فوزي الشلبي
08-02-2014, 03:41 PM
قصرٌ في غربِ
عمّان!
رُغمَ أنَّني لا أتقاضى إلا نصفَ الأُجرة ِالتي يتقاضاها الأطبّاءُ العامون في منطِقَتي ، ورُغمَ أنَّني لا أتقاضى أجراً ممن تبدو عليهم سيما الفقرِ، أو أولئكَ الذين يحملونَ بطاقاتِ الحالةِ الإجتماعيةِ، أو وصولَ الإعفاءِ من لجانِ الزكاةِ. إلا إنني في رضىً من الحياةِ وقناعةٍ بالعيشِ ممن حُرمَ منهُ كثيرٌ من الأطباءِ أمثالي في مثلِ وضعي .
كانَ أبي رحمهُ اللهُ يطمعُ في سكنى الشميساني أو عبدونَ، وكان يرسمُ لي طريقَ دراسةِ الطِّبِ منذُ نعومةِ أظفاري كأبهى ما يكونُ عليهِ الطَّريقُ ، فقد كان يحيطني بهالة ٍمن التشجيعِ، وكلُّ ما يملكُ قاموسُهُ الصَّغيرُ في قلبِهِ الكبيرِ من مفرداتٍ في رفعِ المعنوياتِ .
قالَ لي: أنظرْ إلى الأطباءِ كيفَ يحتطبونَ الأموالَ منَ النّاسِ احتطابا!
قلتُ : يا أبتِ.. إنَّهمْ يمسحونَ القيحَ والدِّماءَ عنِ القُروحِ والكسورِ والجروحِ..بل إنَّهم ينزعونَ عنها ألاوساخَ والقاذوراتِ بما لا يُحتملُ ولا يُطاقُ..أفلا يأنَفون!؟
قال :هذا كلامٌ فارغٌ..من وجهةِ نظر ضيِِّّقة ٍكلامُك صحيحٌ ..ولكن إذا نظرتَ إلى الأمرِ من الوجهةِ الأُخرى، رأيتَ المالَ الوفيرَ ، والمكانةَ المحترمةَ بين النّاسِ ، وسُكنى القصورِ في غربِ عمّان..أيُ الوجهتينِ بدتْ لكَ أكثرَ جلاءً للعيانِ..؟ ..هاتِ!قُلْ !
ما أكثرَ ما كانَ يتحدثُ في هذا الأمرِ كثيرا ..يتحدَّثُ فلا يملُّ ولا يَفرُغُ ،حتى تعبتْ عينايَ من متابعةِ حركةِ شفتيهِ ويديهِ ..وأُذنايَ حتّى صُمَّتا..وزاغت عينايَ..فارتحلتُ إلى كليةِ الطِّبِ ..و أنا في جولة ٍعلى المرضى ، أو أطوفُ بين الموتى أعانقُ الجثثَ ..وأشقُّ بالمبضعِ البطونَ...و إذا بي أتخرَّجُ طبيباُ..
وبعدُ فقدْ رأيتُني أقفُ في عيادتي والنّاسُ يصطفونَ طوابيرَ ..طوابيرَ..أعاينُهم الواحدَ تلو الآخرَ ؛ أعاينُ حناجرَهمْ بقطعةٍ خشبيَّةٍ رقيقة ٍكخشبة ِالبوظةِ ، وأعينَهمْ بقلب ِجفونِها ، وآذانَهمْ بالمنظارِ الضَّوئيِّ ذي العينِ الواحدةِ..ثم َّأتناولُ مِشرطاً فأقتطعُ بهِ ما شئتُ من المالِ الموجودِ في جُيوبِهمْ، ودُرْجُ الجرارِ في مكتبي مفتوحٌ عن آخرِهِ ، وألقي في بئرِه أوراقَ النقدِ..العشراتِ ..العشريناتِ ..والخمسيناتِ من الدنانيرِ وقليلاً من الخمساتِ ، حتى غُصَّ عنْ آخرِهِ ..وهكذا حتّى فرغتُ من آخرِ زبونٍ
..
وحلمتُ بالشميساني وعبدونَ -وهما منطفتان راقينانِ من عمّان- والقصرَ الذي يحلمُ به أبي..بوّابَتهُ الكهربائيةِ ؛ بوابةُ المشاةِ وبوابةُ السّياراتِ إلى كراجٍ فسيحٍ ..وما أن هممتُ بالدُّخولِ حتّى صمَّ أذني بوقُ سيارةِ النَّجدةِ..سمعتُ أثناءَه آخرَ كلمةٍ من أبي ..يقولُ :أرأيتَ..ثم يقولُ فجأةً : يا لطيفُ الطُفْ..ثمَّ قامَ إلى النافذةِ ونادى :ماذا هناكَ أبا أحمدٍ !
أبو أحمدٍ من الخارجِ: هناكَ لصوص ٌدخلوا بيتَ جارِنا أبي هاني، وسرقوا كلَّ شيءٍ عندما كان في زيارةٍ إلى بيتِ والدِهِ قي الزَّرْقاءَ .
واستفسرَ أبي : وماذا سرقوا؟!
أبو أحمد: ها هي الشرطةُ دخلتْ في الحينِ والتَّوِ..لكنّي سأستوضحُ الأمرَ!
عادَ أبي من النافذِة إلى مَقعدِهِ من المحلِّ ..وإلى مُقامِهِ من مقالِهِ السّابقِ في استكمالِ الحديثِ عن رغبتِهِ في دراستي للطِّبِ..قالَ :ثمَّ غداً أذهبُ معكَ ..في وجاهةٍ كبيرة رافع الرأ سِ لخطبةِ بنتِ الحلالِ والأصولِ..وسأنتقي لكَ زوجةً لن تحلمَ بها عمرَك كلَّهُ..ثم تحدثَ عن أبنائي في المستقبلِ وكيفَ سيتبعونَ خُطى أبيهم في دراسةِ ِالطِّبِ..
نادى أبو أحمدَ أبي منَ الحارةِ : يا أبا قاسِم .. يا أبا قاسِم ! .. وما هيَ إلا لحظاتٍ حتّى استلمَ أبي النّافذةَ قائلا : ما وراءَك أبا أحمد؟
أبو أحمد: سرقَ اللصوصُ ذهبَ أمَّ هاني !
والدي: وماذا فعلتْ الشُّرطة ُ؟ هل عرفوا الفاعلَ ؟!..
أبو أحمد : كــبِّـِرْ عقلكَ أبا قاسِم ..ليس الأمرُ يهذهِ البساطةِ...مازالتْ الشرطةُ ترفع البصماتِ! ..وتطرحُ الأسئلةَ
والدي : هل سألوكَ ..؟
أبو أحمد : خيرٌ إنْ شاءَ اللهُ..هو أنا موضع ُشبهةٍ بعدَ هذا العمرِ .. إلا إنَّ الحكومةَ في هذِه الحوادثِ لا توفِّرُ صغيراً ولا كبيراً!..ولو سألوني لقلتُ: نعمْ، رأيتُ سيارةَ شحنٍ كبيرةٍ وقفتْ في رابعةِ الضُّحى تنقلُ العفشَ..
والدي: شكرا لكَ أبا أحمد..أخبرني بكلِّ جديدٍ!
...ما أن نجحتُ في الثانويةِ، وحصلتُ على معدَّلٍ مُتواضعٍ ، حتى أوفدَني والدي لدراسةِ الطِّبِّ إلى أوروبا الشَّرقيةِ..أفنيتُ فيها سنواتٍ سبعاً..جاداً مُجداً حتى أُحقِّقَ رغبةَ والدي ..حيثُ إنَّهُ لم تنقطعْ رسائلَهُ الملآى بالنّصائحِ والوصايا..والتّي غالباً مايبدَؤُها بديباجةٍ مكرورةٍ "ولدَنا الغالي قاسم" . وبعدَ عظيمِ التَّحايا وجميلِ العرفانِ لتحقيقِ رغبتِهِ في السّفرِ وتحمُّلِ الصَّعابِ..وأنَّ الوالدةَ والأخوةَ والأخواتِ ينتظرونَ بفارغِ الصَّبرِ وصولَكَ إلى عمّان حاملاً بيمينكَ شهادةَ الفَخارِ .. فأنتَ أملُ الجميعِ ..فلا تشمتْ بنا الأقاربَ والجيرانْ!
عدتُ أخيراً إلى عمانَ، وتقدَّمتُ لامتحانِ الكفاءة ِالصَّعبِ – البورد الأردني ـ ونجحتُ بصعوبةٍ في الإمتحانِ ..وكانت فرحةٌ كبرى ..أُحيِيتْ فيها ثلاثُ ليالٍ ..طبلٌ وزَمْرٌ وغناءٌ..
عملتُ في مستشفى البشيرِ سنةَ الامتيازِ ..ثم فتحت ُعيادتي المتواضعةَ في الحيِّ الشعبي الذي نسكنُ فيهِ..لم يكنْ عددُ الزَّبائنِ ،غنيُّهُمْ و معدَمُهمْ ، يكفي من المردود ِالمالي لأنْ نواصلَ حلمَ سُكنى بيتٍ في غربِ عمّان ..
رأيتُني الآنَ أجلسُ على مَقعدِ مكتبِ العيادةِ ، لابساً الروبَ الأبيضَ ..والسّماعةَ تتدلى في عُنُقي .. فوضى في صالةِ الاستقبالِ ..يتنازعونَ الدّورَ في قائمةِ تسجيلِ الأسماءِ لدى السكرتيرةِ.. وأمامي الآنَ امرأةٌ ترافقُ طفلَها المريضَ الَّذي يناهزُ عشراً من السِّنينِ.. عاينتُه وكتبتُ وصفةَ العلاجِ للمستوصفِ ..كلماتٍ لاتينيةٍ شبهَ مقروءةٍ بخطٍ يخلو من كلِّ لمساتِ الجمالِ..نزعتُ الورقةَ ..ناولتُها إياها..وانتظرتُ لتدفعَ دونَ أن ألتفتَ إليها..ثم صعَّدتُ عينيَّ إليها..تمعنتُها فإذا هي تسألُ مشدوهةً
قالتْ : كم تأمرُ يا سيِّدي ؟!..
قلت: ثلاثةَ دنانير ٍياسيِّدتي.
أطرَقت ْ ..ومدّت يداً إلى جيبِها ..أخرجتْ كيسَ قماشٍ صغيراً .. فأخرجتْ ديناراً ملتفاً على نفسِهِ كالسِّيجارةِ..ثم لُفافةً أخرى ..ثم لفافةً..!
واستراحتْ اللفافاتُ الثلاثُ التي كانتْ تتدَثَّرُ في دفءِ الكيسِ على لوحِ الزجاجِ الباردِ السَّميك ِالذي يُبَلْوِرُ سطحَ المنضدةِ..كمثلثٍ متساوِ الأضلاعِ.
قمتُ من مَقعدي ، ثم توجهتُ في حيرة ٍإلى حيثُ الخزانةِ ذاتِ الواجهةِ الزُّجاجيةِ ، وحيثُ تصطف عُبواتُ الدَّواءِ .. وهي عبواتُ الدعاية ِلشركاتِ الدّواءِ ..
انتزعت ُثلاثَ عُبواتٍ..يكلفُ شراؤُها من المستوصفِ خمسةَ عشرَ ديناراً..
ناولتُها العبواتِ الثلاثِ ..ونزعتُ من يدِها وصفةَ الدّواءِ..
قلتُ : لا حاجةَ بكِ لتذهبي إلى المستوصف..هذا يكفي لعلاجِ الولدِ..
خذي هذه الدنانيرَ واشتري فاكهةً وغذاء للولدِ ..و اطعميهِ حتى ينجحَ الدواءُ!
شكرَتني ..وأخذتْ تدعو لي بصوتٍ خفيضٍ شبهِ مكتومٍ، ربما كي لا يسمعُها أحد.. ..صوتٌ غيَّبهُ فتحُ البابِ على فوضى اعتدتُ عليها من عجلةِ الزَّبائنِ والمُراجعينَ في صالةِ الانتظارِ..تَبِعَتْها نظراتي، حتى غيَّبها فتحُ بابِ العيادةِ وقدومُ زبائنَ آخرين...
ماتَ والدي بعد سنتينِ من فتحِ العيادةِ ، أتعبتهُ الأحلامُ حتى قبلَ الموتَ مختارا ً،.. لم يكن والدي شيطاناً ولا ملاكاً.. كان انسانا عاديا ، يشقى في الحياةِ كما يشقى عامةُ النّاسِ ، ويحلمُ كما يحلمونَ..الفقراء ُهل هم حقا أشقياء؟!..الأغنياءُ هل هم حقاً سعداء!! ُبين هذا وذاك..طمأنينةٌ تسعُ وجهَه النَّبيلَ، وابتسامةٌ تُحيي فمَهُ الجميلَ ، قصرٌ في غربِ عمّان، لسانُ حالِها:
القناعةُ مفتاحُ السَّعادةِ ..والسَّعادةُ مفتاح ُالحياةِ.
عمّان!
رُغمَ أنَّني لا أتقاضى إلا نصفَ الأُجرة ِالتي يتقاضاها الأطبّاءُ العامون في منطِقَتي ، ورُغمَ أنَّني لا أتقاضى أجراً ممن تبدو عليهم سيما الفقرِ، أو أولئكَ الذين يحملونَ بطاقاتِ الحالةِ الإجتماعيةِ، أو وصولَ الإعفاءِ من لجانِ الزكاةِ. إلا إنني في رضىً من الحياةِ وقناعةٍ بالعيشِ ممن حُرمَ منهُ كثيرٌ من الأطباءِ أمثالي في مثلِ وضعي .
كانَ أبي رحمهُ اللهُ يطمعُ في سكنى الشميساني أو عبدونَ، وكان يرسمُ لي طريقَ دراسةِ الطِّبِ منذُ نعومةِ أظفاري كأبهى ما يكونُ عليهِ الطَّريقُ ، فقد كان يحيطني بهالة ٍمن التشجيعِ، وكلُّ ما يملكُ قاموسُهُ الصَّغيرُ في قلبِهِ الكبيرِ من مفرداتٍ في رفعِ المعنوياتِ .
قالَ لي: أنظرْ إلى الأطباءِ كيفَ يحتطبونَ الأموالَ منَ النّاسِ احتطابا!
قلتُ : يا أبتِ.. إنَّهمْ يمسحونَ القيحَ والدِّماءَ عنِ القُروحِ والكسورِ والجروحِ..بل إنَّهم ينزعونَ عنها ألاوساخَ والقاذوراتِ بما لا يُحتملُ ولا يُطاقُ..أفلا يأنَفون!؟
قال :هذا كلامٌ فارغٌ..من وجهةِ نظر ضيِِّّقة ٍكلامُك صحيحٌ ..ولكن إذا نظرتَ إلى الأمرِ من الوجهةِ الأُخرى، رأيتَ المالَ الوفيرَ ، والمكانةَ المحترمةَ بين النّاسِ ، وسُكنى القصورِ في غربِ عمّان..أيُ الوجهتينِ بدتْ لكَ أكثرَ جلاءً للعيانِ..؟ ..هاتِ!قُلْ !
ما أكثرَ ما كانَ يتحدثُ في هذا الأمرِ كثيرا ..يتحدَّثُ فلا يملُّ ولا يَفرُغُ ،حتى تعبتْ عينايَ من متابعةِ حركةِ شفتيهِ ويديهِ ..وأُذنايَ حتّى صُمَّتا..وزاغت عينايَ..فارتحلتُ إلى كليةِ الطِّبِ ..و أنا في جولة ٍعلى المرضى ، أو أطوفُ بين الموتى أعانقُ الجثثَ ..وأشقُّ بالمبضعِ البطونَ...و إذا بي أتخرَّجُ طبيباُ..
وبعدُ فقدْ رأيتُني أقفُ في عيادتي والنّاسُ يصطفونَ طوابيرَ ..طوابيرَ..أعاينُهم الواحدَ تلو الآخرَ ؛ أعاينُ حناجرَهمْ بقطعةٍ خشبيَّةٍ رقيقة ٍكخشبة ِالبوظةِ ، وأعينَهمْ بقلب ِجفونِها ، وآذانَهمْ بالمنظارِ الضَّوئيِّ ذي العينِ الواحدةِ..ثم َّأتناولُ مِشرطاً فأقتطعُ بهِ ما شئتُ من المالِ الموجودِ في جُيوبِهمْ، ودُرْجُ الجرارِ في مكتبي مفتوحٌ عن آخرِهِ ، وألقي في بئرِه أوراقَ النقدِ..العشراتِ ..العشريناتِ ..والخمسيناتِ من الدنانيرِ وقليلاً من الخمساتِ ، حتى غُصَّ عنْ آخرِهِ ..وهكذا حتّى فرغتُ من آخرِ زبونٍ
..
وحلمتُ بالشميساني وعبدونَ -وهما منطفتان راقينانِ من عمّان- والقصرَ الذي يحلمُ به أبي..بوّابَتهُ الكهربائيةِ ؛ بوابةُ المشاةِ وبوابةُ السّياراتِ إلى كراجٍ فسيحٍ ..وما أن هممتُ بالدُّخولِ حتّى صمَّ أذني بوقُ سيارةِ النَّجدةِ..سمعتُ أثناءَه آخرَ كلمةٍ من أبي ..يقولُ :أرأيتَ..ثم يقولُ فجأةً : يا لطيفُ الطُفْ..ثمَّ قامَ إلى النافذةِ ونادى :ماذا هناكَ أبا أحمدٍ !
أبو أحمدٍ من الخارجِ: هناكَ لصوص ٌدخلوا بيتَ جارِنا أبي هاني، وسرقوا كلَّ شيءٍ عندما كان في زيارةٍ إلى بيتِ والدِهِ قي الزَّرْقاءَ .
واستفسرَ أبي : وماذا سرقوا؟!
أبو أحمد: ها هي الشرطةُ دخلتْ في الحينِ والتَّوِ..لكنّي سأستوضحُ الأمرَ!
عادَ أبي من النافذِة إلى مَقعدِهِ من المحلِّ ..وإلى مُقامِهِ من مقالِهِ السّابقِ في استكمالِ الحديثِ عن رغبتِهِ في دراستي للطِّبِ..قالَ :ثمَّ غداً أذهبُ معكَ ..في وجاهةٍ كبيرة رافع الرأ سِ لخطبةِ بنتِ الحلالِ والأصولِ..وسأنتقي لكَ زوجةً لن تحلمَ بها عمرَك كلَّهُ..ثم تحدثَ عن أبنائي في المستقبلِ وكيفَ سيتبعونَ خُطى أبيهم في دراسةِ ِالطِّبِ..
نادى أبو أحمدَ أبي منَ الحارةِ : يا أبا قاسِم .. يا أبا قاسِم ! .. وما هيَ إلا لحظاتٍ حتّى استلمَ أبي النّافذةَ قائلا : ما وراءَك أبا أحمد؟
أبو أحمد: سرقَ اللصوصُ ذهبَ أمَّ هاني !
والدي: وماذا فعلتْ الشُّرطة ُ؟ هل عرفوا الفاعلَ ؟!..
أبو أحمد : كــبِّـِرْ عقلكَ أبا قاسِم ..ليس الأمرُ يهذهِ البساطةِ...مازالتْ الشرطةُ ترفع البصماتِ! ..وتطرحُ الأسئلةَ
والدي : هل سألوكَ ..؟
أبو أحمد : خيرٌ إنْ شاءَ اللهُ..هو أنا موضع ُشبهةٍ بعدَ هذا العمرِ .. إلا إنَّ الحكومةَ في هذِه الحوادثِ لا توفِّرُ صغيراً ولا كبيراً!..ولو سألوني لقلتُ: نعمْ، رأيتُ سيارةَ شحنٍ كبيرةٍ وقفتْ في رابعةِ الضُّحى تنقلُ العفشَ..
والدي: شكرا لكَ أبا أحمد..أخبرني بكلِّ جديدٍ!
...ما أن نجحتُ في الثانويةِ، وحصلتُ على معدَّلٍ مُتواضعٍ ، حتى أوفدَني والدي لدراسةِ الطِّبِّ إلى أوروبا الشَّرقيةِ..أفنيتُ فيها سنواتٍ سبعاً..جاداً مُجداً حتى أُحقِّقَ رغبةَ والدي ..حيثُ إنَّهُ لم تنقطعْ رسائلَهُ الملآى بالنّصائحِ والوصايا..والتّي غالباً مايبدَؤُها بديباجةٍ مكرورةٍ "ولدَنا الغالي قاسم" . وبعدَ عظيمِ التَّحايا وجميلِ العرفانِ لتحقيقِ رغبتِهِ في السّفرِ وتحمُّلِ الصَّعابِ..وأنَّ الوالدةَ والأخوةَ والأخواتِ ينتظرونَ بفارغِ الصَّبرِ وصولَكَ إلى عمّان حاملاً بيمينكَ شهادةَ الفَخارِ .. فأنتَ أملُ الجميعِ ..فلا تشمتْ بنا الأقاربَ والجيرانْ!
عدتُ أخيراً إلى عمانَ، وتقدَّمتُ لامتحانِ الكفاءة ِالصَّعبِ – البورد الأردني ـ ونجحتُ بصعوبةٍ في الإمتحانِ ..وكانت فرحةٌ كبرى ..أُحيِيتْ فيها ثلاثُ ليالٍ ..طبلٌ وزَمْرٌ وغناءٌ..
عملتُ في مستشفى البشيرِ سنةَ الامتيازِ ..ثم فتحت ُعيادتي المتواضعةَ في الحيِّ الشعبي الذي نسكنُ فيهِ..لم يكنْ عددُ الزَّبائنِ ،غنيُّهُمْ و معدَمُهمْ ، يكفي من المردود ِالمالي لأنْ نواصلَ حلمَ سُكنى بيتٍ في غربِ عمّان ..
رأيتُني الآنَ أجلسُ على مَقعدِ مكتبِ العيادةِ ، لابساً الروبَ الأبيضَ ..والسّماعةَ تتدلى في عُنُقي .. فوضى في صالةِ الاستقبالِ ..يتنازعونَ الدّورَ في قائمةِ تسجيلِ الأسماءِ لدى السكرتيرةِ.. وأمامي الآنَ امرأةٌ ترافقُ طفلَها المريضَ الَّذي يناهزُ عشراً من السِّنينِ.. عاينتُه وكتبتُ وصفةَ العلاجِ للمستوصفِ ..كلماتٍ لاتينيةٍ شبهَ مقروءةٍ بخطٍ يخلو من كلِّ لمساتِ الجمالِ..نزعتُ الورقةَ ..ناولتُها إياها..وانتظرتُ لتدفعَ دونَ أن ألتفتَ إليها..ثم صعَّدتُ عينيَّ إليها..تمعنتُها فإذا هي تسألُ مشدوهةً
قالتْ : كم تأمرُ يا سيِّدي ؟!..
قلت: ثلاثةَ دنانير ٍياسيِّدتي.
أطرَقت ْ ..ومدّت يداً إلى جيبِها ..أخرجتْ كيسَ قماشٍ صغيراً .. فأخرجتْ ديناراً ملتفاً على نفسِهِ كالسِّيجارةِ..ثم لُفافةً أخرى ..ثم لفافةً..!
واستراحتْ اللفافاتُ الثلاثُ التي كانتْ تتدَثَّرُ في دفءِ الكيسِ على لوحِ الزجاجِ الباردِ السَّميك ِالذي يُبَلْوِرُ سطحَ المنضدةِ..كمثلثٍ متساوِ الأضلاعِ.
قمتُ من مَقعدي ، ثم توجهتُ في حيرة ٍإلى حيثُ الخزانةِ ذاتِ الواجهةِ الزُّجاجيةِ ، وحيثُ تصطف عُبواتُ الدَّواءِ .. وهي عبواتُ الدعاية ِلشركاتِ الدّواءِ ..
انتزعت ُثلاثَ عُبواتٍ..يكلفُ شراؤُها من المستوصفِ خمسةَ عشرَ ديناراً..
ناولتُها العبواتِ الثلاثِ ..ونزعتُ من يدِها وصفةَ الدّواءِ..
قلتُ : لا حاجةَ بكِ لتذهبي إلى المستوصف..هذا يكفي لعلاجِ الولدِ..
خذي هذه الدنانيرَ واشتري فاكهةً وغذاء للولدِ ..و اطعميهِ حتى ينجحَ الدواءُ!
شكرَتني ..وأخذتْ تدعو لي بصوتٍ خفيضٍ شبهِ مكتومٍ، ربما كي لا يسمعُها أحد.. ..صوتٌ غيَّبهُ فتحُ البابِ على فوضى اعتدتُ عليها من عجلةِ الزَّبائنِ والمُراجعينَ في صالةِ الانتظارِ..تَبِعَتْها نظراتي، حتى غيَّبها فتحُ بابِ العيادةِ وقدومُ زبائنَ آخرين...
ماتَ والدي بعد سنتينِ من فتحِ العيادةِ ، أتعبتهُ الأحلامُ حتى قبلَ الموتَ مختارا ً،.. لم يكن والدي شيطاناً ولا ملاكاً.. كان انسانا عاديا ، يشقى في الحياةِ كما يشقى عامةُ النّاسِ ، ويحلمُ كما يحلمونَ..الفقراء ُهل هم حقا أشقياء؟!..الأغنياءُ هل هم حقاً سعداء!! ُبين هذا وذاك..طمأنينةٌ تسعُ وجهَه النَّبيلَ، وابتسامةٌ تُحيي فمَهُ الجميلَ ، قصرٌ في غربِ عمّان، لسانُ حالِها:
القناعةُ مفتاحُ السَّعادةِ ..والسَّعادةُ مفتاح ُالحياةِ.