فوزي الشلبي
20-01-2014, 03:50 PM
حمأة ُ الليل!
تقلّبَ يوسفُ عبدُ الحميدِ في فراشهِ ،ولم يعدْ جسمهُ يطلبُ النّومَ من جديدٍ، وتجافى عن مضجعهُ بعد أنْ أخفقَ في أنْ يستعيدَ سكينَتهُ إلى النّومِ. ذهبَ إلى الصالةِ وأشعل النُّورَ.
كانَ لونُ المصباحِ الذَّهبيِّ رُغمَ أنَّه يوحي الدِّفءَ، فلا يثيرُ شهوةً إلى النّومِ. أدارَ المرناءَ (التلفاز) وقلَّبَ القنواتِ ..أناسٌ يرقصونَ ...أناسٌ في سوريا يُذبحونَ على يد جزارٍ لم يشهدْ له التاريخُ مثيلاً..وأُخرُ في فلسطينَ..و في العراقِ.. و"أرابْ آيدول" في لبنانَ.
لا ترتكبُوا خطيئةَ الدبمقراطيةِ وتوبوا عنها؛ ففي الصومال ديمقراطيةٌ عظيمةٌ على أعلى مستوى. حتى إنَّ الأطفالَ ليحملونَ بنادقَهم الآليةَ. كلُّ بندقيةٍ هي أطول من حامِلها...و منهم على كتفِه حاملُ الصّواريخِ، وصاروخٌ أو صاروخان على كلِّ كتف. عبثٌ في طفولةٍ بريئة..دارٌرقم ُواحدٍ، دارٌ رقمُ اثنينِ ،دارٌ رقمُ ثلاثةٍ..
والآنَ تحطُّ رحالُ تجّارِ السّلاحِ في دارِ فور، يكرعونَ الأنخابَ السياسيةَ في الخارجِ في بردِ نومِ الضَّميرِ . يا لهذا التلفزيونِ اللعينِ، إنّهُ جامعةٌ للثقافةِ ..كمْ يثقفُنا هذا الوغدُ العالمُ سياسياً واقتصاديا ًواجتماعياً..وفنيِّا. أليس الرقصُ فناً ؟! ..ففي كلِّ بيتٍ جامعةٌواحدةٌ أوجامعتان!
لماذا يُرسلُ الجوعى أبناءَهم وبناتِهم إلى الجامعاتِ، وا لأقساطُ الجامعيةُ مئاتُ ...الدّنانيرِ.. لا.. لا، بل الآلافُ . ولِمَ أحملُ الهم َّ الآنَ؟! فأولادي مازالوا زُغبَ الرِّيشِ فرخَ القطا، والمردودُ من "السوبرماركتِ" المتواضعِ الذي أملكهُ الآنَ يكفيني وعائلتي ويزيدُ ..
لم َأحمل ُهمَّ العالم، فهيّا إلى قنواتِ الأفلامِ ..يضغط يوسفُ على أزرارِ "الريموت كونترول" بالإبهامِ ...يضغطُ .. موافقْ .. يضغطُ على دعايةٍ .. يضغطُ .. موافقْ .. فيلمٌ معادٌ..دعايةٌ ..رقصٌ.. غناءٌ..دعا.... ،موافقْ..موافقْ..
أطفأَ التلفزيونَ "بالريموت" بعصبيةٍ . ثم قهقهَ، وقالَ : جامعةُ الفنونِ للثقافة والرقصِ والعلوم و "إكس فاكتور"!
ذهبَ إلى المطبخِ ..فتحَ الثلاجةَ ..الثلاجةُ ملآى بكلِّ ما لذَّ وطابَ، لكنَّ نفسَهُ ..أو بالأحرى معدتَهُ قد عافتْ أن تطلبَ طعاماً. بعد أنْ تناولَ العشاءَ الدَّسمَ عند الثامنةِ. ..نظرَ إلى السّاعةِ .. إنَّها الآنَ الثانيةُ..وهمسَ: أليس َ الصُّبحُ بقريبٍ!
خرجَ إلى الصالةِ ثانية، وأشعلَ سيجارةً.. واتَّجهَ صوبَ النافذةِ ليشتنشقَ من عليلِ الهواءِ..السماءُ ملبدَّةٌ بالغيومِ، لكنَّّ الطقسَ دافيءٌ، وإذا هطلَ المطرُ سيبردُ الجوُّ اليومَ.
أسندَ مرفقيهِ إلى حافةِ النافذةِ، فوقعت عينهُ على بيتِ جارِه "أبو نزيه" الذي يعملُ على سيارةِ أجرةٍ..إنّه الآنَ في السَّجنِ ..كيف يتدبرونَ حياتَهَم زوجُه وبنُوه؟
فقدْ دهسَ أبو نزيهٍ طفلاً ماراً قفزَ إلى الشّارعِ فجأةً فأرداهُ، ولقدْ اهتمَّ أبو نزيهٍ لذلكَ كثيراً اهتماماً أفقدهُ صوابَهُ، وبكى من أجلِ قتل نفسٍ بكاءً مرا. وقد هاله أنّ الضحيةَ طفلٌ..وكأنَّهُ قتلَ بيديهِ أحدَ أولادِه .
و إذْ رفضَ أهلُ الطِّفلِ أمرَ القضاءِ والقدرِ في مصيرِ ابنِهم، ما أدخلَ أبا نزيهٍ السِّجن. ولم يكنْ يهمُّهُ بقاؤُه في السَّجنِ كثيراً أو قليلاً..ولقدْ عذرَهُم هو نفسهُ في ذلك ، وإن لم يعذرْهمْ بعضُ النّاسِ ، لما عرفوا عن أبي نزيهٍ من حسنِ الطّويةِ ولينِ الجانبِ وحُبِّهِ للجيرانِ، ولما تعارفوا عليهِ من حوادثِ السّياراتِ في حالاتٍ مشابهةٍ، بل لتطوعه في نقلِ المرضى آخرَ الليلِ للمستشفى في حالاتٍ طارئةٍ مجاناً.
و إذ خلُصتْ شرطةُ السَّيرِ إلى أن الحادثَ لم يكنْ متعمداً بروايةِ الشُّهودِ، فعلى أبي نزيهٍ أن يقضي في السِّجنِ شهراً حتى موعدِ المحاكمةِ..
مضى منها أسبوعٌ حتى الآنَ، فما حال زوجه وأولاده؟..كيف يتدبرونَ أُمورَهم ؟ ما محّضهُ ضميرُهُ النُّصحَ في غفلتِهِ قائلاً:..ماذا ؟! أسنّةٌ عمرية ٌ أبا ليلى..؟!
ذهبَ إلى مكتبةِ البيتِ حيثُ دفترُ ذكرياتهِ الأثير، لعلّهُ يجدُ فيه بعضَ السّلوى. زوجُهُ فاطمةُ الأن نائمةٌ ..أولادُه نائمونَ ..لعلَّه يستعيدُ بعضاً من ذكرياتٍ جميلةٍ في خلوةٍ من نفسهِ، عندما كان شاباً أو فتى يافعاً..أجلْ ..الدفترُ ذو الأوراقِ الصفراءِ يحوي ذكرياتٍ غاليةً عزيزةً.
فتحَ الدّفترَ ..وقرأ.." كيفَ تمكثينَ بعيداً عني ..وأنا أبحثُ عنكِ في الفضاءِ الحزينِ ..أسبحُ مابينَ النُّجومِ..كل يومٍ أُركِّبُ جناحينِ وأطيرْ ..أطير ُ أطيرْ...
قلبُي بحرٌ كبيرْ..كبير ٌ كبيرْ..أضيعُ فلا أرى ساحِلي .. أبحثُ عن قلبِك بينَ النُّجوم..إذا ضاع قلبي فمن ألوم .. أحطُّ الرحالَ على شاطئٍ لاينتهي في رمال الحنينْ...كيما أعودَ طفلاً صغيرا..يُقَبِّلهُ على صفحةِ الجبينِ صبحٌ في ربيعِ السنينِ..إشراقةُ شمسٍ تحرقُنا..ووهجُ اللجينِ فيسبكُ أحلامَنا تحت القمرْ..نتخطى في دروبِ شذى .. و خطىً في صعودِ الياسمينَ.
أعود لطفلٍ يعانقُ ألعابَهُ..تنامُ في أحضانها أحلامُهُ..وفي أحضانهِ تنامُ ألعابُه..لا يهابهُ شوقٌ فيها للعناقٍ.. ولا شوقٌ فيه تهابُه "
أغلقَ الدّفترَ في أسىً..طفرتْ من عينيِه الدموعُ..ثم ضحك وقال "هاه..والله عال!..أبقالٌ و شاعر ؟!".
لا نومَ الآنَ وقد احترقتْ عيناي بالذكرياتِ والأسى، وكيفُ ينامُ من بعينيهِ ندى!
عادَ ثانيةً إلى النّافذةِ..وقعَ نظرُه على بيتِ جارِه ..ويسأل: كيفَ يتدبرونَ..تكاليفَ الحياةِ العاليةِ!
كيف يتدبرهُ سائقٌ على سيارةِ أجرةٍ، فجاءَهُ الشيطانُ فجأةً، همسَ ثانيةً في روعه" هذهِ أسرارُ النّاسِ..فلا تتبَّعها..دعِ الخلقَ للخالق " .. و إذا بخاطرٍ يهتفْ :..قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " أيُّما أهلُ عرصةٍ (حارة ) باتَ فيهم امرؤٌ جائعاً ، فقد برئتْ منهمْ ذمُة الله " ..قال البعيد – الشيطان- " أسُنَّة ٌ عمريةٍ..أبا ليلى"..قال يوسف : صدق الله ،وصدق رسوله..ثمَّ قال:الليلُ سهرٌ.. وغداً أمرْ..
عاد إلى الفراشِ، ومازالت زوجهُ تغطُّ في نومٍ عميقٍ، فغبطها بل حدّثتهُ نفسُهُ أن يوقظَها كي تسمرَ معَه، لولا أن أشفقَ عليها لكدِّها في عملِ البيتِ طولَ النّهارِ. وما كادَ أنْ يدخلَ في أولِ سِنَة للنومِ حتى سمعَ صراخاً، إنه صُراخُ طفلٍ ..ثم عويلُ أطفالٍ، فهزَّ كتفَ فاطمة " قومي يا امرأة ..اصحِي" ..فجفلت مذعورةً "مه ..ماذا هناك" ..ثمّ تابع " صراخ ٌوبكاءٌ أظنه من بيت جارنا أبي نزيه "..ردت في حيرة " خيراً..اللهم َّ اجعلهُ خيرًا"
قامتْ إلى عباءتِها، وارتدتها في عجلةٍ ..ولفَّتْ بالشّالِ رأسَها وجزءاً من وجهها ..وانطلقتْ تجرجرُ خلفَ عينيها، تفتحُ البابَ و تعبرُ الشّارعَ إلى بيتِ أبي نزيهٍ..
طرقتْ البابَ ثمّ دخلتْ دونَما استئذانٍ..دخلت الصالةَ وألفت سيدةَ المنزلِ والصبيةَ من حولهِا لدى حكايةٍ، وكومةٍ من الأحزانْ..
تبكي هاجرُ بصمتٍ ..تفضحُ عيناها همَّها ..وتمنَّت تلكَ اللحظةَ لو عميتْ ولا علمَ أيّ ٌمن الجيرانِ حقيقةَ أمرِها..كانت غنيةَ النّفسِ .. عزيزتَها .. هاجرُ هذه كريمةٌ، تعطي جلَّ ما في يدِها لو طرقَها بالبابِ سائلٌ.. ولعلَّ فاطمةَ كانتْ أدرى النّاسِ بها، فما أقلَّ كلامَها في النّاس، بل ما أقلَّ كلامَها بينَ النّساءْ..
جلسَ الأطفالُ حولَ أمِّهمْ يشهقونَ حرَّ الزَّفرات، و يرتجفونَ ارتجافةِ نهايةِ البُكاء..ثم ضمّوا صمتَهم إلى صمتِ أمِّهم .. كأني بهم أخذوا طبعاًمن طباعها..وارتدُّوا بالسِّر إلى خبائها!
فاطمةُ :باللهِ عليكم..إلاّ صارحتموني حقيقة َأمرِكم!
لم تُحرْ أمُّ نزيهٍ أيَّ جوابٍ ..كررتْ فاطمةُ قسمَها ولم تفلحْ في تلقّي أيِّ جوابٍ..!
ورانَ صمتٌ ثقيلٌ ..ثم تصفحتْ فاطمةُ الوجوهَ لعلّها تقرأُ فيها شيئا..لم تقرأْ إلا طلسماً في وجوهِ الجيران، الأمِّ والأطفالِ..
لولا بقيةٌ من دم نزَّ عنها طرفا فمِ ماهرٍ، فتناولتْ فاطمةُ منديلاً من جيبِها، وشرعتْ تمسحُ عن فمِِ ماهرٍ بقايا الدِّماء..قائلةً هاشّةً باشةً:من ضربَك يا حبيبي على فمِك الجميلِ ..والله لأعرفنَّهُ، ثمَّ لأضربنّه ُ ضرباً مبرحا..أأنتَ يانزيهُ.. أأنتِ ياجمانةُ ..أنت يا..قاطعها ماهرُ فجأة.." لا يا خالةُ ..ليس أيُّهم" ..ثمَّ بلعَ ريقَهُ وقال.." رأيتُ حلماً هذا كلُّ ما في الأمرْ..
قالتْ هاجرُ: نعمْ ..رأى ماهرُ حلماً مزعجاً "..تجاهلتها فاطمةُ ..وتابعتْ تستنطقُ ماهرَ :لكن الأحلامَ يا ماهرُ ..ياحبيبي لا تنزفُ الدِّماء"..و ضمتهُ إلى صدرِها فأحسَّ دفئًا وحناناً لا يضاهيهِ إلاّ دفءَ أمِّه، فأحسَّ الأمانْ..قال" حلمتُ أنَّ والدي كانَ قادماً وكانَ يحملُ في يديه كيساً من اللَّحمِ، وكيسا ًمنَ التُّفاحِ ..فناولني تفاحةً فقضمتُها، فشعرتُ بألمٍ بالغٍ، صحوتُ من نومي صارخاً، وإذا بي أقضمُ لساني، وهذا الدّمُ الذي ترينَ من فمي.. وإذا بإخوتي حولي يتصارخونَ ..لستُ أدري إذا كان والدي قدْ ناولهَم تفاحاً كما ناولني!" وارتعشَ كتفاهُ ثم بلع ريقَه..
فاطمة: حقاً إنه حلمٌ مزعجٌ.. فلعلكَ أكلتَ كثيراً على العَشاء!
أجابها ببداهةٍ وبراءةٍ..ودونَ أن يلتفتَ إلى عينيِ أمه :"حتى إننَّي لم أتعشَّ ياخالة..!"
ولما حانتْ منهُ التفاتةٌ صوبَ أمِّه ، وجدها طأطأتْ رأسَها خجلاً، فتمنى أنّه لو لم يقلْ ماقال!
ضحكتْ فاطمةُ – ودخيلةُ جوفِها تغلي بالمرارةِ، والعتابُ نظراتٌ حارقةٌ تنزلُ حمماً على جارتِها وصديقتِها هاجرَ..وقالتْ في سرِّها:إذن لم يتعش الأولاد!- ..وداعبت الأولادَ فقالت " لعلّكُمْ ما قضمتمْ التُّفاحَ الذي قضمَهُ ماهرُ ..وما قضمْتم ألسنَتكُم!"
فضحكوا جميعاً وابتسمتْ هاجرُ ..وانطلقتْ فاطمةُ من فورِها إلى المطبخِ .. لحقتْ هاجرُ جارتَها .. فتحتْ فاطمةُ الثلاجةَ فإذا هي خواءٌ إلا من عاصفةٍ من بخارِ الثلجِ الباردِ هبَّتْ في وجهِها.. وكيسٌ من كسراتِ الخبْز..
أغلقتْ فاطمةُ الثلاجةَ واستدارتْ ، وإذا هاجرُ قبالتَها..وتلاقتْ عيناهُما ؛ فعينانِ ترسلانِ العتبَ والغضبَ ، وعينانِ تعكسانِ الشقاءَ و الإنكسارَ..ثم تجاوزتْ فاطمةُ وانطلقتْ إلى أنْ غيَّبَها بابُ منزلِ الجيران .
و ما إنْ رأ ى يوسفُ عبد الحميد زوجَه مقبلةً ، وكان يغلي على جمر الانتظار حتى بادرها بالاستفسار" ماذا وراءَكِ يافاطمةُ..ما الخطبُ؟!"
لكنَّ فاطمةَ مضتْ في سبيلِها ولم تلتفتْ إلى سؤالِ زوجِها. وفارَ الدَّمُ في عروقِهِ فقدْ تجاهلتهُ عن عمدٍ وسابقِ إصرارٍ..وتلكَ خطيئةٌ لم تكنْ لتغتفرَ ، لولا أنّهُ أحسّ في غمرةِ ثورتِهِ أن الخطبَ لا يحتملُ الانتظارَ لردِّ الجوابْ..أو لافتعالِ معاركَ زوجيةٍ في الهزيعِ الآخرِ منَ اللّيلِ.. وإضاعةِ الوقتِ للإجابةِ عنْ أيِّ سؤالٍ ، وبدأتْ ثورتُهً تفترُ ودمهُ يستقرُّ ..لمّا رأى امرأتَه تسيرُ نحوَ المطبخِ بخطىً ثابتةٍ واثقةٍ.
فتحتْ الثلاجةَ .. تفتحُ الأكياسَ وتملؤُها ..تسحبُ من الثَّلاجةِ وتملأُ ..تسحبُ من المجمِّدِ وتملأ .."ماذا تفعل هذه المجنونة.." ..قالَ واقتربَ منها رويداً ..رويداً ..حتى فرغتْ واحتملتْ الأكياسَ كيساً كيساً ..واحتملَ هو باقي الأكياس ِمثلَها..وكأنَّما أقرَّت فعلهِ .. وانطلقتْ صوبَ البابِ دونَ أن تنبسَ ببنتِ شَفةٍ ..وانطلقَ خلفَها تملؤُهُ الحيرةُ والفضولُ..ولعلَّهُ تلقَّى بعضَ الإجابةِ عن سؤالهِ منْ حركتِها وفعلِها..واستمرَّ يجري في الطَّريقِ على نحوِها وهو يتمتمُ بالإنجليزية: "ليدز فيرست" : السيدات في المقدمة!
وما إنْ وصلتْ بيتَ أبي نزيهٍ ، حتى طرقتْ البابَ ودفعتهُ ..ودخلتْ دونَما استئذانٍ.."هذه المرأةُ مجنونة! هذه المرأةُ حتماً لا تتصرفُ بعقلِها.. هذه المرأة أحياناً فما أغربها، وكأني اليومَ لم أعدْ أعرفُها!"
وقفَ يوسفُ عبدُ الحميدِ خارجَ البيتِ عندَ البابِ ، منتظراً خروجَ زوجهِ ..وما هيَ إلاّ أن أطلَّتْ، وتناولتْ باقي الأكياسِ منِ زوجِها ..ولاحظَ وثوقاً أكبرَ في عزمِها ..وهدوءاً يزينُ حركتَها؟ وعادت ثانيةً إلى داخلِ البيتِ ..فاستطلعَ ثمَّ سمعَ كلامًا..وسمعَ ضحكاتٍ ..وقولَ زوجه " كلِ التفاحةَ ياماهرُ..ولكنْ حذارِ أنْ تقضمَ لسانَكَ " .. فال:" هذا صوتُ فاطمةَ: تفاحٌ وقضمُ لسانٍ."!! وكأنهُ قرأَ الحكايةَ كلَّها..
وبعدَ صعبِ انتظارٍ، ونفادِ اصطبارٍ .. عادتْ فاطمةُ وقدْ أشرقَ وجهُها وأسفرَ وافنرَّ ثغرُها عن ابتسامةٍ ساحرةٍ ..وأحستْ البَرْدَ ، فكتّفتْ ساعدَيها إلى صدرِها ..وسارا في رفقٍ جنباً إلى جنبٍ ، وطوَّقَ كتفَيها بيمينهِ..ويمّما شطرَ البيتِ .. وسكينةٌ في البيتِ تنتظرُهما..وقد شقشقَ الفجرُ وانطلقَ الأذانْ..
وفي الطريقِ ..هطلت زخّة ٌخفيفةٌ من المطرِ..قالت" الطقسُ باردُ..ماأبردَ هذا الشِّتاء!"
تقلّبَ يوسفُ عبدُ الحميدِ في فراشهِ ،ولم يعدْ جسمهُ يطلبُ النّومَ من جديدٍ، وتجافى عن مضجعهُ بعد أنْ أخفقَ في أنْ يستعيدَ سكينَتهُ إلى النّومِ. ذهبَ إلى الصالةِ وأشعل النُّورَ.
كانَ لونُ المصباحِ الذَّهبيِّ رُغمَ أنَّه يوحي الدِّفءَ، فلا يثيرُ شهوةً إلى النّومِ. أدارَ المرناءَ (التلفاز) وقلَّبَ القنواتِ ..أناسٌ يرقصونَ ...أناسٌ في سوريا يُذبحونَ على يد جزارٍ لم يشهدْ له التاريخُ مثيلاً..وأُخرُ في فلسطينَ..و في العراقِ.. و"أرابْ آيدول" في لبنانَ.
لا ترتكبُوا خطيئةَ الدبمقراطيةِ وتوبوا عنها؛ ففي الصومال ديمقراطيةٌ عظيمةٌ على أعلى مستوى. حتى إنَّ الأطفالَ ليحملونَ بنادقَهم الآليةَ. كلُّ بندقيةٍ هي أطول من حامِلها...و منهم على كتفِه حاملُ الصّواريخِ، وصاروخٌ أو صاروخان على كلِّ كتف. عبثٌ في طفولةٍ بريئة..دارٌرقم ُواحدٍ، دارٌ رقمُ اثنينِ ،دارٌ رقمُ ثلاثةٍ..
والآنَ تحطُّ رحالُ تجّارِ السّلاحِ في دارِ فور، يكرعونَ الأنخابَ السياسيةَ في الخارجِ في بردِ نومِ الضَّميرِ . يا لهذا التلفزيونِ اللعينِ، إنّهُ جامعةٌ للثقافةِ ..كمْ يثقفُنا هذا الوغدُ العالمُ سياسياً واقتصاديا ًواجتماعياً..وفنيِّا. أليس الرقصُ فناً ؟! ..ففي كلِّ بيتٍ جامعةٌواحدةٌ أوجامعتان!
لماذا يُرسلُ الجوعى أبناءَهم وبناتِهم إلى الجامعاتِ، وا لأقساطُ الجامعيةُ مئاتُ ...الدّنانيرِ.. لا.. لا، بل الآلافُ . ولِمَ أحملُ الهم َّ الآنَ؟! فأولادي مازالوا زُغبَ الرِّيشِ فرخَ القطا، والمردودُ من "السوبرماركتِ" المتواضعِ الذي أملكهُ الآنَ يكفيني وعائلتي ويزيدُ ..
لم َأحمل ُهمَّ العالم، فهيّا إلى قنواتِ الأفلامِ ..يضغط يوسفُ على أزرارِ "الريموت كونترول" بالإبهامِ ...يضغطُ .. موافقْ .. يضغطُ على دعايةٍ .. يضغطُ .. موافقْ .. فيلمٌ معادٌ..دعايةٌ ..رقصٌ.. غناءٌ..دعا.... ،موافقْ..موافقْ..
أطفأَ التلفزيونَ "بالريموت" بعصبيةٍ . ثم قهقهَ، وقالَ : جامعةُ الفنونِ للثقافة والرقصِ والعلوم و "إكس فاكتور"!
ذهبَ إلى المطبخِ ..فتحَ الثلاجةَ ..الثلاجةُ ملآى بكلِّ ما لذَّ وطابَ، لكنَّ نفسَهُ ..أو بالأحرى معدتَهُ قد عافتْ أن تطلبَ طعاماً. بعد أنْ تناولَ العشاءَ الدَّسمَ عند الثامنةِ. ..نظرَ إلى السّاعةِ .. إنَّها الآنَ الثانيةُ..وهمسَ: أليس َ الصُّبحُ بقريبٍ!
خرجَ إلى الصالةِ ثانية، وأشعلَ سيجارةً.. واتَّجهَ صوبَ النافذةِ ليشتنشقَ من عليلِ الهواءِ..السماءُ ملبدَّةٌ بالغيومِ، لكنَّّ الطقسَ دافيءٌ، وإذا هطلَ المطرُ سيبردُ الجوُّ اليومَ.
أسندَ مرفقيهِ إلى حافةِ النافذةِ، فوقعت عينهُ على بيتِ جارِه "أبو نزيه" الذي يعملُ على سيارةِ أجرةٍ..إنّه الآنَ في السَّجنِ ..كيف يتدبرونَ حياتَهَم زوجُه وبنُوه؟
فقدْ دهسَ أبو نزيهٍ طفلاً ماراً قفزَ إلى الشّارعِ فجأةً فأرداهُ، ولقدْ اهتمَّ أبو نزيهٍ لذلكَ كثيراً اهتماماً أفقدهُ صوابَهُ، وبكى من أجلِ قتل نفسٍ بكاءً مرا. وقد هاله أنّ الضحيةَ طفلٌ..وكأنَّهُ قتلَ بيديهِ أحدَ أولادِه .
و إذْ رفضَ أهلُ الطِّفلِ أمرَ القضاءِ والقدرِ في مصيرِ ابنِهم، ما أدخلَ أبا نزيهٍ السِّجن. ولم يكنْ يهمُّهُ بقاؤُه في السَّجنِ كثيراً أو قليلاً..ولقدْ عذرَهُم هو نفسهُ في ذلك ، وإن لم يعذرْهمْ بعضُ النّاسِ ، لما عرفوا عن أبي نزيهٍ من حسنِ الطّويةِ ولينِ الجانبِ وحُبِّهِ للجيرانِ، ولما تعارفوا عليهِ من حوادثِ السّياراتِ في حالاتٍ مشابهةٍ، بل لتطوعه في نقلِ المرضى آخرَ الليلِ للمستشفى في حالاتٍ طارئةٍ مجاناً.
و إذ خلُصتْ شرطةُ السَّيرِ إلى أن الحادثَ لم يكنْ متعمداً بروايةِ الشُّهودِ، فعلى أبي نزيهٍ أن يقضي في السِّجنِ شهراً حتى موعدِ المحاكمةِ..
مضى منها أسبوعٌ حتى الآنَ، فما حال زوجه وأولاده؟..كيف يتدبرونَ أُمورَهم ؟ ما محّضهُ ضميرُهُ النُّصحَ في غفلتِهِ قائلاً:..ماذا ؟! أسنّةٌ عمرية ٌ أبا ليلى..؟!
ذهبَ إلى مكتبةِ البيتِ حيثُ دفترُ ذكرياتهِ الأثير، لعلّهُ يجدُ فيه بعضَ السّلوى. زوجُهُ فاطمةُ الأن نائمةٌ ..أولادُه نائمونَ ..لعلَّه يستعيدُ بعضاً من ذكرياتٍ جميلةٍ في خلوةٍ من نفسهِ، عندما كان شاباً أو فتى يافعاً..أجلْ ..الدفترُ ذو الأوراقِ الصفراءِ يحوي ذكرياتٍ غاليةً عزيزةً.
فتحَ الدّفترَ ..وقرأ.." كيفَ تمكثينَ بعيداً عني ..وأنا أبحثُ عنكِ في الفضاءِ الحزينِ ..أسبحُ مابينَ النُّجومِ..كل يومٍ أُركِّبُ جناحينِ وأطيرْ ..أطير ُ أطيرْ...
قلبُي بحرٌ كبيرْ..كبير ٌ كبيرْ..أضيعُ فلا أرى ساحِلي .. أبحثُ عن قلبِك بينَ النُّجوم..إذا ضاع قلبي فمن ألوم .. أحطُّ الرحالَ على شاطئٍ لاينتهي في رمال الحنينْ...كيما أعودَ طفلاً صغيرا..يُقَبِّلهُ على صفحةِ الجبينِ صبحٌ في ربيعِ السنينِ..إشراقةُ شمسٍ تحرقُنا..ووهجُ اللجينِ فيسبكُ أحلامَنا تحت القمرْ..نتخطى في دروبِ شذى .. و خطىً في صعودِ الياسمينَ.
أعود لطفلٍ يعانقُ ألعابَهُ..تنامُ في أحضانها أحلامُهُ..وفي أحضانهِ تنامُ ألعابُه..لا يهابهُ شوقٌ فيها للعناقٍ.. ولا شوقٌ فيه تهابُه "
أغلقَ الدّفترَ في أسىً..طفرتْ من عينيِه الدموعُ..ثم ضحك وقال "هاه..والله عال!..أبقالٌ و شاعر ؟!".
لا نومَ الآنَ وقد احترقتْ عيناي بالذكرياتِ والأسى، وكيفُ ينامُ من بعينيهِ ندى!
عادَ ثانيةً إلى النّافذةِ..وقعَ نظرُه على بيتِ جارِه ..ويسأل: كيفَ يتدبرونَ..تكاليفَ الحياةِ العاليةِ!
كيف يتدبرهُ سائقٌ على سيارةِ أجرةٍ، فجاءَهُ الشيطانُ فجأةً، همسَ ثانيةً في روعه" هذهِ أسرارُ النّاسِ..فلا تتبَّعها..دعِ الخلقَ للخالق " .. و إذا بخاطرٍ يهتفْ :..قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم " أيُّما أهلُ عرصةٍ (حارة ) باتَ فيهم امرؤٌ جائعاً ، فقد برئتْ منهمْ ذمُة الله " ..قال البعيد – الشيطان- " أسُنَّة ٌ عمريةٍ..أبا ليلى"..قال يوسف : صدق الله ،وصدق رسوله..ثمَّ قال:الليلُ سهرٌ.. وغداً أمرْ..
عاد إلى الفراشِ، ومازالت زوجهُ تغطُّ في نومٍ عميقٍ، فغبطها بل حدّثتهُ نفسُهُ أن يوقظَها كي تسمرَ معَه، لولا أن أشفقَ عليها لكدِّها في عملِ البيتِ طولَ النّهارِ. وما كادَ أنْ يدخلَ في أولِ سِنَة للنومِ حتى سمعَ صراخاً، إنه صُراخُ طفلٍ ..ثم عويلُ أطفالٍ، فهزَّ كتفَ فاطمة " قومي يا امرأة ..اصحِي" ..فجفلت مذعورةً "مه ..ماذا هناك" ..ثمّ تابع " صراخ ٌوبكاءٌ أظنه من بيت جارنا أبي نزيه "..ردت في حيرة " خيراً..اللهم َّ اجعلهُ خيرًا"
قامتْ إلى عباءتِها، وارتدتها في عجلةٍ ..ولفَّتْ بالشّالِ رأسَها وجزءاً من وجهها ..وانطلقتْ تجرجرُ خلفَ عينيها، تفتحُ البابَ و تعبرُ الشّارعَ إلى بيتِ أبي نزيهٍ..
طرقتْ البابَ ثمّ دخلتْ دونَما استئذانٍ..دخلت الصالةَ وألفت سيدةَ المنزلِ والصبيةَ من حولهِا لدى حكايةٍ، وكومةٍ من الأحزانْ..
تبكي هاجرُ بصمتٍ ..تفضحُ عيناها همَّها ..وتمنَّت تلكَ اللحظةَ لو عميتْ ولا علمَ أيّ ٌمن الجيرانِ حقيقةَ أمرِها..كانت غنيةَ النّفسِ .. عزيزتَها .. هاجرُ هذه كريمةٌ، تعطي جلَّ ما في يدِها لو طرقَها بالبابِ سائلٌ.. ولعلَّ فاطمةَ كانتْ أدرى النّاسِ بها، فما أقلَّ كلامَها في النّاس، بل ما أقلَّ كلامَها بينَ النّساءْ..
جلسَ الأطفالُ حولَ أمِّهمْ يشهقونَ حرَّ الزَّفرات، و يرتجفونَ ارتجافةِ نهايةِ البُكاء..ثم ضمّوا صمتَهم إلى صمتِ أمِّهم .. كأني بهم أخذوا طبعاًمن طباعها..وارتدُّوا بالسِّر إلى خبائها!
فاطمةُ :باللهِ عليكم..إلاّ صارحتموني حقيقة َأمرِكم!
لم تُحرْ أمُّ نزيهٍ أيَّ جوابٍ ..كررتْ فاطمةُ قسمَها ولم تفلحْ في تلقّي أيِّ جوابٍ..!
ورانَ صمتٌ ثقيلٌ ..ثم تصفحتْ فاطمةُ الوجوهَ لعلّها تقرأُ فيها شيئا..لم تقرأْ إلا طلسماً في وجوهِ الجيران، الأمِّ والأطفالِ..
لولا بقيةٌ من دم نزَّ عنها طرفا فمِ ماهرٍ، فتناولتْ فاطمةُ منديلاً من جيبِها، وشرعتْ تمسحُ عن فمِِ ماهرٍ بقايا الدِّماء..قائلةً هاشّةً باشةً:من ضربَك يا حبيبي على فمِك الجميلِ ..والله لأعرفنَّهُ، ثمَّ لأضربنّه ُ ضرباً مبرحا..أأنتَ يانزيهُ.. أأنتِ ياجمانةُ ..أنت يا..قاطعها ماهرُ فجأة.." لا يا خالةُ ..ليس أيُّهم" ..ثمَّ بلعَ ريقَهُ وقال.." رأيتُ حلماً هذا كلُّ ما في الأمرْ..
قالتْ هاجرُ: نعمْ ..رأى ماهرُ حلماً مزعجاً "..تجاهلتها فاطمةُ ..وتابعتْ تستنطقُ ماهرَ :لكن الأحلامَ يا ماهرُ ..ياحبيبي لا تنزفُ الدِّماء"..و ضمتهُ إلى صدرِها فأحسَّ دفئًا وحناناً لا يضاهيهِ إلاّ دفءَ أمِّه، فأحسَّ الأمانْ..قال" حلمتُ أنَّ والدي كانَ قادماً وكانَ يحملُ في يديه كيساً من اللَّحمِ، وكيسا ًمنَ التُّفاحِ ..فناولني تفاحةً فقضمتُها، فشعرتُ بألمٍ بالغٍ، صحوتُ من نومي صارخاً، وإذا بي أقضمُ لساني، وهذا الدّمُ الذي ترينَ من فمي.. وإذا بإخوتي حولي يتصارخونَ ..لستُ أدري إذا كان والدي قدْ ناولهَم تفاحاً كما ناولني!" وارتعشَ كتفاهُ ثم بلع ريقَه..
فاطمة: حقاً إنه حلمٌ مزعجٌ.. فلعلكَ أكلتَ كثيراً على العَشاء!
أجابها ببداهةٍ وبراءةٍ..ودونَ أن يلتفتَ إلى عينيِ أمه :"حتى إننَّي لم أتعشَّ ياخالة..!"
ولما حانتْ منهُ التفاتةٌ صوبَ أمِّه ، وجدها طأطأتْ رأسَها خجلاً، فتمنى أنّه لو لم يقلْ ماقال!
ضحكتْ فاطمةُ – ودخيلةُ جوفِها تغلي بالمرارةِ، والعتابُ نظراتٌ حارقةٌ تنزلُ حمماً على جارتِها وصديقتِها هاجرَ..وقالتْ في سرِّها:إذن لم يتعش الأولاد!- ..وداعبت الأولادَ فقالت " لعلّكُمْ ما قضمتمْ التُّفاحَ الذي قضمَهُ ماهرُ ..وما قضمْتم ألسنَتكُم!"
فضحكوا جميعاً وابتسمتْ هاجرُ ..وانطلقتْ فاطمةُ من فورِها إلى المطبخِ .. لحقتْ هاجرُ جارتَها .. فتحتْ فاطمةُ الثلاجةَ فإذا هي خواءٌ إلا من عاصفةٍ من بخارِ الثلجِ الباردِ هبَّتْ في وجهِها.. وكيسٌ من كسراتِ الخبْز..
أغلقتْ فاطمةُ الثلاجةَ واستدارتْ ، وإذا هاجرُ قبالتَها..وتلاقتْ عيناهُما ؛ فعينانِ ترسلانِ العتبَ والغضبَ ، وعينانِ تعكسانِ الشقاءَ و الإنكسارَ..ثم تجاوزتْ فاطمةُ وانطلقتْ إلى أنْ غيَّبَها بابُ منزلِ الجيران .
و ما إنْ رأ ى يوسفُ عبد الحميد زوجَه مقبلةً ، وكان يغلي على جمر الانتظار حتى بادرها بالاستفسار" ماذا وراءَكِ يافاطمةُ..ما الخطبُ؟!"
لكنَّ فاطمةَ مضتْ في سبيلِها ولم تلتفتْ إلى سؤالِ زوجِها. وفارَ الدَّمُ في عروقِهِ فقدْ تجاهلتهُ عن عمدٍ وسابقِ إصرارٍ..وتلكَ خطيئةٌ لم تكنْ لتغتفرَ ، لولا أنّهُ أحسّ في غمرةِ ثورتِهِ أن الخطبَ لا يحتملُ الانتظارَ لردِّ الجوابْ..أو لافتعالِ معاركَ زوجيةٍ في الهزيعِ الآخرِ منَ اللّيلِ.. وإضاعةِ الوقتِ للإجابةِ عنْ أيِّ سؤالٍ ، وبدأتْ ثورتُهً تفترُ ودمهُ يستقرُّ ..لمّا رأى امرأتَه تسيرُ نحوَ المطبخِ بخطىً ثابتةٍ واثقةٍ.
فتحتْ الثلاجةَ .. تفتحُ الأكياسَ وتملؤُها ..تسحبُ من الثَّلاجةِ وتملأُ ..تسحبُ من المجمِّدِ وتملأ .."ماذا تفعل هذه المجنونة.." ..قالَ واقتربَ منها رويداً ..رويداً ..حتى فرغتْ واحتملتْ الأكياسَ كيساً كيساً ..واحتملَ هو باقي الأكياس ِمثلَها..وكأنَّما أقرَّت فعلهِ .. وانطلقتْ صوبَ البابِ دونَ أن تنبسَ ببنتِ شَفةٍ ..وانطلقَ خلفَها تملؤُهُ الحيرةُ والفضولُ..ولعلَّهُ تلقَّى بعضَ الإجابةِ عن سؤالهِ منْ حركتِها وفعلِها..واستمرَّ يجري في الطَّريقِ على نحوِها وهو يتمتمُ بالإنجليزية: "ليدز فيرست" : السيدات في المقدمة!
وما إنْ وصلتْ بيتَ أبي نزيهٍ ، حتى طرقتْ البابَ ودفعتهُ ..ودخلتْ دونَما استئذانٍ.."هذه المرأةُ مجنونة! هذه المرأةُ حتماً لا تتصرفُ بعقلِها.. هذه المرأة أحياناً فما أغربها، وكأني اليومَ لم أعدْ أعرفُها!"
وقفَ يوسفُ عبدُ الحميدِ خارجَ البيتِ عندَ البابِ ، منتظراً خروجَ زوجهِ ..وما هيَ إلاّ أن أطلَّتْ، وتناولتْ باقي الأكياسِ منِ زوجِها ..ولاحظَ وثوقاً أكبرَ في عزمِها ..وهدوءاً يزينُ حركتَها؟ وعادت ثانيةً إلى داخلِ البيتِ ..فاستطلعَ ثمَّ سمعَ كلامًا..وسمعَ ضحكاتٍ ..وقولَ زوجه " كلِ التفاحةَ ياماهرُ..ولكنْ حذارِ أنْ تقضمَ لسانَكَ " .. فال:" هذا صوتُ فاطمةَ: تفاحٌ وقضمُ لسانٍ."!! وكأنهُ قرأَ الحكايةَ كلَّها..
وبعدَ صعبِ انتظارٍ، ونفادِ اصطبارٍ .. عادتْ فاطمةُ وقدْ أشرقَ وجهُها وأسفرَ وافنرَّ ثغرُها عن ابتسامةٍ ساحرةٍ ..وأحستْ البَرْدَ ، فكتّفتْ ساعدَيها إلى صدرِها ..وسارا في رفقٍ جنباً إلى جنبٍ ، وطوَّقَ كتفَيها بيمينهِ..ويمّما شطرَ البيتِ .. وسكينةٌ في البيتِ تنتظرُهما..وقد شقشقَ الفجرُ وانطلقَ الأذانْ..
وفي الطريقِ ..هطلت زخّة ٌخفيفةٌ من المطرِ..قالت" الطقسُ باردُ..ماأبردَ هذا الشِّتاء!"