المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جدتي



فاكية صباحي
05-12-2013, 01:30 AM
جـــــدتي

عندما كنتُ صغيرةً كانتْ جدتي تناديني من حين لآخر وتقول لي ما اسمك ..؟!
كنت أضحكُ حينها ببلاهةِ الأطفالِ .. !!
ثم أُذكّـرُها باسمي ..ليأتي اليومُ التالي وتفاجئنُي مجددا وهي تبلل وجهي الشاردِ بزخاتِ ذاتِ السؤال ..!
فأتساءلُ بدورِي في قرارةِ نفسي :..كيف لجدّتي أن تنسىَ اسمي بهذه السُّرعَة ..؟!!!

وفي إحدى المراتِ جاءتْ من الخارج رأسا إلى أمي مبادرة إياها بسؤالها الغريب :..بُنيتي الحبيبة رحم اللهُ والديكِ ..ما اسمكِ..؟!
لم يكن أمامنا حينها سوى أن ننفجرَ ضاحكينَ ببلاهةِ الأطفال ..ليضيف أخي الذي كان أشقانا قائلا :..
يالها من عجوزٍ ..!! تعرف أنّها ابنتُها ..لكنها تجهلُ اسْمها ..!

واندلقتْ كأسُ الأيام ببئر السنين..وانهمرتْ أمطار الغياب مترقرقةً لتهيم َعلى حدّها مراكبُ الأنْسِ ..والوصَال ..مركبا فآخر ..
توفيتْ جدتي .. وتوفيتْ أمي رحمهُما الله ..وامتلأت قلوبُنا بالهُموم..لأجدَني أقعُ في نفسِ المطبّات...
حيث صرتُ أنادي كل أبنائي حتى أصلَ الإسم الذي أريدُه ..
وذات حنينٍ لماض تولىَّ ..وانبرى - وبقي بعض شميمه يُبللُ صباحاتي كقطراتِ ماءٍ ثرّة-
كنتُ في زيارةٍ لبيت أخي الشّقي ذلك ..وفي خِضمِّ مُناوشاتِ الأطفالِ ، ومؤامراتِهمْ البريئة ..
وجدتُـني أنادي إحْدى بناتي وأقول لها ما اسْمك .؟؟
كانتْ تضحكُ كما كنتُ أفعلُ أنا من ذي قبل ..ثم أُعيدُ ..ما اسمُك ..؟؟
إلى أنْ تملَّكني شوطٌ لابأسَ به منَ الغَضب ..
ما صحوتُ منه إلا على صوتِ أخي وهْو يقول :..ألم ْتجدي شيئا ترثينَه سوى جنونِ جدتِك ..؟

وكم صرتُ أشعرُ بعدها بالانتماءِ لذلك الجنون الأشمّ ..
لأن عظائم َالأمورِ تُولد من لحظةِ جنونٍ بحتة ..فجدتي لم يُصادف يوما أن نسيتْ بيتَها ..أو صلاتها ..
وفي خِضم سؤالها الغريبِ لأمي ..لم تنسَ بأنها ابنتُها.. !! يعني أنها لم تكن لتغفلَ عن اللبِ ..بقدر غفلتِها عن القشور..

فالعابر بالنسبة إليها لا يمكن أن يوَقـّع بذاكرتِها كما قد وقّع مكانُ العبور..لتشعرَ بالانتماء للقائم بذاته دائما..
وليسَ للشيء الذي يحتاجُ لذاتٍ أخرى حتى يُظهر طولَ قامتهِ على حـَـدّ تعرُّجاتها..
فكم هي غريبةٌ موازينُ الحياة .. !!نتّهمُ الآخرين بالجُنون.. ونحن نلبسُه ولا ندري..
لننسى دائما بأن بئس الجراح تلكَ التي لا يعرفُ أصحابُها مدى عُمقها إلى أن تبتلعَهم عنوةً..

ونعم الجنون ذاك الذي قد يصلبـُنا على مِحرابِ الحقيقة ..
ليحسدَنا العقلاءُ على تنكّبه ..ونحن نستأنسُ به زفرة َبوح ٍكم افتقدوها وهُم على مشارفِ جنونٍ حقيقي..
تفصلـُنا عنه لحظةُ صدقٍ هاربةٍ من دفاترِ كذبهم..

فبعضُ الحقائق كثيرا ما تكون موجعةً حدّ الموت في زمنٍ طغتْ عليه الكذبةُ الساخنةُ..
تماما كالوجبةِ السريعةِ التي يحاولُ المرء أن يُسكن بها جوعَه المؤجل ..
ولا يشعرُ بعدَها بالشبع - أبدا - قدرَ شعوره بجوعٍ آخرَ أشدُّ ضراوةً ..ما كانتْ تلك الوجبة ُإلا طـُـعمًا له..

فما أرفعَ الخيوط الفاصلة بين برد ِحقيقتِنا ..ودفءِ كذباتِنا السّاخنة التي نُهدهد بها جراحًا لا يمكن لها أن تطيب..

تعوجُ بي الذكرى دائما إلى جدّتي التي لم تكن فيلسوفةً ..
ولا حتى متعلمةً ..وبالكادِ كانت تحفظ ُبعضَ السور القرآنية البسيطة لتؤدي بها صلاتَها ..
لكنها كانت خرزات عقلٍ مركبة بخيط رفيع من خيوطِ الجنونِ المحلقة كالحمائم البيضاءِ بالأفقِ الرحيب

ربيحة الرفاعي
07-03-2014, 01:33 AM
استردها للواجهة بعد أن ابتعلتها بصفريتها شهور ثلاث
ليحظى هذا الهطول بحقه من التلقي


دمت بخير أيتها الكريمة


تحاياي

رياض شلال المحمدي
07-03-2014, 08:47 AM
**(( ... ودائمًا ما تبعدنا الذكريات عن شطآن الوجد والشجن ، وتأخذنا إلى عالمها النقيّ البهيّ ، ولو للحظات ! ، شكرًا على تلكم الرحلة الشيّقة مع عبق الحرف المائز ، طبتِ وطاب مقامك واللقاء ))**

أحمد الأستاذ
07-03-2014, 02:43 PM
رحلة شيقة بصحبة حرفك البديع
رحم الله جدتك أمك أخيتي فاكية
كم نتمني أن نمتلك حكمتهم
سعدت بمصافحة هذا الألق
دمت بخير وعافية

خلود محمد جمعة
10-03-2014, 09:54 AM
كنت ارى جدتي في امي
واليوم ارى امي تسكن فيَ
وابنتي التي لا يعجبها الكثير مما افعل ستتكرر مثلي
لا يسعنا الا ان نكون سلسة متشابهة
لذا اعشق جدتي
راقتني الفكرة والحرف والمعنى
دمت بخير
مودتي وتقديري

كاملة بدارنه
11-03-2014, 02:45 PM
لغة رائعة وعرض للفكرة بأسلوب جميل
رحم الله جدّاتنا نبع الحكمة وإن لم يُجدن كتابة الحرف
بوركت
تقديري وتحيّتي

نداء غريب صبري
27-05-2014, 12:26 AM
هو ما قلت أختي
نتذكر ما كنا نرى في الكبار عندما نصبح كبارا نعيد ما كان فيهم
ونرى أنفسنا في صغارنا يعدون ما كان فينا

نص جميل
أمتعتني قرءته

شكرا لك

بوركت

بابيه أمال
27-05-2014, 02:46 PM
لأن عظائم َالأمورِ تُولد من لحظةِ جنونٍ بحتة ..فجدتي لم يُصادف يوما أن نسيتْ بيتَها ..أو صلاتها ..
وفي خِضم سؤالها الغريبِ لأمي ..لم تنسَ بأنها ابنتُها.. !! يعني أنها لم تكن لتغفلَ عن اللبِ ..بقدر غفلتِها عن القشور..
-------------------

استوقفتني كثيرا هذه العبارات..

لأسأل الله أن يجعل لب الوجود.. وجودنا.. منحصرا فيما خلقنا لإجله إلى أن يعتق الله أرواحنا من دنياه الفانية ومن ناره الحامية..

الأخت صباحي
الله أسأل الرحمة لجدتك ولوالدتك ولكل موتى المسلمين..

شكرا لخاطرة كبيرة الرسالة.. عميقة الأثر..

لانا عبد الستار
07-08-2014, 05:16 PM
هي دورة الحياة ولا يعرف حقائق الأمور إلا من يجربها ولكن يظل الإنسان هو الإنسان.
مقالة إنسانية مؤثرة أختي.

أشكرك

آمال المصري
11-08-2014, 04:07 PM
جدتي - أمي - أنا - ثم ابنتي تسلسل ودورة من الطبيعة يترتب عليها ما يتركه السلف
رجعت بنصك لذكريات لاتنمحي وعهد النقاء والقلوب النابضة حقا
رحم الله جداتنا
ودام ألقك وحرفك النقي
تحاياي

د.حسين جاسم
14-08-2014, 02:41 AM
هو قانون التسلسل يحكم كل ما يتواصل ويمتد

لغتك جميلة ونثيرتك أيضا، لكني لا أتحمس لكثرة نقاط المسكوت عنه في النثر الأدبي والقصة، فهي توحي بالتهرب من استعمال أدوات الربط

تقدمة قبل تسجيل إعجابي

ناديه محمد الجابي
14-08-2014, 12:48 PM
ونعم الجنون ذاك الذي قد يصلبـُنا على مِحرابِ الحقيقة ..
ليحسدَنا العقلاءُ على تنكّبه ..ونحن نستأنسُ به زفرة َبوح ٍكم افتقدوها وهُم على مشارفِ جنونٍ حقيقي..
تفصلـُنا عنه لحظةُ صدقٍ هاربةٍ من دفاترِ كذبهم..

نص أدبي راق من أديبة متمكنة من قلم اٌبداع جميلة الحرف
رحم الله جدتك وجداتنا ـ راقتني الفكرة والمعنى
دام بهاء قلمك وفكرك.

فاكية صباحي
16-08-2014, 09:04 AM
استردها للواجهة بعد أن ابتعلتها بصفريتها شهور ثلاث
ليحظى هذا الهطول بحقه من التلقي


دمت بخير أيتها الكريمة


تحاياي


أشكر لك فيض مرورك أديبتنا الفاضلة ربيحة الرفاعي

طيب الله أيامك ورزقك الأمن والأمان
ولك مني خالص التقدير

فاكية صباحي
16-08-2014, 09:07 AM
**(( ... ودائمًا ما تبعدنا الذكريات عن شطآن الوجد والشجن ، وتأخذنا إلى عالمها النقيّ البهيّ ، ولو للحظات ! ، شكرًا على تلكم الرحلة الشيّقة مع عبق الحرف المائز ، طبتِ وطاب مقامك واللقاء ))**


وطاب مرورك أخي الكريم رياض شلال المحمدي

أشكر لك طيب ما بعثرته نقيا .. فكم تعبث بنا الذكريات ونحن نقلب صفحاتها حنينا وأنينا

طيب الله أيامك ورزقك الأنس والرضا

ولك مني خالص التقدير