تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العيد الأول .. بدون أبى



هشام النجار
27-07-2014, 01:00 AM
العيد الأول .. بدون أبى

لا تجمعنى بأبى مسارات ودروب ومسالك فى مناهج الحياة وفلسفات التعاطى معها ، وفى الغالب كانت رؤانا السياسية على خلاف ، لكن تجمعنى به التفاصيل ، وكنت أرقبه فى صمت ولا أكثر الحديث لأحظى بالمزيد من رسم لوحات الحركة وردود الأفعال والجمل المنتقاة وأسلوب سيطرته فى الأحاديث والحوارات ونفوذه وحضوره الطاغى وضحكاته المجلجلة ونبرات صوته وبراعته فى التدرج الصوتى والأداء الحركى والمراوحة بين حركات اليدين وتعبيرات الوجه وتقطيباته وانبساطاته وبين ما يطرحه أثناء النقاش أو حتى المحادثة الهاتفية .
عالم التفاصيل عند أبى مليئ بكنوز وابداعات ، بصرف النظر عن موافقتى لأطروحاته أو أفكاره أو مواقفه الحياتية والسياسية من عدمه .
كنت – ولا زلت – حريصاً على القرب منه لأنى عاشق لتفاصيله ، ولشخصيته الثرية بتاريخها الاجتماعى والسياسى وتكوينها الثقافى بما لها وما عليها .
أحرص على رؤيته فى كامل أناقته ، وربما اعتراه الخجل فى بعض المرات لامعانى النظر اليه واطالته فى صمت ، وأحرص على رؤيته وسماعه أثناء لقائه بأصدقائه أو أحد منهم ، أو وهو يحادث أحدهم هاتفياً ، خاصة اذا كان حديثاً فى السياسة أو نقاشاً فى الرؤى والأفكار ، لدرجة أننى كونت عنه سياسياً وفكرياً ملفاً كاملاً محفوظاً فى ذهنى ترقباً للحظة لم ولن تأتى أبداً ، فقد حرصنا سوياً ألا نتوسع معاً فى هذا النقاش ولا أن نخوض فيه ، وكان بيننا اتفاق ضمنى صامت ، فقد كان يفهمنى جيداً وأفهمه أكثر مما يجب وهذا استدعى دبلوماسية متقنة ودقيقة للسير بالعلاقة بيننا الى بر الأمان ، مستمتعين بما فيها من بهجة وجمال ونضج وثراء غير محدود فى التفاصيل .
وأحرص على تتبع حركات جسده وطريقة مشيه ومشاغباته ولعبه الطريف مع الأطفال الصغار وطريقته فى تناول الطعام وارتشافه الشاى بعد العشاء ، ومشهده الأسطورى على الأريكة فى أوقات الاسترخاء ، وعلى متابعة كل ما يتعلق به وبتاريخه وحضوره المكانى والزمانى من تفاصيل ، وما لمست يداه ، والمساحات التى احتوته والفضاءات التى داعبت أنفاسه .
ولم أكن مغرماً بزراعة الأشجار والورود أمام البيت ، لكنى اليوم أسأل زوجتى هاتفياً وأنا فى سفر بعيد جداً أول ما أسألها : هل رويت الأشجار بالماء ! لأن أبى هو من زرعها وأحبها ، وفى أوراقها أرى تفاصيله وملامح وجهه وأناقته ويمتزج عطره فى أنفى بأريج أزهارها .
هذا هو العيد الأول لى بدون تفاصيل أبى ونظراته وضحكاته وزياراته وطلته الأنيقة وحضوره السينمائى الطاغى ولعبه مع الأولاد والبنات وتلطفه معهم .
المشهد بدون تفاصيل لا قيمة له ، والعيد بدون هذه الشخصية الرائعة بلا طعم ولا بهجة ، حتى أزهاره وأشجاره التى زرعها بيديه حزينة كسيرة ، لذلك اجتهدت بعد العبادة والذكر فى استقبال العيد باستدعاء التفاصيل ونحتها من جديد على تفاصيل المكان ، فى الحديقة وفى وقفته فى الشرفة بجوار أمى ، وفى الانصات لنبرات صوته التى تشبهها نبراتى ، وفى الاحتفاء بالصحف التى بها مقالاتى ، وفى أسلوب تناوله وقراءته للجريدة وفى غفواته أمام التلفاز وهو يتابع نشرات الأخبار ، وفى استيقاظه مبكراً متحمساً نشيطاً الى العمل حتى وهو مريض ، وفى خلواته فى زاوية غرفته يتلو القرآن ويقرأ الأذكار ، وفى فرحته بالأطفال وحلمه وصبره على استغلالهم لتضاريس جسده وساقيه وكرشه وتوظيفها كملاهى ومراجيح ، وفى رصانته وقوته ورجولته وصوته وصمته وسمته المليح .
أعشق هذه التفاصيل ولأننى أشبهها ، لدرجة أننى أعيشها بدقة فى كل نبرة وحركة ، فلم أشعر بفراق أبى لأنه معى بتفاصيله ، أتحرك حركاته وأحاول تقليد أناقته وأرتشف رشفاته وأسترخى بطريقته وأروى شجيراته وأسمع نبرات صوته فى صوتى .
مرَ نزار بتجربة مماثلة ، ووصف بمن قال له " مات أبوك " بالمضللين ، فهو – مثلى – لا يموت أبى ، ففى البيت منه روائح رب – بالذكر والتلاوة والقرآن ، وذكرى نبى ؛ لأنها لا تنسى ولا تكاد تنسى ، وكيف تنسى وأنا هو وهو أنا ؟
يعيش نزار فى التفاصيل ويحياها بتفاصيلها ؛ فهو حى يتنفس ، جريدته تقرأ ودخان سيجارته يتصاعد وفنجانه ونظارتاه .
ووجوده فى الحياة لا يحتاج لاجابة ودليل ، فكل شئ يدل عليه ويحكى عنه ويلعب بطولته ويتقمص شخصيته ويتشكل بملامحه ، فهو حاضر يتنفس ويضحك ويمشى ويشع نوره فى كل هذه التفاصيل .
نزار أيضاً يشبه أباه مثلى فى التفاصيل " حتى تهيأ للناس أني أبي..أشيلك حتى بنبرة صوتي فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟ "
سؤال أسأله وصوتى يتردد بنبرته وأنا واقف أمام شجيراته : فكيف ذهبت .. ولا زلت بى ؟
العيد لم يأت بدونه ، ولن يأتى أى شئ بدونه ، فهو حاضر فى انتظار الأشياء والمفاجآت وفى استقبالها ، واذا غاب قليلاً عن عيوننا فهو فى سفر أو رحلة سريعة وسيعود لأشيائه وأهله وناسه وأحفاده وتفاصيله وشجيراته .. " فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي .. "
ونحن على انتظار .
يقول نزار "

أمات أبوك ؟
ضلالٌ ! أنا لا يموت أبي.
ففي البيت منه
روائح ربٍ.. وذكرى نبي
هنا ركنه.. تلك أشياؤه
تفتق عن ألف غصنٍ صبي
جريدته. تبغه. متكاه
كأن أبي – بعد – لم يذهب
وصحن الرماد.. وفنجانه
على حاله.. بعد لم يشرب
ونظارتاه.. أيسلو الزجاج
عيوناً أشف من المغرب؟
بقاياه، في الحجرات الفساح
بقايا النور على الملعب
أجول الزوايا عليه، فحيث
أمر .. أمر على معشب
أشد يديه.. أميل عليه
أصلي على صدره المتعب
أبي.. لم يزل بيننا، والحديث
حديث الكؤوس على المشرب
يسامرنا.. فالدوالي الحبالى
توالد من ثغره الطيب..
أبي خبراً كان من جنةٍ
ومعنى من الأرحب الأرحب..
وعينا أبي.. ملجأٌ للنجوم
فهل يذكر الشرق عيني أبي؟
بذاكرة الصيف من والدي
كرومٌ، وذاكرة الكوكب..
*
أبي يا أبي .. إن تاريخ طيبٍ
وراءك يمشي، فلا تعتب..
على اسمك نمضي، فمن طيبٍ
شهي المجاني، إلى أطيب
حملتك في صحو عيني.. حتى
تهيأ للناس أني أبي..
أشيلك حتى بنبرة صوتي
فكيف ذهبت.. ولا زلت بي؟
*
إذا فلة الدار أعطت لدينا
ففي البيت ألف فمٍ مذهب
فتحنا لتموز أبوابنا
ففي الصيف لا بد يأتي أبي ..

كاملة بدارنه
27-07-2014, 11:57 PM
كلمات صادقة تعبق بروح الوفاء ، وتفيض بمشاعر الشّوق وصور الذّكرى
رحم الله أباك
بوركت
تقديري وتحيّتي

هاشم الناشري
29-07-2014, 03:20 AM
نوقّع بدمعة غالبتنا وانسابت على وقع هذه الحروف وما نثرته تفاصيلها من شجن!

كأنها تتحدّث عني !! لله أنت أيها البار النقي !

رحم الله أباك أخي ورحم الله أبي وأسكنهما فسيح جناته .

كل عام وأنت بخير.

محبتي وتقديري.

ربيحة الرفاعي
30-07-2014, 04:51 PM
مرثية نثرية مضمخة بعبير الحنين وعبق صادق المحبة حضر فيها جليا هذا الود والإجلال القائم برغم اختلاف العقيدة السياسية والمنهج الفكري مع أباه قرأناه فيما ذكرته فيه من نصوصك مسلما نبيلا عروبي الإحساس ناصري الفكر ثوروي الشخصية بطلا على المحكات الصعبة فيه شموخ وإباء، وأكبرناه بما رسمته لنا ..

رحمه الله ورحم موتانا جميعا وأعانك على برّه بعد رحيله كما بررته حيا

وعيدك مبارك

تحاياي

آمال المصري
31-07-2014, 10:52 AM
عيد ينثر عبير الذكريات لمن افتقدناهم فتحن قلوبنا لأطيافهم وتلهج ألسنتنا بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة
مرثية استدرت الدموع حنينا لمن فقدهم عيدنا
رحم الله والدك ووالدي وغفر لهم
تقديري الكبير

هشام النجار
01-08-2014, 07:42 PM
كلمات صادقة تعبق بروح الوفاء ، وتفيض بمشاعر الشّوق وصور الذّكرى
رحم الله أباك
بوركت
تقديري وتحيّتي

شكراً جزيلاً استاذتنا القديرة كاملة بدارنة ، ربنا يكرمك ويسعدك ويبارك فيك ، والأدب تعلمنا أن أجمله أصدقه وأن أنبل الكلمات وأبقاها هى التى شقت طريق الوفاء ونبتت فى تربة النضال والمحبة الخالصة .
تحياتى لحضرتك ولقلمك المبدع على الدوام .
وكل عام وانتم بخير

هشام النجار
01-08-2014, 07:45 PM
نوقّع بدمعة غالبتنا وانسابت على وقع هذه الحروف وما نثرته تفاصيلها من شجن!

كأنها تتحدّث عني !! لله أنت أيها البار النقي !

رحم الله أباك أخي ورحم الله أبي وأسكنهما فسيح جناته .

كل عام وأنت بخير.

محبتي وتقديري.

رحم الله آباءنا جميعاً وأسكنهم فسيح جناته وعاملهم بلطفه ورحمته ، ومالنا أخى الكريم يواسينا سوى الكلمات نرفع بها الحسنات ونمسح بها الدمعات ، تقبل الله منا ومنكم البر والخير والصلة ، وجعلك على الدوام معلماً ومربياً للأجيال كيف المحبة والمودة والبر الصادق هو طريق الرجال وهو خلاصة الأخلاق والقيم .
تقبل الله منا ومنكم وبارك الله فيكم

هشام النجار
01-08-2014, 07:49 PM
مرثية نثرية مضمخة بعبير الحنين وعبق صادق المحبة حضر فيها جليا هذا الود والإجلال القائم برغم اختلاف العقيدة السياسية والمنهج الفكري مع أباه قرأناه فيما ذكرته فيه من نصوصك مسلما نبيلا عروبي الإحساس ناصري الفكر ثوروي الشخصية بطلا على المحكات الصعبة فيه شموخ وإباء، وأكبرناه بما رسمته لنا ..

رحمه الله ورحم موتانا جميعا وأعانك على برّه بعد رحيله كما بررته حيا

وعيدك مبارك

تحاياي
قراءة شاملة ممتدة استدعت حتى الغائب من سمات الشخصية الرئيسية ، وهذا ليس بمستغرب من قامة فكرية وابداعية مثلك سيدتى الكريمة ، بارك الله فى قلمك وأنار سبيلك الى نشر الفكر الراقى والقيم النبيلة بين الأجيال ، وكنت على الدوام مشعلاً ومنارة للفكر والابداع الحر النبيل .
خالص امنياتى وكل عام وانتم بالف خير

هشام النجار
01-08-2014, 07:53 PM
عيد ينثر عبير الذكريات لمن افتقدناهم فتحن قلوبنا لأطيافهم وتلهج ألسنتنا بالدعاء لهم بالرحمة والمغفرة
مرثية استدرت الدموع حنينا لمن فقدهم عيدنا
رحم الله والدك ووالدي وغفر لهم
تقديري الكبير

رحم الله والدينا وأجزل لهما العطاء سيدتى الكريمة ، وشكراً لك على هذا الحضور والتوقيع الكريم ، أسأل الله أن يبارك فيك وفى ذريتك وأهلك ويفتح عليك بالخير والسعادة والانجازات على الدوام .
تقبلى خالص التحية والتقدير وأطيب الامنيات .

د. سمير العمري
02-08-2014, 03:14 PM
رحم الله أباك وتقبله في الصالحين وأكرمه بما يكرم به عباده المؤمنين!

وبارك الله بك أيها الكريم على هذا البر وهذا التقدير لأبيك وأسأل الله أن يجمع بينكما في جنات النعيم!

دمت في ألق!

تقديري

نداء غريب صبري
19-08-2014, 03:17 AM
رحم الله والدينا وأثابهم على ما أحسنوا وغفر لهم ما أخطأوا وغفر لنا وأعاننا على برهم
نص أبكاني أبي واخي ومن فقدت رحمهم الله جميعا

شكرا لك أخي

بوركت

خلود محمد جمعة
21-08-2014, 05:00 PM
حين تكتب الروح ينبض الإحساس مع كل حرف
نثرية بكل تفاصيلها ووصفها وصورها لامست العمق
التفاصيل الصغيرة الكبيرة العميقة التي تحفر على صفحات الذاكرة تعطينا القوة بالمتابعة ونعيش فيها ومعها اجمل واصدق اللحظات حتى تتجلى أمامنا كحقيقة نبتسم لها وتنحدر من المقل دمعة حارقة على فراق نعرفه بعقولنا وننكره بقلوبنا
وتبقى تلك الشجرة وتلك الزاوية وعصا ابي المعلقة ناقوس يدق امام عيني يذكرني برحيله وبقائه معاً
رحيلهم لا يعني اختفائهم من حياتنا ولغيابهم حضور أقوى من حقيقة رحيلهم
في جنة الخلد ان شاء الله كل من رحلوا وبقوا في ذاكرتنا وقلوبنا الى الأبد
حرفك المعبر الحساس والرهيف والعميق يزداد جمالا
دمت بخير

د.حسين جاسم
04-09-2014, 02:09 AM
الحزن يجعل النصوص أجمل وأكثر عمقا
والبرّ يجعل الأرواح تظهر من خلالها وضاءة حبيبة
هكذا رأيت روحك في هذا النثر الرائع
رحم الله أباك
وأحيي برّك به وحرفك الجميل

ناديه محمد الجابي
04-09-2019, 08:32 PM
رثاء هزني من الأعماق ـ كلمات صادقة خرجت من قلب ونبض إبن بار
تعكس شفافية روحك وحسك وحنينك ووفائك وبرك
رحم الله أباك وآباءنا جميعا ـ وغفر لهم جميعا .. الغائبين الحاضرين
في قلوبنا .
جميل بوحك بحرفه وتصويره ـ فشكرا لجميل ما نثرت من در حرفك
تحياتي وودي.
:009::008::009:

فاتن دراوشة
25-09-2019, 08:11 PM
خطت روحي فوق جمار حرفك هنا

وانتشت بالوجع

وجدتني هنا وهناك في زوايا التفاصيل

دام وهج حروفك