المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحكم بين النهزة والنزاهة



د. سمير العمري
31-05-2014, 03:19 AM
فطر الإنسان على حب النفس والرغبة في أن يكون هو لا غيره صاحب الحظوة والحظ من أي شيء ومن كل شيء. وهذه الفطرة تدفعه عادة إلى التعاطي مع الواقع الحياتي من خلال انتهاز كل فرصة مواتية بل والدفع تجاه خلق الفرص التي يتمكن من خلالها لتحقيق ما يريد من كسب مادي ومالي وثقافي واجتماعي، ومن حسب يوصله لحالة الرضا الذاتي والتوازن النفسي. ولكن فطر الإنسان أيضا على معرفة المثل العليا للعلاقات مع الآخرين والتمييز بين الصواب والخطأ ولو على مستوى الأصول، فتقوده فطرته منذ نعومة أظفاره إلى سبيل الحق وتوجهه الظروف المحيطة والبيئة المتعلقة إلى ترسيخ هذه الفطرة فيه خلقا وسجية أو تحويرها فيه إلى طباع وخصال يجتهد ما عاش إلى تبريرها أو تصويرها على غير حقيقتها في عين القوم ثم لا يلبث أن يألفها ويصدقها ويراها مع الأيام صوابا ورشدا.

ومن هنا ومن خلال الممارسة المستمرة لحالة التبدل الفطري يميل ميزان الحكم في النفس ويصبح الرأي نابعا عن هوى النفس والقرار متأثرا برغبة النهزة لممارسة الأنا وما يرافق ذلك من وسائل عاضدة، ويجتهد ما استطاع إلى أن يحقق الكسب لنفسه أولا وثانيا قبل اهتمامه للعدل أو التفاته للحق. ولئن أتيت تسأل المرء أي مرء لأكد لك أنه لا يعرف إلا الحق ولا يحكم بغير العدل، ويذهب بعضهم حد الحلف مغلظا بالنزاهة في الحكم تنكر نفسه بالتعود على رؤية الأمور وفق منظورها وتفسيرها ماهية الفرق بين النهزة والنزاهة.

ويتبادر السؤال هنا؛ وهل من الخطأ أن يبحث كل امرئ عن صالح نفسه؟ أو؛ أما من نزيه منصف في الناس؟؟
الحقيقة أن الجواب الصحيح والذي لا يقبله جل الناس إن لم يكن كلهم هو أنه نعم من الخطأ انشغال كل امرئ بصالح نفسه فحسب دون مراعاة لحالة التعايش المجتمعي وعمارة الأرض التي تلزم البشر آليات تهتم بالنفس ولكنها تراعي أيضا وجود الآخر وطبيعة العلاقة معه وحقه هو الآخر في أن يكون له ذات الحقوق وذات الحظوظ. ونعم، لا يوجد هناك منصفون في حكم للنفس فيه حظ قل أو كثر وإنما يتفاوت فيه مستوى الانحياز بقدر مستوى التداخل وقدر حظ النفس منه وكذا مقدار التمسك بالقيم المثلى في نفس الحاكم، ولا يكون تمام النزاهة إلا عند انعدام المصلحة وعند ارتفاع القيم المثلى في نفسه إلى أعلى مستوى.

وعليه فإن حالة النهزة متأصلة في النفوس البشرية مهما ارتقى مستوى المرء وحتى لو كان تقيا أو رسولا نبيا اللهم من عصمه الله تعالى من هذا، وما اعتبرت قيمة العدل والنزاهة من أعلى القيم الإنسانية إلا لأنها حالة نادرة ولا يكاد يتمتع بها أو بحظ وافر منها إلا نخبة قليلة ممن اجتبابهم الخالق عز وعلا وإن كثر المدعون بهذا حتى ليكاد يصبح هذا الزعم حالة عامة عند الناس وبذا ستجد عجبا أن للعدل مليار أب ولن تجد للعضل وللجور أبا واحدا.
هي حالة موجودة ومنشرة إذن ولكن هذا لا يجعلها حالة صحيحة ومقبولة، وإنما على المرء أن يدرك بأن النزاهة في الحكم لا تحتاج جهدا جبارا في التخلص من النهزة ومن الأنا بل إنها تحتاج إلى مراجعة لطبيعة النفس والعودة بها للفطرة السوية وإلى إدراك الصواب والخطأ كقيم مجردة ومن ثم إدراك حظ النفس والبعد عن الحكم فيما لا يستطاع دفعه من حظ النفس وحكم الهوى. أما تحقيق المآرب والغايات فهذا حق لكل إنسان لا يمكن مصادرته ولكن يجب أن يكون لغايات نبيلة وبوسائل شريفة وبنهزة لا تصادر حقيقة الآخر ولا تجور على حقه، وبنزاهة الرأي والرؤية والتعاطي الراقي مع الحدث ومع صانعه.

أحمد الرحاحلة
04-06-2014, 02:13 PM
جميل جدا وراق جدا ما عرضته أيها الكريم
وللحق لا تعدم أن تجد أناسا من معدن القيم التي نظرت فيها
تخيل يا رعاك الله لو أن كل الناس أصبحوا على صورة ما تشتهي ؟؟
دمت بخير وعافية

ربيحة الرفاعي
16-06-2014, 10:23 AM
وعليه فإن حالة النهزة متأصلة في النفوس البشرية مهما ارتقى مستوى المرء وحتى لو كان تقيا أو رسولا نبيا اللهم من عصمه الله تعالى من هذا، وما اعتبرت قيمة العدل والنزاهة من أعلى القيم الإنسانية إلا لأنها حالة نادرة ولا يكاد يتمتع بها أو بحظ وافر منها إلا نخبة قليلة ممن اجتابهم الخالق عز وعلا وإن كثر المدعون بهذا حتى ليكاد يصبح هذا الزعم حالة عامة عند الناس وبذا ستجد عجبا أن للعدل مليار أب ولن تجد للعضل وللجور أبا واحدا.


نعم هي حالة متأصلة في النفس البشرية لا تكاد تبرأ منها نفس مهما سمت، لكنها تكبح ببعدها الدنيوي بندى النفس ونبل الخلق وترك التطلع للكسب الزائل من زخرف الحياة الدنيا، تساميا نحو الادخار للآخرة، فالشهيد هو الأكثر كسبا بما يهب، والمتصدق مدّخر، وكل عطاء يغدو حين يراد فيه حصاد الآخرة كسبا، وفي هذا تكون النهزة حميدة مع أن العطاء يكون في حقيقته عندها أخذا.

مقالة كبيرة في فهمها لدخيلة النفس ودقة شرحها لماهية نزعاتها بتحليل واع وفكر قويم

دمت سامقا بحرفك وفكرك

تحاياي

نداء غريب صبري
28-06-2014, 01:54 AM
كنت مؤمنة دائما أن الإنسان في أسمى حالاته إنسانيا يحب نفسه أولا ويقدم مصلحتها
لهذا نحب رسول الله أكثر من أنفسنا لأننا بهذا الحب نحمي أنفسنا من التهلكة ونقدمها خطواتنحو الجنة
لهذا نحن نعطي في الدنيا .. ليأخذ اهل الدنيا بالعطاء مجد ويأخذ أهل الله بالعطاء رضاه والآخرة


مقالة رائعة أميرنا
يحتار القارئ فيها لماذا يسلم ذهنه أكثر هل للفكر المبهر أم للغة الأدبية العمريّة أم للدرس الإنساني في المقالة

جزاك الله عنا خيرا

وبوركت

فوزي الشلبي
15-08-2014, 08:49 AM
الأخ الشاعر و الأديب النبيل د. سمير
تحية محبة وتقديرٍ وود..
إن حظوظ النفس في تجلي السوية والصفاء..والتبرؤ من الأنا الطاغية التي تنشأ عادة منذ الطفولة هي قليلة هذه الحظوظ في السمو والارتقاء للوصول إلى مرتبة النزاهة في الحكم على الأشياء والقضايا...ولما كانت التربية التي ترقى بهذا الخلق بين والدين أو دين أو مجتمع..فإن الخروج بنفس سوية تقبل النقد وتبتعد عن التقليل من شان الآخر قمين بأن يبني نفوسا صالحة ترتقي بالأمة وهذا ما دار حوله قلمك البهي في تجلي الصفات الصالحة في البشر ولنا في كتاب الله الكريم ورسوله صلى الله عليه وسلم الأسوة الحسنة!
نص بهي، ما خط البيان ورصع اليراع من درر الكلم .. تقديري الكبير وخالص دعائي لقلم يسطع بالبهاء!
أخوكم

د عثمان قدري مكانسي
04-09-2014, 09:21 PM
صدقت يا أخي الكريم ، فنحن بحاجة إلى العودة الصادقة إلى الفطرة ، أعاننا الله تعالى على الوقوف على الحق والعمل به.

كاملة بدارنه
19-09-2014, 07:56 PM
أما تحقيق المآرب والغايات فهذا حق لكل إنسان لا يمكن مصادرته ولكن يجب أن يكون لغايات نبيلة وبوسائل شريفة وبنهزة لا تصادر حقيقة الآخر ولا تجور على حقه، وبنزاهة الرأي والرؤية والتعاطي الراقي مع الحدث ومع صانعه.
كلام رائع، لكن من المؤسف أن يكون تحقيق المآرب عند كثيرين على حساب الآخرين، وبطرق ملتوية، وأساليب خبيثة
أصبحت مظاهر الرّقيّ من المتمنيّات نظرا للجشع الذي يعود بصاحبه للعصور المتخلّفة
شكرا لك على مقالتك الواعية والهادفة
بوركت
تقديري وتحيّتي