المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أشياءٌ عادية باليرموك



أحمد عيسى
15-01-2014, 12:46 AM
أشياءٌ عادية باليرموك


الصورة ثابتة .
سيدة شابة تتمدد على الأرضية الترابية ، في مدخل منزلٍ شبه منهار ، تفتح ساقيها معرية بطنها ، وفتاة لا تتجاوز العشرين ، تمد يديها إلى السيدة فتعود بهما مخضبتان بالدماء وسائل المخاض ، سيدة منهارةٌ تصرخ ألماً ، وأطفال ملقون كيفما اتفق ، كأنهم لا شيء , رجلٌ تسعيني يحتضن عكازه وهو نائم كجنين أمام المنزل من الخارج ، وجهه متغضنٌ من عصف الزمن وجسده متخشب من عصف الحياة التي تنازع الموت ، و بعض رجال خلف حائطٍ مهدم ، ينزف أحدهم ، وينتفض الآخرون قهرا .
لا شيء يعكر صفو الصورة ، فالسيدة لا تستطيع الولادة بصورة طبيعية ، وصوت صراخها لا يظهر في الصورة لأن صوت الرصاص كان أعلى ، وعورتها لم تلفت انتباه أحد !
تحاول أن تدفع جنينها فتعجز ، تقف على قدميها ، فلا تعود يدي الشابة من بين ساقيها إلا بمزيدٍ من الدماء ، تمسحها وهي تتمتم / ليتنا استطعنا إحضار طبيب ، دورة إسعاف لا تؤهلني لكي أقوم بهذا .
تقولها مرتجفة ، تتمنى البكاء فلا تجد له وقتا ، تربت السيدة على رأسها /
رويداً يا صغيرتي ، تستطيعين ذلك ، فقط قومي بشق البطن ، عملية قيصرية صغيرة ستضطرين لإجرائها ، دون مخدر موضعي أو أي مسكنات ، سكينك الصغير سيفي بالغرض .
تمتد يد الفتاة راجفة ، تصل بطن السيدة التي تمددت أمامها على ظهرها صارخة :
افعليها .
وتصرخ الفتاة وسكينها يقطع لحم جارتها ، سأفعل .
لا شيء جديد ، فالصورة لم تزل ساكنة .
****
الهدف ليس ببعيد ,
بضع خطوات لا أكثر ، سقط رجلٌ ، لكن هذا لن يوقفنا ، يهم بالانقضاض ، يوقفه زميله :
- فهل تريدنا أن نفقدك أيضا
- سأفعل إن تطلب الأمر ذلك
يربت على كتفه : سنفعلها يا أحمد ، لكن بدون أن نخسرك .
يمزق أحمد قميصه ، يضمد به جرح رجل توسد الأرض ، الرصاص يضرب الحائط الذي كاد أن ينهار ، يعري زميله المصاب من قميصه المخضب بالدماء ، ينادي همساً : هات لي تلك العصا من هناك .
يلف أحمد العصا بالقش ثم بالقميص ، يهمس لأصحابه ، ينظر إلى الكيس المعلق ببوابة المخيم ، يلقي زميله العصا ثم يندفع جريا ، ينقض آخر بالحجارة تجاه مكان القناصة المفترض ، ويندفع أحمد بأقصى ما يستطيع إلى الكيس ، يختطفه ، يحتضنه ، يتلقى رصاصة تخترق الكيس إلى صدره ، يستمر جرياً ، يتلقى أخرى في ساقه ، يستمر زحفاً ، تحمله رمال المخيم ، تكبيرات الرجال تدوي كالبكاء ، وترنيمة حزينة تتعالى من لا مكان ، تتساقط الحجارة من الحائط القديم فتثير عاصفة من الغبار تمنعه عن أعينهم ، يتوارى خلف الجدار وهو يصرخ : فعلتها .
ويتلقاه زملاؤه في أحضانهم وهم يتشربون دماءه بأجسادهم ، يقبل أحدهم وجنتيه ، يسقط أرضا بوجه قارب الذبول ، وبجسد نحيل هش ، تتراخى قبضته حول الكيس ، يفتحه الرجال ، أو ما تبقى منهم ، يتخطفون ما فيه ، ويحمل أحدهم نصيبه إلى داخل المنزل المنهار ، يهوي إلى جوار زوجته ليقبض بكفه على راحة يدها ، يناولها نصيبه مبتسما ، يسقط من فرط الإرهاق بجوارها ، ويده تمتد تتحسس جسد الطفل الساكن .
والصورة ثابتةٌ لا زالت ، فتاة شابة تخيط بأصابع مرتجفة بطن سيدة شبه عارية مغطاة بالدماء ، وزوج نحيل ذابل يلفظ أنفاسه الأخيرة مبتسما ، وطفلاً عمره خمس دقائق يضطجع على صدر امرأة جف ثديها ، ورغيفا خبز أحدهما سقط بالطريق أمام شيخ ينازع الموت بمدخل بيت منهار .
لا شيء تغير إلا : كسرة خبز !

أحمد عيسى
15-01-2014, 12:46 AM
نسخة معدلة

أشياءٌ عادية باليرموك

الصورة ثابتة .
سيدة شابة تتمدد على الأرضية الترابية ، في مدخل منزلٍ شبه منهار ، تفتح ساقيها معرية بطنها ، وفتاة لا تتجاوز العشرين ، تمد يديها إلى السيدة فتعود بهما مخضبتان بالدماء وسائل المخاض ، سيدة منهارةٌ تصرخ ألماً ، وأطفال ملقون كيفما اتفق ، كأنهم لا شيء , رجلٌ تسعيني يحتضن عكازه وهو نائم كجنين أمام المنزل من الخارج ، وجهه متغضنٌ من عصف الزمن وجسده متخشب من عصف الحياة التي تنازع الموت ، و بعض رجال خلف حائطٍ مهدم ، ينزف أحدهم ، وينتفض الآخرون قهرا .
لا شيء يعكر صفو الصورة ، فالسيدة لا تستطيع الولادة بصورة طبيعية ، وصوت صراخها لا يظهر في الصورة لأن صوت الرصاص كان أعلى ، وعورتها لم تلفت انتباه أحد !
تحاول أن تدفع جنينها فتعجز ، تقف على قدميها ، فلا تعود يدي الشابة من بين ساقيها إلا بمزيدٍ من الدماء ، تمسحها وهي تتمتم / ليتنا استطعنا إحضار طبيب ، دورة إسعاف لا تؤهلني لكي أقوم بهذا .
تقولها مرتجفة ، تتمنى البكاء فلا تجد له وقتا ، تربت السيدة على رأسها /
رويداً يا صغيرتي ، تستطيعين ذلك ، فقط قومي بشق البطن ، عملية قيصرية صغيرة ستضطرين لإجرائها ، دون مخدر موضعي أو أي مسكنات ، سكينك الصغير سيفي بالغرض .
تمتد يد الفتاة راجفة ، تصل بطن السيدة التي تمددت أمامها على ظهرها صارخة :
افعليها .
وتصرخ الفتاة وسكينها يقطع لحم جارتها ، سأفعل .
لا شيء جديد ، فالصورة لم تزل ساكنة .
****
الهدف ليس ببعيد ,
بضع خطوات لا أكثر ، سقط رجلٌ ، لكن هذا لن يوقفنا ، يهم بالانقضاض ، يوقفه زميله :
- فهل تريدنا أن نفقدك أيضا
- سأفعل إن تطلب الأمر ذلك
يربت على كتفه : سنفعلها يا أحمد ، لكن بدون أن نخسرك .
يمزق أحمد قميصه ، يضمد به جرح رجل توسد الأرض ، الرصاص يضرب الحائط الذي كاد أن ينهار ، يعري زميله المصاب من قميصه المخضب بالدماء ، ينادي همساً : هات لي تلك العصا من هناك .
يلف أحمد العصا بالقش ثم بالقميص ، يهمس لأصحابه ، ينظر إلى الكيس المعلق ببوابة المخيم ، يلقي زميله العصا ثم يندفع جريا ، ينقض آخر بالحجارة تجاه مكان القناصة المفترض ، ويندفع أحمد بأقصى ما يستطيع إلى الكيس ، يختطفه ، يحتضنه ، يتلقى رصاصة تخترق الكيس إلى صدره ، يستمر جرياً ، يتلقى أخرى في ساقه ، يستمر زحفاً ، تحمله رمال المخيم ، تكبيرات الرجال تدوي كالبكاء ، وترنيمة حزينة تتعالى من لا مكان ، تتساقط الحجارة من الحائط القديم فتثير عاصفة من الغبار تمنعه عن أعينهم ، يتوارى خلف الجدار وهو يصرخ : فعلتها .
ويتلقاه زملاؤه في أحضانهم وهم يتشربون دماءه بأجسادهم ، يقبل أحدهم وجنتيه ، يسقط أرضا بوجه قارب الذبول ، وبجسد نحيل هش ، تتراخى قبضته حول الكيس ، يفتحه الرجال ، أو ما تبقى منهم ، يتخطفون ما فيه ، ويحمل أحدهم نصيبه إلى داخل المنزل المنهار ، يهوي إلى جوار زوجته ليقبض بكفه على راحة يدها ، يناولها نصيبه مبتسما ، يسقط من فرط الإرهاق بجوارها ، ويده تمتد تتحسس جسد الطفل الساكن .
والصورة ثابتةٌ لا زالت ، فتاة شابة تخيط بأصابع مرتجفة بطن سيدة شبه عارية مغطاة بالدماء ، وزوج نحيل ذابل يلفظ أنفاسه الأخيرة مبتسما ، وطفلاً عمره خمس دقائق يضطجع على صدر امرأة جف ثديها ، ورغيفا خبز أحدهما سقط بالطريق أمام شيخ ينازع الموت بمدخل بيت منهار .
لا شيء تغير إلا : كسرة خبز !

سامية الحربي
15-01-2014, 02:49 AM
لا يملك المرء أمام هذا المشهد إلا أن ينتحب من خلف شاشة عجزه. في مخيم اليرموك يسقط عهر المقاومة, و يتجلى وهن أمة المليار,و تنحني الحياة. شكرًا لمدادك الأبي. صلواتي.

عبد السلام دغمش
15-01-2014, 09:51 AM
صورة كاشفة للمأساة التي يعيشها الأهل في اليرموك .. بل و في سائر الشام وإن كانت في اليرموك انكى ،حيث انها استنساخٌ لمأساة ما زال الشعب يعيشها على يد البعيد .. والقريب.
والصورة الأبشع فيمن يستمرؤون اللهو .. وينامون على الخنا.. و كان لاشيء.. ولا حول ولا قوة الا بالله.
تحياتي لكم.

خلود محمد جمعة
17-01-2014, 11:43 PM
نطق حرفك ببلاغة حدا اصابني بحشرجة
تجسيد الوضع بيراع يقطر دماً ويعتصرنا وجعا
نص اكثر من رائع
دمت مبدعا
مودتي وتقديري

ناديه محمد الجابي
18-01-2014, 07:45 PM
عبرت عن تلك الكارثة الإنسانية التي يعيشها سكان مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينين
في العاصمة السورية ـ فمن لم يمت من الجوع يقتات مما يتوفر تحت يديه حتى من الأعشاب الضارة
أن الأوضاع المأساوية تفوق تصور العقول البشرية , نسوا معنى كلمة كهرباء والدواء والطعام
على يد أولئك الظلمة الذين فاقوا إسرائيل وحكامها بإجرامهم وحقدهم.
فما أغرب الصمت العربي والإسلامي والدولي على الجريمة الإنسانية التي يشهدها مخيم اليرموك
وإن كان اليوم السبت .. تمكنت شاحنة مساعدات إنسانية من الدخول إلى المخيم , وذلك لأول مرة
بعد مرور أشهر على الحصار الخانق.

ذبحتنا بتلك المشاهد التي صغتها بإقتدار أديب ملك الحرف فقدم لنا نصا مبدعا حمل دموعنا على الإنهمار
وسرد موجع وواقعي بحس عميق وبأسلوب أدبي رائع
سلمت يداك.

آمال المصري
20-01-2014, 12:38 PM
كان التصوير ناطقا بالوجع والمشاهد تئن والحركة تنتفض
أتقنت ببراعة نقل صورة من أحد مناطق الموت الثلاث
مأساة حقيقية بكل أبعادها .. أقرأ وأشاهد صور من يموتون جوعا مما جعل الوضع الإنساني حرجا واضطر السكان فيها أكل أوراق الأشجار وفتاوى تحلل أكل لحوم القطط والكلاب
حبكة قوية ولغة جميلة وخاتمة صاعقة أن يكون لكسرة الخبر قيمة تجعلهم يتلقفونها من أيادي تهوى بما تحملها الأجساد
شكرا لك أديبنا الفاضل
تحاياي

أحمد عيسى
21-01-2014, 10:47 PM
لا يملك المرء أمام هذا المشهد إلا أن ينتحب من خلف شاشة عجزه. في مخيم اليرموك يسقط عهر المقاومة, و يتجلى وهن أمة المليار,و تنحني الحياة. شكرًا لمدادك الأبي. صلواتي.



الفاضلة : غصن الحربي

كم من مشهد مزعج رأيناه ، وكم من صورة لم نتحمل حتى رؤيتها ، أمام عظم المأساة قد نقف طويلاً قبل أن نكتب حرفا ، أستطيع القول أن هذه القصة من أصعب ما كتبت ، كلما كتبت حرفا شطبته وقلت لنفسي ، أي هراء هذا الذي أكتبه أمام الموقف العظيم الذي يحدث أمام عيوننا ونحن نغط في نوم عميق ، صعبٌ أن يشعر الانسان بالعجز


شكراً لك

ربيحة الرفاعي
08-02-2014, 11:28 PM
هل أفلت هذا الشعب يوما من قسوة العالم المجنون يتقاذفه بين أرجل مجونه منذ تعلم التاريخ تدوين حكاياته، ليفاجأنا اليوم واحد من مشاهد ترويعه وتلويعه؟
مشهد أليم ينثال الحزن في تفاصيله دموعا ناطقة بالعجز فالعجز

مضيّعون نحن وقد انصفت حروفك هذا الضياع

دمت بروعتك أيها المبدع

تحاياي

نداء غريب صبري
20-08-2014, 02:36 AM
وجع البرموك يا أخي ووجع الشام أكبر من أن تضمه الكلمات ، وها نحن نعاني في مخيمات لجوء وها هم يعانون في مخيم اللجوء في اليرموك
نص مليء بالوجع أخي ويثير الشجون ولكنه نص جميل أدبيا ويؤرخ للحالة بشكل ممير فشكرا لك

بوركت

كاملة بدارنه
22-08-2014, 11:03 AM
بات الإنسان عديم قيمة وانتهكت حقوقه وإنسانيّته في ظلّ همجيّة المتسلّطين الجبابرة
تصوير لوضع ‘نساني بسرد جاذب ولغة مؤثّرة
بوركت
تقديري وتحيّتي