جمال عمران
09-01-2014, 09:07 PM
عدالة ظالمة
أمام السقيفة التى لا تقينا الشمس الحارقة صيفاً ، ولا تمنعنا البرد والأمطار شتاءاً ، تقف أمى شاردة تستند على عصاها اليابسة كساقيها ، تحاول إدراك الأفق الضبابى ، بيد أن بصرها عجز عن ذلك ، رغم ارتدائها نظارة طبية ، بالكاد أقنعناها بارتدائها مؤخراً.
تقفز الدجاجات حول أمى ، وتنقر فى التراب ، تلتقط أشياء مجهولة ، بينما فجأة قفز الديك الكبير مصوباً منقاره إلى عين أمى ، فحالت النظارة دون فقأها ، فصرخت أمى وهى تسب الدجاجات والمحامى .
.. عندما أرادت الحكومة إنشاء محلج للقطن فى نهاية البلدة ، وقع اختيارها على مكان ، رأى الخبراء أنه الأنسب اقتصادياً ، ولما كانت أرض جدى بالجوار ، فقد طلبت الحكومة ضمها ؛لتصبح شونة للقطن ، على أن تعطى جدى قطعة أرض بديلة ؛ وعلى هذا انتقلنا للعيش مؤقتاً فى تلك المزرعة التى استأجرناها من إحدى الجهات الحكومية أيضاً .
.. أمام ( الكانون ) أجلس ، أقلب العدس داخل الإناء بملعقة خشبية ..
- تعال يا أمى فالبرد سيفتك بك ، هو لن يجئ على أية حال وقد قاربت الشمس على المغيب ، وهو لم يأت فى مثل هذا الوقت من قبل.
- لا عليك أيتها المنكودة ، فأنا من سيمرض من شدة البرد وليس أنت ، قالتها وهى تسعل بشدة .
.. انتظر أبى طويلاً الحصول على تلك الأرض البديلة المزعومة ، وقد كانت تلك المزرعة التى انتقلنا إليها مجدبة ، ليس فيها من المزرعة إلا الاسم ، ولقد حاول أبى بكل ما أوتى من جهد أن يصلح الأرض ، إلا أنها أصرت أن تكون جرداء ، إلا قليلا ، ولم يصلحها علاج أو تداوى ، ولما طال المقام بنا ، وأحس أبى بتملص الحكومة من وعدها بإعطائه قطعة أرض صالحة للزراعة ، فقد وكّل محامياً لرفع قضية بهذا الشأن إلى القضاء ، وليته ما فعل .
.. جاء المحامى ذات صباح إلى مزرعتنا المؤقتة ، وجلس مع أبى يتداولان .
.. دفعتنى أمى داخل الحجرة المعروشة بالخشب دفعاً ؛ فوجدتنى أقف أمام أبى والمحامى مباشرة ، قدمت القهوة .. أرسلت الطرف ناحيته ، فكان يتأملنى بنظرة حسبتها اشتهاء ، خرجت مسرعة خائفة من تلك النظرة الغريبة .. غادر المحامى بعد نقاش طويل ، ونقده أبى مبلغاً من المال كمقدم أتعاب.
.. تكررت زيارات المحامى ؛ وازداد الأمل فى كسب القضية كما قال لأبى .
.. طلب هذه المرة مزيدا من النقود فاعتذر أبى عن عدم استطاعته ؛ فابتسم المحامى وهو ينظر تجاهى ، ويطمئن أبى : لا عليك فأنت أخ لى قبل أن تكون عميلاً ... شكره أبى وهو ينظر إلى الأرض ، بينما تلتهمنى عين المحامى.
تغيب المحامى لأسابيع ، عرفت من متساقط الكلام بين أمى وأبى أن المحامى تزوج من محامية زميلته ؛ سرت فى جسدى رعدة رهيبة ، أحسست وكأنه خان عهد بيننا ؛ ووقعت فريسة لحزن كبير ، ماكان لى أن أحزنه لو وزنت الأمور ببعض العقل ، ورغم هذا ، ظللت أمنى نفسى بعدها باحتمال عدم صدق كلام أبى ، ولكننى تذكرت مايقال عن المدينة ، فاستبعدت هذا الاحتمال نهائياً ، فلقد قالت لى أمى ذات ليلة : إن وراء الأفق البعيد مدينة كبيرة ، يسكنها أناس مترفون ، يعيشون حياة لا نعرفها ، وإن فى المدينة نساء فائقات الجمال ، لهن فعل السحر .. وعلى هذا فقدت الأمل فى ذلك الرجل الذى امتلك خيالى وحرك مشاعرى وأطلق عفريت جسدى من قمقمه .
أصبح المحامى يتغيب كثيراً ، ثم أرسل من ينوب عنه ، ولم يعد يأتينا ، متعللاً بكثرة القضايا التى بين يديه.
.. يسب أبى ويلعن الحكومة التى استولت على أرضه وهو يسوق الحمار إلى خارج السقيفة ، بينما كنت أعجن الدقيق فى (ماجور ) كبير .. انكسرت ساق أبى إثر وقوعه من أعلى التلة وهو يضع بعض الأخشاب عن ظهر الحمار ، وقد أقعدته إصابته عن العمل لفترة طويلة ، كثرت خلالها الأعمال الموكلة إلىّ .
جاء ابن عمى لزيارتنا ذات يوم ، وطلب الزواج بى ، ووافق أبى ، وتمت مراسم الزواج سريعاً ، عدت بعدها بعام إلى سقيفتنا وأنا أحمل مولودى الأول .
أنهك المرض أبى ، ومزقت البلهارسيا كبده ؛ ومات وهو يوصينا بمتابعة قضية المزرعة .
وقد انتقلنا للعيش فى المزرعة ، لنكون بجوار أمى : نعتنى بها من جهة ، ويتولى زوجى أعمال المزرعة ومتابعة القضية والمحامى من جهة أخرى .
سمعت بموت المحامى ؛ وتولى القضية زميل له ، استمر فى استنزاف نقودنا .. ومرت سنوات وسنوات ، أنجبت خلالها حفنة من الأولاد والبنات ، ومازالت القضية فى طريق مجهول ، والمحامى يأخذ نقوداً كلما حضر .
اليوم أقف خارج السقيفة أراقب الأفق الضبابى البعيد ، تنتابنى نوبة من السعال الشديد ، بينما ابنتى تدعونى للدخول.
أمام السقيفة التى لا تقينا الشمس الحارقة صيفاً ، ولا تمنعنا البرد والأمطار شتاءاً ، تقف أمى شاردة تستند على عصاها اليابسة كساقيها ، تحاول إدراك الأفق الضبابى ، بيد أن بصرها عجز عن ذلك ، رغم ارتدائها نظارة طبية ، بالكاد أقنعناها بارتدائها مؤخراً.
تقفز الدجاجات حول أمى ، وتنقر فى التراب ، تلتقط أشياء مجهولة ، بينما فجأة قفز الديك الكبير مصوباً منقاره إلى عين أمى ، فحالت النظارة دون فقأها ، فصرخت أمى وهى تسب الدجاجات والمحامى .
.. عندما أرادت الحكومة إنشاء محلج للقطن فى نهاية البلدة ، وقع اختيارها على مكان ، رأى الخبراء أنه الأنسب اقتصادياً ، ولما كانت أرض جدى بالجوار ، فقد طلبت الحكومة ضمها ؛لتصبح شونة للقطن ، على أن تعطى جدى قطعة أرض بديلة ؛ وعلى هذا انتقلنا للعيش مؤقتاً فى تلك المزرعة التى استأجرناها من إحدى الجهات الحكومية أيضاً .
.. أمام ( الكانون ) أجلس ، أقلب العدس داخل الإناء بملعقة خشبية ..
- تعال يا أمى فالبرد سيفتك بك ، هو لن يجئ على أية حال وقد قاربت الشمس على المغيب ، وهو لم يأت فى مثل هذا الوقت من قبل.
- لا عليك أيتها المنكودة ، فأنا من سيمرض من شدة البرد وليس أنت ، قالتها وهى تسعل بشدة .
.. انتظر أبى طويلاً الحصول على تلك الأرض البديلة المزعومة ، وقد كانت تلك المزرعة التى انتقلنا إليها مجدبة ، ليس فيها من المزرعة إلا الاسم ، ولقد حاول أبى بكل ما أوتى من جهد أن يصلح الأرض ، إلا أنها أصرت أن تكون جرداء ، إلا قليلا ، ولم يصلحها علاج أو تداوى ، ولما طال المقام بنا ، وأحس أبى بتملص الحكومة من وعدها بإعطائه قطعة أرض صالحة للزراعة ، فقد وكّل محامياً لرفع قضية بهذا الشأن إلى القضاء ، وليته ما فعل .
.. جاء المحامى ذات صباح إلى مزرعتنا المؤقتة ، وجلس مع أبى يتداولان .
.. دفعتنى أمى داخل الحجرة المعروشة بالخشب دفعاً ؛ فوجدتنى أقف أمام أبى والمحامى مباشرة ، قدمت القهوة .. أرسلت الطرف ناحيته ، فكان يتأملنى بنظرة حسبتها اشتهاء ، خرجت مسرعة خائفة من تلك النظرة الغريبة .. غادر المحامى بعد نقاش طويل ، ونقده أبى مبلغاً من المال كمقدم أتعاب.
.. تكررت زيارات المحامى ؛ وازداد الأمل فى كسب القضية كما قال لأبى .
.. طلب هذه المرة مزيدا من النقود فاعتذر أبى عن عدم استطاعته ؛ فابتسم المحامى وهو ينظر تجاهى ، ويطمئن أبى : لا عليك فأنت أخ لى قبل أن تكون عميلاً ... شكره أبى وهو ينظر إلى الأرض ، بينما تلتهمنى عين المحامى.
تغيب المحامى لأسابيع ، عرفت من متساقط الكلام بين أمى وأبى أن المحامى تزوج من محامية زميلته ؛ سرت فى جسدى رعدة رهيبة ، أحسست وكأنه خان عهد بيننا ؛ ووقعت فريسة لحزن كبير ، ماكان لى أن أحزنه لو وزنت الأمور ببعض العقل ، ورغم هذا ، ظللت أمنى نفسى بعدها باحتمال عدم صدق كلام أبى ، ولكننى تذكرت مايقال عن المدينة ، فاستبعدت هذا الاحتمال نهائياً ، فلقد قالت لى أمى ذات ليلة : إن وراء الأفق البعيد مدينة كبيرة ، يسكنها أناس مترفون ، يعيشون حياة لا نعرفها ، وإن فى المدينة نساء فائقات الجمال ، لهن فعل السحر .. وعلى هذا فقدت الأمل فى ذلك الرجل الذى امتلك خيالى وحرك مشاعرى وأطلق عفريت جسدى من قمقمه .
أصبح المحامى يتغيب كثيراً ، ثم أرسل من ينوب عنه ، ولم يعد يأتينا ، متعللاً بكثرة القضايا التى بين يديه.
.. يسب أبى ويلعن الحكومة التى استولت على أرضه وهو يسوق الحمار إلى خارج السقيفة ، بينما كنت أعجن الدقيق فى (ماجور ) كبير .. انكسرت ساق أبى إثر وقوعه من أعلى التلة وهو يضع بعض الأخشاب عن ظهر الحمار ، وقد أقعدته إصابته عن العمل لفترة طويلة ، كثرت خلالها الأعمال الموكلة إلىّ .
جاء ابن عمى لزيارتنا ذات يوم ، وطلب الزواج بى ، ووافق أبى ، وتمت مراسم الزواج سريعاً ، عدت بعدها بعام إلى سقيفتنا وأنا أحمل مولودى الأول .
أنهك المرض أبى ، ومزقت البلهارسيا كبده ؛ ومات وهو يوصينا بمتابعة قضية المزرعة .
وقد انتقلنا للعيش فى المزرعة ، لنكون بجوار أمى : نعتنى بها من جهة ، ويتولى زوجى أعمال المزرعة ومتابعة القضية والمحامى من جهة أخرى .
سمعت بموت المحامى ؛ وتولى القضية زميل له ، استمر فى استنزاف نقودنا .. ومرت سنوات وسنوات ، أنجبت خلالها حفنة من الأولاد والبنات ، ومازالت القضية فى طريق مجهول ، والمحامى يأخذ نقوداً كلما حضر .
اليوم أقف خارج السقيفة أراقب الأفق الضبابى البعيد ، تنتابنى نوبة من السعال الشديد ، بينما ابنتى تدعونى للدخول.