فوزي الشلبي
24-04-2014, 01:06 PM
مرآةٌ في الميزانٍ!
قلتُ لهُ: ما لكَ إذا قيلَ لكَ إنَّ أمَّكَ بحاجةٍ إلى إحدى كليَتَيْكَ...فتردد-وكأنَّ السؤالَ الافتراضيَّ فاجأَهُ- قبلَ أنْ يجيبَ: أمّي ي ي ي ي.....أفكِّرُ بالأمرِ!
كانَ يأخذُنا الحديثُ كثيراً عن مشكلةِ الشَّرقِ الأوسطِ؛ احتلالٌ اسرائيليٌّ، جهودُ المبعوثِ الدوليِّ العبثيةِ؛ في أحلامِ العودةِ والحلِّ المستحيلِ، سياساتِ التمريرِ المستمرَّةِ وحلقِ الذُّقونِ.
قلتُ: ألم تتفكّرْ في قولهِ تعالى: " والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً، ويخلقُ ما لا تعلمون"..قال: ولمَ لا أتفكَّرُ!...وقدْ زرعوا قلباً في صدرٍ، وقرنيةً في عينٍ، وكِليَةً مكانَ كليتينِ قاصرتينِ!..لكنَّ شعراً على رأسٍ أجدبَ فلا..
قلتُ: ألا ترى أنَّ القتابلَ المتفجِّرةَ تتساقطُ على رؤوسِ النّاسِ في بيروتَ...قالَ وقد برقتْ عيناه: فتمنّيتُ أن أرافقَ طبيباً جرّاحاً لينتزعَ فروةَ رأسِ قتيلٍ شعرهُ يشبهُ شعريَ الذي تساقطَ عنوةً عنّي..ليزرعَها في رأسيَ!
كان شعرُ رأسِهِ كثيفاً أسوداً جميلَ الترتيبِ عندما انتقلَ إلى المدرسةِ الجديدةِ وهو ابنُ عشرِ سنينَ، مما كانَ يحسُدُهُ عليهِ أقرانُهُ، بل ومنْ هو أكبرُ منهٌ سنّاً. وكانَ اؤلئكَ الصِّبيةُ يتناجوْنَ أو يحُدِّثونَ أنفسَهم: يا ليتَ لنا مثلَ ما لفريدٍ من شعرٍ أسودَ فاحمٍ نضيدٍ نتباهى به أمامَ الفتياتِ الغادياتِ إلى مدارسِهنَّ، والرائحاتِ بعدَ الظهيرةِ إلى بُيوتِهنَّ.
ولمّا شبَّ طوقُهُ إلى اثنتي عشرةَ سنةً ، احتملَ مِشطاً في جيبِهِ الخلفيِّ يُسرِّحُ بهِ شعرَهُ من حينٍ إلى حينٍ، فيغيظُ بهِ أو يُنقمُ بهِ عليهِ. وإنَّ منَ الفتياتِ لَمنْ يَرْقُبنَّهُ عن جُنُبٍ فَيُعْجَبنَ بهِ ويبادلنَهُ الابتسامَ، فيزدادُ شأنُهُ كِبراً وغروراً ، ويزدادُ همسُ الهامسينَ: " يا ليتَ لنا مثلَ ما لفريدٍ.."
وذاتَ مساءٍكنتُ في زيارةٍ لصديقيَ فريدٍ، وقد علتْ طبقةٌ منَ الشَّعرِ رأسَهُ. وعندما أخذتُ مجلسيَ في بيتِهِ، وتسامرنا، فسرَّني منهُ ما سررتُهُ بهِ قُبيْلَ مغادرَتي.
قلتُ لهُ: واللهِ إنّني لسعيدٌ جداً لمظهركَ الجديدِ هذا، فقدْ غدوتَ أمرعاً بعدَ أن كنتَ أقرعاً..فتغيَّرَ لونُهُ، وتمعّرَ وجهُهُ، وانقبضَ صدرُهُ، وذرفَ الدَّمعَ الغزيرَ..فأقبلتُ عليهِ وضممتُ رأسَهُ إلى صدريَ..أكفكفُ دمعَهُ بمندِيلي..حتى إذا هدأَ تماماً أطلقتُهُ وعدتُ إلى مجلِسي، قلتُ: أجرحتُكَ يا صاحِ بقولي؟!..فأومأَ برأسِهِ أنْ أيْ نعمْ!..وقالَ: لماذا تُذكِّرُني في حينَ أريدُ أنْ أنسى!
قلتُ: أرايتَ لو قلتُ لكَ إن دموعَكَ هذهِ غاليةُ الثَّمنِ، أتحزنُ؟..قال: لا، على العكسِ، بل هذا كلامٌ طيبٌ جميلٌ!..قلت: فإذنْ!..قال: اعلمْ يا صَديقي أنَّ مشكلةَ صلعتي هيَ أهمُّ عنديَ من مشكلةِ الشَّرقِ الأوسطِ برُمَّتِها..ولا يعنيني المبعوثُ الدَّوليُّ أجاءَ أمْ ذهبَ. وإنْ كانَ يهمُّكَ ذلكَ جداً فرُبَّما أغبطُكَ، بما لا يسعني ذلكَ إلاّ أنْ أحزنَ وأغضبَ عندما يذكِّرُني أحدٌ بصلعتيَ..إذ كان يُحرِجُني ذلكَ أمامَ الفتيةِ والشّبابِ. أما الفتياتُ فأمرُهُنّ أشدُّ عليّ إذا ما رَمَقْنَني عن جُنبٍ نظرةَ عطفٍ أو نظرةَ استجداءٍ..
فزعتُ من نوميَ..وذهبت إلى عمليَ مسرعاً، قابلتُ فريداً، وكان مشرقاً باسماً، وكانت صلعتُهُ قدْ غطَّتها باروكةُ شعرٍ أسودَ فاحمٍ تماماً مثلَ الشَّعرِ الذي كانَ يكسو رأسَهُ يافعاً..أخرجَ المشطَ من جيبهِ الخلفيِّ ومرآةً صغيرةً وجعلَ يبتسمُ فيها..والتفتُّ إلى الصحيفةِ اليوميةِ..لأقرأَ العنوانَ:
قبولُ مقعدٍ لفلسطينَ في الجمعيةِ العامَّةِ للأممِ المتَّحدةِ ..وكان الناسُ يأكلون الكلامَ ويمضغونَهُ ولا يزدردونَهُ..
وحتى إذا بلغ فريدُ الرابعةَ عشرَ من عمرِه، بدأ شعرُه يتساقطُ يوماً بضعَ شعرات، ثم معَ قادمِ الأيام أكثرَ فأكثرَ، فذهبتْ غرَّتُهُ وشعرُ فَوْدَيْهِ . ولم تعدِ الفتياتُ بعدَ هذا السُّقوطِ ممن يأبهنَ لَهُ، أوحتى في استجداءِ نظرةِ عطفٍ.."وأصبح الذين تمنَّوا مكانَه بالأمس يقولون: وي كأنَّ اللهَ يبسطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ من عبادِه ويقدرُ، لولا أن منَّ اللهُ علينا لخسفَ بنا، ويْ كأنَّه لا يفلحُ الظالمون"..صدقَ اللهُ العظيمُ.
قلتُ لهُ: ما لكَ إذا قيلَ لكَ إنَّ أمَّكَ بحاجةٍ إلى إحدى كليَتَيْكَ...فتردد-وكأنَّ السؤالَ الافتراضيَّ فاجأَهُ- قبلَ أنْ يجيبَ: أمّي ي ي ي ي.....أفكِّرُ بالأمرِ!
كانَ يأخذُنا الحديثُ كثيراً عن مشكلةِ الشَّرقِ الأوسطِ؛ احتلالٌ اسرائيليٌّ، جهودُ المبعوثِ الدوليِّ العبثيةِ؛ في أحلامِ العودةِ والحلِّ المستحيلِ، سياساتِ التمريرِ المستمرَّةِ وحلقِ الذُّقونِ.
قلتُ: ألم تتفكّرْ في قولهِ تعالى: " والخيلَ والبغالَ والحميرَ لتركبوها وزينةً، ويخلقُ ما لا تعلمون"..قال: ولمَ لا أتفكَّرُ!...وقدْ زرعوا قلباً في صدرٍ، وقرنيةً في عينٍ، وكِليَةً مكانَ كليتينِ قاصرتينِ!..لكنَّ شعراً على رأسٍ أجدبَ فلا..
قلتُ: ألا ترى أنَّ القتابلَ المتفجِّرةَ تتساقطُ على رؤوسِ النّاسِ في بيروتَ...قالَ وقد برقتْ عيناه: فتمنّيتُ أن أرافقَ طبيباً جرّاحاً لينتزعَ فروةَ رأسِ قتيلٍ شعرهُ يشبهُ شعريَ الذي تساقطَ عنوةً عنّي..ليزرعَها في رأسيَ!
كان شعرُ رأسِهِ كثيفاً أسوداً جميلَ الترتيبِ عندما انتقلَ إلى المدرسةِ الجديدةِ وهو ابنُ عشرِ سنينَ، مما كانَ يحسُدُهُ عليهِ أقرانُهُ، بل ومنْ هو أكبرُ منهٌ سنّاً. وكانَ اؤلئكَ الصِّبيةُ يتناجوْنَ أو يحُدِّثونَ أنفسَهم: يا ليتَ لنا مثلَ ما لفريدٍ من شعرٍ أسودَ فاحمٍ نضيدٍ نتباهى به أمامَ الفتياتِ الغادياتِ إلى مدارسِهنَّ، والرائحاتِ بعدَ الظهيرةِ إلى بُيوتِهنَّ.
ولمّا شبَّ طوقُهُ إلى اثنتي عشرةَ سنةً ، احتملَ مِشطاً في جيبِهِ الخلفيِّ يُسرِّحُ بهِ شعرَهُ من حينٍ إلى حينٍ، فيغيظُ بهِ أو يُنقمُ بهِ عليهِ. وإنَّ منَ الفتياتِ لَمنْ يَرْقُبنَّهُ عن جُنُبٍ فَيُعْجَبنَ بهِ ويبادلنَهُ الابتسامَ، فيزدادُ شأنُهُ كِبراً وغروراً ، ويزدادُ همسُ الهامسينَ: " يا ليتَ لنا مثلَ ما لفريدٍ.."
وذاتَ مساءٍكنتُ في زيارةٍ لصديقيَ فريدٍ، وقد علتْ طبقةٌ منَ الشَّعرِ رأسَهُ. وعندما أخذتُ مجلسيَ في بيتِهِ، وتسامرنا، فسرَّني منهُ ما سررتُهُ بهِ قُبيْلَ مغادرَتي.
قلتُ لهُ: واللهِ إنّني لسعيدٌ جداً لمظهركَ الجديدِ هذا، فقدْ غدوتَ أمرعاً بعدَ أن كنتَ أقرعاً..فتغيَّرَ لونُهُ، وتمعّرَ وجهُهُ، وانقبضَ صدرُهُ، وذرفَ الدَّمعَ الغزيرَ..فأقبلتُ عليهِ وضممتُ رأسَهُ إلى صدريَ..أكفكفُ دمعَهُ بمندِيلي..حتى إذا هدأَ تماماً أطلقتُهُ وعدتُ إلى مجلِسي، قلتُ: أجرحتُكَ يا صاحِ بقولي؟!..فأومأَ برأسِهِ أنْ أيْ نعمْ!..وقالَ: لماذا تُذكِّرُني في حينَ أريدُ أنْ أنسى!
قلتُ: أرايتَ لو قلتُ لكَ إن دموعَكَ هذهِ غاليةُ الثَّمنِ، أتحزنُ؟..قال: لا، على العكسِ، بل هذا كلامٌ طيبٌ جميلٌ!..قلت: فإذنْ!..قال: اعلمْ يا صَديقي أنَّ مشكلةَ صلعتي هيَ أهمُّ عنديَ من مشكلةِ الشَّرقِ الأوسطِ برُمَّتِها..ولا يعنيني المبعوثُ الدَّوليُّ أجاءَ أمْ ذهبَ. وإنْ كانَ يهمُّكَ ذلكَ جداً فرُبَّما أغبطُكَ، بما لا يسعني ذلكَ إلاّ أنْ أحزنَ وأغضبَ عندما يذكِّرُني أحدٌ بصلعتيَ..إذ كان يُحرِجُني ذلكَ أمامَ الفتيةِ والشّبابِ. أما الفتياتُ فأمرُهُنّ أشدُّ عليّ إذا ما رَمَقْنَني عن جُنبٍ نظرةَ عطفٍ أو نظرةَ استجداءٍ..
فزعتُ من نوميَ..وذهبت إلى عمليَ مسرعاً، قابلتُ فريداً، وكان مشرقاً باسماً، وكانت صلعتُهُ قدْ غطَّتها باروكةُ شعرٍ أسودَ فاحمٍ تماماً مثلَ الشَّعرِ الذي كانَ يكسو رأسَهُ يافعاً..أخرجَ المشطَ من جيبهِ الخلفيِّ ومرآةً صغيرةً وجعلَ يبتسمُ فيها..والتفتُّ إلى الصحيفةِ اليوميةِ..لأقرأَ العنوانَ:
قبولُ مقعدٍ لفلسطينَ في الجمعيةِ العامَّةِ للأممِ المتَّحدةِ ..وكان الناسُ يأكلون الكلامَ ويمضغونَهُ ولا يزدردونَهُ..
وحتى إذا بلغ فريدُ الرابعةَ عشرَ من عمرِه، بدأ شعرُه يتساقطُ يوماً بضعَ شعرات، ثم معَ قادمِ الأيام أكثرَ فأكثرَ، فذهبتْ غرَّتُهُ وشعرُ فَوْدَيْهِ . ولم تعدِ الفتياتُ بعدَ هذا السُّقوطِ ممن يأبهنَ لَهُ، أوحتى في استجداءِ نظرةِ عطفٍ.."وأصبح الذين تمنَّوا مكانَه بالأمس يقولون: وي كأنَّ اللهَ يبسطُ الرِّزقَ لمن يشاءُ من عبادِه ويقدرُ، لولا أن منَّ اللهُ علينا لخسفَ بنا، ويْ كأنَّه لا يفلحُ الظالمون"..صدقَ اللهُ العظيمُ.