تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ازالة



هشام النجار
21-06-2014, 04:12 AM
أسرعت الخطى نحو أحد الشوارع الرئيسية.. لم تلتفت خلفها.. لم تختلس عيناها نظرة واحدة لشرفات القصر الكثيرة، أو لحديقته الواسعة.
لم تلق ولو نظرة أخيرة على حجرتها التي قضت فيها شهرين كاملين.. تمنت ألا تعود، ألا تدخله مرة ثانية وألا تراه .
أرادت أن تبتعد أكثر وأكثر.. أن تتوارى في كهف تحت الأرض.. أو أن تبدأ من جديد من غرفة والدها الصغيرة فوق السطوح .
كانت أمها تتمنى لها حياة بسيطة هانئة مع إنسان طيب القلب.. وكانت تدعو الله دائما أن يرزقها بابن الحلال صاحب الضمير والرجولة الذي يصون عرضها.
لا يزال القصر الضخم يطل عليها من بعيد بلونه الرمادى وأعمدته العالية.. تمنت لو تمحى صورته من مخيلتها.. وأن تتحرر من شبحه الجاثم على صدرها.
وقفت مع من وقفوا على ناصية الشارع.. راحت تتلفت يمنة ويسرة لتتأكد أنه لا يتبعها.
دمعت عيناها وهي تستند برأسها على كرسي الباص الذي وقف ليقل ركابه.. ثم انطلق مسرعاً يشق شوارع المدينة الغامضة.. المختبئة وراء الأضواء، المخنوقة بالبشر، المسكونة بالمتناقضات، المليئة بالحركة والحياة والخوف والوجوه المتعبة والمريبة والمرعبة.
هناك أشرار.. ولكنها لم تتخيل يوماً كل هذا الشر ، لم تتصور إنسانا بهذه القسوة .. لم تكن تعلم أن وراء هذه الأبهة والفخامة قلوب خاوية ونفوس حقيرة وأفكار مدنسة .
تتأمل الناس والأشياء.. باعة بسطاء يدفعون باعياء عرباتهم أمامهم ، يجرون خلفهم الأعباء والمآسى .. أطفال يفترشون الأرصفة يحتضنون القسوة يفتحون أذرعهم للشرور ، مسارح وسينمات أكشاك سجائر ومولات ، بشر صامتون يتبادلون الحركة والسكون ، ملتحون وفتيات بملابس ضيقة وقصيرة ومحجبات ومدخنون وشباب عصرى بقصات شعر منوعة ، محلات مزدحمة بالأضواء والرواد .. أطفال صغار.. فتيات وشباب.. بنايات شاهقة.. كازينوهات ومطاعم ومقاهي.. حدائق وأشجار مزينة بأنوار تطفئ وتضئ .
وجوه البشر بملامحها وألوانها المختلفة .. كل شيء يمر بجوارها في لمحة خاطفة ، يتوارى ويصغر شيئاً فشيئاً ، وسريعاً ما يختفي من المشهد كأن لم يكن .
اختفي القصر العملاق ذو البوابة العالية عن ناظريها .
فتحت الزجاج الصغير بجانبها ، وملأت صدرها بالهواء ، أغمضت عينيها وأحست براحة غريبة كأنها تحررت لتوها من سجن كبير .. أو كأنها عائدة بعد غربة طويلة إلى ديارها وأهلها.
لا شئ أروع من التحرر والخلاص بجهد فردى لا يستولى عليه أحد ولا تزايد عليه فئة ولا يفشله تنازع ولا مطامع .
خرج زفيرها بصرخة مكتومة فزع لها السائق والركاب : ماذا حدث ؟
أشارت بيد مرتعشة إلى سيارة سوداء فارهة يقودها أحد الشباب تسير بمحاذاة الباص.
إنه هو.. إنه يقترب بسيارته .
انتفضت مرتعدة ، راحت تغلق النوافذ وتتأكد من غلق الباب .
تخيلته يتابعها من سيارته بنظراته الساخرة النزقة وضحكاته الفاجرة.
يسرع فيسير بمحاذاة الباص عن اليمين.. ثم يتأخر ليسير خلفه.. ثم يزيد السرعة من جديد ليسير بمحاذاته عن شماله.. وهي تتنقل مرعوبة يميناً ويساراً بين كراسي الباص الفارغة وسط دهشة وذهول الركاب.
نهضت إحداهن وأخذت بيدها وأجلستها برفق وجلست بجوارها.. طمأنتها ومسحت على رأسها بشفقة وضمتها إلى صدرها وأخبرتها أنها مجرد سيارة يرغب قائدها في تخطى الباص وقد تخطاه بالفعل وغاب بسيارته وابتلعه الطريق.
حذرها والدها من أضواء المدينة ومن خداع أبنائها.. طالما حدثها عن ذلك الكنز الذي يمتلكه بين جدران حجرته الفقيرة.. ولا يمتلكه كثير من أصحاب الفيلات والسيارات والشاليهات والقصور .
عندما تزوجته لم يكن لديها من الدنيا إلا والدها ووالدتها وغرفتهما الصغيرة ، وشهادتها الجامعية ، وجمال طفولي برئ أخاذ لا تخطئه العين.. التحقت بالعمل في إحدى شركات أبيه.. رآها.. اشتهاها.. طلبها .
رغم رفض أبيها خدعهم بالوعود والعهود ، وافقت عليه .
انتقلت من الحي الفقير إلى وسط البلد في أرقى الأحياء .. ومن الغرفة الصغيرة إلى القصر الفخيم .
دخلت من بوابة القصر العالية.. ظنت وهي تخطو خطواتها الأولى فيه أنها حازت الدنيا بما فيها.. وأن حياة جديدة ملؤها الحب والسعادة تفتح يديها لاستقبالها.
أرادت أن تستصرخ الركاب الغارقين في صمتهم وذهولهم.. وأن تقص عليهم قصتها.. وأن تروى لهم ما كان يحدث داخل القصر منه ومن أصدقائه وصديقاته ، عن السهرات والخمور والرقص والفجور .. وكيف كان يضربها ويعذبها ليجبرها على الرقص والشراب .
وقفت تتأمل غرفة أبيها فى صمت .. صعدت مستغفرة ربها مشرقة الوجه .
احتوت ماضيها ، صلت ، قبلت وجه أبيها على الجدار ، ودعت بدموعها سجادة الصلاة وتفاصيل حياة بسيطة وذكريات فرح .
تكتم مشاعرها وقد ألقيت بجواره فى المقعد الأمامى للسيارة الفارهة .
تباشر القوات ازالة الغرفة ، ومن خلال الغبار واجهته بنظرات تحد .

كاملة بدارنه
21-06-2014, 10:10 AM
هناك أشرار.. ولكنها لم تتخيل يوماً كل هذا الشر ، لم تتصور إنسانا بهذه القسوة .. لم تكن تعلم أن وراء هذه الأبهة والفخامة قلوب خاوية ونفوس حقيرة وأفكار مدنسة .
لأنّها نظيفة لم تتخيّل القذارة !
قصّة كشفت الصّراع النّفسيّ الرهيب للبطلة نتيجة التّباين بين ما تؤمن به وما كان من نصيبها
عالمان مختلفان وصفا بأسلوب جميل حتّى النّهاية
قصّة هادفة
بوركت
تقديري وتحيّتي

هشام النجار
21-06-2014, 01:55 PM
لأنّها نظيفة لم تتخيّل القذارة !
قصّة كشفت الصّراع النّفسيّ الرهيب للبطلة نتيجة التّباين بين ما تؤمن به وما كان من نصيبها
عالمان مختلفان وصفا بأسلوب جميل حتّى النّهاية
قصّة هادفة
بوركت
تقديري وتحيّتي

ربنا يكرمك ويبارك فيك سيدتى الفاضلة المبدعة الكبيرة كاملة بدارنة
لك جزيل الشكر على هذا المرور العطر
دام ابداعك وكل عام وأنت بألف خير .
تقبل الله منا ومنكم .

خلود محمد جمعة
23-06-2014, 09:39 AM
هي إزالة لكل أمل تبقى لها
وصورة عن الوحش الذي يعيش داخل الإنسان يتغذى على إنسانيته حتى ينهيها
صورة عن مجتمع ضبابيته ملئت النفوس بسرد رائع واسلوب مائز ونهاية مؤلمة
كل التقدير للحرف الحر
دمت بخير

هشام النجار
23-06-2014, 02:07 PM
هي إزالة لكل أمل تبقى لها
وصورة عن الوحش الذي يعيش داخل الإنسان يتغذى على إنسانيته حتى ينهيها
صورة عن مجتمع ضبابيته ملئت النفوس بسرد رائع واسلوب مائز ونهاية مؤلمة
كل التقدير للحرف الحر
دمت بخير

حضور ثرى وتوقيع مميز كالعادة
أعطر التحايا لهذا الكرم الطائى
طاب عمرك بالسعادة والطاعة والبركة
خالص الأمنيات

آمال المصري
24-06-2014, 01:53 AM
كان التحدي حاضرا بقوة لتواجه تلك الحياة الجديدة بالرفض حيث بون كبير بين حياتين أولاهما قيم ومبادئ راسخة في حيز ضيق من الحياة وأخراهما بذخ وثراء وعربدة وفجور يعتلي فخيم المباني
سرد ماتع ولغة طيعة وحبكة قوية ونص اجتماعي أتقنت نسجه أديبنا الفاضل
بوركت والفكر والحرف الهادف
تقديري الكبير

هشام النجار
24-06-2014, 02:09 PM
كان التحدي حاضرا بقوة لتواجه تلك الحياة الجديدة بالرفض حيث بون كبير بين حياتين أولاهما قيم ومبادئ راسخة في حيز ضيق من الحياة وأخراهما بذخ وثراء وعربدة وفجور يعتلي فخيم المباني
سرد ماتع ولغة طيعة وحبكة قوية ونص اجتماعي أتقنت نسجه أديبنا الفاضل
بوركت والفكر والحرف الهادف
تقديري الكبير

شكراً جزيلاً لأديبتنا الكبيرة القديرة آمال المصرى
تقبلى خالص دعواتى وامنياتى وكل عام وانتم بخير
تقبل الله منا ومنكم

ربيحة الرفاعي
04-07-2014, 02:45 AM
ما كان لها بالهرب أن تتخلص من ذلك الواقع المشين، فهو قادر على استعادتها ساعة يشاء، ولعل هذا ما أراد الكاتب التنبيه إليه بقفلته التي قالت أنها قررت المواجهة حين استعادها ..
السرد شائق والأداء طيب والمعنى قابل للإسقاط بقوة ووضوح على ما هو أبعد من محدوية الشكل الاجتماعي للقصة

دمت بخير أيها المبدع

تحاياي

ناديه محمد الجابي
04-07-2014, 02:28 PM
ليس كل ما يبرق ذهباً .. لقد كان وراء الأبهة والفخامة قلوب خاوية
ونفوس حقيرة وأفكار مدنسة.
هي التي لم تطمع واهلها إلا في ابن الحلال صاحب الضمير والرجولة
الذي يصون عرضها..
ولكنه رآها .. فاشتهاها .. فطلبها
فعرفت معه كيف يكون الشر والقسوة والعذاب فهربت صاعدة إلى غرفة أبيها
مشرقة الوجه ، مسترجعة ذكريات حياتها البسيطة.
وعندمت ألقيت بجواره من جديد في سيارته الفارهة، وغبار إزالة الغرفة يملأ المكان
واجهته بنظرات التحدي.
حوار داخلي مشحون بالألم تبثه ذكريات مرة تخرج من الأعماق
أعجبتني القصة ـ سردها الجميل وقضيتها الإنسانية ، وأسلوبها المؤثر العميق
نص أدبي هادف أحسنت فيه الأداء
وبغض النظر عن موضوع القصة اسمح لي أن أعبر عن إعجابي بتلك الفقرة
التي تبدأ [ تتأمل الناس والأشياء .....
كم هو جميل وصفك للدنيا أهلها والتناقضات الموجودة فيها من خلال عيني البطلة
ما أروع وأعمق ما تكتب ـ مدهش بحرفك ولغتك وفكرك .... فشكرا لك.

سعاد محمود الامين
27-07-2014, 05:57 PM
روعة سرد وأناقة حرف...
أخذت انفاسي وأنا أهرول بين سطورها.
قص مائز ...
أبدعت فكرة ومضمونا
دمت بخير

د.حسين جاسم
15-08-2014, 03:06 AM
القفزة الزمانية في الاسترجاع يمكن أن تسرق خيوط القصة من الكاتب وتفقد نصه ترابطه، ومن ينجح بزحلقتها بهدوء في سرد متقن ينجح بشد قارئه وتشريبه نصه تماما كما يريد

القصة متقنة برزت المباشرة في توصيل فكرتها في سطور الفقرة التي تحدثت عن رغبتها بالحديث للركاب عن معاناتها، ولو أوصلها الكاتب من خلال الحدث القصيّ لكانت أفضل وأكثر تأثيرا

مقدمة قبل تسجيل إعجابي
وتحيتي

لانا عبد الستار
31-08-2014, 12:55 AM
إلى أين يفرّ المقهورون في دنيا يحكمها الشرّ والفساد!
ليس أمامها إلا أن تقاتل في سبيل كرامتها وحريّتها

قصة رائعة ومسبوكة بحبكة قوية

أشكرك

د. سمير العمري
16-05-2015, 03:32 PM
تتأمل الناس والأشياء.. باعة بسطاء يدفعون باعياء عرباتهم أمامهم ، يجرون خلفهم الأعباء والمآسى .. أطفال يفترشون الأرصفة يحتضنون القسوة يفتحون أذرعهم للشرور ، مسارح وسينمات أكشاك سجائر ومولات ، بشر صامتون يتبادلون الحركة والسكون ، ملتحون وفتيات بملابس ضيقة وقصيرة ومحجبات ومدخنون وشباب عصرى بقصات شعر منوعة ، محلات مزدحمة بالأضواء والرواد .. أطفال صغار.. فتيات وشباب.. بنايات شاهقة.. كازينوهات ومطاعم ومقاهي.. حدائق وأشجار مزينة بأنوار تطفئ وتضئ .

أنت هنا لخصت وصف القاهرة بكل متناقضاتها بأسلوب مختصر وبارع. فقط إنا تطفأ وتضيء أو تنطفئ وتضيء.

أما القصة فمميزة بتناولها لجانب الصراع النفسي الذي يسهم في شرح الموضوع وكشف مدى الفساد الذي يغلف أكثر أفراد فئة الثراء للأسف ، وكيف يتمكنون بالمال من النفوذ الذي يمكنهم من استصدار قرارات إزالة وأكثر ، وكيف وصل بها الحال للعودة إذ لم يجدها الهرب ، ولكن أحسنت إذ قررت التحدي فالموت بكرامة خير ألف مرة من العيش بذلة وهوان.

قصة مميزة أشكرها فلا فض فوك!

تقديري