تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : سيطرة وهمية



محمد مشعل الكَريشي
26-05-2014, 06:26 AM
سيطرة وهمية
(1)



ترجل الليل عن صهوة يوم جديد؛ لاح الفجر في غرته، وعلا نوره في الأفق حيث انبلج ضوء الصباح وشع نوره في قطرات الندى، خط حاجب الشمس جبين الأفق، فتبسّمت لطلتهِ النجوم المغادرة نحو قمرها الساعي الى ليلة تتزاحم على شرفاتها قلوب العاشقين تنتظر طلعته؛ ليمنحها أملا جديدا بحياة أفضل، ولقاءات مرتقبة في الحقيقة، أو الحلم.

في الليلة الماضية نام (ناهي الحارس) في سريره مع زوجته، فكان للسهر نصيبه أيضا؛ عروسين يُجزل أحدهما للاخر عطاء الحب منذ ثلاين عاما مرت من زواجهما الى الآن، وما زال الحب يزين عرش قلبيهما رغم أعاصير السنين الماضية.

أبكرَ كعادته أدى فرضه، وأبكرت هيَ في إعداد الافطار له؛ ليقصد قطاف مسيرة عمره .. شهر مر عليه وهو على حاله الجديدة، ما لمس للسهر مع النجوم وقتا؛ فقد أعطاها من عمره الكثير يكد في عمله حارسا ليليا لبناية البلدية يتناوب فيها مع زميله الاخر.

رمى الليل جلبابه على كل شئ حوله سواه، تجوب خطاه السكون وعلى عاتقه بندقيته الكلاشنكوف المذخرة بشاجورين إضافيين تحسبا لاي طارئ رغمَ انه لم يستخدمها منذ سقوط النظام الى الان إلا مرة واحدة؛ حيث حاول مجموعة من اللصوص سرقة (الكاز) المخصص لسيارات البلدية، تصدى لهم ومنعهم من الوصول إليه فقد رشقهم بالرصاص فولوا مدبرين دون رجعة.

أبو كريم وجهه بشوش ، وقوام رشيق يستند على أربع وخمسون سنة ، يحبه الناس لانه يحبهم، يمازح صغيرهم وكبيرهم بلطفه وعذوبة كلماته المزدانة بالدعاء والصلوات..

انطلق يستقبل بكفيه وجه السماء فما أن يتم قراءة بعض الدعوات حتى يمسح بهما على وجهه مارا بكفيه على خديه منتهيا بكفه اليمنى على لحيته البيضاء المزدانة بخصلات سواد خجولة في العارضين ووسط الذقن..

يقبض بيدٍ على مسبحته السوداء ويمسك بالاخرى حقيبة صغيرة يضع فيها أوراقه ومستمسكاته، يقترب بزيه العربي ليسأل المنادي في كراج نقل الركاب عن سيارات بغداد، ثم يذهب نحو السيارة التي أرشده إليها المنادي ليسأل سائقها متاكداً من وجهتها ثم يدلف إليها فتسير بمن فيها متوجهة صوب العاصمة.

يروم قاصداً وزارة العمل؛ فمعاملة التقاعد لن تكتمل حتى يراجع الوزارة عله يحتفي بما قدمه من سنين خدمة وشبابه ليحصل كما حصل أقرانه على مكافئة نهاية الخدمة؛ قطعة أرض وراتب لستة أشهر.

انطلقت السيارة ومعها انطلقت أذكار (أبو كريم) وتهليلاته وصلواته .. تأفف البعض منهُ وفرح به آخرون .. جلس في المقعد الخلفي وبجنبه جلس شاب في العشرينات، ذو بشرة بيضاء وشعر لامع قد استطال وغطى اذنيه، وتحلى جيدهُ بسلسلة فضية اختفت نهايتها في عنق تشيرته الضيق بألوانه المتداخلة وبأشكال هندسية مختلفة ، يرتدي بنطالا ضيقا نوع جينز، يضع يده على كتابين في حجره، ويمسك بالاخرى هاتفه النقال الموصل بسماعة ألاذن؛ يقلب في داخله غير مكترث بمن حوله..لم يكن مظهره سارا لابي كريم؛ يرمقه بنظراته الحادة، يلتفت اليه بين لحظة وأخرى متهكما متأسفاً على حال شباب اليوم، وما حل بهم وهم يتحولون باشكالهم الى شبه الفتيات، وبجنبه شاب يرتدي زيا عسكريا يضع بين قدميه حقيبة متوسطة عادة ما يستعملها الجنود لوضع الملابس والحاجيات الخفيفة ، تذكر أبو كريم أيام خدمته في الشمال في الثمانينات وكيف كان يحمل أمتعته بحقيبة مشابهة، مرارا كان يملؤها بالجوز والبلوط من أشجار الغابات في السليمانية، حيث وحدته العسكرية على الشريط الحدودي مع إيران.

في صدر السيارة يجلس تاجر المواد الاحتياطية للسيارات، يعرفه سائق السيارة واصبح أحد معاميله المهمين، يشتري منه قطع الغيار بسعر الجملة، وهو بدوره يقله للعاصمة في الاسبوع مرة أو مرتين لشراء ما يحتاجه لمحله؛ فقد كثر الطلب على قطع الغيار؛ بازدياد أعداد السيارات الحديثة التي ملأت الشوارع ومن مناشئ شتى .

كان بدينا يرتدي دشداشة فضفاضة قد اتخذ لنفسه مقعدين كي ياخذ راحته وما ان تحركت السيارة حتى غط في نومة عميقة، وشخير هادر انزعج منها العسكري، وأخذ يتافف ويشيح بوجه صوب النافذة مرخيا رأسه على قبعته كوسادة تفصل بين خده وزجاج النافذة مخاطبا السائق يذكره: عمي لا تنسه تنزلني بسيطرة الحصوة.

بينما الشاب الاخر يلهو في هاتفه النقال فهو لم يسمع شيئا مما سمعه الجندي، أو مما قاله قبل قليل.





يتبع

خلود محمد جمعة
27-05-2014, 07:29 AM
تهتم بأدق التفاصيل بحرفية
وتنقلنا الى عالم قصتك بمهارة
لأجد نفسي في النهاية أتابع بشغف مسلسل بشاشة عرض ذهنية ولا أروع
بانتظار البقية
دمت بخير

محمد مشعل الكَريشي
27-05-2014, 08:33 AM
تهتم بأدق التفاصيل بحرفية
وتنقلنا الى عالم قصتك بمهارة
لأجد نفسي في النهاية أتابع بشغف مسلسل بشاشة عرض ذهنية ولا أروع
بانتظار البقية
دمت بخير

دمتي بعافية وسعادة أديبتنا الفاضلة خلود محمد جمعة
شكرا لمتابعتك وشكرا لكلماتك الندية الرقيقة
مودتي واعتزازي دائما :010:

آمال المصري
01-06-2014, 06:00 PM
الوصف كان دقيقا والتصوير رائعا والشخوص زاهية والسرد ماتعا يدعونا للمتابعة بشغف
وبجنبه جلس شاب - أم بجانبه أو إلى جواره ؟
في انتظار ما يلي ...
تقديري الكبير

محمد مشعل الكَريشي
02-06-2014, 11:00 AM
الوصف كان دقيقا والتصوير رائعا والشخوص زاهية والسرد ماتعا يدعونا للمتابعة بشغف
وبجنبه جلس شاب - أم بجانبه أو إلى جواره ؟
في انتظار ما يلي ...
تقديري الكبير

لك أجمل التحايا أديبتنا الغالية آمال المصري
شكرا جزيلا .. البقية قادمة أن شاء الله تعالى ..
انتفع من تصويباتكم .. :v1:

محمد مشعل الكَريشي
04-06-2014, 09:18 AM
الجزء الثاني على هذا الرابط: https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?p=933824#post933824

ربيحة الرفاعي
18-06-2014, 12:56 AM
قص بنسق روائي مائز، وأداء جميل استحواذي بدقة التفصيل وذكاء توظيفه بما يدعم التشويق ويزيد من تفاعل القرئ مع بيئة وموضوع النص
ومتابعون معك أديبنا الرائع ما تابعت

دمت بخير

تحاياي

محمد مشعل الكَريشي
18-06-2014, 05:09 AM
قص بنسق روائي مائز، وأداء جميل استحواذي بدقة التفصيل وذكاء توظيفه بما يدعم التشويق ويزيد من تفاعل القرئ مع بيئة وموضوع النص
ومتابعون معك أديبنا الرائع ما تابعت

دمت بخير

تحاياي

شكرا لتشجيعكم أخيتي العزيزة الاديبة ربيحة الرفاعي ..
نستمر ان شاء الله .. بوركتم :0014:

نداء غريب صبري
13-08-2014, 12:50 AM
أنا سأنقل الجزء الثاني
لكي لا يبحث عنه الأخوة

وننتظر التتمة



سيطرة وهمية
(2)
الجزء الاولى هنا :https://www.rabitat-alwaha.net/showthread.php?t=73291

فيروز والشمس يسقيان الطريق عذوبة في أيام الربيع الأخيرة ،ها هو النصف الثاني من نيسان قد ألبس البساتين حلتها الخضراء، السماء الصافية والهواء العليل ومشاهد الأشجار تسر الناظرين.
طلب أبو كريم من السائق أن يخفض صوت المذياع ، امتثل السائق لطلبه، وقدم له سجارة نوع (بن) اعتذر" رحم الله والديك ما أدخن" واضعا كفه اليمنى على صدره، مردفا بهدوء "ممنون".
أخذ السائق سجارة أضرم نار قداحته فيها فعج منها دخان انتشى به، ثم أُنزل زجاج نافذته ليسمح للدخان بالهروب منها.

مائة كيلو متر على الطريق السريع بين العاصمة بغداد وبين مدينة المدحتية إحدى نواحي محافظة بابل ، يمر من خلالها الطريق السريع، أو كما يحلو للبعض تسميته بالطريق ( الدولي) ..
طريق واسعة يمرُ على مقربة من المدن ويلتف حولها من الخارج كثعبان كبير..
تعرض لبعض الأضرار التي لحقته نتيجة الاحتلال الامريكي، وإرهاب القاعدة معا؛ حيث تهاوت بعض جسوره بفعل أفعال المخربين، وتحفرت أجزاء منه بسبب العبوات التي تركت أثرا بليغا في بعض مفاصلة؛ كانت تزرع لعجلات الأمريكان فتنفجر مخلفة حفرا ومطبات ما زالت تعرقل سير المركبات بالرغم من إصلاح بعضها..
يلتفت أبو كريم بوجهه نحو النافذة ليستمتع بما يراه على جانب الطريق؛ فقد تعود أن يحكي لبناته وزوجته ما شاهده في رحلته عندما يعود الى بيته.
على حافة الطريق منخفضات مائية امتدت لمسافة ليست بالقصيرة ، توزعت في مناطق متعددة، اجتمعت فيها مياه الأمطار وفواضل سقي المزروعات، فأصبحت أحواضاً لأستخراج الملح.
لا أحد موجود فيها فما زال الوقت مبكرا لتهرع النسوة والأطفال صوب تلك المياه البيضاء؛ لاستخراج الملح منها وحمله الى البيوت، ثم تنقيته ونقله الى الأسواق.

رغم قسوة الحياة وازدياد الخطر تستمر الحياة، فترسم فرشاة القدر مشاهدها المختلفة لما يمارسه الناس، الأفراح والأتراح يتعاقبان حياتهم كتعاقب الليل والنهار، لكن أثار الحزن في وجوهم باقية كالوشم على أكف العجائز، أما أيام الفرح فانها تمر كسحاب الصيف سريعا.
نسج الموت والقهر حكاياته المريرة في حياتهم، ما زال أثرها كبيرا محفوراً في أذهان الناس، ذكريات قريبة لحرب دامت ثمان سنوات، أدمت القلوب بفقد الأحباب، حربٌ يجهل القريب والبعيد أسباب نشوبها بين بلدين مسلمين وجارين، ولم ينته الأمر إلى هذا الحد بل تبعتها حرب الخليج الأولى والثانية مع جيوش التحالف.

طرقت ذهن أبو كريم حكاية خوف قريبة دوى وقعها مدينة المدحتية وأريافها حيث نقل بعضهم من شاهد الواقعة أن رجلا كان يسقي مزروعاته قرب الطريق السريع فشاهد عربات الأمريكان تمر مسرعة ، فما لبث أن توارى عن أنظارهم داخل غرفة مضخة الماء المبنية من الطين بمساحة (ستة أمتار مربعة) لها باب من الصفيح ، يخرج من أحد جدرانها انبوبة مضخة الماء، لقد خاله الأمريكان مدفعا، أو ربما ظنوه كمن لهم ساعياً لتفجير عجلاتهم بعبوة ناسفة مزروعة في الطريق، توقفوا من فورهم حين لمحه أحدهم فعالجوه برشاش إحدى مدرعاتهم فأردوه صريعا في الحال.
تركت هذه الحادثة فزعا بين القرى القريبة من الشارع فأهملوا مزروعاتهم، وتركوا رعي مواشيهم بالقرب منه؛ خوفا من مجهول يرمي بهم في ظنون رجال مسلحون لا يفقهون كثيرا من عادات وتقاليد بلد دخلوه بالظن والتهمة.

هناك على مسافة قريبة شاهد أبو كريم قطيع من الأغنام يتقدمها راعٍ يمتطي حماره يرافقه كلبٌ يعدو خلف القطيع تارة والى الأمام أخرى وكأنه يقوم بمهمته التي أنيطت به ..
كغيره يتعجل الرعاة بالخروج مبكرين ليعودوا قبل ارتفاع الشمس ظهراً، ولأجل أن ترعى أغنامهم النباتات البرية وهي مبللة بالندى فيكون ذلك أدر للبنها، وأسمن للحومها.

أحس أبو كريم برأس الشاب تتهادى على كتفه، نظر إليه وهو نائم، بدى كقطة صغيرة تكورت حول نفسها.. تبسم حين شاهده بهذه الحال، الجندي هو الاخر وضع رأسه على نافذة السيارة المغلقة، بينما سائق السيارة ينفث من أنفه دخان سجائره الرخيصة.

أرخى أبو كريم رأسه وهو يُرجّل مسبحته، وانطلق بخياله بعيدا عما يحيط به؛ رجع بذاكرته الى الوراء قليلا ؛ ربما نسي شيئا مما تحتاجه معاملة التقاعد فتح حقيبته ليتأكد من أوراقه..الحمد لله أم كريم وضعت كل شئ في مكانه، داخلهُ السرور وعلتْ محياه ابتسامة خفيفة؛ كم هي طيبة هذه المرأة؛ قاسمتني حياتي بحلوها ومرها، عاد بذاكرته الى الوراء بعيدا تذكر يوم تقدم لخطبتها ، وكيف عم السرور بيتهم لولا ابن عمها ( سعدون) الذي كدّر مسائهم باعتراض العرس الموعود بنهوته عنها وكيف توعدهُ بالويل والثبور إنْ اقترب منها أو تحدث معها ، كان ينتفض غاضباً أمام الجميع ويصرخ مكررا"ناهي أنت منهي، ناهي أنت منهي" .

يتبع..



شكرا لك أخي
بوركت

رويدة القحطاني
06-06-2015, 06:27 PM
القصة جميلة والتفاصيل مشوقة بلا مبالغة ولا تقصير
شكرنا للأستاذة نداء غريب التي جاءتنا بالجزء الثاني
أين التتمة؟

ناديه محمد الجابي
24-01-2016, 10:28 PM
سيطرة وهمية
(1)



ترجل الليل عن صهوة يوم جديد؛ لاح الفجر في غرته، وعلا نوره في الأفق حيث انبلج ضوء الصباح وشع نوره في قطرات الندى، خط حاجب الشمس جبين الأفق، فتبسّمت لطلتهِ النجوم المغادرة نحو قمرها الساعي الى ليلة تتزاحم على شرفاتها قلوب العاشقين تنتظر طلعته؛ ليمنحها أملا جديدا بحياة أفضل، ولقاءات مرتقبة في الحقيقة، أو الحلم.

في الليلة الماضية نام (ناهي الحارس) في سريره مع زوجته، فكان للسهر نصيبه أيضا؛ عروسين يُجزل أحدهما للاخر عطاء الحب منذ ثلاين عاما مرت من زواجهما الى الآن، وما زال الحب يزين عرش قلبيهما رغم أعاصير السنين الماضية.

أبكرَ كعادته أدى فرضه، وأبكرت هيَ في إعداد الافطار له؛ ليقصد قطاف مسيرة عمره .. شهر مر عليه وهو على حاله الجديدة، ما لمس للسهر مع النجوم وقتا؛ فقد أعطاها من عمره الكثير يكد في عمله حارسا ليليا لبناية البلدية يتناوب فيها مع زميله الاخر.

رمى الليل جلبابه على كل شئ حوله سواه، تجوب خطاه السكون وعلى عاتقه بندقيته الكلاشنكوف المذخرة بشاجورين إضافيين تحسبا لاي طارئ رغمَ انه لم يستخدمها منذ سقوط النظام الى الان إلا مرة واحدة؛ حيث حاول مجموعة من اللصوص سرقة (الكاز) المخصص لسيارات البلدية، تصدى لهم ومنعهم من الوصول إليه فقد رشقهم بالرصاص فولوا مدبرين دون رجعة.

أبو كريم وجهه بشوش ، وقوام رشيق يستند على أربع وخمسون سنة ، يحبه الناس لانه يحبهم، يمازح صغيرهم وكبيرهم بلطفه وعذوبة كلماته المزدانة بالدعاء والصلوات..

انطلق يستقبل بكفيه وجه السماء فما أن يتم قراءة بعض الدعوات حتى يمسح بهما على وجهه مارا بكفيه على خديه منتهيا بكفه اليمنى على لحيته البيضاء المزدانة بخصلات سواد خجولة في العارضين ووسط الذقن..

يقبض بيدٍ على مسبحته السوداء ويمسك بالاخرى حقيبة صغيرة يضع فيها أوراقه ومستمسكاته، يقترب بزيه العربي ليسأل المنادي في كراج نقل الركاب عن سيارات بغداد، ثم يذهب نحو السيارة التي أرشده إليها المنادي ليسأل سائقها متاكداً من وجهتها ثم يدلف إليها فتسير بمن فيها متوجهة صوب العاصمة.

يروم قاصداً وزارة العمل؛ فمعاملة التقاعد لن تكتمل حتى يراجع الوزارة عله يحتفي بما قدمه من سنين خدمة وشبابه ليحصل كما حصل أقرانه على مكافئة نهاية الخدمة؛ قطعة أرض وراتب لستة أشهر.

انطلقت السيارة ومعها انطلقت أذكار (أبو كريم) وتهليلاته وصلواته .. تأفف البعض منهُ وفرح به آخرون .. جلس في المقعد الخلفي وبجنبه جلس شاب في العشرينات، ذو بشرة بيضاء وشعر لامع قد استطال وغطى اذنيه، وتحلى جيدهُ بسلسلة فضية اختفت نهايتها في عنق تشيرته الضيق بألوانه المتداخلة وبأشكال هندسية مختلفة ، يرتدي بنطالا ضيقا نوع جينز، يضع يده على كتابين في حجره، ويمسك بالاخرى هاتفه النقال الموصل بسماعة ألاذن؛ يقلب في داخله غير مكترث بمن حوله..لم يكن مظهره سارا لابي كريم؛ يرمقه بنظراته الحادة، يلتفت اليه بين لحظة وأخرى متهكما متأسفاً على حال شباب اليوم، وما حل بهم وهم يتحولون باشكالهم الى شبه الفتيات، وبجنبه شاب يرتدي زيا عسكريا يضع بين قدميه حقيبة متوسطة عادة ما يستعملها الجنود لوضع الملابس والحاجيات الخفيفة ، تذكر أبو كريم أيام خدمته في الشمال في الثمانينات وكيف كان يحمل أمتعته بحقيبة مشابهة، مرارا كان يملؤها بالجوز والبلوط من أشجار الغابات في السليمانية، حيث وحدته العسكرية على الشريط الحدودي مع إيران.

في صدر السيارة يجلس تاجر المواد الاحتياطية للسيارات، يعرفه سائق السيارة واصبح أحد معاميله المهمين، يشتري منه قطع الغيار بسعر الجملة، وهو بدوره يقله للعاصمة في الاسبوع مرة أو مرتين لشراء ما يحتاجه لمحله؛ فقد كثر الطلب على قطع الغيار؛ بازدياد أعداد السيارات الحديثة التي ملأت الشوارع ومن مناشئ شتى .

كان بدينا يرتدي دشداشة فضفاضة قد اتخذ لنفسه مقعدين كي ياخذ راحته وما ان تحركت السيارة حتى غط في نومة عميقة، وشخير هادر انزعج منها العسكري، وأخذ يتافف ويشيح بوجه صوب النافذة مرخيا رأسه على قبعته كوسادة تفصل بين خده وزجاج النافذة مخاطبا السائق يذكره: عمي لا تنسه تنزلني بسيطرة الحصوة.

بينما الشاب الاخر يلهو في هاتفه النقال فهو لم يسمع شيئا مما سمعه الجندي، أو مما قاله قبل قليل.

بإبداع في التعبير والوصف واللغة والحبكة والسرد
استطعت أن تثير كل اهتمامي ومتابعتي بشغف
لأستمتع برحلة أقضيها مع قلمك الساحر وأسلوبك الجميل
وإلى أن أقرأ الجزء الثاني لك كل الود والتقدير. :0014:






يتبع

محمد مشعل الكَريشي
19-06-2016, 10:40 AM
ستاتي قريبا باذن الله شكرا لهذه المشاعر النبيلة .. احترامي

كاملة بدارنه
27-06-2016, 11:29 AM
سرد جاذب ووصف ماتع يمسك بالقارئ حتّى النّهاية
تمنّيت خلوّها من بعض الأخطاء اللّغويّة ليكتمل البهاء
بورك الحرف الهادف الرّائع
تقديري وتحيّتي

محمد مشعل الكَريشي
18-08-2016, 10:34 AM
سيطرة وهمية
(3)

ليلة حزينة كابد فيها السهر حتى الصباح، شغلته محنتها عما كان يفكر فيه؛ كيف سينتصر لحبه وينقذ حبيبته من شراك ابن عمها الذي لا تطيقه كما لا يطيق هو الاخر رؤيته، حين تقدم لها في مرة سابقة هددته بانها ستقتل نفسها قبل أن يكون لها زوجا، وحذرته ذلك إن اقترب منها، يا له من همجي متعصب..
ثلاثة أيام مرت، وأعمامه وأخواله يطرقون بيوت الوجهاء يبحثون عن حل لهذه المشكلة التي عكرت عليه صفو أحلامه وقطعت عنه سروره الذي مهد له وعزم على امضائه.. تدخل بعض الوجهاء فانحل عقد المعضلة، دفع والده (النهوة) من حلال ماله وعجلوا مراسيم عرسه، وتكلل بالخير حبه، وسعُد في بداية مشوار حياته ورزق بكريم ومن بعده زينب ثم سكينه واخر العنقود كانت حبيبة قلبه المدللة ضحى..
طرزت الذكريات وجهه بابتسامة، وداخله السرور فأسند رأسه مرتخيا على وسادة مقعد السيارة فمال عقاله الى الوراء فأعاده على عجل الى محله، واعتدل في جلسته فاستيقظ الشاب وهو يتفقد هاتفه، وجده مستقرا خلف كتبه، بينها واسفل بطنه .. الحمد لله قالها متاوها، فلفت قوله ابو كريم فقال له ساخرا:
- عمي حسبالي ماتعرفون الله، ثم تبسم وهو يربت على كتفه الصغير، فانفجر الشاب ضاحكا وسأله:
- لويش عمي؟
- بويه خاف تزعل مني؟
- لا عمو ما أزعل.
- ما مبين عليك بس تسمع غناوي وتهز براسك..
ضحك الشاب بخفة وطلب المعذرة بلطف ولياقة فسأله أبو كريم بعدما أعجبه منطوقه وجميل كلامه:
- مبين عليك طالب بالمدرسة، لو بالكلية مو؟
- اني طالب ماجستير تاريخ.
- مشاء الله.. صدك لو كَالو " الرجال مخابر مو مظاهر".
قبض أبو كريم على ذقنه ونظرات الإعجاب تنساب منه نحو محدثه وعلى سجيته قال له:
- اي وليدي أريدك تحجيلي عن التاريخ.
- عمي التاريخ عبارة عن رحلة طويلة في الزمان والمكان وغالبا ما تكون عجلة الاحداث فيه هو الصراع، والسلطة طبعا هي التي تديرها، فالتاريخ كما يقولون يكتبه السلاطين، أو وعاظ السلاطين.. ولكن ذلك لا يمنع أن يكون التاريخ حاكيا لمعانات الشعوب، ورسم بعض من ملامح حياتهم، وبين هذا وذاك نجد بعض ينتصر لقومه، وبعضهم ينصف التاريخ من نفسه حين يكتبه..
وعلى كل حال فليس كل ما ذكره التاريخ قطعي وصحيح. لا .. بل هو بحاجة دائمة الى التنقيب، والتمحيص لكشف فاسده من صالحه، ومراجعته لغرض تصحيح ما جاء فيه وتحقيق ما كُتب في حوادثه، وهذه هي مهمة الدارسين له، وأنا أتمنى أن أكون منهم وقد اتخذت عهدا على نفسي أن أكون منصفا في عملي ما استطعت لأنني اعتبرها امانة علينا أن ندافع عنها ونحملها للأجيال القادمة..
اختتم الشاب كلامه بابتسامة بددت ذهول أبو كريم الذي استمتع بحديثه اللطيف الهاديء الذي أمتع السائق أيضا فظل يهز برأسه هو يقول:
- لا عاب حلكك عمي..
خفف السائق سرعته تهيئاً للمرور بسيطرة خارجية نصبها الجيش على الطريق السريع، استخدم فيها الجندي جهاز فحص المتفجرات ويا لدهشتهم حيث أشار ذلك الجهاز نحو سيارتهم!
أمرهم الجندي بالوقوف جانبا لأجل التفتيش، ثم سألهم جندي آخر" هل تحملون سلاحا؟" ، أبو كريم أول من أجاب "لا والله عمي". واشار البقية بالنفي.
تفقد الجنود صندوق السيارة وأوراق السائق، بينما تاجر المواد الاحتياطية ما زال يغط في نومته حتى طلب منهم الجندي أن يترجلوا فنفض من عينيه النعاس واعتذر من الجندي وأشار إليه أن يقترب منه ثم قال له:
- في رجلي بلاتين..
فحصوا السيارة جيدا فتبين أن سبب الإشارة هو البلاتين المزروع في ساق التاجر..
عاد الجميع الى مقاعدهم وانطلقت السيارة من جديد، وسط ارتفاع صلوات ودعوات أبو كريم، واعتذار التاجر من الركاب.


يتبع

محمد مشعل الكَريشي
28-08-2016, 01:45 PM
سيطرة وهمية
(4)

طقوس الحياة في مدن الفرات الأوسط تكاد تكون متقاربة اذ لم نقل متماثلة، ومعالمها متشابهة؛ بساتين النخيل، وحقول الحنطة والشعير تميزها نحو الجنوب، وأشجار الفاكهة تميز المدن القريبة من العاصة باتجاه الشمال.
كلما اقتربت من العاصمة تقلص حجم الفراغ وتكاثفت البساتين ثم انفرجت عن بنايات كثيرة ومتراصة..
ما زل الطريق يسير بعابريه كأنه أرجوحة تأتي وتذهب بالمسافرين، ممتدا يلثم وجه الافق بخطوطه المتوازية، يشعر الركاب كأنهم جالسون في غرفة تطل بهم نوافذها على الفضاء من حولهم وذلك لانبساط الشارع وسعته، سوى بعض ما فيه من هنات يغص بها المسير فينقطع فيها حبل السكون وتلتوي الاعناق لرؤية الخطب الذي أبطأ بهم وأخر مرورهم..
منعطف الى اليمن عن الشارع الذي اقتص منه الانفجار جزءا احدثه انهيار أحد الجسور على نهر يمر من تحت الطريق فتم نقل السير الى جسر مؤقت لعشرين مترا ترابيا، تزاحمت فيها المركبات بأنواعها، وعلا منها الدخان والضجيج الممتزج بأصوات ( الهورنات) التي تعجل على بعضها البعض، بينما تقف بالجوار سيارات عسكرية عليها اسلاك متشابكة وعدد من رجال المرور ينضمون تدفق المركبات في ذلك الطريق الضيق حيث مرور المركبات من الوجهتين ذهابا وايابا على جسر يكاد يغص بما عليه من حمولة.
تكلل الانتظار بالمرور وانطلقت السيارات كأنها في سباق على الطريق السريع من جديد..
- هاي هيه سيطرة الحصوة .. قالها السائق منبها للجندي الذي أوصاه بها أول الطريق..
- رحم الله والديك عمي تفضل هاي الكروة ..
جمع البقية أجرة السيارة فيما خفف السائق من سرعتها فتهادت وهي تمر على جهاز كشف المتفجرات فأشار نحوها الجهاز فاستعجل أبو كريم السبب وهو يخرج رأسه من النافذة ( عمي عدنه واحدة برجله بلاتين) ..
ترجلوا جميعهم فقال الجندي لزميله:
- ليس فيها سوى ما قاله لكم هذا الرجل الطيب .. فأشار لهم الاخر بالصعود، شكراهما وحمدا الله على عدم التأخير..
بدت حدائق الكروم تلوح لناظرها مما يعلن دخول منطقة الخطر في حزام العاصمة، مدينة اللطيفية حيث منطقة( مويلحة) المشهورة بتواجد الارهابيين من تنظيم القاعدة..
ينشط خطر هذه العصابات في الليل بعيدا عن مساحات عمل القوات الامنية التابعة للدولة على السيطرات العامة، فهم يتصيدون الفرص عندما تمر أرتال الامريكان فيتعطل السير مما يحاول بعضهم اتخاذ طرق مختصرة وعدم الانتظار لحين فك الزحام والافلات من العطلة التي خلفها مرور تلك العربات الكثيرة والتي غالبا ما ترافقها المروحيات، كثيرا ما تجاهل بعضهم خطر السير خلف تلك الأرتال فكانت النتيجة وابل من الرصاص الحي أقل أخطاره ثقب في العجلات أو تعطيل في المحرك إن لم تكن إصابة هي الموت الحتمي دون أسف أو اهتمام، عندما تحين تلك الفرص للإرهابين سينتشرون دون أدنى حذر منهم وبالكاد يفلح من يراهم برمي هوية أحواله المدنية أو اخفائها في مكان ما؛ لان برنامجهم منصب على الاسماء.. لا ينشطون الا عند وجود الامريكان في الساحة وكأنهما متفقان على طقوس الموت فمن فر من رشاش الامريكان فلن يفلت من سواطير القاعدة.
جلهم من الاجانب والعرب وبعض من حواضنهم من أبناء المناطق؛ لا يظهرون علنا بل يكتفون بتهيئة الاماكن لهم واستدراج الفرائس التي تحسن الظن في لهجاتهم ومظاهرهم الخادعة، بعض النسوة تترصد قدوم القوات الامنية، فتكون العين لتلك المجاميع لتحذرهم منها، تتظاهر الاشتغال برعي الابقار، أو العمل في المزارع، تدربن على السلاح، وذهبن ضحية ولائهن للقاعدة فخسرن انفسهن ،وعوائلهن، ومن ثم حياتهن، لقد أردت قبل أيام قوة من التدخل السريع بصاروخ قاذفة بعضهن ممن كانت تمارس القنص على الجنود، فذهبن غير مأسوف عليهن..
الخوف يتسلل الى النفوس رويدا رويدا برغم أن الشارع خال من أي عوائق، ولكن ما يحتمل وقوعه فربما يقع اليوم أو غدا، الأيام متشابهة في البلاد، وبرغم كل ذلك فإن الحياة ما زالت تضخ الأمل في النفوس وتدفع الناس للجد والاجتهاد والذهاب والقدوم يوما بعد يوما متحدين كل تلك الألوان الباهتة للموت.
ولكن ثمة خطر آخر بدأ يطرق المارين من هذه المنطقة، حين لا يمكنهم التمييز بين سيطرات الدولة، وبين بعض السيطرات الوهمية التي تتزيا بزي الدولة الرسمي.
- الله يستر ويجفينه الله شر هذوله الهفتيه لا بارك الله بيهم..
تدفق لسان أبو كريم مجلجلا فلاح بعض الضجر على وجه سائق السيارة الذي نطق بعد حين:
- لا تهتم المنطقة أمان ان شاء الله.
- ليش أنت تعرفها لهاي المناطق؟ سأله التاجر.
- أني أبنها وأعرفها كلش زين.
هكذا كان رد السائق مفاجئا لهم، وكلٌ يغالط الحقيقة التي انهالت عليه، صكوا أسماعهم لاستنهاضها بعدما سقطت مغشية عليها من هول ما تناها اليها، وكأن صاعقة وقعت على رؤوسهم، لف ألسنهم الخرس، فكانت أعينهم تحكي الدهشة في وجوههم، وهي تدور في عبث كأنها تبحث عن شيء مفقود، فأي خطر هذا الذي ساقه هذا السائق اليهم، وكيف يمكن أن يثقوا به بعد الان وهو من هذه المناطق ممن تحالف أغلبهم مع الارهابيين..
- عمي كَول غيرها؟ انتفض أبو كريم وهو يميل بجذعه نحوه الأمام في وجل وعجل.
نظر السائق في المرآة الداخلية الى الخلف وعيناه في المستطيل تنظران الى أبو كريم وقال في استلطاف مازحاً:
- لا تخاف حجي اتو سعركم مو غالي..
- شنو عمي تريد تبيعنه؟ يا حيف عليك..
انفجر السائق ضاحكا وضرب براحته كفه على هامة المقود ثم على عجل التفت بنصف جذعه الى اليمين ومدّ يده ووضعها على كف أبو كريم المتشبثة بمقعده كمن يطمئنه:
- حجي اني صحيح من أبناء العامة وعايش بهاي المناطق، بس الي ما تعرفوه اكو هواي ناس قتلوهم الارهابيين من أهالينه، وهجروهم؛ لان ما صاروا وياهم، واني واحد منهم تهجرت وسكنت بمناطقكم.. الله وكيلكم احنه كلنه بالأمان مادام نمشي على الشارع العام.
هدأت النفوس وارتسم على الوجوه شيء من الفتور ولكن بعض الخوف ما زال ينبض في الصدور، وقد أطبق الصمت على الجميع حتى فض سلطانه التاجر بمقولته:
- هاي صارلي سنة ويا هذا الرجال الطيب ما شفت منه غير الخير..
شكره السائق عرفانا لموقفه..
- عمي ولا زغرا بيك، هكذا تدخل الطالب الشاب بأدب جم ثم سأل التاجر: ما تعرفه بحضرتك.. وكأنه بذلك قد أوصد أبواب الخوف للبدء بحوار جديد ربما يبدد القلق الذي حام حول الجميع في حوارهم السابق..
- اني عمك أبو يوسف أسكن حاليا بالحلة عندي محل بالحي الصناعي، واستأجرت قبل أقل من سنة محل بالحي الصناعي بالحمزة.. اني بالأصل مسيحي من كركوك..
- مسيحي؟ سأله أبو كريم بدهشة، ثم أردف: جانت عايزه التمت!!
لكن الطالب اعترض طريق الاجابة مرحبا:
- تشرفنا عمي كلنا عباد الله. فرد أبو كريم:
- أي عمي كلنه عباد الله بس والحمزة أبو حزامين لو سمعوا الارهابين أكو مسيحي الا يدفعون بيه مال قارون..
ضحك الجميع بأنفاس صادقة، وكأن ضحكاتهم كانت مكبلة ففك أبو كريم عنها القيود بما يملكه من سجيته طيّبة.




يتبع

عباس العكري
28-08-2016, 07:29 PM
سيطرة وهمية 1

https://1.bp.blogspot.com/-q3ztfPZJUyY/V8MfWnt03JI/AAAAAAAAEbk/BDqo_hU_GwURIsQLeXXKItT_xbTqkG0fwCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 %2B%25D9%2588%25D9%2587%25D9%2585%25D9%258A%25D8%2 5A91.png

محمد مشعل الكَريشي
29-08-2016, 09:34 AM
الاستاذ عباس العكري المحترم:
شكرا لهذا الجمال النابع من قلب أكثر جمالا واشراقا ...
ايها المشرف العزيز:
لقد اصلحت بعض ما اعتراها من هنات خصوصا في الجزء الاول والثاني واضفت لها بعض الاسطر ( لم تنشر) ثم اتبعتها بما لدي من اجزاء هي الثالثة والرابعة ( المشورة) وستاتي البقية باذن الله تعالى..
شكرا لاهتمامك وأرحب بما يجود به قلمك من نقد..
تحياتي واحترامي ..

عباس العكري
30-08-2016, 04:36 PM
سيطرة وهمية

https://4.bp.blogspot.com/-YjhQ7e0hY-Q/V8WYm37vGiI/AAAAAAAAEdc/aDcJUYsvZh4h_R_Qjcu8zAOZuoXASNS_wCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 %2B%25D9%2588%25D9%2587%25D9%2585%25D9%258A%25D8%2 5A9.png

https://4.bp.blogspot.com/-OZAgxk2ne70/V8WftU2e2pI/AAAAAAAAEdo/IV3p-txCL24vtJsFuLBGoLFsBmEVZ3ZUwCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 %2B1.png

https://1.bp.blogspot.com/-zu-xmddOb2U/V8WheeYNJVI/AAAAAAAAEdw/leAcxVP4o14zEGl4FrA99MPfcN9h9ijvACLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 %2B2.png

https://1.bp.blogspot.com/-3wr6zgg1vHM/V8WmDz5mPgI/AAAAAAAAEd4/3zho1tc64L8_GjGg8KdLEHkxN27SOV1aQCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 3.png

https://4.bp.blogspot.com/-NMN797bvJ54/V8Wnfx8Kn6I/AAAAAAAAEeA/wx5pzospRko00Iy7fV8gLIglyGQavtbPwCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 4.png

https://2.bp.blogspot.com/-lj5GiL_jREY/V8Wqo9dfDHI/AAAAAAAAEeM/jCh7lWoe-9w2YMsXS9tQSIAYtdtyjMOxgCLcB/s1600/%25D8%25B3%25D9%258A%25D8%25B7%25D8%25B1%25D8%25A9 %2B5.png

محمد مشعل الكَريشي
31-08-2016, 08:09 AM
اعجز عن شكرك ايها الاديب الرائع لقد اسعدني هذا العمل بارك الله في أناملك يا طيب

شكرا كثيرا لكم استاذ عباس العكري ..


ومازالت هناك تتمة :011:.. تحياتي

محمد مشعل الكَريشي
01-09-2016, 09:18 AM
سيطرة وهمية
(5)

همد الحديث وكأنه سقط في جب عميق، وانشغل كل واحد منهم بنفسه وهو يراجع حساباته ويتلوا في دخيلته ما يعتقده سبيلا الى ربه..
اعاد الطالب سماعة الهاتف الى أذنيه وهزَّ رأسه وهو يتملى من المشاهد المتعاقبة عبر النافذة الزجاجية، بينما راح أبو كريم يتفحص معاملة التقاعد من جديد، وفي الاثناء فطن الى فقدان مسبحته، فقد انسلت من بين أنامله وسقطت بين قدميه فتش عنها لاعننا الشيطان ولما وجدها تمتم وردا منتظما تلاحقت معه خرزات المسبحة بين سبابته وابهامه..
التاجر أرخى رأسه على وسادة مقعده ورسم في الهواء بسبابته صليبا ثم عقده على قلبه وراح يستدر لحظات الوسن الخفيف فرارا من المحذور..
السائق أصرّ يغازل سيجارته ويمصها بنهم، يصلها بأختها حين تفنى بين أصابعه المتخشبة، وعيناه لا تفارق الطريق وقد أهمل النظر في عداد السرعة كعادته، ولم يدرك أن قدمه ضغطت على دواسة البنزين حتى نهايتها..
تمر السيارات مسرعة مثل الضباء في الفلات على وجل دائم خشية الخطر المحتمل في المفازات والأكنة، وفي السماء غربان تصفق بأجنحتها تميل على غير هدى ربما ستقصد بعض البساتين القريبة وقد تيبس أغصان شجرها، وشاخ سعف نخيلها الكهل..
على الطريق ثلاث سيارات نوع ( اوبل) تجاوزت بسرعة عالية وكأنها في سباق على مضمار لا تبدو له نهاية، لما شاهد السائق تهافتهم بهذا الشكل خفف من سرعته ليمرقوا الى جنبه مثل سهام افلتت من وترها، وعيناه تلاحقها وهي تنفلت بعيدا عنه وتتلاش في الافق..

لكنه لما لاح له بضع سيارات تصطف خلف بعضها مثل طابور خفف من سرعته وصار يقترب حتى تيقن من وجود سيطرة على الطريق تقف الى يمينها السيارات الثلاثة التي كانت تتسابق قبل قليل، فعلق ساخرا حين شاهدها تجثوا على كتف الطريق...
- عبالكم تفلتون هاي كمشتكم السيطرة..
- منو ذوله بروح ابوك ؟ سأله أبو كريم وهو يلتفت الى خارج النافذة تارة والى الامام ليتجاوز بنظر من خلال زجاج النافذة الامامية ثم عقب بعد أن عرف بإشارة من السائق:
- أي والله هذوله همه.. الله يستر من تاليها.
السيطرة تبدو خارجية متنقلة فليس فيها سوى سيارة شرطة يجلس في حوضها جنديان أحدهما يقف خلف الرشاش الاحادي والثاني جالس على حافة الحوض وبيده بندقية مذخرة، على الارض ضابط تلهث على كتفه نجوم ثلاث، ومعه شرطيان، واثنان آخران بزي مدني تحت ابطيهما مسدسات تلمع في سبطانتها الشمس، بين يدي الضابط أوراق يقلبها وفيها اسماء يطابقها مع الهويات التي يطلبها من الركاب..

سيارتان أمامهم مرتا بسلام قبل أن يصلهم الدور والغريب أن السيطرة ليس فيها جهاز لكشف المتفجرات!
أنزل السائق زجاج نافذته فطلب الضابط هويات الجميع، وهو يقلبها وينظر في الوجوه، ثم وضعها فوق بعضها ورزمها ثم شخص بنظره نحو شاحنة متوسطة اقتربت من الخلف أشار إليها بسبابته لتتقدم مكتوب على جانبيها (براد مخصص لنقل اللحوم المجمدة) تقدمت حتى وقفت الى جانب سيارتهم لم يكن ذلك مزعجا للضابط ورفاقه برغم أن أبو كريم وجماعته استغربوا ذلك فكيف لهم أن يصطفوا بجانبهم دون أن يقول لهم أحد كلمة، دب القلق في نفوسهم وتسارع نبض قلوبهم، العيون تنظر الى بعضها والألسن ألجمها خرس الحذر فكل كلمة لها وزن ربما يرحج كفتهم أو ينكس بهم الى التهلكة..
تأخر الضابط وهو يتفحص الاسماء ثم أشار الى المدنيين معه أن يفتشا صدوق السيارة وأمر الشرطيان أن يتوجها الى الامام، ثم طلب من السائق رفع غطاء المحرك لمح الجميع من زجاج النوافذ الجانبية أن المدفع الرشاش دار نحوهم، وانزل الجندي فوهته في وجوههم، ثم صوت إسقاطة لسرقي بنادق من أماهم وصليل فوهات مسدسات خلف رقابهم، ثم على عجل تفتح الابواب ويؤمرون بالخروج والأيد على الرؤوس، لقد وقع المحذور ولم تفلح معهم التوسلات والاعذار..
وضعوا في رؤوسهم الاكياس السوداء واقتادوهم الى الشاحنة ورموهم في صندوقها، تدحرجوا فكانت الايدي والاقدام تعرقل بعضها، وعيون تتوه في الظلام، تخشى الفراغ الأسود الذي لفها.



يتبع

محمد مشعل الكَريشي
04-09-2016, 12:01 PM
سيطرة وهمية
(6)


لأي مصير محتوم يسوقهم هذا الظلام وبأي شيء يتشبثون وكل واحد منهم يرى أنه هو المقصود دون غيره، فكل ما يطلبه الارهابين متوفر بينهم، السني الذي لم يرتضي لنفسه أن يكون مطية لهم ، أو الشيعي الذي يعتبر ألدّ أعداهم، أم هو التاجر الصليبي المحسوم أمر كفره، أم ذلك الشاب الذي يتوق الى الحياة بعين متفتحة ويرى في العلمانية أنها المنجية من خطر الإسلام المتشدد..
كلهم يفكر في دخيلته عن الخلاص الذي بدى يتلاشا شيئا فشيء، وحلت محله الذكريات التي صار يحن اليها جميعهم، وما بينهم وبين فراقها إلا لحظات لا يعلمون إن كانت ستطول، أو ستاتي سريعا، لكنها كيفما ستكون فإنها ستقطع ذلك الجمال، وتزرع في مكانه الموت الذي يذهب بالارواح الى عالم الاخرة، ويترك خلفه الأجساد نهبا للضياع بعد أن تفترسها الأحقاد، انتقاما من الانسانية..
مالت السيارة بانعطافة حادة خلخلت توازنهم وقطعت سلسلة أفكارهم، وقد علا صوت رصاص في الخارج كان يزن في اذانهم.. خفضوا رؤوسهم حتى انقطع وابل الرصاص بينما السيارة تتهادى ببطء، حتى توقفت، أصوات متشابكة، متجمهرة ،كان الرصاص من بنادقها احتفالا بالغنائم القادمة، رقصوا حولهم ثم فتحوا باب الشاحنة واستلوهم من ياخات ملابسهم، و ورشقوا فوق رؤوسهم رصاص التكبير ثم اقتادتهم الأيد بإشارة من كبار الموجودين كانوا ينادونه بالامير، ركلوهم داخل بناية لمطحنة حبوب قديمة، لها باب كبير في وسطه باب صغير أخلوهم من خلاله، ودخل خلفهم الأمير وحذرهم عاقبة أفعالهم، وعلقوا النظر في أمرهم حتى يأتي الأمير، ثم أمر بخلع الاكياس من رؤسهم، ومن ثم تفتيشهم جيدا فلم يبق لديهم سوى الثياب التي عليهم، واغلقوا الباب خلفهم .
تركوهم يموجون في نظرات حزينة تلطخ جدران المطحنة البائسة، نهض الشاب ودار حوله يبحث عن نافذة للنجاة، فلم يجد سوى ثقب رصاصات اخترقت الباب ، نظر من خلالها الى الخارج فلاح له إثنان يجلسان عند الباب ، وقليل متباعدون عنهم ومجلس الامير قريب من حافة نهر، تغدو وتروح إليه الأطباق وحوله لمة من نساء مزينة بألوان براقة تلصف في وجه الشمس التي جعلت الاشياء تقف على ظلها، أدار ببصره فلم يجد خرما ينفذ منه قط سوى مفرغة الهواء المعلقة بدكت طويل الى السقف تأمل حركتها الناعسة بينما عيون البقية تنبش الأرض قبل المعاول التي ستواريهم، ولا أمل لديهم سوى نهاية هذه اللحظات المريرة قبل الموت..
خرخشة في صدر الباب ثم انفراج يسير أعاق تتمته سلسلة غليظة، سمحت بفتحة ألقي من خلالها كيس أسود رمته يد بازدراء، ثم أغلقت الباب، تفحصه الشاب فاذا بداخله قطع من خبز بائت عليه بدايات عفن تقزز منها ورغب البقية عنها فتركوها في المكان الذي وقعت فيه.
هبط الليل ولم يأت الامير بعد ، وتكاثر لغط في الجوار ونداءات تبثها أجهزة محمولة تبث تعليمات مرمزة، يدور بها رجال يدخلون ويخرجون من غرفة قبالة المطحنة ، بمسافةعشرين مترا يمكن ملاحظة الرجال من بعيد على أضواء مصابيح تبث أضواء باهتة، وصوت مولد للكهرباء يملأ المكان ضجيجه.
أوقد رجلان عليهما ملابس باكستانية بعض الكرب في تنكة فارغة، قبالة باب المطحنة المظلمة ، بينما يخط السائق وأبو كريم أرجلهما جيئة وذهابا في وسط ظلامها النتن، لم يدرك أحد سر حركتهما ، حتى تنفس أحدهما غاضبا وكشف حاجتهم الى الخلاء، أشار الشاب الى نهاية الغرفة خلف المكانة الكهلة فنهض التاجر قبلهما بعدما عجز أن يفعل مثلما مما تضايق منه.





يتبع

ناديه محمد الجابي
04-09-2016, 07:02 PM
ياآلهي .. ما أجمل قصتك ، وما أروع قدرتك على القص الذي يأخذ بتلابيب المتلقي
وقد انحبست الأنفاس مع حروفك ـ وقد استطعت ببراعتك التصويرية أن تجعلنا
نعيش داخل الحدث بإبداع يعانق بروعته أفق الخيال
أتمنى أن تكمل قصتك حتى لا نبقى مرعوبين في انتظار مصير ابو كريم وجماعته
وفي انتظار التتمة سنكون على شوق
سلمت يداك. :001:

محمد مشعل الكَريشي
06-09-2016, 09:08 AM
ياآلهي .. ما أجمل قصتك ، وما أروع قدرتك على القص الذي يأخذ بتلابيب المتلقي
وقد انحبست الأنفاس مع حروفك ـ وقد استطعت ببراعتك التصويرية أن تجعلنا
نعيش داخل الحدث بإبداع يعانق بروعته أفق الخيال
أتمنى أن تكمل قصتك حتى لا نبقى مرعوبين في انتظار مصير ابو كريم وجماعته
وفي انتظار التتمة سنكون على شوق
سلمت يداك. :001:

إن شاء الله تعالى ستكتمل مع تشجيعكم سيدتي العزيزة
بارك الله فيكم
ممنون :0014:

محمد مشعل الكَريشي
06-09-2016, 09:48 AM
سيطرة وهمية
(7)


استند أبو كريم الى حافة الجدار ومال برأسه الى الوراء وظل يضربه بخفة ضربات متوالية كأنه ينكت ما فيه من حياة ليسلمه فارغا الى أصحاب الرؤوس الفارغة، ضحك ضحكة عالية دون أن يرد عليه أحد ظنه البعض ضحكا هستيريا هو أحد علائم الموت الذي يزحف نحو صاحبه لكنهم لم يدركوا كنه ضحكته فسكت غير مبال لوجودهم، وهم غير مبالين بما صدر عنه من ضجيج أقض سكونهم الممهد لذلك السكون الأبدي..
- وين ما أروح ألكَه سعدون كدامي..
قالها متمتما، وضحك مرة أخرى، ثم صمت فجأة لكن نفسه العاقلة أبت عليه فعل ذلك فراحت تنهره وتهمس في جوهره وتذكره بأنه الرجل العاقل الكامل، فرد عليها ضجرا:
- وما الفرق بين سعدون الذي أراد أن يقطع وصلي بمن أحب وكان مستعدا لإرسالي الى الموت لولا تدخل أهل الخير، وبين هؤلاء؟ شنو الفرق بيناتهم؟
ردت عليه نفسه العاقلة:
- لقد فقدت رباطة جأشك، واستسلمت للموت خائفا مذعورا كأنك طفل صغير لم يخبر الحياة طوال تلك السنين الماضية، كيف أمضيت خدمتك العسكرية أيام حرب ضارية امتدت لثمان سنين؟! .
- اني كبرت وجاي مجتف للموت مثل النعاج، خل يفكوني ويشوفون الزلم..
ضحكت منه نفسه العاقلة واردفت : سيفكونك فلننظر ماذا ستصنع أيها السبع..
هدأت نفسه فبادرها: ولكني لا أبكي على نفسي.. قالها وقد دب في عروقه الذبول وخالجته أصوات حزينة تكسرت في قعر ذاكرته في ذلك الظلام .. أنا حزين على بناتي على زوجتي وقد اشتقت لهن، الله يدري هسه هنه بيا حال.!
- ما هكذا كنت يا رجل لقد كنت متماسكا قويا لا تظهر منك سوى الصلابة والعزة ولا تميل بك ريح الشوق فتقع في حبال الذبول لتجرك نحو الوهن .. اصبر فما صبرك الا بالله وتوكل عليه، وعد الى ذكر ربك أليس وقت التهليل والتسبيح قد حان، أم أنك تهلل وتسبح في الرخاء فقط..
أنتَ في أمسّ الحاجة إليه وحسبك أن تتذكر قصة نبي الله يونس (عليه السلام) إذ التقمه الحوت وهو مليم فكان يسبح في بطنه فانقذه الله بذلك التسبيح ..
استنشق نفسا عميقا فعلا صدره ثم انخفض بعد زفير طرد فيه ذلك الخوف الذي تسلل اليه فاسلم أمره لله وترطبت شفتاه بالتسبيح ( سبحانك لا إله إلا انت إني كنت من الظالمين) سمعها القوم فضجوا جميعا الى ربهم وكل يدعوه بما يحفظه من أذكار ، ولا ملجا منها إلا إليه.
- رحم الله والديك .. قالها السائق وراح هو الاخر يهلل ويرتجي ربه ويتذاكر أمره وكيف كان الموت قريبا منه يوم دك بعض شباب ملثمين بيوتهم، ورشقوهم برصاص بنادقهم واختفوا خلف البساتين، حدث ذلك لثلاث ليال متتالية، بعدها تناثرت منشورات في الدروب وفي ساحات البيوت تحث الجميع على الجهاد وتحذر المتمردين، خرجت بعض العوائل نحو مدن الجنوب، وظل هو وعائلته بعدما تواصل مع شيخ العشيرة الذي طمأنه بأنه غير مقصود فهو من أبناء العامة وليس عليه شيء، وصار يتذكر كيف نهره الشيخ حينما حدثه عن جيرانهم الشيعة، عاشوا معا لسنين وتزاوجوا فيما بينهم، قال له: لم نر منهم إلا الخير وليس لديهم أي علاقة بما يفعله الصدريون في بغداد، لكن الشيخ أسكته ونهره أن يعود لمثل هذا الحديث حتى خرج من كان عنده فاعتذر منه الشيخ وقال له فعلت ذلك حتى لا يظن هؤلاء السوء بنا ، وأنصحك أن تمسك لسانك..
توالت الأحداث وبدأ مسلسل الإبادة اليومي لكل من كان يعارض حتى دنا الخطر من عائلته فقرر أن يخرج بهم فاراً، وبالفعل كان ذلك عشية ليلة مشوا فيها مسافة عشرين كيلوا مترا على أقدامهم بين البساتين والبزول، ساعدهم بعض الشباب من تلك المناطق، انظم بعضهم فيما بعد الى الجماعات التكفيرية؛ هددوهم، واغروا بعضهم بالأموال والنساء، لكنه ظل متواصلا مع بعضهم ممن ظل يحمل له الود فكان يخبره أن بيته قد أصبح سكنا للأمير التونسي أبو قتادة وبعض حاشيته وتحولت قريتهم الى ثكنة عسكرية يمارسون فيها أفعالهم تحت جنح الليل الاسود.
نبع الى قلبه ذلك الخوف فانكمش على نفسه وهزأ بنفسه وصار يتكلم دون وعيه ويقول:
- لا يابه أمان الطريق أمان، ليش هو أكو أمان لأولاد الحرام..
قالها ثم تأوه عاليا يلوم نفسه على هذا العمل الذي حذره كثيرون منه ولكنه لم يستمع اليهم وتذكر حينها مقولة زوجته بعدما انتقلوا الى مدن الوسط واطمأنت على أسرتها:
- مروتك يا رجال عوف هاي الشغلة ما بينه حيل كلوبنه تلفانه من يومها..
لم يصغ لها هي الاخرى وغره السكون الذي سبق هذه العاصفة التي لم تأتي بجديد عليه فإن كان لأخرون أمل في النجاة، فلن يكون له عُشر ذلك الأمل فإن علموا به وعرفوا فعلته سيكون مرتدا، وللمرتد قتلة تختلف عن غيرها، فاستسلم لقدره المظنون وقلبه متعلق بالله ولسانه يسبح بشعور أو بدون وعيناه تهملان ونشيجه تشابك مع عبرات تكسرت بصوت أبو كريم وهو يدعو ربه بدعاء الخلاص.
ضحك التاجر وهو يجذب رجله ويمدها ويقول في نفسه لن يمضي بك البلاتين هذه المرة فجهاز كشف الشخصيات لا يعتني بالمعادن، هو يبحث عن الاسماء والصفات والاديان، ولن يتأخر الأمر عليهم لمعرفتك، إن لم يتبرع أحدهم بكشف هويتك، مسيحي!!
لقد صدق أبو كريم في قوله انهم لو علموا بوجودك لدفعوا بدلا عنك مال قارون، لقد جئتهم بالمجان دون أن يدفعوا فلسا واحدا أو يتكبدوا عناء الترصد لخطفك من أمام كنيسة في بغداد، لقد منَّ الرب على من فرّ من هذا البلد، ما كان يبقيني فيه وأي تجارة هذه التي سأمنح في نهايتها روحي بلا ثمن وأخسر نفسي الى الأبد، ليتني خرجت مع أخواتي وأخوتي وتنعمت بخيرات الرب في استراليا وأوربا، ظللت حبيس طمعي، وأجلسني جشعي، وهكذا هي نهاية أصحاب النفوس الصغيرة، الخاسرون هم من لا يضحوا بأرواحهم، ولا يسافروا من أجل روح الله، يا روح الله وابنه الذي في السماء لقد كنت خائفا مثلي فارشدني للخلاص، امنحني قبسا من إخلاصك لا نجو من خطيئتي التي أخلدتني الى الارض، أعترف لك بالتقصير، أعترف لك بالإثم والخطيئة فسامحني واقبلني.. سامحني واقبلني..
لم يشعر وهو يتلفظ بكلماته أنها تهدر منه بصوت عال لفت انتباه الجميع، فقال الشاب في تهكم واستغراب:
- عجيب أمركم أيها السادة كلكم تدعون ربا واحدا برغم أنكم متفرقون في معرفته، وبرغم ذلك فأنتم تخافون من موت قادم يسومه لكم أبناء دين مثلكم، وهم يتقربون الى ربهم بذلك ابتغاء رضاه وقبوله لهم بجناته المشحونة بالحور العين، أنا أكثر واحد فيكم يحق لي الخوف من ذلك الموت الذي يترصده أصحاب الدين ممن يريد تطبيق شريعة الله على الارض، أنا لست مؤمنا بهذا الرب الذي يراه التاجر أو السائق أو أبو كريم، فكل واحد منكم له دين مفصل على مقاسه، أنا أرفض كل تلك المقاييس وما زلت أرى أن الدين الذي يمكن أن أؤمن به هو الله وحده دون واسطة تعكر صورته في قلبي كما تفعلون.. فهذا المسيحي يرى أن السيد المسيح هو ابن لله الجالس في السماء..
- استغفر الله هاي شجاك عمي، كمت تخروت؟
- لا وداعتك عمي أبو كريم ما أخروت، هذا أخونه المسيحي هيجي يشوف الله أما انتم الشيعة فالطريق الى ربكم واحد لا سبيل سواه، وهو التمسك بالعترة وكل طريق آخر مرفوض كأنكم الموكلون بإغلاق أبواب الرحمة.. فاردف أبو كريم:
- والنعم من أهل البيت.. هيجي ربك أمر..
- وكذلك صاحبنا السائق هو الاخر على دين يرى أنه هو الحق وأن كل مذهب غير مذهبه وما كتبه له الشيخان فهو كفر ورفض.. كذلك فعلمائهم يصفون الله بصفاتهم ويقللون من قدر نبيهم ويصفونه بمواصفات لا تليق بالرجل منهم..
- استغفر الله عمي هذا الحبيب المصطفى، صلوا على محمد وال محمد.. نسي أبو كريم أنه داخل الصندوق، وعلى مقربة منه جلادان يمكن أن يسحلانه الى الهاوية، ولكنه لم يكترث فصدح بالصلوات عاليا فيما أحجم السائق عن الكلام واكتفى بجملة واحد قالها للشاب وسكت:
- خلينة بالله من هاي السوالف، احنه بيا حال..
ولكن التاجر المسيحي لم يخليها كما أراد صاحبه السائق، بل تصدى للطالب الشاب بحزم وقال له: هكذا أنتم دعاة العلمانية تحاولون فصل الدين عن الحياة تشككون في كل شيء، وكأنكم مخلوقون بلا زلل، وبرغم أفكاركم الصاخبة إلا انكم لم تأتون يوما بما هو نافع ومفيد فقط تنظرون وتشككون بقصد الاساءة للدين وفي أذهانكم انكم على حق دون هذا العالم، فانتم بالحقيقة انعكاس لما تحاولون محاربته، ولا تختلفون عنا بشي سوى بكفركم وظلالكم.
- أرجوك اني محترمك.. لا تتجاوز!
لما احتدم الحديث وسخنت الاجواء، وتشنج الود وخالطته البغضاء، أحس أبو كريم بالخطر فنبع من بينهما ومد يديه بينهما بانفراج الى الجانبين :
- عمي صلوا على محمد وأل محمد .. ثم التفت الى التاجر : شجاك مو انته الجبير؟
- ما تشوفة حجي شد يحجي طلعنه من الكلجية ابو الماجستير.. جلس التاجر الى جدار قريب وظل يتمتم في انزعاج:
- غريبة والله صايره مودة بالجامعات لو ملحد لو علماني..
- يا جماعة اكعدوا احنه بيا حال.. كررها السائق على الجميع قبل أن تسرق مبادرته أزيز رصاصات أخرست الألسن تبعتها بوقت قصير نداءات وحركة للجميع ومن ثم أضواء سيارات تقترب تندفع تباعا كان عددها من خلف الباب أربعة ترجل من الثانية رجل بقامة فارعة وعليه جبة وله ذقن طويل وعلى رأسه كوفية بيضاء، وكلٌ يرحب به ويقبل يده، لقد جاء الأمير ..
كلمات طرقت مسامعهم فامتعضت أمعائهم وخارت قواهم فقد اقترب موعد حشرهم الذي لا مفر منه.



يتبع

ناديه محمد الجابي
06-09-2016, 12:41 PM
حوار رائع وفلسفة وفكر وتلخيص لحال البلاد بطوائفها المختلفة
مختصرة في تلك المجموعة الواقعة في قبضة الأرهابيين..
وقد كنت في حالة استمتاع باللهجة العامية ـ رغم إني غير محبزة
لها في القص ـ ولكن عندما أكثرت منها عاقت الفهم مثل:
( شجاك ـ كمت تخروت ـ شد يحجي طلعنه من الكلجية)
من أروع ما كتبت ـ فسلمت يداك.
تحياتي وشوقي للبقية. :001:

محمد مشعل الكَريشي
08-09-2016, 07:25 AM
حوار رائع وفلسفة وفكر وتلخيص لحال البلاد بطوائفها المختلفة
مختصرة في تلك المجموعة الواقعة في قبضة الأرهابيين..
وقد كنت في حالة استمتاع باللهجة العامية ـ رغم إني غير محبزة
لها في القص ـ ولكن عندما أكثرت منها عاقت الفهم مثل:
( شجاك ـ كمت تخروت ـ شد يحجي طلعنه من الكلجية)
من أروع ما كتبت ـ فسلمت يداك.
تحياتي وشوقي للبقية. :001:

الله يحفظكم ست نادية وأشكر متابعتكم الدائمة
ساشرح لك مابين المزدوجين
( شجاك ـ كمت تخروت ـ شد يحجي طلعنه من الكلجية)
شجاك = ماذا دهاك
كمت تخروت = كلامك غير مفهوم
شد يحجي = ماذا يقول ( استغراب)
طلعنه من الكلجية = يتهمنا باننا على غير الطريق السوي
الكلجية: كلمة عامية تعني الاشخاص الذين لا يمتلكون كلام وليست لهم مصداقية او التزام في المواعيد او المواثيق التي يقطعونها على انفسهم.

دمت بخير وعافية .. احترامي :0014:

محمد مشعل الكَريشي
10-09-2016, 12:31 PM
سيطرة وهمية
(8)






لف النهار مسيرة الشمس وغطاها الليل برداءه الاسمر، وتمدد لونه المعتم في الارجاء، وعيون أم كريم ما زالت تترقب ناصية الطريق مع قلق لف روحها الحنونة بعد طول الانتظار في النهار، وهاتفها لا يمل مجيبه الآلي تكرار ( الجاز مغلق أو خارج منطقة التغطية...) .
عيون البنات تتطلع بوجه الأم دون الطريق فمرآته وجه أمهن التي دفعها الخوف على زوجها أن تتصل بولدها كريم قبل نزول قرص الشمس، وها هي تنظر الولد ووالده، في أول الليل الذي نشر فوق رداءه المعتم حبات اللؤلؤ فراحت تبض فوقه مثل قلوب واهنة..
لم تكن قد اعتادت وجودهما فالأبن قد سكن مع زوجته في بيت قريب، والزوج يعمل بالحراسة سوى بعض أيام اجازته فكأنه البدر الذي لا يكمل في الشهر إلا في يومين أو ثلاثة، مرت الدقائق والساعات الثقيلة بعد مغيب الشمس ومن قبلها كانت تلتمس له عذرا فربما تأخر في بغداد بسبب المعاملة، أو ضاع هاتفه، أو ربما سُرق منه..
هب الولد سريعا ومعه زوجته وطفله، فلما رأى أمه واقفة مثل جذع نخلة تسورها ظلام كثيف سألها بلهفة ووجل:
- ها يمه خو ماكو شئ؟
- أبوك طلع من الصبح لبغداد، و لسه ما رجع!
- بغداد؟ علمود التقاعد مو؟
تساءل ثم أحجم عن الإجابة التي إن نطقها سيكدر بذلك سمعها، يكفيها ما هي فيه، عالج الأمر بالتصبر والتوكل، وطلب منها أن تدخل ليرى ما يمكن فعله.
مرت الساعات وكريم لم يترك أحد من معارفه إلا واتصل به حتى تهاطل إليه في ذلك الليل البهيم، الاعمام والاخوال، الاقارب والجيران، المحبين والمبغضين، بعقل ويشاميغ وقليل في بناطيل، وكلٌ يحمل معه قصة من قصص الارهاب التي طالت أبناء المدينة، أي فأل هذا الذي حملوه معهم الى كريم، وأي تسليم هذا الذي بدأ يدب في النفوس، حتى قطع نياط الأمل وألقاه في اللاعودة، كل ذلك وفوقه إلقاء بعضهم اللوم على أبو كريم على تعجله في الذهاب الى بغداد، فيما بادر بعضهم معترضين؛ لقد ذهب وعاد آخرون دون أن يحدث لهم شيء، ولكنهم ما زالوا غير مكترثين لما يعتصر الوالد من ألم الفقد لوالده، ولم يدركوا أنما يصل بعض حديثهم الى مسامع زوجته التي وقفت خلف جدار تتسمع الى ما يقولون، كثُر حديثهم وعلا حفيف رجولتهم التي تلاهبت كألسن النيران، وكلٌ يعزم الذهاب بحثاً عنه..
تقدم سعدون ووقف في وسط الجمع وبيده بندقية مذخرة أخذ يضربُ على أخمصها بباطن كفه ثم ينترها متحدثا بعد أن أمسك شاربه:
- هاي الشوارب مو عليه إذا ما أحرك (مويلحه) وأهلها.
- عمي على كيفك سعدون، اسكت مو وكت هذا الحجي.
نهره كبير عومته وكان رجلا مربوعا يتناثر منه الوقار والهيبة فسكت الجميع حين علا صوته على الاصوات..
نهض رجل من أعمام كريم وكان كبيرا في السن ثم اتكأ واثبا على ساق بدقيته كأنه يرد على سعدون بوجود رجال في العشيرة:
- الما يتحزم للموت يموت على باب بيته، ما نسكت بعد، وصلت حدها.
نهض رجل متوسط في العمر رافعا يده وقد أخرجها من ردن عباءته فسكنت أصوات من حوله وعاتب الرجل ثم شكره على مشاعره والتفت الى البقية، حدثهم فكان يستنطق عقولهم ويخاطبهم بلسان الحكمة:
- يا جماعة الخير يقول الامام علي (ع) " لا يجوز القصاص قبل الجناية" غير نعرف السالفة بالأول وبعدين نحكم. انطونه صبر رحم الله والديكم.
نفض سعدون رداءه وتنحى جانبا كأنه لا يريد الاحتكام إلا للسلاح والطك والفشك، ولحق به فتات من الرجال راحو ينفثون دخان سجائرهم في الفضاء، فيما اجتمع أغلبهم حول كريم وثلاثة من كبار القوم فقرروا أن يخبروا الدولة بما حدث، ولكن سعدون وجماعته ممن حملوا بنادقهم على أكتافهم كالمساحي سخروا من قولهم فتناجوا " خل الدوله تحمي نفسها"..
وصل صوتهم الى الرجال فهزوا الرؤوس وفي دخيلتهم صدق ماتناها الى سمعهم ولكنهم كعادتهم يلتسمون الطريق الصائب فقالوا لهم بلغة هادئة قوية نافذة " عينوا خير ".
انتصف الليل وأم كريم لا تطيق مجلسا إلا ونهضت منه تدور بين لمة من النساء اللائي درن حولها، يصبرنها بينما ذهلت بناتها فكأن خرس أصابهن وبدت كل واحدة منهن تشعر بضياع يجذبها الى الداخل.. زينب وسكينة حزينات مهمومات بينما تكورت ضحى ووضعت رأسها بين ركبتيها وأخذت تنشج في بكاء عميق أوهن قلبها الذي اعتصر ألما على فراق والدها وهي تتخيل مخلوقات بشعة تتقاذفه باذرعها كاللهب من كل مكان وهو لوحده بين مخالبها التي تنهش في جسده العاري .. تبكي وتبكي فيضج من قربها بالبكاء على بكائها، تمسد نسوة شعرها وتمسح على خدها وابل الدموع وتطمئنها بأن والدها بخير وتصف لها صورا من فرضيات تبعد عنها تلك المشاهد المؤلمة التي حشت رأسها..
أرسلت أم كريم في طلب ولدها وأمسكت بتلابيبه وسألته بحرقة:
- ها يمه شكو ؟
- هسه يمه، خبرنا الشرطة وراح نشوف شنسوي من يجون.
في الاثناء توافدت سيارات عليها أضواء تبرق وتنطفأ ويطلق بعضها صفير يسلب السكينة من النفوس..
- يمه هاي سيارات الشرطة.
انصرف كريم سريعا، ونظر والدته مشدود في خطواته، ولولا الحياء لعمدت الى مرافقته ولكنها آثرت الاقتراب خلف الجدار تنصتُ الى حديث صاخب علها تسمع بعض منه يمكنه أن يهدئ هذا البركان الذي يغلي في صدرها..
لم يكن في جعبة رجال الشرطة شيء جديد حول الخطر الذي يتخطف الناس في تلك المنطقة المشؤومة وقد اعترفوا بعجز الدولة عن القضاء عليه، ولكن الذي فعلوه قبل مجيئهم هو الاتصال بالسيطرات الخارجية والاعلام عن الشخص المفقود، لكن الجواب كان متوقعا فلم يحصلوا على أي معلومة عن أبو كريم، أو السيارة التي كان فيها، وكأنهم فصح ملح ذاب في الطريق..
طلب رجال الامن أن لا يتدخل أحد في هذا الموضوع فربما يزداد الامر سوء كما حصل في قضية عشيرة السعيدان حيث اختفى منهم رجلان اثنان، فذهب أخوتهم من خلفهم للبحث عنهما ولحقهم بعض أولاد عمومتهم، فكانت النتيجة هو ارتفاع عدد الضحايا الى ستة.
ضابط الشرطة طلب من كريم وثلاثة من الرجال من كبراء القوم اللقاء، واختلوا في داخل المضيف وأعلمهم أنه تلقى شكوى مماثلة عن غياب شاب جامعي وتاجر للمواد الاحتياطية وسائق سيارة اجرة أغلب الظن أنهم جميعا مع بعضهم لان كل الدلائل تشير الى ذلك خصوصا أن وقت انطلاقهم اتفق فيه الجميع ، ثم طرح الضابط بعضا من الفرضيات المحتملة فإما أن يتصل من ساهم في اختفائهم ويطلب الفدية، أو لا سامح الله يقتلهم دون أن يكون هناك خبر، أو ربما كان أبو كريم وغيره محتجزين عند الامريكان، أو في مكان ما، وهذا ما سنعرفه إن شاء الله، فقد أرسلنا برقيات الى الجهات ذات العلاقة..
غادر رجال الامن فنبع من خلف الأشجار سعدون وجماعته؛ لا يجرؤ أحد على حمل السلاح أمام الشرطة، فلما رحلوا خرجوا ببنادقهم وهم يتساءلون عما افرغته الشرطة في جعاب قومهم فلما اخبروهم بما دار من حديث قالوا لهم مؤنبين:
- ها شكال البهلول؟ عمي الشرطة ما تسوي شيء.
عادت أم كريم تجر خطواتها بوهن شديد وعلى رأسها حطت هموم لا تقو على حملها ولكنها كابرت ما كانت تنوء به وصبّرت بناتها فيما غادر عنها بعض النسوة، وظل منهن أقرب النساء رحما بها فأجلسنها والصبر حديثهن، كما هو حديث الرجال..
-كم الساعة الان ؟
سأل شيخ العشيرة . فكانت الواحدة والنصف بعد منتصف الليل لمحها كريم على شاشة هاتفه النقال ومعها وميض اتصال ثم رنة، والاسم الظاهر في الشاشة هو " أبوي"
- أبوي!!
نطقها كريم بصوت عال كمن عثر على كنز مطروح في الطريق، فوثب على قوله قولهم " افتح.. افتح الخط"
- ألو .. ألو .. بويه ..
برغم أنه لم يسمع صوتا في الطرف الاخر إلا إنه انتحب باكيا، وكأنه سمع صوت والده يتردد في مسامعه عندها جذب شيخ العشيرة الهاتف وقال:
- ألو أبو كريم؟
- أبو كريم يسلم عليكم.
- منو أنته؟ أبو كريم وينه؟ خو مابيه شيء؟
- لا مابيه شيء.
- لعد وينه؟
- اذا تردونه يرجعلكم جيبوا عشر دفاتر.. بعدين نتصل بيكم.
أُغلق الهاتف، وأغلق الشيخ عينييه بألم وامتعاض وكل الانظار إليه شاخصة والانفاس تلهث مسرعة تنافس انفاسه، وكلهم يترقب حرفا يزفر به همه الكبير، فيما ظل كريم يعتصر طرف أنفه كالمزكوم، ويلوذ بنظراته نحو خبر قادم إليه..
- يا جماعة الخير أبو كريم عايش..
- اي الحمد لله .. قالها جمعهم وسحبوا نفسا عميقا..
- عايش . بس.
- بس شنو؟
- بس طلبوا فدية عنه عشرة دفاتر.
ضرب كريم على أم رأسه بكفيه فامسكه الشيخ بيده، وقد استصغر فعلته، وعيلة صبره، فيما ضربت الأكف من حوله على بعضها متأسفة على ما جرى على أبو كريم..
فلما سمعت أم كريم بالخبر ألقت على مسمعهم بيتا من الدارمي تستهض ههمهم:
- ماي الوجه ينباع للوجهه بي ماي *** وانه ارد ابيع اعليك وادري انت شراي
عندها نهض الرجال وعلى قول واحد:
- عد عيناج أم كريم.
وقف الاعمام موقفا مشرفا، وتضامن معهم الاخوال، ولحقهم بهم سعدون وقد نكس بندقيته وتيقن أن ديناً بذمته آن آوانه.



يتبع