المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أبو هيثم



مصطفى حمزة
19-03-2014, 10:55 AM
قصّة قصيرة
أبو هيثم
اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
كنّا في استراحة الغَداء في عزّ الصيف ، الرطوبة شديدة ، مُعبّقة بمزيج من الروائح اللاذعة المتنوّعة الفائحة من البحر ومن البضائع في المستودعات ، ومن البواخر القديمة المنتظرة ، و من أكداس الأكياس على الرصيف ، والمُخلّفات المتناثرة هنا وهناك ..
كنتُ أتمشّى ألتقمُ سندويشة الفلافل قبل أن تنتهي استراحة الغداء ؛ فهناكَ عشرات الرصّات تنتظرني وزملائي من الشيّالين لنقلها من الرصيف إلى داخل المستودع . وكنتُ شابّاً في الحادية والعشرين ، قويّاً مفتول العضلات ، لكنني كسيرُ النفس محزون ، مجروح ، فقد ضاقت المدينة عن عملٍ لي آخر أساعد بأجره أبي الذي انكسرت تجارتُه .. رحمه الله تعالى .
قميصي ألبسه على لحم جسمي ، وأعقده عند السّـُرّة ، وألبس تحته بنطالاً لا لون له وحذاءً صيفياً من يراني أنتعله يظن أنني حافي القدمين !! مشيتُ تركل قدمايَ بلا مبالاة ما تناثر في طريقي على الرصيف مِن مرميّات متنوّعة ، وأكياس ورقيّة محشوّة بالقمامة ، وبقايا الطعام .. كنتُ أتسلّى بذلك .. شاردَ الذهن ، مكدوداً مُتعباً ..
وإذا بي أركلُ أحدَ الأكياس الورقيّة ؛ فأشعرُ بأنّ فيه شيئاً ما ! انحنيتُ والتقطتُهُ ، وحين فضضتُهُ وقعتْ عيناي على رزمٍ من النقود ! تفحّصتُها سريعاً وأنا أخاف أن يراني أحدٌ ! كانتْ كلّها من فئة عشر ليرات ، وكانت بضعة ليرات في تلك الأيام تكفي لمعيشة أسرة لعدة أيام ! تسارعتْ دقّاتُ قلبي بشدّة حتى سمعتُها ! وخِلتُ أنّها ستُخبر الناسَ عنّي وتفضحُ ما عثرتُ عليه ! لففتُ الكيسَ بأطرافه ثم دَسَسْتهُ داخلَ قميصي المعقود إلى بطني ، وأرجعته وراء خاصرتي لئلا يلمحه أحد ، وأكملتُ التقام سندويشتي ، ثم عُدتُ إلى زملائي .
من بعيد لمحتُ الشيّالين مجتمعين ، ولمّا اقتربتُ وجدتُهم يتحلّقون حولَ رجلٍ مذعورٍ يلطمُ وجههُ ويبكي ويصيح :
- انخربْ بيتي .. يا ألله .. والله ليعْمِلْ فيني أبو هاني العَمايـِل !!
ومرفأ اللاذقية آنذاك كانَ يُديره رجلٌ واحدٌ ، قويّ ( معلّم ) له كلمته وثقله في المدينة ، اسمه أبو هاني قدسي .
بدا لي الرجلُ سِتّينيّاً ، نحيلاً ، ناتئ الوجنتين ، له لحية خفيفة بيضاء ، فوق رأسه طربوش أحمر متهالك ، ويلبس سترة قصيرة فوقَ بنطالٍ من لونٍ آخر مُنْحَسـِرٍ عن حذاءٍ مغبرٍّ قديم ..
وتسارعتْ إلى سمعي هذه العبارات :
- مُحاسب عند " أبو هاني "
- مسكين .. أضاعَ الغلّة !
- والله ليخربْ بيتو أبو هاني .. ما عندو يا أمّي ارحميني !!
اندفعتُ إليه مخترقاً الزّحامَ حوله ، ثمّ أخذته من يده وابتعدتُ به عن الحشد . انقاد لي وهو ينظر في وجهي مستغرباً مُستنجِداً ، ودموعه تُرطب غُضونَ خدّيْهِ !
- وكّل الله ياعم .. شو ضايع لكْ ؟
- كيس المصاري .. معاشات العمال يا بني .. الشهريّة كاملة ! كنتُ في طريقي لأوزّعها عليهم فجأة شعرت بصداع رهيب ، فجلستُ لأستريحَ قليلاً عندَ الرصيف هناك – وأشار بيده إلى حيثُ كنتُ أتمشّى – ثم نهضتُ وتابعتُ سيري .. ولا أعرف أين ومتى سقط الكيسُ منّي !!
- شو كان بالكيس عمّي ؟
- رزم أم العشرة .. خمسة آلاف ليرة سوريّة .
- ممكن تعطيني علامة عمّي ؟
نظر إليّ بابتسامة غريبة ، وبرقت في عينيه سحائبُ الأمل ! ثم هجم عليّ وأمسك بكتـِفيّ :
- الكيس معك يا بني ؟ طمّني ... ريّحْني الله يريّحك !
- صلّي عالنبي عمّي .. شو في كمان بالكيس غير المصاري ؟
صاح :
- عويناتي .. عويناتي الطبّيّة .. لونها أشقر ..
عندها أخرجتُ الكيسَ وناولتُهُ إيّاه ، وقلت له :
- خذ عمّي .. والله ما مددتُ يدي إلى المصاري ، فقط ألقيتُ نظرة على محتواه .
التقطَ الكيسَ من يدي بلهفة ، ثم أخرج النظارة منه ووضعها أمام عينيه و أطلق أصابعه يُمررها بين الرزم .. بعد قليل تنهّدَ تنهيدة عميقة ، وأخرج من جيب سترته منديلاً وراح يمسح به العرق المتصبب من جبهته ورقبته . ثمّ رأيته يدسّ يده في جيب سترته ويُخرج منها علبة سجائر معدنية ، فتحها وأخرج منها سيجارة واحدة ملفوفة باليد ، وقدّمها لي :
- اقبلها مني يا بني .. الله يخلّيك . والله ما في شي تاني أعطيك إياه !
أخذتها من يده ، وثبتها فوق أذني :
- ولا يهمّك عمّي .. الله معك .

اللاذقية – صيف 1969 م
أنا في العاشرة من عمري ، وكان وقتئذٍ موظّفاً لدى مؤسسة النقل الداخلي ويبدو أكبر من عمره بسنوات من شقوة المرفأ ! عملُهُ أنْ يقبض من الجُباة غلاّتهم اليوميّة ويُقارن بينها وبين أرقام التذاكر المسلّمة إليهم ، ثم يحتفظ بها في صندوقه الحديديّ ليودعَها المصرفَ في اليوم التالي . وقد اعتادَ من باب الحيطة ألاّ يترك غلّة يوم الخميس في الصندوق ؛ فكان يصطحبها معه إلى البيت ويقفل عليها حتى صباح السبت .
لازلتُ أذكرُ تلك الحقيبة السوداء السميكة التي كانت تحضن غلاّت أيام الخميس ! فكم من ليلة كنتُ أرقبه فيها يُفرغ محتوياتها على الحصير ثم يعدّها ويُعيدها ، ويُحكم قفلها ، ثم يرفعها فوق الخزانة الكبيرة في غرفة النوم .
وفي عصر ذلك اليوم ، كان يتأبطها بيد ، ويُمسك كفّي الصغيرَ بيده الأخرى ، ويسير بي برفق في ساحة السمك الفسيحة وسط المدينة . وأنا لا أزال أطبق أسناني على قطنة طبيب الأسنان الذي غادرناه قبل قليل . لقد أوصته أمّي أن يجلب معه (أكلة) سمك لتكون غداءنا يوم الجمعة فراح يتنقل من بائع إلى بائع ليختار لنا السمك الذي نُحبّه ، وكان يقرفص هنيهة عند كل كومة سمك فيُعاين غلاصم إحداها ليتأكد من احمرارها وأنّها من صيد اليوم وليست من سمك الثلاجة
اشترى طلبَه ، ثمّ غادرنا الساحة باتجاه مواقف الحافلات ، ولم نكن قد مشينا بعيداً حين صاح فجأة بصوت مُرعب :
- الشنطة يا مصطفى .. الشنطة .. المصاري !!
وهرول راجعاً ، وتركني ألحق به خائفاً وسطَ تساؤل وتعجب المارّين ! دخل ساحة السمك وهو يُنادي :
- ياناس ،يا أولاد الحلال : الشنطة .. مين شاف شنطة ؟ فيها المصاري .. مصاري الحكومة ؟! الله يخليكم ..
كان بعضُهم يرفع رأسهُ إليه ويُبدي الإشفاق والتعاطف معه ، وبعضهم كان غير مُبالٍ .. أمّا هو فقد أوشكَ قلبه أن يقف من هول الصدمة !
وسمعَ من أقصى الساحة صوت أحد الباعة يُناديه :
- أبو هيثم ، تعال ..
فهُرعَ إليه يسبقه تساؤله المُرهـَق :
- أبو حسان ، شفت الشنطة ؟! والله مليانة .. غلة اليوم !
- صلي عالنبي أبو هيثم ، روق .. تعال اقعد . وقدّم إليه كرسيا صغيراً . هات الولد ، تعال عمّي ورفعني وأجلسني أمامه على الطاولة .
- شو فيها الشنطة أبو هيثم ؟
- رزم أم المئة ،ورزم أم خمس وعشرين ، وفراطة ملفوفين بورق ، كل لفة بعشرين ليرة لاففهم بإيدي !
- وشو فيها كمان ؟
- ..... وفيها نظارتي الطبية ... لونها أشقر
فأخرج أبو حسان الشنطة من تحت الطاولة ، ودفع بها إليه :
- تفضل .. والله أنت ابن حلال .. دير بالك مرة تاني .. نسيتَها عالبسطة .. وما انتبهت عليها إلا بعد ما رحت !
التقطها منه بلهفة ، وفتحها بسرعة فأخرج منها نظارته ثم راح يُلامس محتوياتها بأصابعَ مرتجفة ! فلمّا اطمأنّ وهدأ ؛ نظر إلى بائع السمك نظرة امتنان كبير :
- الله يريّح بالك يا أبو حسّان .. والله انقطع نفـَسي .. وكان قلبي رح يوقف !
وفتح علبة سجائرة المعدنيّة ، وقدّم له منها سيجارة :
- تفضل أخي أبو حسّان ، والله المصاري اللي بالشنطة ما لي فيها إلاّ النظر !
تناول أبو حسان السيجارة وأجابه :
- نحن لبعض أبو هيثم .. نحن لبعض . الله لا يشغل بالك على غالي .
رفعتُ نظري إليه ، ونظر إليّ :
- بابا !!
- ...................
ومسحتُ دمعتين سقطتا من عينيه على وجهي !

ناديه محمد الجابي
19-03-2014, 07:20 PM
قال سبحانه وتعالى:
"إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" سورة الكهف 30

وقد كان أبو هيثم أمينا ، ورغم احتياجه وكبر المبلغ
لم يغره بسرقته فرد الأمانة عندما تأكد من صاحبها
وعند الله لا يضيع المعروف..
فرده الله إليه عندما ضاعت منه الحقيبة الممتلئة بغلة
الحكومة بنفس السيناريو تقريبا .
كانت الدنيا ماتزال بخير .. والأمانة في الصدور والقلوب
ترى لو ضاعت في هذه الأيام حقيبة فهل من الممكن أن يعثر
عليها صاحبها ؟؟ أشك كثيراً.
قصتك رائعة أستاذ مصطفى ـ وككل كتاباتك هي بعض منك..
سيرة ذاتية عطرة أمتعتنا بها بسردك الشائق الرائع
وأدائك القصي المتمكن.
في كتاباتك صور من الحياة تكاد تنطق وأمام إبداعك لا أملك
إلا الإنحناء إجلالا واحتراما.. فشكرا لك.

مصطفى حمزة
21-03-2014, 05:35 PM
قال سبحانه وتعالى:
"إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" سورة الكهف 30

وقد كان أبو هيثم أمينا ، ورغم احتياجه وكبر المبلغ
لم يغره بسرقته فرد الأمانة عندما تأكد من صاحبها
وعند الله لا يضيع المعروف..
فرده الله إليه عندما ضاعت منه الحقيبة الممتلئة بغلة
الحكومة بنفس السيناريو تقريبا .
كانت الدنيا ماتزال بخير .. والأمانة في الصدور والقلوب
ترى لو ضاعت في هذه الأيام حقيبة فهل من الممكن أن يعثر
عليها صاحبها ؟؟ أشك كثيراً.
قصتك رائعة أستاذ مصطفى ـ وككل كتاباتك هي بعض منك..
سيرة ذاتية عطرة أمتعتنا بها بسردك الشائق الرائع
وأدائك القصي المتمكن.
في كتاباتك صور من الحياة تكاد تنطق وأمام إبداعك لا أملك
إلا الإنحناء إجلالا واحتراما.. فشكرا لك.
أسعد الله مساءكِ أختي العزيزة الفاضلة ، الأستاذة نادية
لابدّ أن تكون كتاباتنا بعضاً منّا ، عشناها حقيقةً أم لم نعشْ ..
تُعجبني قراءاتك لما تقرئين ، ويُسعدني مرورك ، ويُكرمني ثناؤك
دمتِ بألف خير

سعاد محمود الامين
22-03-2014, 12:03 PM
الاستاذ ممصطفي
مرحب بقلمك النبيل الذى يقطر قيما..طالما أثريت بها الذائقة الادبية أدب وأخلاق
شكرا لكرنفال المبادئ الذى زان النصوص..
االصدق والامانه لاتحتاج لمال او علم
انما غدوة من ربوا ابنائهم بالفطرة والقيم الدينية
بوركت

عبد السلام دغمش
22-03-2014, 06:22 PM
انتقال بين مشهدين يحكيان ذات المغزى ونفس العبارة: صنائع المعروف تقي مصارع السوء ..وكما تدين تدان ، ومن يعمل الخير لا يعدم جوازيه.
أكثر ما سرّني في المشهدين هذه الكاميرا المثبتة أعلى القلم ، تنقل المشهد ومن فيه و ما فيه ..بخيره وشرّه ، كثيرٌ ممن ينقلون لنا الصور الإيجابية يجعلون من " البطل" مثاليا .. ولكن الأجمل أن ننقلها بصورة المعقول ، حتى وان قبل الأمين سيجارةً كمافأة -.
تقديري للقلم الجميل.

خلود محمد جمعة
24-03-2014, 11:32 PM
مشهدين لصورة واحدة من الاخلاق التي نكاد نفقدها هذه الايام
رسالة عميقة للدين والامانة
عندما يكون الفكر عميق والقلم جاد واللغة متينة والثقافة عالية بروح طاهرة تولد الاعمال الادبية القيمة
دمت بكل الخير
مودتي وكل التقدير

آمال المصري
26-03-2014, 09:01 AM
مجموعة من القيم والمبادئ والمثل العليا اكتست رداءً أدبيًا بديعًا بسرد ماتع ..
وصورتان ناطقتان بالعبرة أتقنت اختيار ألوانهما بمهارة
بوركت أديبنا الفاضل واليراع الفريدة
تحاياي

كاملة بدارنه
27-03-2014, 02:41 PM
كاميرا صوّرت المشهدين المماثلين أجمل تصوير، وجعلتني أعيش بين الكلمات مستنشقة رائحة المكان، وناظرة إلى أهله وكأنّي بينهمّ ّ!
سرد رائع لمذكّرات ملآى بالصّور والقيم
بوركت أخي الأستاذ مصطفى
تقديري وتحيّتي

فوزي الشلبي
28-03-2014, 02:16 PM
الأديب النبيل مصطفى:
قصتان جميلتان على فترتين متباعدتين من الزمان...لكن لي أن أسأل
ما الرابط بين القصتين...هل هناك بطلا مشتركا بين شخوص القصتين...إلا علبة السجائر...وإلا اللهفة والهم والحسرة على كل من الفاقدين للشنطة...إلا إذا كان واجد الشنطة الأول في الأولى...هو فاقدها في القصة الثانية!
سردٌ بهيٌ بديع...ما أجمل ان ترد لهفة...وتستبدلها غبطة...ولقد حدث معي مثل ذلك يوما...إذ وجدت مبلغا ضخما من المال....فاتصلت بصاحبها...فما أجمل راحة البال لمن يطرد الشيطان من خلده!
تقديري الكبير وخالص ودي!

مصطفى حمزة
04-04-2014, 09:45 AM
الاستاذ ممصطفي
مرحب بقلمك النبيل الذى يقطر قيما..طالما أثريت بها الذائقة الادبية أدب وأخلاق
شكرا لكرنفال المبادئ الذى زان النصوص..
االصدق والامانه لاتحتاج لمال او علم
انما غدوة من ربوا ابنائهم بالفطرة والقيم الدينية
بوركت
أختي العزيزة ، الأستاذة سعاد
أسعد الله أوقاتك
وأنا أشكر مرورك الأنبل والأجمل
وأسعدتني قراءتك التي تقطر ذائقة أصيلة ، وأصالة في التذوق
تحياتي

مصطفى حمزة
04-04-2014, 09:48 AM
أخي الأكرم الأستاذ عبد السلام
أسعد الله أوقاتك
مرورك أسعدني ، وقراءتك أعجبتني ، وثناؤك أكرمني
تحياتي

مصطفى حمزة
04-04-2014, 09:52 AM
مشهدين لصورة واحدة من الاخلاق التي نكاد نفقدها هذه الايام
رسالة عميقة للدين والامانة
عندما يكون الفكر عميق والقلم جاد واللغة متينة والثقافة عالية بروح طاهرة تولد الاعمال الادبية القيمة
دمت بكل الخير
مودتي وكل التقدير
وتبقى - لصلاح ما ذكرتِ - القارئة الذوّاقة ، والفكر المتّقد ، والمهارة في السباحة ما بين الكلمات
وأظنها لديك أختي الفاضلة الأستاذة خلود
لك تحياتي وشكري

مصطفى حمزة
04-04-2014, 09:54 AM
مجموعة من القيم والمبادئ والمثل العليا اكتست رداءً أدبيًا بديعًا بسرد ماتع ..
وصورتان ناطقتان بالعبرة أتقنت اختيار ألوانهما بمهارة
بوركت أديبنا الفاضل واليراع الفريدة
تحاياي
أختي العزيزة الفاضلة ، الأستاذة آمال
أسعد الله أوقاتك
شكراً لكِ على القراءة الموجزة الشاملة الجميلة
تحياتي

مصطفى حمزة
04-04-2014, 09:57 AM
كاميرا صوّرت المشهدين المماثلين أجمل تصوير، وجعلتني أعيش بين الكلمات مستنشقة رائحة المكان، وناظرة إلى أهله وكأنّي بينهمّ ّ!
سرد رائع لمذكّرات ملآى بالصّور والقيم
بوركت أخي الأستاذ مصطفى
تقديري وتحيّتي
وبك بارك الله أختي الفاضلة الأستاذة كاملة
النبيل لا يطرب إلا للجميل النبيل ، وأرجو أن يكون قلمي نجح في خطّهما
أشكر مرورك وقراءتك ، وشرفني الثناء
تحياتي

مصطفى حمزة
04-04-2014, 10:00 AM
الأديب النبيل مصطفى:
قصتان جميلتان على فترتين متباعدتين من الزمان...لكن لي أن أسأل
ما الرابط بين القصتين...هل هناك بطلا مشتركا بين شخوص القصتين...إلا إذا كان واجد الشنطة الأول في الأولى...هو فاقدها في القصة الثانية!
!
أسعد الله أوقاتك أخي الكريم الأستاذ فوزي
لعلّك تجد فيما توقعتَ جواباً على ما سألتَ
أشكر مرورك وتعليقك الجميل
تحياتي

ربيحة الرفاعي
08-04-2014, 04:08 PM
اقتناص قصّيّ احترافي للحظة إنسانية في مشهدين أرتفع معدل الاحتدام الشعوري في أولهما لأقصى مداه، بصراع بين الحاجة الماسة للمبلغ والتي عبر عنها الكاتب بتجارة الأب التي انكسرت فاضطر البطل للعمل عتالا، والثروة اللقيطة يخبئها بين ثوبه ولحمه فتلفظها روح طاهرة استنهض أمانتها صياح ذلك الذي يعيش صراعا مختلفا تتناوشه فيه أسنة الرعب من عقاب أبي هاني لفقده المال.
ولأن حصة من ضيع المال من التفصيل التأثيري في المشهد كانت أقل، فقد أعطى الكاتب للحالة المماثلة في المشهد الثاني حصة الأسد، حتى ظهر المنقذ في زاوية هادئة منه بسلوك غلب عليه البرود دون أدنى حوار داخلي يحكيه النص، وهذا برأيي نجاح للكاتب في حصر حضور فكر القارئ وتفاعله باتجاه محدد.

اللغة متينة، والحبكة في كلا المشهدين متقنة، تصاعد فيها البناء الدرامي في سرد شائق وتمكن من الأدوات القصية وظف النص بتفاصيله في خدمة توجيه تربوي وبناء أخلاقي

دمت بروعتك أيها الكريم

تحاياي

مصطفى حمزة
09-04-2014, 12:19 PM
اقتناص قصّيّ احترافي للحظة إنسانية في مشهدين أرتفع معدل الاحتدام الشعوري في أولهما لأقصى مداه، بصراع بين الحاجة الماسة للمبلغ والتي عبر عنها الكاتب بتجارة الأب التي انكسرت فاضطر البطل للعمل عتالا، والثروة اللقيطة يخبئها بين ثوبه ولحمه فتلفظها روح طاهرة استنهض أمانتها صياح ذلك الذي يعيش صراعا مختلفا تتناوشه فيه أسنة الرعب من عقاب أبي هاني لفقده المال.
ولأن حصة من ضيع المال من التفصيل التأثيري في المشهد كانت أقل، فقد أعطى الكاتب للحالة المماثلة في المشهد الثاني حصة الأسد، حتى ظهر المنقذ في زاوية هادئة منه بسلوك غلب عليه البرود دون أدنى حوار داخلي يحكيه النص، وهذا برأيي نجاح للكاتب في حصر حضور فكر القارئ وتفاعله باتجاه محدد.
اللغة متينة، والحبكة في كلا المشهدين متقنة، تصاعد فيها البناء الدرامي في سرد شائق وتمكن من الأدوات القصية وظف النص بتفاصيله في خدمة توجيه تربوي وبناء أخلاقي
دمت بروعتك أيها الكريم
تحاياي
أختي الفاضلة ، الأستاذة ربيحة
أسعد الله أوقاتك
قراءة ماتعة ، من أديبة رائعة وناقدة بارعة .. تحليلك لما يُعرف في فن القصّة القصيرة بـ ( التوازن ) كان مدهشاً !
أسعدني مرورك ، وشرفني الثناء
دمتِ بألف خير

د. سمير العمري
05-05-2014, 01:07 PM
أنت خير مثال أخي أبا عقبة على الأديب المميز الذي يوظف حرفه لنشر الحق والخير والجمال والتأكيد على قيم النبل والصدق والوفاء وهذا مما أشكره لك وأشكره فيك!

والقصة هنا بمشهديها دليل على أن الأصل هو أن نتحرى التزام مناهج الخلق النبيل والقيم العليا وليس الانصياع لما يمليه علينا واقع مريض أو أناس فاسدون ، وقد جاء النص بلغة عالية وسردية جذابة وأداء محترف جميل!

لا فض فوك ودمت لسان حق مبين!

تقديري

مصطفى الصالح
05-05-2014, 09:16 PM
قصّة قصيرة
أبو هيثم
اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
في عزّ الصيف وكنتُ شابّاً في الحادية والعشرين ، .

اللاذقية – صيف 1969 م
أنا في العاشرة من عمري


التاريخ يعيد نفسه، ذكرتني بالآية التاسعة من سورة النساء ( هكذا حفظتها عن عبد الحميد كشك رحمه الله): وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا [9]

سرد روائي مشوق فيه الحكمة والعبرة

سؤالي: هل أنت متأكد من التواريخ التي أوردتها أعلاه، ما أثار شكي أن الحادثتين بنفس صيغة المتكلم وليس بينهما فرق في الحدث,..

وهذا ذكرني بقصة لي فيها مع الذي هنا تطابق الفكرة

دمت مبدعا

كل التقدير

ناديه محمد الجابي
06-05-2014, 10:33 AM
أستاذن الأستاذ/ مصطفى حمزة في توضيح الإلتباس الذي حدث
في الفهم للأستاذ/ مصطفى الصالح..

اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
الراوي هنا هو البطل .. العامل في الميناء والذي وجد الكيس الورقي الحاوي للنقود.

اللاذقية – صيف 1969 م
الراوي هنا هو الكاتب بنفسه يتحدث عن ( أبي هيثم ) قائلا : بأنه أصبح يعمل في مؤسسة النقل العام
بعد أن كان يعمل في المرفأ .. هو نفسه الذي وجد النقود في المرة الولى فيسلمها إلى صاحبها
يفقد النقود في القصة الثانية ثم ترد له.
رفعت نظري إليه. ، ونظر إلى
ـ بابا
ـ .........
ومسحت دمعتين من عينيه على وجهي
هذه هى العلاقة بين الكاتب وأبو هيثم ..
هل استطعت التوضيح؟؟

مصطفى الصالح
06-05-2014, 02:02 PM
أستاذن الأستاذ/ مصطفى حمزة في توضيح الإلتباس الذي حدث
في الفهم للأستاذ/ مصطفى الصالح..

اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
الراوي هنا هو البطل .. العامل في الميناء والذي وجد الكيس الورقي الحاوي للنقود.

اللاذقية – صيف 1969 م
الراوي هنا هو الكاتب بنفسه يتحدث عن ( أبي هيثم ) قائلا : بأنه أصبح يعمل في مؤسسة النقل العام
بعد أن كان يعمل في المرفأ .. هو نفسه الذي وجد النقود في المرة الولى فيسلمها إلى صاحبها
يفقد النقود في القصة الثانية ثم ترد له.
رفعت نظري إليه. ، ونظر إلى
ـ بابا
ـ .........
ومسحت دمعتين من عينيه على وجهي
هذه هى العلاقة بين الكاتب وأبو هيثم ..
هل استطعت التوضيح؟؟




شكرا لك أستاذة نادية

الواقع أني أجد فجوة في استخدام الضمائر
من هنا كان استفهامي

وإلا فالأحداث مفهومة لي

كل التقدير

مصطفى حمزة
06-05-2014, 08:48 PM
أنت خير مثال أخي أبا عقبة على الأديب المميز الذي يوظف حرفه لنشر الحق والخير والجمال والتأكيد على قيم النبل والصدق والوفاء وهذا مما أشكره لك وأشكره فيك!
والقصة هنا بمشهديها دليل على أن الأصل هو أن نتحرى التزام مناهج الخلق النبيل والقيم العليا وليس الانصياع لما يمليه علينا واقع مريض أو أناس فاسدون ، وقد جاء النص بلغة عالية وسردية جذابة وأداء محترف جميل!
لا فض فوك ودمت لسان حق مبين!
تقديري
أخي الحبيب الدكتور سمير
أسعد الله أوقاتك
أرجو أن أكون بعضَ ما قلتَ فيّ ، وأن يوفقني الله إلى ما يحبه ويرضاه
الأدب رسالة كما - تعلم وتعمل - وهو كغيره من الأعمال التي سنُحاسَب عليها يوم تبيض وجوه وتسود وجوه
أشكر مرورك وقراءتك ورأيك التي تبهجني وتكرمني دائماً
دمتَ بألف خير

مصطفى حمزة
06-05-2014, 08:56 PM
سؤالي: هل أنت متأكد من التواريخ التي أوردتها أعلاه، ما أثار شكي أن الحادثتين بنفس صيغة المتكلم وليس بينهما فرق في الحدث,..



أستاذن الأستاذ/ مصطفى حمزة في توضيح الإلتباس الذي حدث
في الفهم للأستاذ/ مصطفى الصالح..
اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
الراوي هنا هو البطل .. العامل في الميناء والذي وجد الكيس الورقي الحاوي للنقود.
اللاذقية – صيف 1969 م
الراوي هنا هو الكاتب بنفسه يتحدث عن ( أبي هيثم ) قائلا : بأنه أصبح يعمل في مؤسسة النقل العام
بعد أن كان يعمل في المرفأ .. هو نفسه الذي وجد النقود في المرة الولى فيسلمها إلى صاحبها
يفقد النقود في القصة الثانية ثم ترد له.
رفعت نظري إليه. ، ونظر إلى
ـ بابا
ـ .........
ومسحت دمعتين من عينيه على وجهي
هذه هى العلاقة بين الكاتب وأبو هيثم ..
هل استطعت التوضيح؟؟

أخي الأكرم الأستاذ مصطفى
أسعد الله أوقاتك
أشكر مرورك
أسعدني رأيك ، وشرّفني الثناء
لعلّ الأخت العزيزة الأستاذة نادية قد كتبت الإجابة الكافية
===
أختي العزيزة الأستاذة نادية
لكِ شكري الجزيل ، وامتناني
وإذنك معك دائما
تحياتي

خالد يوسف أبو طماعه
07-05-2014, 05:59 PM
أبو هيثم

نص باذخ وجميل بلغة سلسة وغير معقدة

أحداث متشابه لحد كبير في سرد الأحداث

أعجبتي القصة كثيرا لما تحمل فيها من موروث

للتربية الصالحة وتعليم لمعنى الأمانة والرجولة

أرى أن التاريخ الأول للأحداث يجب أن يكون هو الأسفل

والتاريخ الآخر هو أسفل النص وبهذا أعتقد أن اللغط سيزول

ولكم الأمر وهذا اجتهادي وما رأيته في النص

تقبل مروري وكثير تقدير

مصطفى الصالح
07-05-2014, 06:43 PM
أخي الأكرم الأستاذ مصطفى
أسعد الله أوقاتك
أشكر مرورك
أسعدني رأيك ، وشرّفني الثناء
لعلّ الأخت العزيزة الأستاذة نادية قد كتبت الإجابة الكافية
===
أختي العزيزة الأستاذة نادية
لكِ شكري الجزيل ، وامتناني
وإذنك معك دائما
تحياتي

بارك الله بكما

يبدو أنني لم أستطع التوضيح والشرح

سأحاول الشرح بطريقة أخرى أكثر إسهابا بعد إذنكم
-------

اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م
كنتُ أتمشّى ألتقمُ سندويشة الفلافل قبل أن تنتهي استراحة الغداء. وكنتُ شابّاً في الحادية ‏
والعشرين وإذا بي أركلُ أحدَ الأكياس الورقيّة ؛ فأشعرُ بأنّ فيه شيئاً ما ‏‎
‎- ‎كيس المصاري عندها أخرجتُ الكيسَ وناولتُهُ إيّاه ، وقلت له‎ :
‎- ‎خذ عمّي ‏
‏=====‏
بعد 22 سنة
اللاذقية – صيف 1969 م‎
أنا في العاشرة من عمري ،
من يتحدث هنا؟؟ هل هو نفس الراوي السابق أم تغير؟
الإنسان يكبر أم يصغر؟ ‏
كان يتأبطها بيد ، ‏
فجأة بصوت مُرعب‎ :
‎- ‎الشنطة يا مصطفى .. الشنطة .. المصاري‎ !!
التقطها منه بلهفة ، وفتحها بسرعة فأخرج منها نظارته ثم راح يُلامس محتوياتها بأصابعَ مرتجفة ‏
‏-----------‏
بعد التدقيق يتبين لي أننا أمام قصتين كتيبتا في وقتين مختلفين ثم تم جمعهما دون التدقيق في الضمائر ولا ‏التواريخ، وهنا التسلسل المنطقي للقصة
لكنني فهمت أن الأب هو الذي في القصة الأولى والإبن يتحدث في الثانية
لذلك يتوجب التكلم عن الأب بضمير الغائب في القصة الأولى لتكتمل منطقية السرد والحدث

أرجو أن أكون قد أوضحت ولكم التقدير

تحياتي

مصطفى الصالح
07-05-2014, 07:01 PM
ولكي أوضح فكرتي أكثر سأعمل على النص لعيون أخي مصطفى حمزة

اللاذقية – المرفأ – صيف 1947 م‎
كانوا في استراحة الغَداء في عزّ الصيف ، الرطوبة شديدة ، مُعبّقة بمزيج من الروائح اللاذعة ‏المتنوّعة الفائحة من البحر ومن البضائع في المستودعات ، ومن البواخر القديمة المنتظرة ، ومن ‏أكداس الأكياس على الرصيف ، والمُخلّفات المتناثرة هنا وهناك‎ ..
كان يتمشّى يلتقمُ سندويشة الفلافل قبل أن تنتهي استراحة الغداء ؛ فهناكَ عشرات الرصّات تنتظره ‏وزملاءه من الشيّالين لنقلها من الرصيف إلى داخل المستودع . وكان شابّاً في الحادية والعشرين، ‏قويّاً مفتول العضلات ، لكنه كسيرُ النفس محزون ، مجروح ، فقد ضاقت المدينة عن عملٍ آخر ‏له، يساعد بأجره أباه الذي انكسرت تجارتُه .. رحمه الله تعالى‎ .
يلبس قميصه على لحم جسمه ، ويعقده عند السّـُرّة ، ويلبس تحته بنطالاً لا لون له وحذاءً صيفياً ‏من يراه ينتعله يظن أنه حافي القدمين !! مشى يركل بقدميه بلا مبالاة ما تناثر في طريقه على ‏الرصيف مِن مرميّات متنوّعة ، وأكياس ورقيّة محشوّة بالقمامة ، وبقايا الطعام .. كان يتسلّى ‏بذلك.. شاردَ الذهن ، مكدوداً مُتعباً‏‎ ..
وإذا به حين ركلُ أحدَ الأكياس الورقيّة ؛ يشعرُ بأنّ فيه شيئاً ما ! انحنى والتقطهُ، وحين فضه ‏وقعتْ عيناه على رزمٍ من النقود ! تفحّصها سريعاً وهو خائف أن يراه أحدٌ ! كانتْ كلّها من فئة ‏عشر ليرات ، وكانت بضعة ليرات في تلك الأيام تكفي لمعيشة أسرة لعدة أيام ! تسارعتْ دقّاتُ ‏قلبه بشدّة حتى سمعها ! وخال أنّها ستُخبر الناسَ عنه وتفضحُ ما عثر عليه ! لف الكيسَ ‏بأطرافه ثم دَسَهُ داخلَ قميصه المعقود إلى بطنه، وأرجعه وراء خاصرته لئلا يلمحه أحد ، وأكمل ‏التقام سندويشته ، ثم عاد إلى زملائه‎ .
من بعيد لمح الشيّالين مجتمعين ، ولمّا اقترب وجدهم يتحلّقون حولَ رجلٍ مذعورٍ يلطمُ وجههُ ‏ويبكي ويصيح‎ :
‎- ‎انخربْ بيتي .. يا ألله .. والله ليعْمِلْ فيني أبو هاني العَمايـِل‏‎ !!
ومرفأ اللاذقية آنذاك كانَ يُديره رجلٌ واحدٌ ، قويّ ( معلّم ) له كلمته وثقله في المدينة ، اسمه أبو ‏هاني قدسي‎ .
بدا له الرجلُ سِتّينيّاً ، نحيلاً ، ناتئ الوجنتين ، له لحية خفيفة بيضاء ، فوق رأسه طربوش أحمر ‏متهالك ، ويلبس سترة قصيرة فوقَ بنطالٍ من لونٍ آخر مُنْحَسـِرٍ عن حذاءٍ مغبرٍّ قديم‎ ..
وتسارعتْ إلى سمعه هذه العبارات‎ :
‎- ‎مُحاسب عند " أبو هاني‎ "
‎- ‎مسكين .. أضاعَ الغلّة‎ !
‎- ‎والله ليخربْ بيتو أبو هاني .. ما عندو يا أمّي ارحميني‎ !!
اندفع إليه مخترقاً الزّحامَ حوله ، ثمّ أخذه من يده وابتعد به عن الحشد . انقاد له وهو ينظر في ‏وجهه مستغرباً مُستنجِداً ، ودموعه تُرطب غُضونَ خدّيْهِ‎ !
‎- ‎وكّل الله ياعم .. شو ضايع لكْ ؟‎
‎- ‎كيس المصاري .. معاشات العمال يا بني .. الشهريّة كاملة ! كنتُ في طريقي لأوزّعها عليهم ‏فجأة شعرت بصداع رهيب ، فجلستُ لأستريحَ قليلاً عندَ الرصيف هناك – وأشار بيده إلى حيثُ ‏كنتُ أتمشّى – ثم نهضتُ وتابعتُ سيري .. ولا أعرف أين ومتى سقط الكيسُ منّي‎ !!
‎- ‎شو كان بالكيس عمّي ؟‎
‎- ‎رزم أم العشرة .. خمسة آلاف ليرة سوريّة‎ .
‎- ‎ممكن تعطيني علامة عمّي ؟‎
نظر إليه بابتسامة غريبة ، وبرقت في عينيه سحائبُ الأمل ! ثم هجم عليه وأمسك بكتـِفيه‎ :
‎- ‎الكيس معك يا بني ؟ طمّني ... ريّحْني الله يريّحك‎ !
‎- ‎صلّي عالنبي عمّي .. شو في كمان بالكيس غير المصاري ؟‎
صاح‎ :
‎- ‎عويناتي .. عويناتي الطبّيّة .. لونها أشقر‎ ..
عندها أخرج الكيسَ وناولهُ إيّاه قائلا‎ :
‎- ‎خذ عمّي .. والله ما مددتُ يدي إلى المصاري ، فقط ألقيتُ نظرة على محتواه‎ .
التقطَ الكيسَ من يده بلهفة ، ثم أخرج النظارة منه ووضعها أمام عينيه و أطلق أصابعه يُمررها ‏بين الرزم .. بعد قليل تنهّدَ تنهيدة عميقة ، وأخرج من جيب سترته منديلاً وراح يمسح به العرق ‏المتصبب من جبهته ورقبته . ثمّ رآه يدسّ يده في جيب سترته ويُخرج منها علبة سجائر معدنية ، ‏فتحها وأخرج منها سيجارة واحدة ملفوفة باليد ، وقدّمها له:‏‎
‎- ‎اقبلها مني يا بني .. الله يخلّيك . والله ما في شي تاني أعطيك إياه‎ !
أخذها من يده ، وثبتها فوق أذنه‎ :
‎- ‎ولا يهمّك عمّي .. الله معك ‏‎. ‎
اللاذقية – صيف 1969 م
أنا في العاشرة من عمري ، وكان وقتئذٍ موظّفاً لدى مؤسسة النقل الداخلي ويبدو أكبر من عمره بسنوات من شقوة المرفأ ! عملُهُ أنْ يقبض من الجُباة غلاّتهم اليوميّة ويُقارن بينها وبين أرقام التذاكر المسلّمة إليهم ، ثم يحتفظ بها في صندوقه الحديديّ ليودعَها المصرفَ في اليوم التالي . وقد اعتادَ من باب الحيطة ألاّ يترك غلّة يوم الخميس في الصندوق ؛ فكان يصطحبها معه إلى البيت ويقفل عليها حتى صباح السبت .
لازلتُ أذكرُ تلك الحقيبة السوداء السميكة التي كانت تحضن غلاّت أيام الخميس ! فكم من ليلة كنتُ أرقبه فيها يُفرغ محتوياتها على الحصير ثم يعدّها ويُعيدها ، ويُحكم قفلها ، ثم يرفعها فوق الخزانة الكبيرة في غرفة النوم .
وفي عصر ذلك اليوم ، كان يتأبطها بيد ، ويُمسك كفّي الصغيرَ بيده الأخرى ، ويسير بي برفق في ساحة السمك الفسيحة وسط المدينة . وأنا لا أزال أطبق أسناني على قطنة طبيب الأسنان الذي غادرناه قبل قليل . لقد أوصته أمّي أن يجلب معه (أكلة) سمك لتكون غداءنا يوم الجمعة فراح يتنقل من بائع إلى بائع ليختار لنا السمك الذي نُحبّه ، وكان يقرفص هنيهة عند كل كومة سمك فيُعاين غلاصم إحداها ليتأكد من احمرارها وأنّها من صيد اليوم وليست من سمك الثلاجة
اشترى طلبَه ، ثمّ غادرنا الساحة باتجاه مواقف الحافلات ، ولم نكن قد مشينا بعيداً حين صاح فجأة بصوت مُرعب :
- الشنطة يا مصطفى .. الشنطة .. المصاري !!
وهرول راجعاً ، وتركني ألحق به خائفاً وسطَ تساؤل وتعجب المارّين ! دخل ساحة السمك وهو يُنادي :
- ياناس ،يا أولاد الحلال : الشنطة .. مين شاف شنطة ؟ فيها المصاري .. مصاري الحكومة ؟! الله يخليكم ..
كان بعضُهم يرفع رأسهُ إليه ويُبدي الإشفاق والتعاطف معه ، وبعضهم كان غير مُبالٍ .. أمّا هو فقد أوشكَ قلبه أن يقف من هول الصدمة !
وسمعَ من أقصى الساحة صوت أحد الباعة يُناديه :
- أبو هيثم ، تعال ..
فهُرعَ إليه يسبقه تساؤله المُرهـَق :
- أبو حسان ، شفت الشنطة ؟! والله مليانة .. غلة اليوم !
- صلي عالنبي أبو هيثم ، روق .. تعال اقعد . وقدّم إليه كرسيا صغيراً . هات الولد ، تعال عمّي ورفعني وأجلسني أمامه على الطاولة .
- شو فيها الشنطة أبو هيثم ؟
- رزم أم المئة ،ورزم أم خمس وعشرين ، وفراطة ملفوفين بورق ، كل لفة بعشرين ليرة لاففهم بإيدي !
- وشو فيها كمان ؟
- ..... وفيها نظارتي الطبية ... لونها أشقر
فأخرج أبو حسان الشنطة من تحت الطاولة ، ودفع بها إليه :
- تفضل .. والله أنت ابن حلال .. دير بالك مرة تاني .. نسيتَها عالبسطة .. وما انتبهت عليها إلا بعد ما رحت !
التقطها منه بلهفة ، وفتحها بسرعة فأخرج منها نظارته ثم راح يُلامس محتوياتها بأصابعَ مرتجفة ! فلمّا اطمأنّ وهدأ ؛ نظر إلى بائع السمك نظرة امتنان كبير :
- الله يريّح بالك يا أبو حسّان .. والله انقطع نفـَسي .. وكان قلبي رح يوقف !
وفتح علبة سجائرة المعدنيّة ، وقدّم له منها سيجارة :
- تفضل أخي أبو حسّان ، والله المصاري اللي بالشنطة ما لي فيها إلاّ النظر !
تناول أبو حسان السيجارة وأجابه :
- نحن لبعض أبو هيثم .. نحن لبعض . الله لا يشغل بالك على غالي .
رفعتُ نظري إليه ، ونظر إليّ :
- بابا !!
- ...................
ومسحتُ دمعتين سقطتا من عينيه على وجهي !

خالد يوسف أبو طماعه
07-05-2014, 08:30 PM
لم يكن اجتهادي في مكانه تماما

وأتفق فيما أورده الأخ مصطفى الصالح

المشكلة هي تكمن في الضمائر كما أسلف الصالح

وبتعديله للنص زالت الغمة وبكل صدق جلست أقرأ وأعيد النص

لأكثر من أربع ساعات وكلما حاولت الإمساك بخيط الخلل يطير سريعا

وفي النهاية هو نص جد جميل وسرد بطريقة جميلة جدا لولا خربطة الضمائر

سررت بمكوثي هنا أخي مصطفى حمزة

محبتي والتقدير

مصطفى حمزة
11-05-2014, 05:08 AM
أرى أن التاريخ الأول للأحداث يجب أن يكون هو الأسفل
والتاريخ الآخر هو أسفل النص وبهذا أعتقد أن اللغط سيزول

أخي الأكرم الأستاذ خالد
أسعد الله أوقاتك
أشكر لك قراءتك الجادّة ، وأسعدني الإعجاب وأكرمني
تحياتي

خالد يوسف أبو طماعه
12-05-2014, 06:36 PM
أخي الأكرم الأستاذ خالد
أسعد الله أوقاتك
أشكر لك قراءتك الجادّة ، وأسعدني الإعجاب وأكرمني
تحياتي

ما لون بالأحمر من قبلكم لم يكن سوى خطأ مطبعي أثناء الكتابة

وما قلته مجرد وجهة نظر لا غير

لا أحب تصيد الأخطاء وأعتذر عن دخولي متصفحك

تحياتي

مصطفى حمزة
13-05-2014, 06:24 AM
ما لون بالأحمر من قبلكم لم يكن سوى خطأ مطبعي أثناء الكتابة
وما قلته مجرد وجهة نظر لا غير
لا أحب تصيد الأخطاء وأعتذر عن دخولي متصفحك
تحياتي
أخي الأكرم الأستاذ خالد
أسعد الله أوقاتك
أنا لم أتصيد أخطاءك ، ولا ينبغي لي ، ولم أفكر في ذلك وكلّي أخطاء !
فقط علمتُ بالأحمر مستفسراً ليس إلاّ
أما أنا فيُشرّفني دائما مجرد مرورك على ما أخربش
دمتَ بألف خير

مصطفى حمزة
13-05-2014, 06:35 AM
ولكي أوضح فكرتي أكثر سأعمل على النص لعيون أخي مصطفى حمزة

------
أخي الأكرم الأستاذ مصطفى الصالح
أسعد الله أوقاتك
أولاً سلّم الله عيونك وروحك من كل شر ، وأكرمك المولى
ثم ، أنا والله لا أحب ولا أحب لغيري أن يشرح للآخرين ما يكتب ، فأنا أظن أن النص يُصبح ملك قارئه بعدَ نشره ليقرأه ألفاً منوّعة ..
لكنني وجدتُ هنا تعباً فيما لا يُتعب ، وجهداً ضائعاً في غير مكانه !!
اسمح لي أن أورد هاتين العبارتين من القسم الثاني من القصّة ، وأتركك بعدها لتنظر : أليس واضحاً تماماً مَن المتكلّم في كلا القسمين :
( - أنا في العاشرة من عمري ، وكان وقتئذٍ موظّفاً لدى مؤسسة النقل الداخلي ويبدو أكبر من عمره بسنوات من شقوة المرفأ .. )
- رفعتُ نظري إليه ، ونظر إليّ :
- بابا !!
وأظنك توافقني على أن التلميح في الأدب أقوى فنياً من التصريح ..
تحياتي وتقديري

نداء غريب صبري
23-07-2014, 06:45 PM
من يعمل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس

والخير لا يموت في الناس، لهذا تكرر المشهد للنبيل في ابنه
هكذا فهمتها
والأهم أني استمتعت جدا بالأسلوب واللغة

شكرا لك أخي

بوركت

د.حسين جاسم
22-09-2014, 12:09 AM
تمسك باقتدار بقلمك وفكرتك وتعرف كيف توصلها بذكاء وأسلوب مشوق

أحييك

مصطفى حمزة
09-10-2014, 06:27 AM
من يعمل الخير لا يعدم جوازيه
لا يذهب العرف بين الله والناس
والخير لا يموت في الناس، لهذا تكرر المشهد للنبيل في ابنه
هكذا فهمتها
والأهم أني استمتعت جدا بالأسلوب واللغة
شكرا لك أخي
بوركت
أختي الفاضلة ، الأديبة النبيلة نداء
أسعد الله أوقاتك
وأنا يُبهجني ويُكرمني أن يقرأني أمثالُكِ من المتأملين الذّواقين
والشكر الجزيل لكِ
دمتِ ودمتم بألف خير
- أظن أن البيت : من يفعل الخير ...

مصطفى حمزة
09-10-2014, 06:29 AM
تمسك باقتدار بقلمك وفكرتك وتعرف كيف توصلها بذكاء وأسلوب مشوق
أحييك
حياكَ اللهُ أخي الأكرم الدكتور حسين
لعلّكَ بالغتَ ، كرماً منكَ وفضلاً
دمتَ بخير

رويدة القحطاني
03-01-2015, 01:28 AM
مشهدان تفاصيلهما متشابهة وقضيتهما واحدة فهل كان بينهما بطل مشترك؟
أظن ذلك
أسلوبك رائع ولغتك قويّة وفي قصتك رسالة نبيلة

مصطفى حمزة
19-01-2015, 07:02 AM
مشهدان تفاصيلهما متشابهة وقضيتهما واحدة فهل كان بينهما بطل مشترك؟
أظن ذلك
أسلوبك رائع ولغتك قويّة وفي قصتك رسالة نبيلة
أختي الفاضلة ، الأديبة رويدة
أسعد الله أوقاتك
قراءتكِ خاصّة ..
أشكر مرورك ، وأكرمتِني بالثناء
تحياتي