أخيهم واتهموا الذئب
ويقتل أخاه ويحاول تحميل الجريمة لكبش
ويقتلنا اخوتنا اليوم ويحاولون إلصاق التهمة بهذا وذاك

قصة رائعة وأسلوب جميل جدا

شكرا لك أخي

بوركت