تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : .. إلى حين



حنان الزريعي
29-05-2014, 08:11 PM
.. إلى حين



" صفعتني الرياح واهتزت ألواحي الخشبية المثبتّة بوهن ، بتّ أخاف أن أفقد ما تبقى مني ، فلا أحد يهتم بترميمي " .
شاخصة النظرات ، حيث تلك النافذة المغلقة ، وأنامل الشمس تتسلل لتلامس أطراف سريرها ، وما بعد هذه النافذة وبقايا خشبها الذي بدأ يفقد بعض أوصاله .. كانت جرمانا .
تاقت لرشف بضع نسمات من صباح دمشق .. " يا ليتهم أبقوا تلك النافذة مفتوحة " . لم تفهمها كنتها الكبرى ، عندما أومأت لها بأن تدع برودة هذا الصباح ، ترمم أنفاس هذه الغرفة الملأى بالخدر .
ليس فقط جسدها قد أصابه الشلل – منذ سبعة أشهر – بل كل شيء يحيط بها قد شلّ ، حتى أولادها الثلاث وابنتها غطى الثلج دفء مشاعرهم نحوها ، وبات كل منهم يرمي ثقل .. همها – همهم .. على الآخر ، ليتفق الجميع أن يأوي عجزها بيت كل واحد منهم لشهر ، فزوجات أبناءها لهن ظروفهن الخاصة ؛ فتلك وظيفتها تمنعها أن تأتي كل يوم للاهتمام بها ، وتلك .. وتلك .. كلّ له ألف عذر ، وعذرها الوحيد أنها كانت والدتهم جميعاً .
" هبّت الريح بقوة لتبعدني عن زجاج نافذتي ، وهناك في الأسفل ؛ أراه ينفخ في كفيه محاولاً تدفئتهما ، وبجانبه آلة لصنع القهوة " .
اعتاد هذا المكان وجوده منذ شهرين ، فخلفه تقع الحديقة العامة ، والتي تكتظ كل صباح بالساعين للرشاقة والباحثين عن الحب ، وفي الجهة المقابلة له ترتمي بضع مبان ، بعض قاطنيها يرغبون شرب قهوته قبل ذهابهم لأماكن عملهم .
لم يختر عمله هذا ، بل ذاك – الربيع العربي – فرضه عليه ، ففي غربته سلّم كل حواسه للعمل وجني المال ، فقلبه تركه على عتبة قلب من أحبها ورفضه أهلها .
وفي غمرة ذاك الحراك الشعبي ، كاد يضيع بين .. معنا أو ضدنا .. فآثر الرجوع إلى وطنه ، تاركاً وراءه كل ما يملك ، ليقع فريسة فقر ظنه مؤقتاً ؛ لاعتقاده بأن ما يحصل آنذاك زوبعة في فنجان وتنتهي ، لكنها كبرت لإعصار طال حتى وطنه .
" زادت قوة الرياح لتصفعني مرة أخرى وتدخلني حيث زجاج نافذتي ، لأراها هناك ، وقد إلتمع خدها بأخدود رقيق ، أظنه كان .. دمعاً " .
ما أصعب أن تعجز عن القيام بأمر ، كل من حولك يقوم به حتى الطفل الصغير ، هي مشيئة الله – لا تنكر هذا – لكن ما ينكره قلبها ، أن لا ترى أبناءها وأحفادها مجتمعين حولها ، بل كل شهر يكون شللها ضيف بيت وحياة أحدهم ، وما ينكره عقلها ، أن تكون كرضيع تتلقفه أيدي كناتها الثلاثة للاهتمام بنظافتها الشخصية ، آه .. كم أحتاجك يا ابنتي .. لم غلبت سلبيتك عاطفتك نحوي .
التفتت بملل إلى النافذة التي سلبت آخر شغف لها بالحياة ، وكأن العالم كله يبدأ وينتهي ، حيث ذاك المربع المضاء بالنور .. والضجيج .
تناهى إلى سمعها صوته .. صوت زوجها ، ارتبك وعيها ، فالموت أستلّ نبضه من غمد الحياة قبل إحدى عشر سنة ، وتساءل لاوعيها .. لو لم تتزوجه حينها وتزوجت من أحبته ورفضه أهلها ، أكانت الآن ممدة في الفراش ، تتوق ليد تمسح جبينها .. ولا تجدها ؟ أجهشت بالبكاء .. ليس على سرير احتضنها بقوة داخل أحشاءه ، بل على صوت حنون – فقط – يناديها باسمها الأول " .. يا رسمية " .
" وبين ضجيج الباعة والعابرين لهذا الشارع ، اهتزت أوصالي ليتساقط ما تبقى مني على الرصيف ، وبقايا متناثرة من زجاج نافذتي تلتمع بجواري ، وعشرات الخطوات الهلعة تدوسني ، وصرخات .. ودخان .. وأناس يتساءلون بقلق : .. أين حدث التفجير .. أين حدث ؟ "
وهنا في الأسفل ، كان جالساً على الرصيف ، والدهشة تعصف بما تبقى له من وعي . وهناك في الأعلى ، كانت باسمة .. " فزجاج النافذة قد تحطم " .
وبين .. هنا وهناك .. رائحة البارود خبئت عبير ياسمين دمشق .. إلى حين .

عبد السلام دغمش
30-05-2014, 08:50 PM
قصة جميلة رسمت المشاهد المؤلمة في الشام وما حولها ..
نتمنى أن يعود عبق الياسمين وقد ساد العدل فوق الطغيان ..
احييك أديبتنا لأسلوبك المميز .

ربيحة الرفاعي
14-06-2014, 12:14 AM
ما أصعب أن تعجز عن القيام بأمر ، كل من حولك يقوم به حتى الطفل الصغير ، هي مشيئة الله – لا تنكر هذا – لكن ما ينكره قلبها ، أن لا ترى أبناءها وأحفادها مجتمعين حولها ، بل كل شهر يكون شللها ضيف بيت وحياة أحدهم ، وما ينكره عقلها ، أن تكون كرضيع تتلقفه أيدي كناتها الثلاثة للاهتمام بنظافتها الشخصية ، آه .. كم أحتاجك يا ابنتي .. لم غلبت سلبيتك عاطفتك نحوي .
التفتت بملل إلى النافذة التي سلبت آخر شغف لها بالحياة ، وكأن العالم كله يبدأ وينتهي ، حيث ذاك المربع المضاء بالنور .. والضجيج .

بين حمى الموت التي غلفت الوطن وثلج المشاعر الذي لفّ سلوك أبنائها كانت رسمية أسيرة وحدتها والأحزان، طريحة فراش تأوي إليه ظيفة شهرا وتغيب عنه أربعة أشهر تتبادلها أسرة الغربة والوحدة بين من سكنوا بطنها قبل قلبها
هي الغربة الأصعب والعذاب الأضنى عبرت عنه القاصة في مشهد ملفت بجمال السرد وعمق الفكرة وروعة الأداء القصّي

دمت بخير أيتها المبدعة

تحاياي

خلود محمد جمعة
16-06-2014, 09:01 AM
سكنتها الغربة قبل الاغتراب
سكنتها الوحدة قبل الموت
وأبى الألم الا ان يكون أخر يد تصافحها قبل ان تنضم الى قافلة الرحيل
بأسلوب مشوق وسرد متناغم رصفت الحروف بدقة ورقة
دمت بخير
تقديري

مصطفى الصالح
16-06-2014, 08:34 PM
قرأت قبل فترة قصة حصلت في الباكستان على ما أذكر.. خرج الأخ الأصغر باكيا من المحكمة لأنه ‏خسر الدعوى التي رفعها على أخيه الأكبر.. وفاز فيها الأخ الأكبر برعاية أمهما في بيته..‏

تذكرت هذا وأنا أقرأ قصتك الرائعة

كانت جرمانا >> لم أفهم معنى جرمان‏

وعذرها الوحيد أنها كانت والدتهم جميعاً... تعبير متقن ورائع جدا‏

تنقل مدهش سلس بين الشخوص قل من يتقنه

كاد يضيع بين .. معنا أو ضدنا>> والواقع أن الكل ضاع وتاه؛ فصار أقرب الأقربين عدوا في أحايين كثيرة‏

وقد إلتمع خدها بأخدود رقيق ، أظنه كان .. دمعاً>> ربما الأصوب > وقد لمع على أخاديد وجهها خيط ‏رقيق ، أظنه كان .. دمعاً

ما أصعب أن تعجز عن القيام بأمر ، كل من حولك يقوم به حتى الطفل الصغير>> ما أصعب العجز ‏عن القيام بأمر يقوم به الطفل الصغير

رائحة البارود خبئت>> خبأت والله أعلم‏

جاءت القفلة مفتوحة صادمة معبرة

أبدعت ‏

كل التقدير

نداء غريب صبري
26-07-2014, 05:23 PM
الألم في الشام والدم في غزّة
موت في كل شوارعنا
وعذاب وجراح

قصة مؤلمة نعيشها في كل شوارعنا
بدرجات متفاوتة

شكرا لك

بوركت

كاملة بدارنه
31-07-2014, 02:21 PM
سرد رائع في رسم المشاهد وعرض المونولوج المعبّر جدّا عن حالة البطلة
قصّة فرد وشعب رائعة
بوركت
تقديري وتحيّتي
(حبّذا الانتباه لبعض أالأخطاء الإملائيّة)

آمال المصري
28-12-2015, 10:00 AM
ليس بالشام فقط تصفع رياح الظلم وتكدر النفوس بل طالت الكثير من البلاد العربية
بلغة أنيقة قوية وسرد ماتع وحبكة قوية وامتلاك لأدوات القص نجحت أديبتنا في ترويضها لنسج تلك الجميلة
شكرا لك هذا الألق
تقديري الكبير

ناديه محمد الجابي
06-06-2016, 04:09 PM
ما أجمل قصتك ـ نص رائع شكلا ومضموا وسردا
قصة واقعية مؤثرة ـ وقد تداخلت أحداث الربيع العربي وغربة الوطن
مع غربة الروح لتلك التي تسببت إصابتها بالشلل أن تصبح عبئا ثقيلا على أولادها
التفاصيل مكتوبة بعناية، والوصف متقن، والحبكة ملفتة
أحييك بقوة فما أروع وأعمق وأقسى ما كتب هذا القلم المبدع
نتمنى أن تعود رائحة الياسمين قريبا إلى دمشق. :0014: