فوزي الشلبي
19-02-2014, 05:38 PM
لا تصلحُ الوردةُ بعدَ
شمِّها!
ما أعذبَ السِّنينَ الجامعيةَ ..وما أروحَها عن القلبِ والنَّفسِ..كانُ يقرأُ لي الشعرَ ..كما كنتُ أقرأُ له..فكانتْ يدُهُ،كلَّ مرَّةٍ عندما ألتقيهِ، تمتدُّ إلى أقربِ وردةِ بيضاءَ مجاورةٍ، فيقطفَها ويقدِّمَها لي، فأضمُّها عندَ الرّواحِ إلى صفحاتِ كتابيَ، تُطالِعُني سهراً إذا جنّ الليل!
ما أعذبَ أيامَ الجامعةِ أفلا تعودُ!
قال لي لماناقشتُهُ في الأمرِ : شابٌ مثلي لا يبني لكِ إلا قصوراً في الهواءِ،
الحسناءُ مثلُكِ ، هي محطُّ أنظارِ طالبي الزّواجِ ، منْ يملكونَ القصورَ والسياراتِ..قد أملكُ ثمنَ درّاجةٍ هوائيةٍ..والدرَّاجةُ الهوائيةُ كما تعلمينَ لا تحملَ إلا شخصاً واحداً وربمّا واحداً آخرَ في الخلفِ، فتنعدمُ السّرعة!
قلتُ: هل أنتظرُ ؟..إلى متى! قال: لا..لا تنتظري..! وكانتْ بيدِهِ وردةً بيضاءَ ..فقدَّمها إليَّ ..ثم انثنى وارتحل..
.عندَ الساعةِ الرابعةِ ذاتَ مساءٍ، جلستُ أنتظرُ قدومَهُ بفارغِ الصَّبرِ..هل تُحسمُ أمورُ المرءِ كيفما يشاءُ ويحسِبُ؟..فحسِبتُ أننّي عندما حصلتُ على ورقةِ الطلاقِ أصبحتُ حرة ًكطائرٍ انطلقَ من قفصهِ ..بعد أن فتحَ صاحبُ القفصِ بابَهُ لينطلقَ إلى فضاءٍ جديد..ورُبّما إلى قفصٍ آخرَ وصاحبٍ آخر..َ
رُغمَ أنَّ طقسَ تشرينَ أولَ في المساءِ باردٌ، أو أنّ الذي يبعثُ على البرودةِ هو هذا المقعدُ الحجريُّ الرخاميُّ الأبيضُ الذي أجلسُ الآن عليهِ. هذا المقعدُ الذي جلسنا عليهِ كثيراً سويعاتِ الأصيلِ الجميلَةِ. أحسُّ الآنَ بُرودةً في كفّي لم أكن أحسُّها من قبلُ، رُغمَ أنّ الشمسَ خارجَ الظلِّ حارقةٌ..والنارُ في داخلي لم يعدْ يتحمَّلُها صدريَ الضَّعيفُ ..يالَحالي، كم كنتُ قويةً عندما تركتهُ وذهبتُ!
الممرُّ الطَّويلُ الذي يصلُ كليةَ الآدابِ بكليةِ العلومِ..طريقٌ تحفُّ جانبَيهِ الأشجارُ، أو تكادُ تسقُفُهُ، إلاّ من بقايا شمسِ الأصيل التي تتسللُ من كُوّاتٍ ضيِّقةٍ تصنعُها الغصونُ..فبدا المكانُ موحشاً بعضَ الشيءِ وشبهَ معتمٍ ..
كان طفليَ الصَّغيرُ ذو الثلاثِ سنينَ، يلهو بالكرةِ في المساحةِ الترابيةِ مما يلي صفَّ الأشجارِ..يلهو على طريقتهِ، وكلٌّ يعبثُ على طريقته!
طفقتُ أرقبُ أقصى الأفقِ حيثُ يبدأُ الطّريقُ..فهل يأتي كعادتِهِ عندَ السَّاعةِ الخامسةِ؟ ..جسمُهُ النحيلُ، بنطالهُ الجينزُ الأزرقُ ..قميصُهُ الأبيضُ المرفوعُ الأكمامُ إلى ثلثِ ساعديهِ، وقد أرخى أدناهُ فوقَ الحزامِ ..
لم يكن وسيماً ولا دميماً، ولكنه كان محباً للأدبِ والشعرِ قارئاً لهُ وشاعراً؛ حتى إنَّهُ ليبدو وسيماً جداً حينما يتلو قصيدةً ..أو يقرأُ قصةً قصيرةً ..أو يعبرُ نافذةً من نوافذِ الأدبِ. في حدةِ بصرٍ وبصيرةٍ ثاقبةٍ ، وقوةِ عارضةٍ، فصاحةً وبياناً.. ما لاقى في نفسي رضىً ..وفي قلبي انتشاءً ..كم كنتُ قاسيةً عندما ودَّعتُهُ الوداعَ الأخيرَ..أحقا إنّي كنتُ مغفلةً مسحورةً بجماليَ الكبيرِ ..فغطّى على عينيَّ وقلبيَ ما غطّى؟ فغفلتُ عن عقلي وروحي..إذْ قلتُ له : ها همُ الخاطبونَ وقفوا ببابِ أبي يستأذنونَ طلبَ يدي ..وقد رفضتُ ثم رفضتُ ثم رفضتُ..فوقف أهلي كلًّهم بوجهيَ، وعمومتي وخؤولتي لما استفحلَ الأمرُ..!
وقلتُ له: افعلْ شيئاً.. فهالني صمتُه وابتسامتُهُ...فلمّا اجتمعتْ عليهِ بكثرةِ العللِ..قالَ: لكنَّ الأمرَ ليسَ بيدي منهُ شيءٌ..الأمرُ عائدٌ إليكِ ..فانظري ماذا تأمُرينَ!
وكانَ زواجاً بكل معنى الكلمةِ، وأيُّ زواجٍ!..زفافٌ مهيبٌ ..سيّاراتٌ فارهةٌ..ولما حانَ وقتُ ذهابِنا من قصرِ الأفراحِ إلى الفتدقِ، انطلقت بنا السيارةُ الفارهةُ حتى إذا انعطفتْ، لتستلمَ في سيرِها الشارعَ الطّويلَ، وبيناكنتُ وزوجيَ نقصفُ ضاحكينَ مرحينَ،لمحتهُ عبرَ النّافذةِ الزجاجيَّةِ، على رصيفِ الشارعِ وعلى وجههِ ابتسامةٌ، لم أعرفْ لها معنىً؛ أهي ابتسامة وداع؟! أهي ابتسامةٌ ساخرة؟!؟؟ إلاً إن ضحكيَ انخفضتْ حرارتُهُ بعدَ ذلكَ وغدا مُصطنعاً، فعرفتُ متى ابتدأتُ حياتي مع الضَّحكِ المصطَنعِ!
كنتُ عندَ المساءِ بعدَ زواجي ..أوفي ساعاتِ السَّحرِ ..لم أجدْ من أقرأُ لهُ فيستمعُ لي ..كمالم أجدْ من يقرأُ لي فأستمعُ له!ُ
وكانت نهايةً!
هلْ يأتي؟ هاهي نقطةٌ تتبدّى في الأفقِ من أقصى الممرِ، فلعلهُ يكونُ هوَ!
وإذا كانَ هوَ، فما مقاليَ الذي أعددتُهُ لهذا المقام؟!..ما سؤالي الذي سأسألُه؟ .. وما جوابيَ إن سألَ..؟
وحيثُ لايهم ما سيقول، ..بل المهمُ ما سأقولُ!..فكيفَ سأداري ضعفيَ وقلةَ حيلتي وهوانيَ على نفسيَ ..أمامَ عينيهِ السائلتينِ..وابتسامتِه الساخرةِ الهامسةِ التي ما زلتُ أذكرُها عبرَ النَّافذةِ الزُّجاجيَّةِ..
تكبرُ تلكَ النقطةُ القادمةُ من بعيدٍ..فأرمشتُ عينيَّ حتى تتبينَ لي أنَّ القادمَ من بعيدٍ هي روحٌ بشريةٌ ،تنجسمُ شيئاً فشيئاً..
فعلا قلبيَ في صدريَ ثمَّ هبطَ، لمّا تبينتُ القميصَ الأبيضَ وبنطلونَ الجينزَ، ودقت نبضاتُ قلبيَ في أُذُنيَ..فاستويتً جالسةً، أتهيأُ للموقفِ وأتهيَّبُ منهُ..
فاتضحتْ الرُّؤيا أكثرَ ..واقتربَ، واقتربَ ما تأكَّدَ لي أَنَّهُ باسمُ ..جسمًهُ، بنطالُهُ الجينزُ، قميصُهُ الأبيضُ..
قفزتُ من مقعدي ..صرختُ : باسمُ ..باسمْ! فالتفتَ مذعورا ..كأنّما أفاقَ من كابوس ..فانطلقتُ إليهِ..سرتً مسرعةً.. بينما وقفَ جامداً ..وابني خلفيَ ينادي مذعورا: " ماما..ماما!"
عاودتُه فاحتضنتُه، ورجعتُ إلى باسمَ الذي دارى جمودَه أن مالَ إلى وردةٍ اقتطفَها وكانتْ من شجيرةٍ قريبةٍ،
سِرنا بصمتٍ ..حتى هدأَ ما أظنُّه ثارَ في نفسيْنا توترا..وتركتُ ولدي إلى الساحةِ عينِها يتقاذفُ الكرةَ..ظننتهُ سيقدِّمُ الوردةَ ليَ.. بلْ قدْ تمنيتُ ذلكَ ..لكنه لم يفعل ..
سألته: أما تزوجتُ؟ ..قال: بلى ..ولكنْ من قلميَ و كتابيَ!
قلت: لِمَ لَمْ تتزوج إذنْ ؟! قال : كيف يتزوجُ منْ لا يملكُ؟!
قلت: لقد مرَّ على تخرِّجكَ أربعةَ أعوامٍ..فمّا ادّخرتَ إذن لأمرِ زواجِكَ ؟
قال : لو اتبعتُ نصيحةَ ذلك الحكيمُ لكنتُ تزوّجتُ الآن !
قلتُ: وماذا قالَ الحكيمُ؟!
قالَ: إذا أردتَ أن تحبَّ، فلا تحبَّ منْ هي في مثلِ سنِّكَ، بل منْ هي دونكَ أربعاً على الأقلْ!
لكنْ قولي لي أجئتِ هنا لتسألي مثلَ هذهِ الأسئلة؟!ِ
قلتُ : لقد حصلتُ قبلَ شهرٍ على ورقةِ الطَّلاقِ..كنتُ أظنُّ الزَّواجَ جنةً ..فإذا هو جحيمٌ!
لم يرد ..ظلّ جامداً ..كأن الخبرَ لا يعنيهِ ..سرنا صامتينِ..يرفعُ يمينُهُ الوردةَ إلى أنفهِ يستنشَقُها ..مرّتْ ذكرياتُ الجامعةِ أماميَ كشريطٍ سينمائيٍّ ..انتهى بنا المسارُ إلى آخرِ الطَّريقٍ..ظننتُه سيقدمُ الوردةَ..لكنَّهُ كانَ روحاً شاردةً!
وددتُ جداً لو قدَّمها إلي..
نظرَ غلى الطِّفلِ وابتسمَ ضاحكاً وقال: أتدرينَ ماذا قال الحكيمُ لرجلٍ مثلي إذْ سألْ: أمتزوجٌ أنتَ؛ قلتُ: لا.. قال: أنتَ ملكٌ على النّاسِ..ولصديقٍ أخرَ متزوِّجٍ وإذْ سالََ الحكيمَ: كيفَ ترانيَ وقد تزوّجتُ..قال الحكيمُ: مِثْلُكَ مِثْلُ النّاسِ..قال صديقيَ للحكيمِ: وماذا لو طلَّقتُ زوجيَ؟!..قال الحكيمُ: فأنتَ أسوأُ النّاس!..ولما أنهى باسمُ حديثهُ، غسلني عرقُ الخجلِ.. وأنا أتابعُ الوردةَ البيضاءَ في يمناهُ يرفعُها إلى أنفِهِ ..يستنشِقُها..حتّى استنزفَ منها آخرَ عبقٍ..
لكنّهُ عندَ بدايةِ الملتقى ..وقفَ ..ألقى الوردةَ على جانبِ الطريق..ثمّ قالَ : وداعاً ..ومضى
وحيثُما ابتعدَ، فيبتعدُ الأفقُ ..عدتُ إلى طفليَ فاحتملتًه والكرةَ ..وآذنتِ الشّمسُ إلى المغيبِ...!
شمِّها!
ما أعذبَ السِّنينَ الجامعيةَ ..وما أروحَها عن القلبِ والنَّفسِ..كانُ يقرأُ لي الشعرَ ..كما كنتُ أقرأُ له..فكانتْ يدُهُ،كلَّ مرَّةٍ عندما ألتقيهِ، تمتدُّ إلى أقربِ وردةِ بيضاءَ مجاورةٍ، فيقطفَها ويقدِّمَها لي، فأضمُّها عندَ الرّواحِ إلى صفحاتِ كتابيَ، تُطالِعُني سهراً إذا جنّ الليل!
ما أعذبَ أيامَ الجامعةِ أفلا تعودُ!
قال لي لماناقشتُهُ في الأمرِ : شابٌ مثلي لا يبني لكِ إلا قصوراً في الهواءِ،
الحسناءُ مثلُكِ ، هي محطُّ أنظارِ طالبي الزّواجِ ، منْ يملكونَ القصورَ والسياراتِ..قد أملكُ ثمنَ درّاجةٍ هوائيةٍ..والدرَّاجةُ الهوائيةُ كما تعلمينَ لا تحملَ إلا شخصاً واحداً وربمّا واحداً آخرَ في الخلفِ، فتنعدمُ السّرعة!
قلتُ: هل أنتظرُ ؟..إلى متى! قال: لا..لا تنتظري..! وكانتْ بيدِهِ وردةً بيضاءَ ..فقدَّمها إليَّ ..ثم انثنى وارتحل..
.عندَ الساعةِ الرابعةِ ذاتَ مساءٍ، جلستُ أنتظرُ قدومَهُ بفارغِ الصَّبرِ..هل تُحسمُ أمورُ المرءِ كيفما يشاءُ ويحسِبُ؟..فحسِبتُ أننّي عندما حصلتُ على ورقةِ الطلاقِ أصبحتُ حرة ًكطائرٍ انطلقَ من قفصهِ ..بعد أن فتحَ صاحبُ القفصِ بابَهُ لينطلقَ إلى فضاءٍ جديد..ورُبّما إلى قفصٍ آخرَ وصاحبٍ آخر..َ
رُغمَ أنَّ طقسَ تشرينَ أولَ في المساءِ باردٌ، أو أنّ الذي يبعثُ على البرودةِ هو هذا المقعدُ الحجريُّ الرخاميُّ الأبيضُ الذي أجلسُ الآن عليهِ. هذا المقعدُ الذي جلسنا عليهِ كثيراً سويعاتِ الأصيلِ الجميلَةِ. أحسُّ الآنَ بُرودةً في كفّي لم أكن أحسُّها من قبلُ، رُغمَ أنّ الشمسَ خارجَ الظلِّ حارقةٌ..والنارُ في داخلي لم يعدْ يتحمَّلُها صدريَ الضَّعيفُ ..يالَحالي، كم كنتُ قويةً عندما تركتهُ وذهبتُ!
الممرُّ الطَّويلُ الذي يصلُ كليةَ الآدابِ بكليةِ العلومِ..طريقٌ تحفُّ جانبَيهِ الأشجارُ، أو تكادُ تسقُفُهُ، إلاّ من بقايا شمسِ الأصيل التي تتسللُ من كُوّاتٍ ضيِّقةٍ تصنعُها الغصونُ..فبدا المكانُ موحشاً بعضَ الشيءِ وشبهَ معتمٍ ..
كان طفليَ الصَّغيرُ ذو الثلاثِ سنينَ، يلهو بالكرةِ في المساحةِ الترابيةِ مما يلي صفَّ الأشجارِ..يلهو على طريقتهِ، وكلٌّ يعبثُ على طريقته!
طفقتُ أرقبُ أقصى الأفقِ حيثُ يبدأُ الطّريقُ..فهل يأتي كعادتِهِ عندَ السَّاعةِ الخامسةِ؟ ..جسمُهُ النحيلُ، بنطالهُ الجينزُ الأزرقُ ..قميصُهُ الأبيضُ المرفوعُ الأكمامُ إلى ثلثِ ساعديهِ، وقد أرخى أدناهُ فوقَ الحزامِ ..
لم يكن وسيماً ولا دميماً، ولكنه كان محباً للأدبِ والشعرِ قارئاً لهُ وشاعراً؛ حتى إنَّهُ ليبدو وسيماً جداً حينما يتلو قصيدةً ..أو يقرأُ قصةً قصيرةً ..أو يعبرُ نافذةً من نوافذِ الأدبِ. في حدةِ بصرٍ وبصيرةٍ ثاقبةٍ ، وقوةِ عارضةٍ، فصاحةً وبياناً.. ما لاقى في نفسي رضىً ..وفي قلبي انتشاءً ..كم كنتُ قاسيةً عندما ودَّعتُهُ الوداعَ الأخيرَ..أحقا إنّي كنتُ مغفلةً مسحورةً بجماليَ الكبيرِ ..فغطّى على عينيَّ وقلبيَ ما غطّى؟ فغفلتُ عن عقلي وروحي..إذْ قلتُ له : ها همُ الخاطبونَ وقفوا ببابِ أبي يستأذنونَ طلبَ يدي ..وقد رفضتُ ثم رفضتُ ثم رفضتُ..فوقف أهلي كلًّهم بوجهيَ، وعمومتي وخؤولتي لما استفحلَ الأمرُ..!
وقلتُ له: افعلْ شيئاً.. فهالني صمتُه وابتسامتُهُ...فلمّا اجتمعتْ عليهِ بكثرةِ العللِ..قالَ: لكنَّ الأمرَ ليسَ بيدي منهُ شيءٌ..الأمرُ عائدٌ إليكِ ..فانظري ماذا تأمُرينَ!
وكانَ زواجاً بكل معنى الكلمةِ، وأيُّ زواجٍ!..زفافٌ مهيبٌ ..سيّاراتٌ فارهةٌ..ولما حانَ وقتُ ذهابِنا من قصرِ الأفراحِ إلى الفتدقِ، انطلقت بنا السيارةُ الفارهةُ حتى إذا انعطفتْ، لتستلمَ في سيرِها الشارعَ الطّويلَ، وبيناكنتُ وزوجيَ نقصفُ ضاحكينَ مرحينَ،لمحتهُ عبرَ النّافذةِ الزجاجيَّةِ، على رصيفِ الشارعِ وعلى وجههِ ابتسامةٌ، لم أعرفْ لها معنىً؛ أهي ابتسامة وداع؟! أهي ابتسامةٌ ساخرة؟!؟؟ إلاً إن ضحكيَ انخفضتْ حرارتُهُ بعدَ ذلكَ وغدا مُصطنعاً، فعرفتُ متى ابتدأتُ حياتي مع الضَّحكِ المصطَنعِ!
كنتُ عندَ المساءِ بعدَ زواجي ..أوفي ساعاتِ السَّحرِ ..لم أجدْ من أقرأُ لهُ فيستمعُ لي ..كمالم أجدْ من يقرأُ لي فأستمعُ له!ُ
وكانت نهايةً!
هلْ يأتي؟ هاهي نقطةٌ تتبدّى في الأفقِ من أقصى الممرِ، فلعلهُ يكونُ هوَ!
وإذا كانَ هوَ، فما مقاليَ الذي أعددتُهُ لهذا المقام؟!..ما سؤالي الذي سأسألُه؟ .. وما جوابيَ إن سألَ..؟
وحيثُ لايهم ما سيقول، ..بل المهمُ ما سأقولُ!..فكيفَ سأداري ضعفيَ وقلةَ حيلتي وهوانيَ على نفسيَ ..أمامَ عينيهِ السائلتينِ..وابتسامتِه الساخرةِ الهامسةِ التي ما زلتُ أذكرُها عبرَ النَّافذةِ الزُّجاجيَّةِ..
تكبرُ تلكَ النقطةُ القادمةُ من بعيدٍ..فأرمشتُ عينيَّ حتى تتبينَ لي أنَّ القادمَ من بعيدٍ هي روحٌ بشريةٌ ،تنجسمُ شيئاً فشيئاً..
فعلا قلبيَ في صدريَ ثمَّ هبطَ، لمّا تبينتُ القميصَ الأبيضَ وبنطلونَ الجينزَ، ودقت نبضاتُ قلبيَ في أُذُنيَ..فاستويتً جالسةً، أتهيأُ للموقفِ وأتهيَّبُ منهُ..
فاتضحتْ الرُّؤيا أكثرَ ..واقتربَ، واقتربَ ما تأكَّدَ لي أَنَّهُ باسمُ ..جسمًهُ، بنطالُهُ الجينزُ، قميصُهُ الأبيضُ..
قفزتُ من مقعدي ..صرختُ : باسمُ ..باسمْ! فالتفتَ مذعورا ..كأنّما أفاقَ من كابوس ..فانطلقتُ إليهِ..سرتً مسرعةً.. بينما وقفَ جامداً ..وابني خلفيَ ينادي مذعورا: " ماما..ماما!"
عاودتُه فاحتضنتُه، ورجعتُ إلى باسمَ الذي دارى جمودَه أن مالَ إلى وردةٍ اقتطفَها وكانتْ من شجيرةٍ قريبةٍ،
سِرنا بصمتٍ ..حتى هدأَ ما أظنُّه ثارَ في نفسيْنا توترا..وتركتُ ولدي إلى الساحةِ عينِها يتقاذفُ الكرةَ..ظننتهُ سيقدِّمُ الوردةَ ليَ.. بلْ قدْ تمنيتُ ذلكَ ..لكنه لم يفعل ..
سألته: أما تزوجتُ؟ ..قال: بلى ..ولكنْ من قلميَ و كتابيَ!
قلت: لِمَ لَمْ تتزوج إذنْ ؟! قال : كيف يتزوجُ منْ لا يملكُ؟!
قلت: لقد مرَّ على تخرِّجكَ أربعةَ أعوامٍ..فمّا ادّخرتَ إذن لأمرِ زواجِكَ ؟
قال : لو اتبعتُ نصيحةَ ذلك الحكيمُ لكنتُ تزوّجتُ الآن !
قلتُ: وماذا قالَ الحكيمُ؟!
قالَ: إذا أردتَ أن تحبَّ، فلا تحبَّ منْ هي في مثلِ سنِّكَ، بل منْ هي دونكَ أربعاً على الأقلْ!
لكنْ قولي لي أجئتِ هنا لتسألي مثلَ هذهِ الأسئلة؟!ِ
قلتُ : لقد حصلتُ قبلَ شهرٍ على ورقةِ الطَّلاقِ..كنتُ أظنُّ الزَّواجَ جنةً ..فإذا هو جحيمٌ!
لم يرد ..ظلّ جامداً ..كأن الخبرَ لا يعنيهِ ..سرنا صامتينِ..يرفعُ يمينُهُ الوردةَ إلى أنفهِ يستنشَقُها ..مرّتْ ذكرياتُ الجامعةِ أماميَ كشريطٍ سينمائيٍّ ..انتهى بنا المسارُ إلى آخرِ الطَّريقٍ..ظننتُه سيقدمُ الوردةَ..لكنَّهُ كانَ روحاً شاردةً!
وددتُ جداً لو قدَّمها إلي..
نظرَ غلى الطِّفلِ وابتسمَ ضاحكاً وقال: أتدرينَ ماذا قال الحكيمُ لرجلٍ مثلي إذْ سألْ: أمتزوجٌ أنتَ؛ قلتُ: لا.. قال: أنتَ ملكٌ على النّاسِ..ولصديقٍ أخرَ متزوِّجٍ وإذْ سالََ الحكيمَ: كيفَ ترانيَ وقد تزوّجتُ..قال الحكيمُ: مِثْلُكَ مِثْلُ النّاسِ..قال صديقيَ للحكيمِ: وماذا لو طلَّقتُ زوجيَ؟!..قال الحكيمُ: فأنتَ أسوأُ النّاس!..ولما أنهى باسمُ حديثهُ، غسلني عرقُ الخجلِ.. وأنا أتابعُ الوردةَ البيضاءَ في يمناهُ يرفعُها إلى أنفِهِ ..يستنشِقُها..حتّى استنزفَ منها آخرَ عبقٍ..
لكنّهُ عندَ بدايةِ الملتقى ..وقفَ ..ألقى الوردةَ على جانبِ الطريق..ثمّ قالَ : وداعاً ..ومضى
وحيثُما ابتعدَ، فيبتعدُ الأفقُ ..عدتُ إلى طفليَ فاحتملتًه والكرةَ ..وآذنتِ الشّمسُ إلى المغيبِ...!