فوزي الشلبي
05-03-2014, 05:46 PM
ناجي!
ناجي طالبٌ في الصَّفِ الأولِ الإبتدائيِّ..كانَ يجلسُ معَ طالبٍ آخرَ، ويُدعى عبدُالغنيِّ على المَقْعدِ الأخيرِ في الصَّفِ..وبقدرِ ما كان ناجي مبتعداً عن شغبِ الطُّفولة وعبثِها..كان عبدُ الرَّحمنِ بجسِمهِ القويِّ الممتلىءِ يملأُ ساحةَ المدرسةِ عَدْواً ولَعِباً..رُبَّما لأنَّ جسمَ ناجيَ النَّحيلِ كانَ لا يُساعدُ على ذلكَ كثيراً، فينتحي مَقعداً جانبيّاً يجلسُ عليهِ أثناءَ الفُسْحةِ بين الحِصصِ أو قبلَ بدءِ الدَّوامِِِ..
إلا أنَّ عبدَالغنيِّ بِرُغمِ ما بصاحِبِهِ من ضعفٍ، فقد قبلَ به رفيقاً وصديقاً حتى لو لم يُشارِكُهُ لُعبَهُ وعبثَهُ..والويلُ والثُّبورُ بعدَ ذلكَ لمن يقتربَ من ناجيَ، فيعتديَ على جوارِهِ..وقدْ كانَ كفّا عبدِ الغنيِّ خميلينِ على عصا الأستاذِ..حتىّ إِنَّهُ لايعبأُ أَجلدَهُ الأستاذُ بالعصا مرةً أو عشرينَ مرةً..وكأنَّهما قدْ قُدّتا من جلدِ تمساحٍ..
ودارَ حديثٌ بين الطُّلابِ ..أنَّ عبدَالغنيِّ كانَ يذهبُ هو وبعضُ رفاقهِ المُشاكسينَ من الطُّلابِ إلى شجرةِ الصُّنوبرِ القريبةِ من سورِ المدرسةِ بينَ الحينِ والآخرَ ..وهي شجرةٌ طويلةٌ عريضةُ السّاقِ ذاتُ لحاءٍ بُنيّ ٍ ضاربٍ إلى السَّوادِ يتخلَّلُها عددٌ من الثُّغورِ الكبيرةِ..يتجمعُ فيها بعضُ سائلٍ أحمرٍ لزجٍ..قالَ الطُّلابُ أنَّ هذا هوُ دم ُالحِراذينَ..والحِرذَوْنُ حيوانٌ زاحفٌ يشبهُ العظاءةَ (السَّحليةَ) رُ بَّما أكبرُ قليلاً..فإذا غمسَ أحدُهم يديْهِ فيهِ مُدَّهنا..ثمَّ غسلَهما بالماءِ..فإن عصا الأستاذِ مهما كانتْ غليظةً فإنَّها تنزلُ على الكفِّ برداً وسلاماً على المُدَّهنِ بدمِ الحِرذَوْنِ..
لم تَكنْ لي بناجيَ أيةُ علاقةٍ..وكمْ ودِدتُ لو كانتْ هناكَ علاقةٌ أو حتّى حديثٌ.. إلا إنّني أتذكَّرُهُ الآنَ بعدَ مرورِ كلِّ تلكَ السِّنينَ..أَنَّهُ لم يكنْ يقتربُ من أحدٍ..سألتُ نفسيَ مرَّةً: لماذا لمْ أقتربْ أنا منهُ؟!..وإذا لم يكنْ هو يرغبُ في الحديثِ فلماذا لم أحدِّثْهُ أنا؟!.. كلُّ ذلكَ لأنَّ ناجيَ ظلَّ لغزاً حائراً في حياتيَ..لم تكنْ هناكَ فرصةٌ لأنْ أسبرَ غورَ نفسِهِ..وإذْ ماتَ ناجي قبلَ أن ينتهيَ العامُ الدِّراسيِّ..فاجتمعتْ البلدةُ عن آخرِها لاستقبالِ الجُثمانِ القادمِ من المستشفى بسيارةِ الإسعافِ ..لم أكنْ كطفلٍ أُدْرِكُ معنى الموتِ.. كيف أعلِّلُ الموتَ؟!..كيف ماتَ ناجي..؟! وسرى حديثٌ أنَّ المستشفى لن يُسَلِّمَ الجثمانَ حتى يُشرِّحَهُ..ماذا؟!.. أيُشرِّحونَهُ؟!..أما كفاهُم موتُهُ؟!..وقد سمعتُ أمَّهُ الثَّكلى الناحبةُ تصرخُ في المستشفى: أرجوكمْ...أستحلِفُكُم باللهِ إلاّ تركتُموه..لا تُشرِّحوهُ...ثمّ سارتْ به جنازةٌ مهيبةٌ..لم يتخلَّفْ عنها من أهلِ البلدةِ أحدٌ..وقبلَ أن يُلحدوهُ جثمَ عبدُالغنيِّ فوقَ صديقهِ ينتحبُ في نشيجٍ غيرِ منقطعٍ، فلما رفعوهُ عنهُ قال: "إذا ما متُّ فادفنوني بجواره". دُفنَ ناجي في قبرٍ بُني عليهِ طوقٌ من حجرٍ تبرعتْ المدرسةُ ببنائِهِ.. وَكُتبَ على لوحٍ من حجرٍ ..."هنا يرقدُ بسلامٍ الطِّفلُ ناجي..الذي لم يتجاوزْعمرُهُ الستَّ منَ السِّنينَ.."
كان وقعُ الصَّدمةِ على عبدِالغنيِّ لا يوصفُ..لم يتحدثْ معيَ قطُّ..بل لم يُذكرْ أنَّهُ تحدثَ معَ أحدٍ..لم أكنْ أجرؤُ أن أواصلَ النَّظرَ في عينيْهِ قبلَ موتِ صاحبهِ..أمّا الآنَ فالكلُّ يستطيعُ ذلكَ..ولطالما تساءلتُ كيفَ تحوَّلَ ذلكَ النِّمرُ هرّاً؟!..وربمّا وجدتُ عبدَالغنيَّ هناكَ عندَ القبرِ ..إذْ راودتني نفسيَ قبلُ أن أذهبَ إلى القبرِ فأتحدثُ إلى صاحبهِ دونَ وجودِ أحدٍ..فإذا فاجأتُهُ هناكَ ..ألقيتُ التحيةَ ..فيردَّ بقدرٍ ولا يزيدُ..أنظرُ في وجهِهِ لأبصرَ عينيْهِ..فلا أرى إلاّ جفنينِ مُسبلينِ في وجهٍ طوقتهُ لحيةٌ كثّةٌ..ثمَّ ينْسلُّ خارجاً..وكم كنتُ أودُّ أنْ أتجاذبَ معهُ الحديثَ..
تركَ المدرسةَ وعملَ فتىً في كراجٍ..أتقن مهنَتَهُ، فأحبَّ زبائنُ الكراجِ أن يقومَ عبدُالغنيِّ على تصليحِ سياراتِهم..ليسَ لأنهُ كان يرفضُ الإكراميةَ إذا دفعَها أحدُهم إليهِ..بل لأنَّ الزُّبونَ إذا أوكلَ لعبدِالغنيِّ العملَ دونَ آخرينَ من القائمينَ على الكراجِ ..فإنَّهُ لن يعودَ ثانيةً لإكمالِ نقصٍ في العملِ . وكان يرتادُ المسجدَ كل ّ صلاةٍ..فكان يؤدِّيها على وقتِها، ولعلَّ ذلكَ مما كان يُرَّوحُ عنهُ، ثمَّ ينقلبُ إلى عملِهِ بعد فراغِهِ من صلاتَيِ الظُّهرِ والعصرِ، وإذا صلى المغربَ والعشاءَ قربَ البيتِ، تجاوزَ المنتظرينَ من صُحبةِ المسجدِ وانفتلَ إلى بيتِهِ مُسرعاً..
ومرَّتْ ذاتَ يومٍ بالقربِ من الكراجِ الذي يعملُ فيهِ مظاهرةٌ تُندِّدُ بإحراقِ المسجدِ الأقصى عامَ ثمانيةٍ وستينَ وتسعمائةٍ وألفٍ..فاعتقلَ الجنودُ الإسرائيليونَ ما استطاعوا من المتظاهرينَ..وأمسكَ أحدُ الجنودِ إحدى الطّالباتِ من جديلتِها وطوّحَ بها وجرجرَها على الشّارعِ ..فانكشفَ عنها الثَّوبُ..وسحبَها ليحتميَ بها، ظهرُهُ إلى الكراجِ، من الحجارةِ التَّي انهالتْ عليه كالمطرِ..حتى إذا اقتربَ من عبدِالغنيِّ المنحني والعاكفِ على محرِّكِ السَّيارةِ قرباً كافياً، واستغاثت بالمعتصمِ، وصرختْ بالجنديِّ " اتركني يا كلب"، وكان الجنديُّ كالمستجيرِ من الرَّمضاءِ بالنّارِ ..انفتلَ عبدُالغنيِّ بسرعةٍ وانقضَّ بمفتاحِ الشَّقِ الثَّقيلِ الذي يُعالجُ بهِ محرِّكَ السَّيارةِ على رأسِ الجنديِّ المتشبِّثِ بالفتاةِ فأرداهُ من فورهِ بضربةٍ واحدةٍ..وإذْ تذكَّرتُ كيفَ كانَ ينقضُّ على طلابِ المدرسةِ ..فيطرحُهم واحداً واحداً، وهذا النِّمرُ الّذي أعرفُ، فانهمرَ على صدرِهِ الرَّصاصُ منَ الجنودِ الرابضينَ في مدرَّعةٍ على مَبعدةٍ ..ووضعَ عبدُ الغنيِّ راحَتَيْهِ الثَّخينَتينِ، وإذْ بهِ بعضُ حياةْ، على الدَّمِ النّازفِ فامتلأتا منهُ، ولم يكنْ يهمُّهُ بعدَ ذلكَ رصاصةٌ أو ألفُ رصاصةٍ..واستلقى على ظهرِهِ مُمَدِّداً يديْهِ باسطاً كفَّيْهِ على الأرضِ ..و رأيتُ البسمةَ على عبدِالغنيِّ التي لم أرَها منذُ زمنٍ بعيدٍ، وأرسلَ ناظريْهِ إلى عنانِ السَّماءِ. صعَّدتُ عينيَّ في الغيومِ الَّتي تجمّعتْ في السّماءِ، فرأيتُ صورةَ ناجيَ لآخرَ مرةٍ!
ناجي طالبٌ في الصَّفِ الأولِ الإبتدائيِّ..كانَ يجلسُ معَ طالبٍ آخرَ، ويُدعى عبدُالغنيِّ على المَقْعدِ الأخيرِ في الصَّفِ..وبقدرِ ما كان ناجي مبتعداً عن شغبِ الطُّفولة وعبثِها..كان عبدُ الرَّحمنِ بجسِمهِ القويِّ الممتلىءِ يملأُ ساحةَ المدرسةِ عَدْواً ولَعِباً..رُبَّما لأنَّ جسمَ ناجيَ النَّحيلِ كانَ لا يُساعدُ على ذلكَ كثيراً، فينتحي مَقعداً جانبيّاً يجلسُ عليهِ أثناءَ الفُسْحةِ بين الحِصصِ أو قبلَ بدءِ الدَّوامِِِ..
إلا أنَّ عبدَالغنيِّ بِرُغمِ ما بصاحِبِهِ من ضعفٍ، فقد قبلَ به رفيقاً وصديقاً حتى لو لم يُشارِكُهُ لُعبَهُ وعبثَهُ..والويلُ والثُّبورُ بعدَ ذلكَ لمن يقتربَ من ناجيَ، فيعتديَ على جوارِهِ..وقدْ كانَ كفّا عبدِ الغنيِّ خميلينِ على عصا الأستاذِ..حتىّ إِنَّهُ لايعبأُ أَجلدَهُ الأستاذُ بالعصا مرةً أو عشرينَ مرةً..وكأنَّهما قدْ قُدّتا من جلدِ تمساحٍ..
ودارَ حديثٌ بين الطُّلابِ ..أنَّ عبدَالغنيِّ كانَ يذهبُ هو وبعضُ رفاقهِ المُشاكسينَ من الطُّلابِ إلى شجرةِ الصُّنوبرِ القريبةِ من سورِ المدرسةِ بينَ الحينِ والآخرَ ..وهي شجرةٌ طويلةٌ عريضةُ السّاقِ ذاتُ لحاءٍ بُنيّ ٍ ضاربٍ إلى السَّوادِ يتخلَّلُها عددٌ من الثُّغورِ الكبيرةِ..يتجمعُ فيها بعضُ سائلٍ أحمرٍ لزجٍ..قالَ الطُّلابُ أنَّ هذا هوُ دم ُالحِراذينَ..والحِرذَوْنُ حيوانٌ زاحفٌ يشبهُ العظاءةَ (السَّحليةَ) رُ بَّما أكبرُ قليلاً..فإذا غمسَ أحدُهم يديْهِ فيهِ مُدَّهنا..ثمَّ غسلَهما بالماءِ..فإن عصا الأستاذِ مهما كانتْ غليظةً فإنَّها تنزلُ على الكفِّ برداً وسلاماً على المُدَّهنِ بدمِ الحِرذَوْنِ..
لم تَكنْ لي بناجيَ أيةُ علاقةٍ..وكمْ ودِدتُ لو كانتْ هناكَ علاقةٌ أو حتّى حديثٌ.. إلا إنّني أتذكَّرُهُ الآنَ بعدَ مرورِ كلِّ تلكَ السِّنينَ..أَنَّهُ لم يكنْ يقتربُ من أحدٍ..سألتُ نفسيَ مرَّةً: لماذا لمْ أقتربْ أنا منهُ؟!..وإذا لم يكنْ هو يرغبُ في الحديثِ فلماذا لم أحدِّثْهُ أنا؟!.. كلُّ ذلكَ لأنَّ ناجيَ ظلَّ لغزاً حائراً في حياتيَ..لم تكنْ هناكَ فرصةٌ لأنْ أسبرَ غورَ نفسِهِ..وإذْ ماتَ ناجي قبلَ أن ينتهيَ العامُ الدِّراسيِّ..فاجتمعتْ البلدةُ عن آخرِها لاستقبالِ الجُثمانِ القادمِ من المستشفى بسيارةِ الإسعافِ ..لم أكنْ كطفلٍ أُدْرِكُ معنى الموتِ.. كيف أعلِّلُ الموتَ؟!..كيف ماتَ ناجي..؟! وسرى حديثٌ أنَّ المستشفى لن يُسَلِّمَ الجثمانَ حتى يُشرِّحَهُ..ماذا؟!.. أيُشرِّحونَهُ؟!..أما كفاهُم موتُهُ؟!..وقد سمعتُ أمَّهُ الثَّكلى الناحبةُ تصرخُ في المستشفى: أرجوكمْ...أستحلِفُكُم باللهِ إلاّ تركتُموه..لا تُشرِّحوهُ...ثمّ سارتْ به جنازةٌ مهيبةٌ..لم يتخلَّفْ عنها من أهلِ البلدةِ أحدٌ..وقبلَ أن يُلحدوهُ جثمَ عبدُالغنيِّ فوقَ صديقهِ ينتحبُ في نشيجٍ غيرِ منقطعٍ، فلما رفعوهُ عنهُ قال: "إذا ما متُّ فادفنوني بجواره". دُفنَ ناجي في قبرٍ بُني عليهِ طوقٌ من حجرٍ تبرعتْ المدرسةُ ببنائِهِ.. وَكُتبَ على لوحٍ من حجرٍ ..."هنا يرقدُ بسلامٍ الطِّفلُ ناجي..الذي لم يتجاوزْعمرُهُ الستَّ منَ السِّنينَ.."
كان وقعُ الصَّدمةِ على عبدِالغنيِّ لا يوصفُ..لم يتحدثْ معيَ قطُّ..بل لم يُذكرْ أنَّهُ تحدثَ معَ أحدٍ..لم أكنْ أجرؤُ أن أواصلَ النَّظرَ في عينيْهِ قبلَ موتِ صاحبهِ..أمّا الآنَ فالكلُّ يستطيعُ ذلكَ..ولطالما تساءلتُ كيفَ تحوَّلَ ذلكَ النِّمرُ هرّاً؟!..وربمّا وجدتُ عبدَالغنيَّ هناكَ عندَ القبرِ ..إذْ راودتني نفسيَ قبلُ أن أذهبَ إلى القبرِ فأتحدثُ إلى صاحبهِ دونَ وجودِ أحدٍ..فإذا فاجأتُهُ هناكَ ..ألقيتُ التحيةَ ..فيردَّ بقدرٍ ولا يزيدُ..أنظرُ في وجهِهِ لأبصرَ عينيْهِ..فلا أرى إلاّ جفنينِ مُسبلينِ في وجهٍ طوقتهُ لحيةٌ كثّةٌ..ثمَّ ينْسلُّ خارجاً..وكم كنتُ أودُّ أنْ أتجاذبَ معهُ الحديثَ..
تركَ المدرسةَ وعملَ فتىً في كراجٍ..أتقن مهنَتَهُ، فأحبَّ زبائنُ الكراجِ أن يقومَ عبدُالغنيِّ على تصليحِ سياراتِهم..ليسَ لأنهُ كان يرفضُ الإكراميةَ إذا دفعَها أحدُهم إليهِ..بل لأنَّ الزُّبونَ إذا أوكلَ لعبدِالغنيِّ العملَ دونَ آخرينَ من القائمينَ على الكراجِ ..فإنَّهُ لن يعودَ ثانيةً لإكمالِ نقصٍ في العملِ . وكان يرتادُ المسجدَ كل ّ صلاةٍ..فكان يؤدِّيها على وقتِها، ولعلَّ ذلكَ مما كان يُرَّوحُ عنهُ، ثمَّ ينقلبُ إلى عملِهِ بعد فراغِهِ من صلاتَيِ الظُّهرِ والعصرِ، وإذا صلى المغربَ والعشاءَ قربَ البيتِ، تجاوزَ المنتظرينَ من صُحبةِ المسجدِ وانفتلَ إلى بيتِهِ مُسرعاً..
ومرَّتْ ذاتَ يومٍ بالقربِ من الكراجِ الذي يعملُ فيهِ مظاهرةٌ تُندِّدُ بإحراقِ المسجدِ الأقصى عامَ ثمانيةٍ وستينَ وتسعمائةٍ وألفٍ..فاعتقلَ الجنودُ الإسرائيليونَ ما استطاعوا من المتظاهرينَ..وأمسكَ أحدُ الجنودِ إحدى الطّالباتِ من جديلتِها وطوّحَ بها وجرجرَها على الشّارعِ ..فانكشفَ عنها الثَّوبُ..وسحبَها ليحتميَ بها، ظهرُهُ إلى الكراجِ، من الحجارةِ التَّي انهالتْ عليه كالمطرِ..حتى إذا اقتربَ من عبدِالغنيِّ المنحني والعاكفِ على محرِّكِ السَّيارةِ قرباً كافياً، واستغاثت بالمعتصمِ، وصرختْ بالجنديِّ " اتركني يا كلب"، وكان الجنديُّ كالمستجيرِ من الرَّمضاءِ بالنّارِ ..انفتلَ عبدُالغنيِّ بسرعةٍ وانقضَّ بمفتاحِ الشَّقِ الثَّقيلِ الذي يُعالجُ بهِ محرِّكَ السَّيارةِ على رأسِ الجنديِّ المتشبِّثِ بالفتاةِ فأرداهُ من فورهِ بضربةٍ واحدةٍ..وإذْ تذكَّرتُ كيفَ كانَ ينقضُّ على طلابِ المدرسةِ ..فيطرحُهم واحداً واحداً، وهذا النِّمرُ الّذي أعرفُ، فانهمرَ على صدرِهِ الرَّصاصُ منَ الجنودِ الرابضينَ في مدرَّعةٍ على مَبعدةٍ ..ووضعَ عبدُ الغنيِّ راحَتَيْهِ الثَّخينَتينِ، وإذْ بهِ بعضُ حياةْ، على الدَّمِ النّازفِ فامتلأتا منهُ، ولم يكنْ يهمُّهُ بعدَ ذلكَ رصاصةٌ أو ألفُ رصاصةٍ..واستلقى على ظهرِهِ مُمَدِّداً يديْهِ باسطاً كفَّيْهِ على الأرضِ ..و رأيتُ البسمةَ على عبدِالغنيِّ التي لم أرَها منذُ زمنٍ بعيدٍ، وأرسلَ ناظريْهِ إلى عنانِ السَّماءِ. صعَّدتُ عينيَّ في الغيومِ الَّتي تجمّعتْ في السّماءِ، فرأيتُ صورةَ ناجيَ لآخرَ مرةٍ!