تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رغيف أم سعيد



فاطمة بلحاج
11-03-2014, 04:32 PM
رغيفُ أمِّ سعيد



أمسكَت أم سعيد العجين بين أصابعها، دعكته مرات عدة، فبعد موت زوجِها لم يعد لها دخل سوى صنْع الرغيف وبيعه، التفَّ حولها صغارها، وصاروا يَخلطون العجين معها بأناملهم الصغيرة، فصرخت عليهم مُزمجِرة:
_ابتعدوا يا عفاريت! قلت لكم: ابتعدوا!

تركوا العجين إلا أصغرهم فقد أَبى، ودعك العجين مُبتسمًا، انشرح صدره لرؤية المزيج اللاصق بأنامله الصغيرة، فأدخل رأسه بالقصعة وأطلق ضحكة بريئة وهو يَخلط العجين؛ بينما اللعاب يَسيل على القصعة، اقتربت منه ولطمته على خدِّه، فهُرع إلى حِضْن شقيقه سعيد يَصرُخ مناديًا: بابا.. بابا.. حاول سعيد أن يُسكته، لكن من دون جدوى، انسلَّ من حضنِه وحشَرَ نفسه في دولاب مُنكمِشًا على نفسه.

تذكَّرت أم سعيد، أن دمعة اليتيم لها صوت تُردِّده السماء والأرض، فتركَت العجين واتَّجهت إليه لمُواساته، أخرجته من الدولاب ومسحَت دموعه بكفِّها وضمَّته إلى صدرها لبرهة، فعادت البسمة على وجهه البريء، حين ذاك رأى الصغار أمَّهم منشغلة بإسكات شقيقهم، فانفردوا بالقصعة، وصاروا يكزون العجين بأصابعهم الصغيرة؛ ليُشكِّلوا لوحة فنية، فوجوههم البريئة مليئة باللعاب، وهو يتساقط في القصعة كقطرات الندى، لمحتهم الأم فهُرعت مُسرعة إليهم وهي تلعَن:
_الله يلعن الشيطان!

ألا تدرون أن بهذا العجين ندفع أجرة الغُرفة، ومنه تعليمكم وتطبيبكم؟!

هرب الصغار واختفوا عن أنظارها، فعادت للعجين وأنهَت ما بدأته، ثم جهّزت الأرغفة حتى استوت، وسلَّمتها لابنها سعيد ليَبيعها في السوق.

حمل سعيد فوق رأسه آنية ملأى بالأرغفة، واتجه إلى السوق الشعبيِّ القريب من مكان إقامتهم، أنزل الصينية من على رأسه، ثم وضَعها فوق طاولة صغيرة، ووقف يُنادي ويغري المارَّة بالثمن الرخيص للرغيف.

_رغيف طري وساخن.. نظيف ونقي، وبأرخص الأثمنة

وأمام طاولته الصغيرة، نزلت سيدة أنيقة من سيارتها، حاملة مظلة تَحتمي بها من المطر، ثم تقدمت نحوه بخطى مُتثاقلة وصارت تقلّب الأرغفة بين كفَّيها وتعبَث بها، ثم حدقت بسَعيد بنظرات غامضة، زمَّت شفتيها ووشوشت بألفاظ لم يَستوعبها:
_هذا نضَجَ أكثر من اللازم والآخر ما زال عجينه طريًّا و... و... أَخبِرْني أيها الصغير مَن تَعجن هذا الرغيف؟

رفع سعيد رأسه الصغير وقال وهو يَنظر إليها بنظرات خَجلى:
_أمي.
_قل لأمك يا ولد أن تصنع عجينًا أفضل من هذا؛ إذا أرادت أن يكون لها زبناء دائمون.

طأطأ الولد رأسه صامتًا وصار يُراقِب سلوكها، وبعد عبثٍ طويل بالأرغفة، مُحدِثة بخيلائها صوتًا شغل البائعين عن بضاعتهم، وصاروا يتفحَّصونها بأعينهم، اختارت أجود الأرغفة ودفعت له النقود بتكشيرة أرهبتْه، ثم راحت إلى حال سبيلها، ولم تمرَّ سوى لحظات حتى اصطفَّ أمام أحمد؛ طابور طويل من النِّسوة.

وفي يوم شتوي بارد، والمطر يَتساقط على المدينة، اضطر سعيد إلى الاحتماء تحت سقف بيت آيل للسقوط يَقيه المطر هو وأرغفته، وبدأ بلفِّ الأرغفة بغطاء بلاستيكي، وقد احمرَّت وجنتاه من شدة الصقيع، حشر يدَيه الباردتين في جيب الجاكيت المرقَّع، وبدا عليه السكون في حضرة الشتاء، ومن حين إلى حين كان يُخرِج يده اليُمنى ليَمسح أنفه بأكمام قميصه، والابتسامة الخفيفة تضيء ملامحه، يوزِّعها على المارَّة لعلَّ أحدًا يرأف لحاله؛ فيَشتري الرغيف كي يعود للبيت، ومع ارتعاشه سقط من يده المُرتجفة بعض الدراهم، فانحنى لالتقاطها، وحين استقام واقفًا تبيَّن له اختفاء بعض الأرغفة، تذكَّرَ تعب أمه فبكى بحرقة، رأت سيدة بدوية تفترش بضاعتها على الرصيف المقابل ما حدث، فأشفقت عليه وعوضته بقنينة لبن هدية لأمه مقابل الرغيف المسلوب.

أحمد الرحاحلة
12-03-2014, 06:05 AM
نص مكتنز بالمعاني والدلالات والصور
تحية للقلم ومن خط به

ناديه محمد الجابي
12-03-2014, 05:57 PM
هناك فئة من الناس تحفر الصخر لتستخلص فتات الرزق الذي تستعين به على قسوة الزمن
لكن مع البؤس المرتسم على وجوههم تلمح الإصرار والتحدي على عدم الإنحناء ..
مصرين على يلقموا أفواههم لقمة ممزوجة بالكد والتعب والعرق الناضح من الجباه
فتحية إجلال وإكبار لأم سعيد التي تواصل الحياة رافضة أن تكون عالة على الآخرين.
شكراً لك عزيزتي فاطمة ـ قصة رائعة ثرية بالجمال وعبرة وفكرة وإمتاع وحكي شيق.
بورك القلم وصاحبته.

كاملة بدارنه
13-03-2014, 04:26 PM
قصّة مؤثّرة بأحداثها
أن حمل طفل همّ الحياة فهذا ممّا يؤلم، ولكنّه الواقع الصّعب المجبر على ذلك
بوركت
تقديري وتحيّتي

سامية الحربي
13-03-2014, 10:25 PM
محت صورة الرحمة من النفوس الإرستقراطية لم يبقَ سوى من يذق طعم الجوع فيرحم.قصة موجعة. تحية لهذا التصوير .تقديري الكبير.

عبد السلام دغمش
14-03-2014, 05:12 AM
قصة جميلة نقلت إلينا مشهداً من البؤس ،واللافت هذا التكافل من الباعة الجائلين .
بوركتم وسلم اليراع.

فاطمة بلحاج
14-03-2014, 04:10 PM
نص مكتنز بالمعاني والدلالات والصور
تحية للقلم ومن خط به


أخي الكريم أحمد الرحاحلة
أشكرك على مرورك الكريم وتعليقك الراقي
بوركت
تحياتي وتقديري

آمال المصري
15-03-2014, 11:59 PM
بسلاسة وحرف بديع نقلت لنا صورة من الشقاء والفقر المدقع الذي يأبى أصحابه إلا أن يعتاشوا بكرامة من عمل أيديهم وهم كثرٌ
توغل سريع في أحداث النص وتأرجح من بين العمل ومراعاة الصغار اليتامى ومواساتهم وتوفير القوت اليومي ومتطلبات الحياة
وما يواجه الصغير من تجبر البعض وحلمه حتى لايعود بالخبز دون بيعه
وخاتمة أرادت بها الكاتبة أن تقول "ماتهون إلا على الفقير" أو أن الفقير أكثر إحساسًا وشعورا بمن مثله
جميلة تلك الاجتماعية المأساوية
بوركت واليراع
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

فاطمة بلحاج
18-03-2014, 04:50 PM
هناك فئة من الناس تحفر الصخر لتستخلص فتات الرزق الذي تستعين به على قسوة الزمن
لكن مع البؤس المرتسم على وجوههم تلمح الإصرار والتحدي على عدم الإنحناء ..
مصرين على يلقموا أفواههم لقمة ممزوجة بالكد والتعب والعرق الناضح من الجباه
فتحية إجلال وإكبار لأم سعيد التي تواصل الحياة رافضة أن تكون عالة على الآخرين.
شكراً لك عزيزتي فاطمة ـ قصة رائعة ثرية بالجمال وعبرة وفكرة وإمتاع وحكي شيق.
بورك القلم وصاحبته.






أختي الفاضلة الأديبة نادية
أشكركِ على مرورك الجميل وقراءتكِ الراقية للنص
يسرني حضوركِ الدائم على صفحتي
دمتِ بخير
تحياتي وتقديري

فاطمة بلحاج
18-03-2014, 04:52 PM
قصّة مؤثّرة بأحداثها
أن حمل طفل همّ الحياة فهذا ممّا يؤلم، ولكنّه الواقع الصّعب المجبر على ذلك
بوركت
تقديري وتحيّتي


أختي الفاضلة الأديبة كاملة
شكراً لمرورك الكريم وتعليقك الراقي
دمتِ بخير
تحياتي وتقديري

فاطمة بلحاج
20-03-2014, 04:55 PM
محت صورة الرحمة من النفوس الإرستقراطية لم يبقَ سوى من يذق طعم الجوع فيرحم.قصة موجعة. تحية لهذا التصوير .تقديري الكبير.




أختي الفاضلة الأديبة غصن
أشكرك على مرورك وتعليقك الراقي
بوركتِ
تحياتي ومودتي

فاطمة بلحاج
20-03-2014, 05:02 PM
قصة جميلة نقلت إلينا مشهداً من البؤس ،واللافت هذا التكافل من الباعة الجائلين .
بوركتم وسلم اليراع.





أخي الفاضل الشاعر عبد السلام دغمش
أشكرك على مرورك الكريم وتعليقك الراقي
بوركت
تحياتي وتقديري

خلود محمد جمعة
24-03-2014, 11:54 PM
قصة روت الكثير من الصور المرة في مجتمعنا
الفقر، الأرملة، عمل الاطفال، والطبقية
ورسمت صور جميلة لروعة العطاء والتفاني وتحمل المسؤولية و مساعدة الآخرين بالرغم من قلة الحيلة
اسجل اعجابي
مودتي وتقديري

ربيحة الرفاعي
13-04-2014, 12:13 AM
مشهد من قاع الحياة، أليم حزين ودامع، عرض لبؤس المسحوقين وشقاء عيشهم
الدور الممنوح للطفل في النص حمل دلالات عميقة وجعل للرسالة بعدا مختلفا

دمت بخير

تحاياي

نداء غريب صبري
27-06-2014, 12:18 AM
طيب
الأحداث الصغيرة كثيرة
لكن القصة بدون حدث محوري وهذا يجعلنا لا نصل لشئ

شكرا لك أختي

بوركت

فاطمة بلحاج
04-08-2014, 09:10 PM
قصة روت الكثير من الصور المرة في مجتمعنا
الفقر، الأرملة، عمل الاطفال، والطبقية
ورسمت صور جميلة لروعة العطاء والتفاني وتحمل المسؤولية و مساعدة الآخرين بالرغم من قلة الحيلة
اسجل اعجابي
مودتي وتقديري


أختي الفاضلة الأديبة خلود
أشكرك على مرورك الجميل وقراءتك الراقية
بوركت
تحياتي وتقديري

رويدة القحطاني
07-10-2014, 12:26 AM
يعجبني الكاتب الذي يشعر بأهل القهر والحزن من الجياع القانتين في قاع المثلث الاجتماعي
أن يهبط الأديب إليهم يعني التسامي نحو الح الإنساني الأعلى

د. سمير العمري
14-05-2015, 06:08 PM
قصة تحدثت بسردية محضة ومباشرة لترصد المعاناة والألم الذي يعيشة الكثير من أبناء الأمة وكيف يتألمون في سبيل الحصول على حاجتهم أو بعضا منها ، وكيف أن العجين خالطه لعب ولعاب الأطفال وهذا أمر لا يسلم منه حتى الطعام الذي يجهز في المحلات والمخابز والمطاعم للأسف.

المهم هي قصة عادية ومؤثرة وما خفي من أوجاع الأمة أعظم وأهم.

تقديري