نجلاء محمود مِحْرِم
03-04-2005, 07:57 PM
فَلْيُلْقِهَا بحجر!
لم يكن انتقال أسرة " أمين مفتاح " إلى سكنها الجديد بالشئ العادى الذى يمر على الجيران دون أن يسترعى انتباههم.. فقد وصلت السيارة التى تحمل الأمتعة عصر يوم جمعة.. وانتشر أولاد " أمين " على السلم يتصايحون.. ويطلعون وينزلون.. ويحملون الكراسى والحلل وألواح الأسرة والوسائد.. محدثين جلبة عظيمة أيقظت النائم وأنعشت الكسلان.. بينما كان هو يقف أمام العمارة.. ينادى على زوجته كل حين ليسألها : هل تريد تلك القصرية المشروخة أم يرميها؟ والحلة السوداء التى أحرقت فيها سكر الكنافة هل مازالت تصلح للاستخدام؟ ويطلب منها أن تغير ملابس الولد الصغير لأن هناك رائحة كريهة تفوح منه! بدأت الرؤوس تطل من النوافذ.. والمرافق تتكئ على أسوار الشرفات.. والأعين ـ كل الأعين ـ تحمل تعبير الصدمة.. إلا أعين أسرة " أمين مفتاح " التى كانت نظراتها تفيض بِشْراً خاصة إذا تلاقت مع نظرات الجيران الجدد!
استغرق تفريغ سيارة " العفش " أكثر من ثلاث ساعات.. فأشياؤهم كلها وُضِعَتْ فُرادى.. ولم تعبأ لا فى كراتين ولا فى أكياس.. حتى الملاعق والملابس وأقلام الأطفال وعلب الدواء بُعْثِرَت كالفلفل فوق اللحم المفروم!
ولما تم إفراغ السيارة وأُغْلِقَ الباب على السكان الجدد.. كان الفارق بين حالة الابتهاج والارتياح فى شقة " أمين مفتاح" وبين حالة الوجوم والتوجس فى باقى الشقق كبيرا للغاية .
تجنب السكان جارهم الجديد.. لكن آذانهم تحولت إلى أطباق تستقبل أى صوت يصدر من شقته.. فيتسمعون.. ويتغامزون.. ويضحكون.. ويلتقون فى اليوم التالى ليحكى بعضهم لبعض ما سمعوه وهم مندهشون..
وحين أرسل أمين مفتاح إلى جاره الملاصق له فى الشقة يخبره بأنه يريد أن يزوره زيارة تعارف.. ضرب الجار أخماسا فى أسداس.. ونصحته زوجته بأن يرقد فى الفراش ويمتنع عن الكلام وحين يأتى الزائر تخبره بمرضه المفاجئ فلا يكون هناك مجال لتعارف وينصرف دون أن يحملهم مشقة تحمل زيارته.. وجاء الزائر على وجهه ابتسامته الهادئة.. وانصرف سريعا بعد أن تمنى لجاره الشفاء.. وانتابت الجار حالة ابتهاج بنجاح الخطة وجلس مع زوجته يضحكان بعد أن انزاح هذا الكرب.. ولم يتحوطا وتركا النوافذ مفتوحة والأصوات تنتقل عبر منور العمارة من شقة لأخرى فى وضوح تام..
رنَّ جرس الباب وفتحت الزوجة فوجدت " أمين مفتاح " أمامها.. بُهِتَتْ وتلعثمت.. لكنه قال لها بابتسامة وبساطة :
ـ كان يكفى أن تعتذرا عن استقبالى.. أما أن تكذبا وتتندرا بنجاح خطتكما بجوار نافذة المنور فذلك سلوك ناس أغبياء..
وعرف الجيران ما جرى.. ولم يحاول " أمين مفتاح " بعد ذلك أن يزور أحدا منهم.. وظل على صراحته الغريبة فى الحديث معهم حين يقابلهم على السلم.. لدرجة أن جاره فى الشقة التى تعلو شقته دخل على زوجته ودمه يغلى لِمَا قاله له "أمين" على السلم.. لكن زوجته غرقت فى الضحك حتى دمعت عيناها.. وسألته لتتأكد :
ـ أوَ كان أطفاله حقا يظنون أننا نربى عجلا؟
رمقها زوجها بعين ساخطة.. لكنها تجاهلت نظرته..
ـ سبق أن نبهتك بأنك تتجشا بصوت كخوار العجول حقا!
صرح " أمين مفتاح " لجيرانه بكل مايجيش به صدره.. فأخبر جاره بالطابق الأرضى أن عليه أن يشترى غيارات داخلية بدلا من تلك الممزقة التى تنشرها زوجته على الحبل فى الشارع! وقال لساكن الطابق الخامس أن زوجته لاتشتم أولاده إلا بعيوبه.. وأنه لايراه حمارا ولا غبيا إلى تلك الدرجة التى يصير بها سبة لأبنائه! أما ساكن الطابق الأول.. فقد صرح له " أمين " بأن السبب فى أن مالك السيارة الزرقاء يتجاهله كل يوم لكى لايوصله إلى العمل رغم أنهما زملاء هو أنه ثقيل الظل.. ونصحه بأن يخفف من ثقل نظراته وأن يصافح الناس بحرارة وألا يرفع " بنطلونه " إلى صدره هكذا وألا يلبس الأحذية البيضاء!
أصبح لقاء " أمين مفتاح " كارثة يفر منها جميع الجيران.. وانعقد مجلس المتأذين منه لمناقشة الوضع واتخاذ التدابير اللازمة وكانت تلك المرة الأولى التى يجتمع فيها السكان بل إن منهم من لم يكن قد رأى بعض جيرانه بعد.. وتوالت الاقتراحات :
ـ ندق على سقف شقته وعلى جدرانها حتى يضج
ـ نلقى فى منور العمارة بالقمامة والحيوانات الميتة
ـ نرفع صوت المذياع فلا يستطيع نوما ولايستطيع أولاده أن يذاكروا
اقتراحات هزيلة.. تؤذيهم كما تؤذيه
لكن الجار الخبيث تنحنح وطلب إليهم أن يسمعوه.. اتجهت إليه العيون المتعطشة للانتقام.. فسألهم :
ـ ما الذى يضايقكم من " أمين مفتاح "؟
دهشوا.. ثم انفجروا فى صوت واحد يستنكرون سؤاله.. قال :
ـ حاربوه بمثل سلاحه..
ران صمت على المستمعين فاستكمل :
ـ تصيدوا له المعايب.. اجعلوا آذانكم وأعينكم رادارا يرصد كل تصرفاته.. ولابد ستجدون ما تهددونه وتحرجونه به..
تفرق المؤتمرون بعد أن اتفقوا على خطة المراقبة.. وحددوا المواعيد.. وطرق الاتصال.. وبدأ تنفيذ المخطط.. وصارت معظم حركات وسكنات وكلمات أسرة " مفتاح " مرصودة من جيرانه.. كان هناك من يتبعه وهو ذاهب إلى عمله.. ومن يحوم حول مدرسة أطفاله.. ومن يجمع أخبار زوجته.. وكان " أمين مفتاح " يرى أطياف جيرانه المختبئين خلف خصاص النوافذ يتسمعون عبر المنور ما يدور فى شقته.. وأخبرته زوجته أنها ترى من عقب باب الشقة ليلا أقداما تروح وتجئ و تمكث بعض الوقت.. وقالت له أنها خائفة.. تربصَا ليلا حتى ظهرت الأقدام خلف باب الشقة ففتحاه فجأة فوقع جارهما ثقيل الظل قاعدا مادا ساقيه فدخلت قدماه بالحذاء الأبيض من باب الشقة.. مرَّتْ لحظات دهشة حدقت فيها الأعين بجمود.. ثم نهض الجار صاعدا السلم.. وأغلق الزوجان بابهما..
فى الصباح التالى كان " أمين مفتاح " واقفا فى انتظار جاره ثقيل الظل.. وما أن رآه نازلا حتى توجه إليه وقال له :
ـ هذا الصوت الذى تسمعه ليلا هو صوت ماكينة " التريكو " التى تعمل عليها زوجتى.. فالحياة صعبة ولابد من توفير نفقات الأطفال..
واصطحبه " أمين " إلى شقته وفَرَّجَهُ على الماكينة وأسمعه صوتها!
وحين انعقدت جمعية المتأذين من " أمين مفتاح " وأذيع سر الأصوات الغامضة التى تنبعث من شقته ليلا..خاب أمل المجتمعين لأن الأصوات ما كانت تصدر عن مطبعة لتزييف النقود أو الأوراق الرسمية أو أى شئ مما كانوا يتمنون!
واستمرت طريقة " أمين مفتاح " كما هى.. ولم يتردد فى أن يخبر إحدى جاراته بأن " شبشبها " الذى تلبسه وهى راجعة كل يوم قرب الفجر يدق على السلم وأن زوجها قد يصحو على هذا الصوت.. وأنه يجب عليها وضع قطعة فلين فى طرف كعبه العالى ما دامت تحرص على ألا يتنبه زوجها لخروجها بعد نومه!
لكن الجار الأعزب الذى يحمل حقيبة سوداء ويضع على عينيه نظارة سوداء لم يكف عن مراقبته المفضوحة.. واشترى نظارة معظمة وصار يلاحقه باستمرار..
وفوجئ السكان بورقة بيضاء ملصقة فى مدخل العمارة تحمل توقيع " أمين مفتاح " مكتوب فيها أنه يرجو جاره صاحب النظارة المعظمة ألا يتجسس عليه بواسطتها.. لأنه هو وزوجته وأطفاله ليس لديهم ما يكفى من الملابس المنزلية وقد يسوؤه ما يراه بنظارته!
وبتعاقب الأيام واستمرار المراقبة أخرجت زوجة " أمين مفتاح " موقدها أمام باب الشقة وصارت تطهو الطعام أمام الصاعد والهابط.. وفى كل يوم يعلق زوجها ورقة عليها خط سيره وما حدث له فى اليوم السابق.. حتى أطفالهما كتبوا بخطهم الصغير محتويات الشطائر التى فى حقائبهم ودرجاتهم الدراسية وألوان ملابسهم الداخلية!
وفوجئ ساكن الطابق الخامس " بأمين مفتاح " يخبره بأنه أدرك السبب فى أن زوجته تعتقد أنه حمار.. وهذا لأنه حين اختلس مرتبات الموظفين من خزينة الشركة وادعى أنه هوجم.. وافتعل شريكُه به اصابة.. ضحك عليه هذا الشريك واستأثر لنفسه بالمبلغ المسروق كله.. وأوصاه " أمين " بزوجته وبأن يلتمس لها العذر.. فهذا فعلا غباء حميرى صرف!
كثرت الملصقات وصارت تغطى كل يوم مدخل العمارة بالكامل.. وتُنْزَعُ فى اليوم التالى لتلصق غيرها.. وعرف الجميع كل ما يدور فى شقة " أمين مفتاح ".. فى غرف النوم وفى الحمام.. وعرفوا مايحدث فى عمله وفى مدارس أولاده.. وماذا اشترى وكم دفع.. وكيف اُهِين وكيف وقع وكيف جُرِحَ اصبعه.. وأن القشرة انتشرت فى شعره.. وأن الولد الصغير مصاب دائما بالإسهال.. وأن زوجته لديها تشوه فى فخذها من حرق قديم بماء سلق المكرونة! بل لقد بدأوا يؤرخون لماضيهم وماضى أسرهم.. ولم يتركوا سقطة قديمة أو حديثة إلا وذكروها.. وصار الناس يأتون من العمارات المجاورة ليقرأوا ويندهشوا ويضحكوا.. ومنهم من ينتظر فى الشارع ليرى الأسرة العجيبة أو أحد أفرادها!
لذلك انتاب الجميع ذهول شديد حين أصبح صباح ولم يجدوا أى ملصق على جدران المدخل! ولولا أنهم رأوا بالنظارات المعظمة وسمعوا بالآذان الملصقة على باب الشقة وأحسوا بنفس الإحساس الثقيل يجثم على نفوسهم.. لظنوا أنهم رحلوا!
واستمر المدخل خاليا من الملصقات.. ولم يخرج أحد من أسرة " أمين مفتاح ".. وبدأ الجيران يظنون أنهم قد أقلعوا عن عادتهم الغريبة..
حتى جاء الصباح الذى غُطِّيَتْ فيه جدران المدخل والدور الأرضى من الخارج جميعها بملصقات عُنِىَ بتخطيطها وتلوينها وعنونتها.. بل وزُيِّنَ بعضها برسوم وصور توضيحية وخرائط..
عن الجار الذى أجبر زوجته على بيع كليتها وتزوج بثمنها.. والجارة التى تذهب بعد نوم زوجها للعازب ذى النظارة السوداء.. والثانية التى قضت ثلاث سنوات فى سجن القناطر لإدانتها فى قضية سرقة مولود من المستشفى الذى تعمل فيه.. وساكن الطابق الخامس الذى تنكر لأبيه وأمه المحتاجين وغَيَّر سكنه لكى لايعرفا طريقه ويوجعا رأسه.. والمختلس.. والشاذ.. والراقصة السابقة.. والمرتشى.. والمدمن و.. و.. و..
وجرى الناس إلى شققهم..
وأُغلِقت الأبواب..
وسمع بكاء وصراخ..
وخرج من يجرى إلى الشارع..
ودخل رجال شرطة ومأذون وأمهات تبكى وآباء مهمومون وقساوسة..
وارتاعت حياة الجميع..
بينما كانت أسرة " أمين مفتاح " تتناول غداءها وتتفرج على التلفاز!
يناير 2000
لم يكن انتقال أسرة " أمين مفتاح " إلى سكنها الجديد بالشئ العادى الذى يمر على الجيران دون أن يسترعى انتباههم.. فقد وصلت السيارة التى تحمل الأمتعة عصر يوم جمعة.. وانتشر أولاد " أمين " على السلم يتصايحون.. ويطلعون وينزلون.. ويحملون الكراسى والحلل وألواح الأسرة والوسائد.. محدثين جلبة عظيمة أيقظت النائم وأنعشت الكسلان.. بينما كان هو يقف أمام العمارة.. ينادى على زوجته كل حين ليسألها : هل تريد تلك القصرية المشروخة أم يرميها؟ والحلة السوداء التى أحرقت فيها سكر الكنافة هل مازالت تصلح للاستخدام؟ ويطلب منها أن تغير ملابس الولد الصغير لأن هناك رائحة كريهة تفوح منه! بدأت الرؤوس تطل من النوافذ.. والمرافق تتكئ على أسوار الشرفات.. والأعين ـ كل الأعين ـ تحمل تعبير الصدمة.. إلا أعين أسرة " أمين مفتاح " التى كانت نظراتها تفيض بِشْراً خاصة إذا تلاقت مع نظرات الجيران الجدد!
استغرق تفريغ سيارة " العفش " أكثر من ثلاث ساعات.. فأشياؤهم كلها وُضِعَتْ فُرادى.. ولم تعبأ لا فى كراتين ولا فى أكياس.. حتى الملاعق والملابس وأقلام الأطفال وعلب الدواء بُعْثِرَت كالفلفل فوق اللحم المفروم!
ولما تم إفراغ السيارة وأُغْلِقَ الباب على السكان الجدد.. كان الفارق بين حالة الابتهاج والارتياح فى شقة " أمين مفتاح" وبين حالة الوجوم والتوجس فى باقى الشقق كبيرا للغاية .
تجنب السكان جارهم الجديد.. لكن آذانهم تحولت إلى أطباق تستقبل أى صوت يصدر من شقته.. فيتسمعون.. ويتغامزون.. ويضحكون.. ويلتقون فى اليوم التالى ليحكى بعضهم لبعض ما سمعوه وهم مندهشون..
وحين أرسل أمين مفتاح إلى جاره الملاصق له فى الشقة يخبره بأنه يريد أن يزوره زيارة تعارف.. ضرب الجار أخماسا فى أسداس.. ونصحته زوجته بأن يرقد فى الفراش ويمتنع عن الكلام وحين يأتى الزائر تخبره بمرضه المفاجئ فلا يكون هناك مجال لتعارف وينصرف دون أن يحملهم مشقة تحمل زيارته.. وجاء الزائر على وجهه ابتسامته الهادئة.. وانصرف سريعا بعد أن تمنى لجاره الشفاء.. وانتابت الجار حالة ابتهاج بنجاح الخطة وجلس مع زوجته يضحكان بعد أن انزاح هذا الكرب.. ولم يتحوطا وتركا النوافذ مفتوحة والأصوات تنتقل عبر منور العمارة من شقة لأخرى فى وضوح تام..
رنَّ جرس الباب وفتحت الزوجة فوجدت " أمين مفتاح " أمامها.. بُهِتَتْ وتلعثمت.. لكنه قال لها بابتسامة وبساطة :
ـ كان يكفى أن تعتذرا عن استقبالى.. أما أن تكذبا وتتندرا بنجاح خطتكما بجوار نافذة المنور فذلك سلوك ناس أغبياء..
وعرف الجيران ما جرى.. ولم يحاول " أمين مفتاح " بعد ذلك أن يزور أحدا منهم.. وظل على صراحته الغريبة فى الحديث معهم حين يقابلهم على السلم.. لدرجة أن جاره فى الشقة التى تعلو شقته دخل على زوجته ودمه يغلى لِمَا قاله له "أمين" على السلم.. لكن زوجته غرقت فى الضحك حتى دمعت عيناها.. وسألته لتتأكد :
ـ أوَ كان أطفاله حقا يظنون أننا نربى عجلا؟
رمقها زوجها بعين ساخطة.. لكنها تجاهلت نظرته..
ـ سبق أن نبهتك بأنك تتجشا بصوت كخوار العجول حقا!
صرح " أمين مفتاح " لجيرانه بكل مايجيش به صدره.. فأخبر جاره بالطابق الأرضى أن عليه أن يشترى غيارات داخلية بدلا من تلك الممزقة التى تنشرها زوجته على الحبل فى الشارع! وقال لساكن الطابق الخامس أن زوجته لاتشتم أولاده إلا بعيوبه.. وأنه لايراه حمارا ولا غبيا إلى تلك الدرجة التى يصير بها سبة لأبنائه! أما ساكن الطابق الأول.. فقد صرح له " أمين " بأن السبب فى أن مالك السيارة الزرقاء يتجاهله كل يوم لكى لايوصله إلى العمل رغم أنهما زملاء هو أنه ثقيل الظل.. ونصحه بأن يخفف من ثقل نظراته وأن يصافح الناس بحرارة وألا يرفع " بنطلونه " إلى صدره هكذا وألا يلبس الأحذية البيضاء!
أصبح لقاء " أمين مفتاح " كارثة يفر منها جميع الجيران.. وانعقد مجلس المتأذين منه لمناقشة الوضع واتخاذ التدابير اللازمة وكانت تلك المرة الأولى التى يجتمع فيها السكان بل إن منهم من لم يكن قد رأى بعض جيرانه بعد.. وتوالت الاقتراحات :
ـ ندق على سقف شقته وعلى جدرانها حتى يضج
ـ نلقى فى منور العمارة بالقمامة والحيوانات الميتة
ـ نرفع صوت المذياع فلا يستطيع نوما ولايستطيع أولاده أن يذاكروا
اقتراحات هزيلة.. تؤذيهم كما تؤذيه
لكن الجار الخبيث تنحنح وطلب إليهم أن يسمعوه.. اتجهت إليه العيون المتعطشة للانتقام.. فسألهم :
ـ ما الذى يضايقكم من " أمين مفتاح "؟
دهشوا.. ثم انفجروا فى صوت واحد يستنكرون سؤاله.. قال :
ـ حاربوه بمثل سلاحه..
ران صمت على المستمعين فاستكمل :
ـ تصيدوا له المعايب.. اجعلوا آذانكم وأعينكم رادارا يرصد كل تصرفاته.. ولابد ستجدون ما تهددونه وتحرجونه به..
تفرق المؤتمرون بعد أن اتفقوا على خطة المراقبة.. وحددوا المواعيد.. وطرق الاتصال.. وبدأ تنفيذ المخطط.. وصارت معظم حركات وسكنات وكلمات أسرة " مفتاح " مرصودة من جيرانه.. كان هناك من يتبعه وهو ذاهب إلى عمله.. ومن يحوم حول مدرسة أطفاله.. ومن يجمع أخبار زوجته.. وكان " أمين مفتاح " يرى أطياف جيرانه المختبئين خلف خصاص النوافذ يتسمعون عبر المنور ما يدور فى شقته.. وأخبرته زوجته أنها ترى من عقب باب الشقة ليلا أقداما تروح وتجئ و تمكث بعض الوقت.. وقالت له أنها خائفة.. تربصَا ليلا حتى ظهرت الأقدام خلف باب الشقة ففتحاه فجأة فوقع جارهما ثقيل الظل قاعدا مادا ساقيه فدخلت قدماه بالحذاء الأبيض من باب الشقة.. مرَّتْ لحظات دهشة حدقت فيها الأعين بجمود.. ثم نهض الجار صاعدا السلم.. وأغلق الزوجان بابهما..
فى الصباح التالى كان " أمين مفتاح " واقفا فى انتظار جاره ثقيل الظل.. وما أن رآه نازلا حتى توجه إليه وقال له :
ـ هذا الصوت الذى تسمعه ليلا هو صوت ماكينة " التريكو " التى تعمل عليها زوجتى.. فالحياة صعبة ولابد من توفير نفقات الأطفال..
واصطحبه " أمين " إلى شقته وفَرَّجَهُ على الماكينة وأسمعه صوتها!
وحين انعقدت جمعية المتأذين من " أمين مفتاح " وأذيع سر الأصوات الغامضة التى تنبعث من شقته ليلا..خاب أمل المجتمعين لأن الأصوات ما كانت تصدر عن مطبعة لتزييف النقود أو الأوراق الرسمية أو أى شئ مما كانوا يتمنون!
واستمرت طريقة " أمين مفتاح " كما هى.. ولم يتردد فى أن يخبر إحدى جاراته بأن " شبشبها " الذى تلبسه وهى راجعة كل يوم قرب الفجر يدق على السلم وأن زوجها قد يصحو على هذا الصوت.. وأنه يجب عليها وضع قطعة فلين فى طرف كعبه العالى ما دامت تحرص على ألا يتنبه زوجها لخروجها بعد نومه!
لكن الجار الأعزب الذى يحمل حقيبة سوداء ويضع على عينيه نظارة سوداء لم يكف عن مراقبته المفضوحة.. واشترى نظارة معظمة وصار يلاحقه باستمرار..
وفوجئ السكان بورقة بيضاء ملصقة فى مدخل العمارة تحمل توقيع " أمين مفتاح " مكتوب فيها أنه يرجو جاره صاحب النظارة المعظمة ألا يتجسس عليه بواسطتها.. لأنه هو وزوجته وأطفاله ليس لديهم ما يكفى من الملابس المنزلية وقد يسوؤه ما يراه بنظارته!
وبتعاقب الأيام واستمرار المراقبة أخرجت زوجة " أمين مفتاح " موقدها أمام باب الشقة وصارت تطهو الطعام أمام الصاعد والهابط.. وفى كل يوم يعلق زوجها ورقة عليها خط سيره وما حدث له فى اليوم السابق.. حتى أطفالهما كتبوا بخطهم الصغير محتويات الشطائر التى فى حقائبهم ودرجاتهم الدراسية وألوان ملابسهم الداخلية!
وفوجئ ساكن الطابق الخامس " بأمين مفتاح " يخبره بأنه أدرك السبب فى أن زوجته تعتقد أنه حمار.. وهذا لأنه حين اختلس مرتبات الموظفين من خزينة الشركة وادعى أنه هوجم.. وافتعل شريكُه به اصابة.. ضحك عليه هذا الشريك واستأثر لنفسه بالمبلغ المسروق كله.. وأوصاه " أمين " بزوجته وبأن يلتمس لها العذر.. فهذا فعلا غباء حميرى صرف!
كثرت الملصقات وصارت تغطى كل يوم مدخل العمارة بالكامل.. وتُنْزَعُ فى اليوم التالى لتلصق غيرها.. وعرف الجميع كل ما يدور فى شقة " أمين مفتاح ".. فى غرف النوم وفى الحمام.. وعرفوا مايحدث فى عمله وفى مدارس أولاده.. وماذا اشترى وكم دفع.. وكيف اُهِين وكيف وقع وكيف جُرِحَ اصبعه.. وأن القشرة انتشرت فى شعره.. وأن الولد الصغير مصاب دائما بالإسهال.. وأن زوجته لديها تشوه فى فخذها من حرق قديم بماء سلق المكرونة! بل لقد بدأوا يؤرخون لماضيهم وماضى أسرهم.. ولم يتركوا سقطة قديمة أو حديثة إلا وذكروها.. وصار الناس يأتون من العمارات المجاورة ليقرأوا ويندهشوا ويضحكوا.. ومنهم من ينتظر فى الشارع ليرى الأسرة العجيبة أو أحد أفرادها!
لذلك انتاب الجميع ذهول شديد حين أصبح صباح ولم يجدوا أى ملصق على جدران المدخل! ولولا أنهم رأوا بالنظارات المعظمة وسمعوا بالآذان الملصقة على باب الشقة وأحسوا بنفس الإحساس الثقيل يجثم على نفوسهم.. لظنوا أنهم رحلوا!
واستمر المدخل خاليا من الملصقات.. ولم يخرج أحد من أسرة " أمين مفتاح ".. وبدأ الجيران يظنون أنهم قد أقلعوا عن عادتهم الغريبة..
حتى جاء الصباح الذى غُطِّيَتْ فيه جدران المدخل والدور الأرضى من الخارج جميعها بملصقات عُنِىَ بتخطيطها وتلوينها وعنونتها.. بل وزُيِّنَ بعضها برسوم وصور توضيحية وخرائط..
عن الجار الذى أجبر زوجته على بيع كليتها وتزوج بثمنها.. والجارة التى تذهب بعد نوم زوجها للعازب ذى النظارة السوداء.. والثانية التى قضت ثلاث سنوات فى سجن القناطر لإدانتها فى قضية سرقة مولود من المستشفى الذى تعمل فيه.. وساكن الطابق الخامس الذى تنكر لأبيه وأمه المحتاجين وغَيَّر سكنه لكى لايعرفا طريقه ويوجعا رأسه.. والمختلس.. والشاذ.. والراقصة السابقة.. والمرتشى.. والمدمن و.. و.. و..
وجرى الناس إلى شققهم..
وأُغلِقت الأبواب..
وسمع بكاء وصراخ..
وخرج من يجرى إلى الشارع..
ودخل رجال شرطة ومأذون وأمهات تبكى وآباء مهمومون وقساوسة..
وارتاعت حياة الجميع..
بينما كانت أسرة " أمين مفتاح " تتناول غداءها وتتفرج على التلفاز!
يناير 2000