تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : من ترانيم العشق في روايتي الاخيرة ( خيل الفرنجة)



علاء سعد حسن
12-09-2014, 02:29 PM
هي مقتطفات قصيرة من الرواية أستسمحكم بعرضها في هذا الرابط تباعا .. مع انتظار تفاعلكم في شوق بالغ..

( 1 )


همس محمود لنفسه في شجن همساً لم يسمعه صاحبه:
بل هي رقيقة.. رقيقة حد القسوة.. رقيقة حد الجبروت.. عائشة رقيقة كفاية، لأن تأسرك وتشكل حيَّاتك كلها، دون أن تترك لك أي مساحة للاختيار!! رقيقة إلى الحد الذي يجعلك تقاتل حين تقاتل من أجلها.. ولو كنت تجاهد من أجل الوطن والدين! صورتها لا يمكن أن تفارق خيالك وأنت تواجه المدفع والبندقية.. وعيناها البلوريتان الساحرتان ترقبانك وأنت تتقدم الصفوف.. أو وأنت تحمل مصاباً، أو أشلاء ضحية.. أو تهرب بقدميك من الغوص في برك الدماء الآدمية لرفاق الطريق!! تقول لك اثبت من أجلي يا حبيبي.. ستظل تؤنسني بوجودك الفيَّاض.. حتى ولو دفعت حياتك ثمناً لرجولتك.. فستظل تؤنسني، وتسكنني إلى أن نلتقي في روضات أرحم الراحمين.. عائشة رقيقة كفاية لأن تجعلها هي الوطن وهي السكن وهي الشرف، فتموت في سبيل صفائها ونقائها.. في سبيل إشراقة ابتسامة واحدة على محيَّاها الملائكي البديع!
تنحنح حسين في رقة، وقال باسماً رغم قسوة الظروف المحيطة:
إيه أيها العاشق.. أين ذهبت؟ سافرت إلى اسطنبول يا بطل؟!

ناديه محمد الجابي
12-09-2014, 08:06 PM
ديالوج رائع بسرد هادئ مشوق وبلغة معبرة
مدهش ما حملت حروفك هنا من جمال وحس
وقد جعلتنا نتشوق لقراءة الرواية فياليتك تنزلها
في الواحة على حلقات.
لك التحية وجل الإحترام والتقدير.

عبد السلام دغمش
12-09-2014, 10:46 PM
مقتطف جميل .. وسرد مشوق .
يظهر أن محمود و حسين رفيقا درب ..والاقتطاف كان من أجواء المعركة ..
تقديري .

علاء سعد حسن
14-09-2014, 01:08 PM
ديالوج رائع بسرد هادئ مشوق وبلغة معبرة
مدهش ما حملت حروفك هنا من جمال وحس
وقد جعلتنا نتشوق لقراءة الرواية فياليتك تنزلها
في الواحة على حلقات.
لك التحية وجل الإحترام والتقدير.


شاكر المرور الكريم واﻹطراء الفاضل ..

وأود لو استطيع وضع الرواية كلها .. يحول دون ذلك طولها الشديد.. وحقوق النشر والتوزيع.. وسأحاول ان استزيد من وضع كثير من المقتطفات

مع غاية الامتنان والتقدير

علاء سعد حسن
14-09-2014, 01:10 PM
مقتطف جميل .. وسرد مشوق .
يظهر أن محمود و حسين رفيقا درب ..والاقتطاف كان من أجواء المعركة ..
تقديري .


شاكر لحضرتك المرور والتعليق.. أما فهم المرامي واﻷبعاد فلك كامل التقدير والاحترام

علاء سعد حسن
14-09-2014, 01:12 PM
ترنيمة جديدة طويلة


صمت محمود برهة وغاب في ذكرياته يجترها منفرداً.. وأجمل خصلة في حسين أنَّه يحترم لحظات صمته وتأمله وذكرياته، فلم يكن يتعجّله أو يستزيده أو يقاطعه أو يستفسر منه عن شيء.. فقط يستمع إليه ويتركه يسترسل كأنَّه يتحدث إلى نفسه.. يترك له مساحة البوْح كله.. هذه الطريقة في الانتباه جعلت محمود يتطرق إلى بعض التفاصيل، التي لم يكن يسمح لنفسه أبداً بذكرها أمام أحد كائناً من كان.. كان يشعر أنَّه يحدَّث نفسه ولا يوجد أحد غيره في الحجرة التي استراح على طنافسها المريحة.. واسترسل:
كنت أجيراً عند تاجر تركي من الطبقة فوق المتوسطة، يملك وكالة لتجارة الأقمشة في إسطنبول.. ويجلب الحرير من بلاد الهند، ويبيعه إلى بلاد الفرنجة.. كما يستورد من عندهم الأصواف ويبيعها في تركيا والشام.. وكنت كما أنا اليوم مستمراً في رحلة البحث عن ذاتي، متمرداً على واقعي.. لا يعني لي الرضا بقضاء الله عز وجل الاستسلام للواقع، مقتنعاً أنَّ الإيمان بتغيير الواقع جزء لا يتجزأ من الإيمان بالله تعالى.. مندفعاً في سلوكي العملي أحيانا، ومحجماً في أحيان أخرى.. متردداً مضطرباً في كثير من القرارات، ذات مرّة قدّرت وحسبت كل خطوة في صفقة كانت ستنقلني إلى مصاف التجَّار الأحرار، تغيَّرت الظروف، فضاعت مني الصفقة في آخر لحظة، فقدت ما ادخرته من مال، وفقدت مكانتي عند التاجر التركي الذي بدا له -على غير الحقيقة- أنني أقدمت على ما أقدمت عليه من أجل منافسته في السوق.. لم يكن المال يشكل لها قيمة، سوى القليل الذي يكفي لتلبية احتياجاتها.. وهي نفسها لها ثروة تستطيع أن تعيش منها حياة رغدة.. لكنها كانت تبحث معي عن الأمان والاستقرار والسكن.. في لحظة افتقدت كل هذا في جواري.. فقدتُ إيماني بنفسي، فتسرّب هذا الشعور تدريجياً إليها.. تراكمت الأخطاء التي تؤدي إليها عادة هذه الحالة من التيه والضياع النفسي.. اعتمدتُ على التبرير والبحث عن الأعذار لتصحيح صورتي.. وعائشة لا تكره شيئاً في حياتها مثل كرهها للأعذار والتعلل بالظروف.. ترى الرجل الحق أقوى من كل هذه الترَّهات.. الرجل هو الذي يملك إرادته، ويوفي بكلمته، ولو على رقبته.. ولم تكن في يدي أوراق حقيقية لأجازف بها.. أمسكتها فترة من الزمن كُرهاً منها، وهياماً بها مني.. أُدرك طيلة الوقت أنه لا يمكنني الحياة بدونها.. تعرف حقيقة شعوري نحوها بكل كيانها، تصدَّقني.. لكنها لا تحب العجز، ولا تقبل به ولا تعترف بوجوده في حياتها.. طلبت الطلاق.. طلبتُ أن تعطيني فرصة أخيرة.. فأمامي رحلة سفر إلى قبرص ومالطة مع تاجر جديد، لعلي أجد فرصتي في الاستقلال المهني أخيراً..
صمت محمود وازدرد ريقه، لقد ظل يحكي دون توقف فترة من الزمن والأسى يعبر ملامح وجهه ثم يزداد، وتزداد عيناه احمراراً وحسين مستغرق معه بكيانه دون أن يقاطعه.. كان يلهث وهو يحكي كأنه يسابق الزمن ليلقي حملاً عن صدره.. أضاف بعد فترة صمت طويلة، كأنه لا يريد أن يصرّح بما صرح به أخيراً:
عدت من رحلتي بخفي حنين.. فكرت في أن أثبت لها مقدار حبي بطريقة أخرى.. أردت أن أثبت لها أن حبي لها أقوى وأغل على نفسي من حياتي ذاتها.. تناولت سُمًا أمامها، لم أكن أفكر في الانتحار معاًذ الله، فأنا لم أكفر به لحظة واحدة.. أردت أن أثبت لها أنَّ هناك حباً أقوى من حب الحياة ذاتها، وأنني فقط أريد أن أبرهن لها على ذلك دون أن تكون لي رغبة حقيقية في إنهاء حياتي.. زادها هذا التصرف إعراضاً عني، وتأكيداً بعدم الأمان للعيش في كنفي.. قالت لي في لحظة تأمل حاسمة:
لا يمكن أن تحبني حقاً إلا إذا كنت تحب نفسك.. فإذا هانت عليك نفسك إلى هذا الحد، فبالتأكيد هُنت عليك.. من فضلك طلّقني..
استمهلتها.. رجوْتها أن تعطي لنفسها فرصة أخيرة للتفكير..
لمعت عيناه ألقاً وهو يستعيد من الذكريات قطعة رائعة الجمال، ولم يرد حسين أن يخرجه من هيامه العجيب، فلم يستوقفه ولم يسأله عن مصير محاولته الانتحار، ولا كيف نجا من أثر السُم الذي تناوله عامداً أمام ناظريها.. تركه يبدي له ما شاء ويخفي ما أراد أن يخفيه من تفاصيل قدَّر أنها زائدة لا قيمة لها..
كان لها طائر رائع المنظر ساحر الجمال متعدد الألوان يقال له الببغاء.. طائر عجيب يستطيع أن يقلد صوت الإنسان وكلماته.. لم أرَ مثله في حياتي قط، ولا في قصر أي أمير من الأمراء الذين دخلتُ عليهم بحكم تجارتي.. كنت أعلم أنها اشترت هذا الببغاء بمبلغ يقدر بثروة حقيقية من المال.. وبلغ بها من حبها له ورقَّتها معه أنها كانت تحتفظ به في غرفتها الخاصة التي صارت بعد زواجنا غرفتنا معاً، في قفص من ذهب خالص في غاية الروعة هو الآخر، على سقفه الذي صُنع على شكل جمالون نقوش فريدة.. وكانت تطعمه بكفها الرقيقة الأنيقة بالغة الجمال، أنواعاً من الفستق الحلبي واللوز والبندق ومختلف أنواع المكسرات، بعد أن تقوم بدغدغة الثمرات كبيرة الحجم بأسنانها العاجية.. تصور.. إنَّ اهتمامها المفرط والرقيق بهذا الطائر حرك غيرتي الحقيقية منه!! ماطلتها في تحقيق رغبتها في الطلاق.. وذات صباح إذ بها تفتح باب القفص الذهبي للطائر، ثم تفتح نافذة الغرفة، ليطير خارجاً.. نظرت إليها مشدوهاً!! إنَّه يساوي ثروة حقيقية.. ثروة تكفي لأن أمتلك وكالة كبيرة لتجارة الأقمشة!. وهو فوق ذلك يساوي لمشاعرها ورقَّتها أكثر من هذه الثروة المادية بكثير.. سألتها وأنا أكاد أُجن: كيف فرّطت فيه بهذه السهولة؟.. أجابت وقد ثبّتت نجمتيها البلّورتين بلون السماء، والتي نصفَهُما نحن في حدود علمنا القاصر بالعينين.. على عيني، فانطلق من هاتين الجوهرتين المتلألئتين شعاعٌ عبقري ساحر من نور أخّاذ لا مثيل له.. قالت كلمة واحدة خالدة: (أطلقته لأني أحبه)..
ثم أضافت بعد لحظة تأمل فاتنة..
هكذا أثبتُ له أن حريته أغلى عندي من حياتي ذاتها التي ربما فقدتها كمداً عليه..
وصلتني رسالتها القاسية يا صديقي.. قمت إليها فطبعت قبلة حانية لا أجمل منها ولا أعظم ولا أرَّق ولا أروع، على مفرق شعرها وعلى جبهتها.. ثم أغمضت عيني على دموع محبوسة متحجرة وهتفت لها:
وأنا يا عائشة أطلَّقك لأنني أحبك.. وما أحببت سواك، ولأنني ما عرفت أحداً يحب أحداً مثل حبي لك.. من أجل ذلك أُطلّقك.. "أطلقتك لأنني أحبك"..
انهارت مبهوتة على طرف الفراش الوثير الذي كان يوماً يضمنا معاً.. خرجتُ من الدار التي تشبه القصر قبل أن أضعف وتتملكني أنانيتي، فأُبقيها في عصمتي رغماً عنها.. أزمتي الحقيقية يا صديقي لا في أنني أفتقدها.. لقد اتفقنا.. أو قل لقد علمتني أنَّ الحب الحقيقي معناه قمة التضحية، وأنا سأستطيع أن أتدبر أمري بعدها.. سأعيش وإن لم أكن حيّاً.. وإنما جُرحي الحقيقي الذي لا يندمل أنني موقن أنها ما زالت تحبني.. صارحتني بذلك في لحظات طلبها الطلاق قالت:
إنني يا محمود لم أحب ولن أحب أحداً مثلما أحببتك.. ومع ذلك حياتنا معاً باتت مستحيلة.. دعني أُبقي على ما أُكنَّه لك من مشاعر لا يكنها بشر لبشر، إلا أنا فأكنها لك!!
سكت محمود متأملاً، وكأنه يراجع فصول روايته خشية أن يكون فقد منها شيئاً، أو نسي منها تفصيلة من تفصيلاتها الموشّاة بالذهب والملونة بلون الدماء في ذات الوقت!! انسابت دموعه هذه المرة على خديه وبللت لحيته.. كل ما حوله كان صامتاً.. حتى حسين بدا مبهوتاً على رأسه الطير كأنه في عزاء لأحد أعز أحبابه.. أراد أن يعلل لحسين بعض ما فاته من روايته قال:
لعلك تتعجب يا حمَّامي، أو تظن أنها بخلت عليَّ بالمال ذاك الذي طيَّرته في لحظة طيش، أو لحظة صدق عندما أفرجت عن الطائر العجيب!! والحقيقة التي يجب أن تؤمن بها يا صاحبي أنها ساعدتني وواستني بمالها في لحظات حرجة كثيرة مررت بها.. لكنها لم تكن تريديني أجيراً عندها، ولا عالة على مالها ذاك.. كانت تريدني شريكاً على قدم المساواة.. المال لم يكن يعني لها شيئاً مذكوراً.. لكنها قدّرت أنّ قبولي منها المال بصفة دائمة سيفقدني رجولتي الحقيقية في نظرها.. في هذا الوقت.. في هذا الوقت فقط تستطيع أن تكرهني.. وهي إلى اللحظة الأخيرة لم تُرد أن تكرهني.. أرادت أن تحتفظ بحبها لي غضاً طرياً في أنفاسها، وأن تتذكرني.. وربما تلتمس لي في نفسها الأعذار التي لم تقبلها مني وأنا معها..
زفر محمود زفرة حارة ملتهبة، لم يستطع في هذه المرة حسين أن يتجاهلها فزفر مثلها يشاركه بعض الألم والحسرة.. أردف محمود في حزن عميق:
تدري يا حسين؟.. مأساتي الحقيقية نابعة من أنها ما زالت تحبني وهي لن تستطيع نسياني أبداً.. فعذابي انعكاس لعذابها.. لو أنني فقط أتأكد أنها سعيدة بعد هذا التحرر الذي نالته مني!.. لو أمكنني فقط انتزاع حبها لي من قلبها الرشيق الحنون العبقري!.. كل كياني يؤكد لي أنها مازلت.. وستظل تنتظرني إلى آخر العمر.. تنتظرني بشرط أن آتيها في صورة رجل حقيقي، يملك قراره ويملك إرادته ويملك كلمته.. وهو شبه المحال، لأسير مثلي ينتمي إلى أمة هي نفسها أسيرة!!
لم يملك حسين أن يعقّب على ما سمعه من صديقه ولو بكلمة واحدة.. كل ما استطاع أن يفعله أن صفق بيديه ونادى بصوت مرتفع على الخادم ليرفع صينية الطعام.. الوليمة التي لم يتعرّف محمود بكل تأكيد على أيٍّ من أصنافها، رغم أكله منها بكثرة.. لقد كان يأكل وهو غائب عن الوعي كالمسحور!!.. ثم يطلب فنجانين من القهوة.. حضرت القهوة وما زالت رأس محمود منكَّسة إلى الأرض يجتر الذكريات في شجون.. وحسين يتشاغل عن النظر إليه بالعبث بمحتويات جيبه.. أخيراً أطلق محمود تنهيدة طويلة حارة وقال:
أخذنا الحديث عن الهم الخاص من الحديث في الهم العام.. وهو مشكلة كبيرة قائمة بذاتها.. بل هو السبب في كل ما نعانيه على المستوى الخاص..
أجابه حسين دون أن يرفع إليه بصره:
وأنا لم أروِ لك قصة إبراهيم الدمنهوري بعد.. على العموم لا يصح أن أرويها لك الآن.. لابد أن أبرأ أولاً من أثر قصتك على نفسي.. ثم أستجمع شجاعتي وأروي لك خبر إبراهيم الدمنهوري فيما بعد..[/SIZE]

ربيحة الرفاعي
21-09-2014, 02:28 AM
متابعون معك هذه المقتطفات من رواية وضعتنا في إشراقتين منها على قارعة انتظار القادم بشوق

وبانتظار المزيد نبقى

دمت بخير

تحاياي

علاء سعد حسن
22-09-2014, 09:44 AM
متابعون معك هذه المقتطفات من رواية وضعتنا في إشراقتين منها على قارعة انتظار القادم بشوق

وبانتظار المزيد نبقى

دمت بخير

تحاياي


شاكر مرورك الكريم.. وإن شاء الله مستمرون في اقتطاف بعض المقاطع بفضل دعمكم

نداء غريب صبري
12-10-2014, 05:18 PM
قطفتا شوقتانا لقراءة بقية الرواية
وننتظر البقية

شكرا لك أخي
بوركت

علاء سعد حسن
12-10-2014, 08:53 PM
قطفتا شوقتانا لقراءة بقية الرواية
وننتظر البقية

شكرا لك أخي
بوركت


شكرا مرورك الكريم سيدتي .. ولعل المرء في حاجة الى الخروج من حالة الكمون او الاستسلام إلى ضعف الاجهزة - الحواسيب - عن الاداء

علاء سعد حسن
12-10-2014, 09:03 PM
عودة إلى ترانيـــــــــــم العشـــــــــق في رواية خيـــــل الفرنجــــــة

عودة من الأعماق إلى الحنين والأشواق المضنية التي لا ترحم..

"رغم سخونة أجواء الصيف في مصر خلال هذه الشهور من السنة.. وسخونة الأحداث المتلاحقة.. يشعر البهنساوي ببرودة شديدة، تنعكس على حياته كلها.. يفتقدها بكل كيانه.. عائشة هي مبعث الدفء.. مكمن السكينة والرحمة والمودة والأنس.. يفتقد فيها الصديقة.. كل هؤلاء الأصدقاء الذين لا يمر يوم تقريباً دون أن يلتقيهم.. ويحبهم حقيقة لا ادعاء.. يشغلون حيزاً لا يُستهان به من نفسه.. لا يتجاوزون هذا الحيز إلى عمق لم يستطع تجاوزه إلَّا عائشة.. وحدها ولجته.. وحدها استقرت فيه لا تغادره.. يفتقد فيها الصداقة.. الحب والحضن الدافئ والشوق إلى حميمية اللقاء المقدس، افتقاد هذه المشاعر تضع على صدره ثلوجاً باردة.. باردة لدرجة أنها تحرق جوفه!! كل هذا يهون أمام افتقاده صداقتها.. وحدها هي التي يمكن أن يكشف لها عن أعماق نفسه.. كل ما يمكن أن يسر به للحمَّامي دون سواه.. أو للدمنهوري قبل رحيله إلى معركة دمنهور، ما هو إلا قشور.. عائشة صديقته لا تحتاج أن يحكي لها.. تراه من الداخل والخارج.. تعرفه كما يعرفها.. كل خلجة من خلجات النفس.. كل دقة من دقات القلب.. كل خفقة من خفقات الروح.. لا يقف أمامها عاري الجسد فحسب، كما لم يقف أمام أحد سواها.. وإنما يقف أمامها عاري النفس أيضاً.. عاري المشاعر.. عاري الأفكار.. كل ما يجول بخاطره مستباح أمام ناظريها.. وما يحمله في نفسه من هموم في تلك الأجواء لا يستطيع البوح بها لغيرها.. حديثه عن تلك الهموم مع الأصدقاء بمثابة خيانة للثورة والمقاومة.. سيبدو لهم نوعاً من أنواع تثبيط الهمم والعزائم.. أو نقل حالة من التهوين والتيئيس إلى نفوسهم.. إنه لا يشعر بذلك.. لكنه يريد أن يشتكي، أن يزيح عن صدره هموم ووساوس ومخاوف.. أن يشتكي لها بطء إجراءات المقاومة.. أن يصنّف المقاومين دون أن يشعر أنه يفشي أسرارهم أو حتى يغتابهم.. ما بينه وبين عائشة، يجعلهما نفساً واحدة.. والنفس الواحدة لا تغتاب الناس حينما تذكرهم في سريرتها! النفس الواحدة قلب مفتوح، الدم الذي يسري في هذا الجسد.. يسري في الجسد الآخر.. رنَّ في مسمعه صوتها يأتيه من عالم الذكريات.. تسأله سؤالها الدافئ الملهوف: "مالك"؟
تنطق بها مخطوفة كأنها صادرة من حنايا الروح.. من خفقات القلب، يقذف به مع الدم.. لا يتحرك على اللسان.. بمجرد أن تسمع أنفاسه، وحتى قبل أن تراه!!: "مالك؟"
بهذه اللهفة وهذا الحب.. الحب الذي لا تبديه سوى أم لوليدها.. يخفف عنه كل مصائب الدنيا حتى قبل أن يحكي لها شيئاً.. عاتبته كثيراً لأنه يخفي عنها أشياء.. أو لم يكن صريحاً معها في شكواه.. لا تدري رغم كل درايتها به.. إنَّ كل همومه تنزاح عنه في لحظة يسمع السؤال الخائف المرتجف، ينطلق من جوف الأعماق.. فتهدهد مشاعره المضطربة، وتعيد ترتيب خلايا كيانه في موضعها الصحيح.. لعلها تدري.. لكنها تخشى أن تكون لا تمتلك من كيانه ما امتلكت بعد.. نوع من العلاقة لا يمكن وصفها أو التعبير عنها.. يقلّب البهنساوي في قاموس كلماته.. العربي والتركي.. لا يجد.. تدمع عيناه وهو يتألم لأنه لا يعرف التعبير عما يشعر به.. ينتابه شعور الأبكم عندما يرى خطراً داهماً، ولا يستطيع التعبير عنه للنجدة أو الاستغاثة.. شعور العجز المطلق.. أخيراً يرتل قوله تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ..
يتساءل في تأمل يريد أن يصل إلى يقين لا يدركه: ألم يشرع المولى عز وجل الزواج، وشرع الطلاق؟!.. فهل عملية الطلاق التي شرعها الله تعالى، هي عملية انشطار للنفس، التي كانت واحدة وفق الميثاق الغليظ؟ أم أن تلك النفوس التي قبلت الطلاق لم تستطع التمازج؟.. لم تستطع الوصول إلى مرحلة النفس الواحدة أبداً؟ فتناكرت وتفرقت؟! إنَّ النفس عندما تمتزج وتتوحد لا يمكن تمزيقها بعد ذلك أبداً.. وهذا الفهم العميق الذي يؤمن به هو أحد أسرار إيمانه، أنَّ عائشة ستظل له أبد الدهر ولن تكون لأحد سواه.. لقد تيقن بالتجربة.. أنَّ النفس الواحدة تحققت بينهما بأحاسيس مشتركة تنتابهما في أيام السفر والهجران، وحتى في أوقات الغضب والفراق.. دائماً يجمعهما إحساس واحد.. أمل واحد.. وعندما تعاند عائشة.. تعاند قلبها وعاطفتها وتحاول أن تسيطر على النفس بلجام العقل.. كان يراودهما في النوم حلم واحد.. يتخطى الحلم حد قدرة السيطرة على النفس.. يخترق كل الحدود المفروضة قسراً.. وتتحد النفس الواحدة.. قالت له يوماً بعد تجربة مريرة، وقد شعر شعوراً مؤلماً بالغيرة ينهش نفسه كلها: "عجيب أن تغار محمود من الرجال.. الرجال هم الذين يغارون منك.. لأنك تقف بيني وبينهم سداً منيعاً، ولو لم تكن معي ولا أمامي.. أنت تسكنني يا محمود.. فلا مبرر لغيرتك.. أنت وحدك عالمي!"
يتذكر محمود تلك العبارات وهو يصرخ في صمت: "وهل هذه امرأة قابلة للنسيان؟ للتكرار؟ لإمكانية التعويض؟!! عائشة امرأة وحدها.. هل جربت مرة أن تصرخ من الأعماق بلا صوت؟ تصرخ كل خلايا جسدك.. دون أن يكون مسموحاً لك بالتعبير عما بداخلك على هيئة كلمات.. أو حتى أنين.. لأنه لن يفهمك أحد، أو لأن الأنين نفسه لا يكفي للتعبير؟"
في تلك الليلة يصرخ ويئن بخلايا الجسد المكدود دون سواه.. قلبه لم يكن يقذف الدم في عروقه، وإنما يقذف كرات ملتهبة من شوق، تسري في أوصاله فتلهبه بحرارة الحُمَّى!! يفتقد عائشة حد المرارة.. هل تراه يستطيع أن يواصل طريقه إليها بغير معيتها في ذات الطريق؟! يدرك، ويصبّر النفس باأنه إنما يسلك إليها.. لكنه يحتاج أيضاً إلى الصديق الذي يؤنسه في ذات الطريق ليكمله على خير! روحها الشفافة الرفيفة التي تشعر به قبل أن ينطق، أو يطلب أو يدعوها.. ألا تريد أن تؤنسه كصديق؟ فقط كصديق.. إن تأبّت عليه أن تعامله كحبيب؟ هو نفسه لا يريد لها أن تعامله كحبيب، قبل أن يمهرها مهرها! لكنه في أمس الحاجة إلى صداقتها.. إلى مؤانستها.. إلى اكتمال نفسه المعذبة بانضمام نفسها إليه.. حتى عقلها.. يحتاج عقلها الراجح في وقت الأزمات.. بدونها ينقصه نفسه ذاتها! كيف سيقابل الشيخ السادات؟ كيف سيعرض عليه الأفكار؟ كيف سيفسر له بعض الظواهر، ويقدم بين يديه اقتراحات جديدة للمقاومة والثورة؟ وهو نفسه يحتاج إلى مشاركة عائشة؟ هل يكون افتقاده لها أحد أسباب بقاء خيل الفرنجة في بر مصر إلى حين؟! وهل يمكن أن يخطف من هذا الزمن لحظات يراها فيها.. فقط يراها فيها عن بعد.. فتتجدد حياته كلها؟! يعلم أنَّ المحال نفسه أسهل من هذا بكثير.. وأنَّ كل طريق إلى عائشة يبدأ من خروج خيل الفرنجة أولاً وقبل كل شيء.. نعس أخيراً بعد طول مجاهدة مع النفس المؤرقَّة المشتاقة.. وأبت الروح الطاهرة الشفافة أن تزوره في نومه هذه الليلة لتخفف عنه بعض ما يجد من شوق!! عندما استيقظ اقسم بالله العلي العظيم أن يبذل نفسه، وكل ما يملك من أجل أن يخرج الفرنجة.. ولابد أن يكون خروجهم سريعاً.. فلم يعد يتحمّل مزيداً من الشوق إليها!!
لم تفلح أنفاس عائشة المخلوطة بقهوة الصباح، ولا مرارة طعم البُن الذي يلعقه في آخر الفنجان كل صباح.. ولا نكهة النعناع الطازج منبعثة من كوب الشاي الأخضر الساخن.. ولا طعم العسل بزيت العود، أن تزيح عن قلب البهنساوي بعض أشواقه، ولم يكن يجدي معه والحال كذلك إلَّا أن يتجول بين الناس في الطرقات.. في الأسواق.. في الأزقة والحارات.. يرصد نبض أولاد البلد، يترجم هذا كله إلى أفكار جديدة لمقاومة الفرنساوية"..

علاء سعد حسن
25-04-2015, 07:52 PM
أما آن لعائشة أميرة قلب وأحلام محمود البهنساوي أن تقرأ أشواقه إليها بعدما قرأت رسائل الروح إلى الروح؟!

علاء سعد حسن
26-04-2015, 05:20 PM
كل شيء كان مختلطاً مشوشاً في عقل البهنساوي هذا الصباح..
ولم يخدع نفسه أكثر من ذلك..
إنَّ نظرة واحدة إلى وجه عائشة القمري ولو في المنام، كفيلة بإعادة توازنه النفسي كاملاً إليه.. إنه ناقم.. لكونه يفتقدها، أكثر من أي سبب آخر من أسباب النقمة والإنزعاج والتوتر..
فهل تراها تشعر به في غربتها؟.. أو في غربته هو حيث لا فرق بين هذا وذاك، فكلاهما بعيد عن أحضان الآخر غريب، في دنيا لا تتكامل فيها نصفي النفس.. فيبقى كل نصف معذب بالفراق والبعاد والضنى واللوعة والاشتياق!!"

خلود محمد جمعة
28-04-2015, 10:14 AM
من يقرأ الحرف الجميل لا بد أن يعود له
ولحرفك سحر
بانتظار البقية على شرفة الشوق
بوركت وكل التقدير

علاء سعد حسن
28-04-2015, 05:56 PM
من يقرأ الحرف الجميل لا بد أن يعود له
ولحرفك سحر
بانتظار البقية على شرفة الشوق
بوركت وكل التقدير


شكرا جزيلا أستاذة خلود

مرورك الكريم يزيد حرفي جودة

خالص التقدير

علاء سعد حسن
23-08-2015, 03:03 AM
ترى هل تظهر الاميرة عائشة ليحيي بها المولى عز وجل موات قلب محمود؟

ويا ترى هل يستطيع محمود كسر جيش خيل الفرنجة ليستيطع السفر الى مليكة قلبه وروحه عائشة؟

علاء سعد حسن
15-01-2016, 10:24 AM
لنضع فقرة جديدة احياء للترانيم:

كانت غرفة المجلس في دار حسين فعلا غريبة الطراز.. واسعة فسيحة، عالية السقف بشكل ملفت كما حال البناء في أروقة المساجد!! سميكة الجدران ومبنية بالطوب المفرّغ.. مما جعل الجو داخلها مغايرا تماما لحالة الطقس الخانق شديد الحرارة والرطوبة بالخارج.. شعر محمود بشيء من استرخاء الأعصاب.. قدم له حسين مشروبا باردا زاد في انتعاشه ثم سأله بغتة:
- ألا تريد أن تحدثني عن الأميرة عائشة؟ أم أن الهمّ الخاص ذاب في الهم العام فنسيت أمرها ولو مؤقتا؟
أطرق محمود إلى الأرض.. وأخذ نفسا عميقا بصوت مسموع قبل أن يقول:
- إن أميرة القلب والروح لا يمكن أن تنسى أو تتجاوزها الأحداث.. تدري يا حسين إن ما يسيطر علي الآن ويغلب على ظني أنني ربما أُقتل في مواجهة الفرنجة.. عندها سأموت وأنا أنطق بالشهادتين، وأدعو ربي في نفس اللحظة الحاسمة أن يبلغ روحها سلامي ووداعي الأخير..
صمت برهة متأملا قبل أن يضيف في حزن بالغ:
- تدري يا صاحبي؟ كل ما تمنيته في هذه الأوقات العصيبة لو أنها كانت على ذمّتي حتى نلتقي في الجنة أزواجا طالما أن الله تعالى لم يقدر لنا أن نجتمع طويلا في الدنيا، فلعله يعوّض علينا في الآخرة.. لا أتخيل روضتي في الجنة إن أكرمني الله تعالى بها ليس فيها عائشة!!
قاطعه حسين محاولا إخفاء تأثره ومتصنعا المرح:
- يا أيها المجذوب.. دعني أوفي بوعدي معك فأحدّثك بأمر إبراهيم الدمنهوري فحاله في العشق لا يختلف عن حالك أيها المتيم الحالم..
قال محمود في استسلام وخدر الذكرى يسري في كيانه كله فيشعره بسكرة لذيذة غريبة:
- هات ما عندك يا خالي البال.. فكما يقولون منذ القدم ويلٌ للشجيّ من الخليّ..

علاء سعد حسن
15-01-2016, 10:27 AM
ليلة أخرى من الأرق قضاها محمود في داره بين السهاد والذكريات المشحونة بالشجن، وسط حرارة الصيف الخانقة في حجرته في حوش البهنساوية.. وكلما أغمض له جفن وأوشك على السبات ظهرت له عائشة في أحلامه.. أحيانا تظهر له في صورة ملاك تمد له كفها الرقيقة فتحمله معها إلى عالم شفاف رائع يغمره نور آسر.. فيشعر بالرضا والحبور.. ومرة أخرى يراها في ضيق، خطر ما يتهددها.. ترفع كفها تستنجد به.. يمد إليها ذراعا قوية يحاول أن يصل إليها ويجتذبها من المجهول الذي يحاول التهامها.. وكلما اقترب إليها بذراعه أكثر.. كلما سحبها المجهول أكثر وباعد المسافة بين كفها الرقيقة وبين ذراعه.. يلهث ويشعر بالتعرّق.. يتحول الحلم إلى حالة من الحمى.. يستيقظ ليشعر بارتفاع حاد في حرارة جسده.. لا يجد مفرا من أن يبرد هذا الجسد المحموم إلا بأن يخلع ملابسه ويسكب على نفسه دلوا من الباب البارد.. يحاول أن يستفيق ويجلس ليقرآ ورده في القرآن.. عيناه تغلقان رغما عنه فهو لم يذق النوم.. لياليه كلها أصبحت على هذا المنوال.. يهجع في فراشه وبجواره كتاب الله.. تلاحقه أحلامه من جديد.. الناس تجري في الشوارع والطرقات والحارات والأسواق.. تستغيث.. يعلو الصوت:
- الموت قادم يدوس فوق موت.. الهوْل يا لقسوته محافل تضم ألف سوط..
ألسنة اللهب ممسكة بملابسه وهو يجري في فزع ورعب مبتعدا عنها.. النار تلاحقه ولهيب حرارتها يلهب جسده كله.. يصل إلى مدخل حارة من الحارات.. يرده أهلها في فزع صائحين فيه برعب:
- النار.. النار..
يغلقون أبواب الحارة دونه في عنف يلمح طيف عائشة من جديد باسمة المُحيّا مشرقة الوجه تطل عليه في محنته وتهتف به:
- تجاوز النار.. أعبرها.. تحمل لهيبها.. احترق حتى تتطهّر.. تطهّر من الدنس حتى تصل إليّ..
يخوض في النار الحارقة.. جسده يحترق.. وطيفها يبتعد.. صورتها تزداد وضوحا واكتمالا.. لكنها الآن صارت أبعد.. لابد أن يخوض في النار إلى النهاية حتى يصل إليها.. جوفه الآن يحترق.. يلهث.. يحتاج إلى شربة ماء.. يرى قطرات بلورية تنساب من بين أناملها.. يقترب أكثر وأكثر.. يستيقظ في هذه اللحظة وأشعة الشمس الحارقة تخترق الغرفة بضراوة وإحساس الظمأ يلهب جوفه المحترق.. يتعوّذ ويحوقل ويحدث نفسه:
- قسما برب العزة يا عائشة لن أتخلى عنك أبدا.. سألتقيك.. ستلتقي روحي بروحك حتى لو كان الثمن العبور على جسدي.. وستعلمين يوما أنني أنا العاشق المتيم بك الرجل الذي يستحق أن يكون بجوارك يا ملاكي الحبيب..
يشعر رغم محاولاته في مغالبة الحمى.. بقواه تنهار.. حالة من الهذيان تسيطر عليه.. يرى نفسه مجذوبا، يدور في الطرقات ينادي في الناس صارخا:
- يا أهل مصر المحروسة خطر الفرنساوية يداهمكم.. الفرنساوية لا يرحمون.. سيقتلون الرجال.. ويغتصبون النساء.. ويهتكون ستر العذارى في الخدور.. المماليك عجزة مغرورون سيوّلون الدبر ويتركونكم نهبا للفرنجة.. يا أهل مصر المحروسة لا عمل لكم سوى الخروج إلى الإسكندرية.. لابد من ملاقاتهم هناك.. لابد من مواجهة الفرنساوية في ثغر مصر.. هناك فقط على الشاطئ في قبالة البحر الكبير ممكن أن نردّ الفرنساوية قبل أن تطأ خيولهم بر مصر..
أخيرا أُنهكت قواه تماما.. أخذه النعاس ونام .. رآها من جديد ابتسامتها ساحرة.. لاشك عنده أن عائشة امرأة من الجنة!!

علاء سعد حسن
15-01-2016, 10:30 AM
- دعك من أمر القتال والمقاومة الآن يا بهنساوي وقل لي بالله عليك.. ألا تشتاق إليها؟ ألا تريد أن تترك كل هذا وأن تسافر إليها؟ فعندها الأمن والسلام.. وقبل ذلك وبعده الحب والدفء والسعادة!!
قال محمود في رفق، كأنه يصاب بالرقة كلما جاء ذكر عائشة ولو تلميحا:
- هي لا تريدني سوى بطلا.. رجلا.. رجل يستطيع أن يوقظ أمة أو ينقذها، أو أن يغير في مجريات حوادثها.. لن تقبلني إلا إذا انتصرنا هنا في معركتنا أولا!!
- وَعِرة هي أميرتك هذه يا محمود.. ووعرة هي شروطها..
همس محمود لنفسه في شجن همسا لم يسمعه صاحبه:
- بل هي رقيقة.. رقيقة حد القسوة.. رقيقة حد الجبروت.. عائشة رقيقة كفاية لأن تأسرك وتشكل حياتك كلها دون أن تترك لك أي مساحة للاختيار!! رقيقة إلى الحد الذي يجعلك تقاتل حين تقاتل من أجلها.. ولو كنت تجاهد من أجل الوطن والدين! فصورتها لا يمكن أن تفارق خيالك وأنت تواجه المدفع والبندقية.. وعيناها البلوريتان الساحرتان ترقبانك وأنت تتقدم الصفوف.. أو وأنت تحمل مصابا، أو أشلاء ضحية.. أو تهرب بقدميك من الغوص في برك الدماء الآدمية لرفاق الطريق!! وتقول لك اثبت من أجلي يا حبيبي.. ستظل تؤنسني بوجودك الفياض.. حتى ولو دفعت حياتك ثمنا لرجولتك.. فستظل تؤنسني، وتسكنني إلى أن نلتقي في روضات أرحم الرحمين.. عائشة رقيقة كفاية لأن تجعلها هي الوطن وهي السكن وهي الشرف، فتموت في سبيل صفائها ونقائها.. في سبيل إشراقة ابتسامة واحدة على محياها الملائكي البديع!
تنحنح حسين في رقة، وقال باسما رغم قسوة الظروف المحيطة:
- إيه يا أيها العاشق.. أين ذهبت؟ سافرت إلى اسطنبول يا بطل؟!
عاد محمود إلى الواقع مسكونا بالشجن، مملوءا بالشوق حد الألم.. مشحونا بالحب حتى البكاء.. ترقرقت دمعتان على خديه ثم قال في صوت حاول أن يكون جادا غير منكسر:
- ماذا سنفعل يا حمامي تجاه هذه المعضلة؟.. أخشى أن يسبق السيف العزل مرة أخرى.. الناس لا يقتنعون بنا.. ونحن في الحقيقة عقل بلا جسد، بلا كيان، رأس بلا عمامة..

علاء سعد حسن
15-01-2016, 10:40 AM
بدء محمود يستعيد بعضا من وعيه، لكن هذا الوعي لم يكن كافيا ليسمع ضجيج شخير الأسيوطي الذي تكوّم بجوار فراشه على الأرض يغط في نوم عميق! ولا استطاع أن يدرك حتى اللحظة ما الذي ألّم به، ولا أين هو.. كل الذي استطاع أن يعيه في هذه الأثناء، أنه معها.. يبدو أنه مريض.. الحرارة تُلهب رأسه وجسده.. وقليل من الألم.. وعائشة بجواره تبتسم له ابتسامتها المشرقة.. أما عيناها السماويتان، فكانتا تمطران لُجينا من فضة، أو قطعا من لؤلؤ منثور!
آه لو يستطيع أن يجد صوته ليقول لها:
- لا تبكِ يا عائشة.. هاتان العينان النيرتان لم يخلقا من أجل البكاء، ولا يوجد على وجه الأرض من يستحق أن يبكيهما..
وَدّ لو يعاقب نفسه بالقتل، لأنه تسبب في بكائها.. ولو كانت تبكي من أجله.. شفقة عليه من مرضه الذي هو فيه.. تنحني عليه بوجهها الهادئ الجميل.. تمد كفها الرقيقة البضّة، فتمسح جبهته، تطمئن على حرارة رأسه.. رآها وهي تطبع بشفتيها الرائعتين قبلة حانية فوق جبهته.. مدّ إليها أصابعه.. فناولته أناملها الناعمة.. ادخل أصابعه بين أصابعها.. تلك العادة الرقيقة التي تحبها منه.. يُشبّك أصابعه بأصابعها.. يحتوي كفها الرقيقة في كفه الكبيرة الخشنة.. يعتصرها برفق.. يحدثها بنبضات العروق، لغة القلوب لا لغة اللسان.. لم يكن يستطيع أن يفتح عينيه، ليحدثها بهما حديثا يغسل به همومها.. ولا ليشكو لها ما ألمّ به من مرض مفاجئ!
ظلت تهدهده.. سحبت أناملها من بين أصابعه.. شعر بخروج روحه من جسده.. حتى أدرك أنها سحبت كفها لتعاود تحسس جبهته..
شعر بدمعات ساخنة تتسرب من بين جفنيه المغمضين رغما عنه فتبلل وجنتيه.. وأصابعها تتحسس موضع الدموع.. تمسحها له برفق، ثم ترفع أناملها إلى شفتيها تقبل دمعاته، أو تتذوق طعمها!!
قالت له بصوت عذب منغم، لا يصدر إلا من مَلَك، أو روح:
- لا تبكِ يا حبيبي.. أنا هنا بجوارك.. لن أتركك حتى أمسح عنك كل جراحك وآلامك..
- ماذا قلتِ يا حبيبتي؟ ماذا قلتِ يا عائشة؟
- قلتُ اطمئن حبيبي أنا جوارك إلى أن تشفى..
- أخيرا قلتيها يا عائشة؟
- قلتُ ماذا؟
- قلتِ يا حبيبي؟
- ألا تعرف يا محمود.. ألا تدرك؟ ألا تفهم؟
- أريد أن أعرف يا عائشة.. أريد أن أدرك.. أريد أن أفهم..
- اعرف وأدرك وافهم يا حبيبي، أنني لم أحب ولم أعشق ولم يتحرك قلبي إلا لك أنت وحدك.. وستبقى حبيبي.. ستبقى أول وآخر رجل في حياتي وفي قلبي، وفي روحي.. ولو فرّقتنا الحياة.. أنت وحدك الذي امتلكني.. الذي ملأني.. أنا ممتلئة بك.. بك وحدك..
- وماذا قلتِ أيضا يا عائشة يا حبيبة القلب والروح والوجدان؟
- لا أدري.. نسيت.. تذكرني أنت؟..
- قلتِ: أنك ستظلين معي حتى يتم شفائي.. أليس كذلك؟
- نعم يا حبيبي قلتُ ذلك..
- إذن أنا لا أريد أن أُشفى..
مدّت أناملها الرقيقة فوضعتها برقة وحنو على شفتيه وهي تقول له:
- هُس اصمت.. لا تقل ذلك.. لا تريد أن تُشفى، هل تريد أن تسلبني أروع ما أملك في هذه الحياة؟
- لا يا عائشة.. لم أقصد هذا.. ولكن أقصد ما دمت ستظلين معي حتى شفائي ثم ترحلين.. فأحب أن أظل مريضا على أن أشفى فأفتقدك..
- ألهذا الحد يا محمود تحبني؟
- ما قيمة الصحة والعافية عائشتي وأنت بعيدة عني.. إنني عندما يظنني الناس صحيحا معافى، أكون دائما مريضا بافتقادك، بالشوق إليك.. أتوحشك حتى أتمنى الموت رحمة من هذا البعاد المرير..
- اسكت محمود.. لا تقل هذا ثانية.. لا أستطيع تخيل الفقد.. أنت أحب إلي من أن أفتقدك.. يوه.. لقد عطلتني عن أداء مهمتي في الاطمئنان عليك..
نهضت ثم انحنت من جديد على جسد محمود المسجّى.. يسمع صوت أنفاسها.. دقات قلبها.. تقترب حتى يظنها ستلامسه بجسدها كله.. يرفع كفا ثقيلة متورمة إلى وجنتيها يتتبع أثر دموعها.. ويقول في رجاء وتأثر:
- بالله عليك يا عائشة هذه العيون ما خُلقت للبكاء.. إنني أشقى الأشقياء إذ كنت سببا في بكاء هاتين الحجرين الكريمين من أحجار الجنة.. بالله عليك إن أردت أن تكرمي مثواي أن تكفّي عن البكاء..
علا نشيجها وهي تهمس برقة:
- حاضر يا محمود.. من أجلك أنت لن ترى عيناي إلا باسمتين..
أخذ أناملها من جديد بين كفه .. قربها برفق من شفتيه وظل يقبلهما بحنان وحب..
اختفت عن ناظريه.. أفاق قليلا، وهو يردد:
- أحبك.. أحبك.. أحبك يا عائشة يا أغلى عليّ من نفسي التي بين جنبي..
شعر بآلامه تتزايد.. آلام حادة تنبعث من كل عضو في جسده.. لابد أنه يتألم في هذه اللحظة التي غابت عنه فيها.. سمع صوتا مفزعا، حاول فتح عينيه بصعوبة بالغة، تبيّن أن مصدر الصوت هو شخص ملق على الأرض يتأوه.. يبدو أنها كانت معركة حامية وخلّفت الكثير من المصابين والجرحى!!
الألم الآن يخف تدريجيا.. يراها من جديد تبتسم له.. فراشة هي تطير في أرجاء الغرفة تداعبه.. ثم تهبط إلى جواره على الفراش بجناحيها الشفافين الذين يعكسان أضواء جميلة متداخلة.. تهدهده بكفها الناعمة، تهمس له:
- عدني أن تهتم بنفسك ولا تتركها هكذا تُشرف على الموت..
يستعيد شيئا من الماضي .. يقول في همس خافت:
- أضحّي بنفسي من أجلك..
تقول في استنكار دون أن ترفع صوتها العذب الهامس:
- من أجلي أنا؟..
- نعم يا عائشتي..
- بل من أجل بلدك ووطنك..
- أنت وطني يا عائشة..
- هذا كلام.. ولكن الحقيقة أنك كنت تدافع عن مصر أمام جيوش الفرنساوية..
- أدافع عن مصر.. لكن من أجلك أنت.. من أجل أن تظلي حرة كريمة أبية.. من أجل أن أثبت لك أنني رجل، وأستحقك..
تبتسم وهي تقول في خفة:
- تضحي بنفسك من أجلي! لا أصدقك..
يرتفع صوته قليلا وهو يقول في توكيد:
- وعزة جلال الله أنني أحب الموت لو كان يجمع روحي بروحك.. وأحب الموت لو كان يثبت لك كم أحبك.. وأحب الموت لتحيي أنت يا عائشة قريرة العين..
قاطعته بحدة هذه المرة:
- قلت لك اصمت.. لا تتحدث عن الموت..
- قولي لي أنك تصدقيني يا عائشة..
- أصدقك يا محمود.. لكن اصمت.. لا تتحدث كثيرا فأنت مازلت مريضا..
- كنت وأنا ادفع الفرنساوية أريد أن أحقق شيئا تفخرين به إذا جاء ذكري أمامك..
قالت عاتبة:
- إذا جاء ذِكرُك أمامي؟!.. وهل تمر لحظة لا أذكرك فيها حتى يجيء ذكرك أمامي؟.. أنا غاضبة منك على هذه الكلمة، ولن أقول لك ما كنت منتوية أن أخبرك به..
- بل أخبريني بالله عليك..
- لا لن أخبرك..
- حبيبتي بالله عليك..
حاول أن يعتدل على الفراش.. آلمته عظامه بشدة، تأوه مصدرا صرخة مباغتة.. تحرّكت كفها بسرعة وهي تهتف:
لا تتحرك محمود.. أرجوك..
- وتخبرينني؟..
- حاضر سأخبرك، ولكن لا تتحرك فتؤذي نفسك.. لا أحب أن تؤذي نفسك، ولو حتى من أجلي..
- إذن أخبريني..
- نعم يا محمود أنا فخورة بك.. وأثق في أنك رجل وتستحق الخير.. كل الخير..
- أريد أن أستحقك أنت يا عائشة، فأنت الخير كل الخير.. أنت يا عائشة كل الخير.. بل أنت دليل رضا ربي عني.. كلما وجدتك راضية علمت أنه سبحانه راض عني..
من جديد عاودته الآلام المبرحة.. فعرف أنه افتقد صحبتها!!

علاء سعد حسن
16-01-2016, 08:01 AM
دائما تظهر له عندما يكون مريضا، أو مشرفا على الموت، وحدها هي القادرة على تمريضه، وحدها قادرة على انتشاله من حالته المتردية.. جروحه التي أوشكت على الاندمال، وخفة حدة الآلام المنبعثة من سائر جسده.. وذهاب اللون الأزرق الذي صاحب الكدمات المحيطة بجسمه تدريجيا.. وانخفاض حرارته المرتفعة منذ يومين.. دلائل على أنها كانت هنا بالفعل تقوم بتمريضه وتضميد جراحه.. عائشة كانت هنا يقينا وإن لم يرها أحد سواه!! ليست هذه خيالات الحمى، ولا هو كان محموما هذه المرة.. إنها كانت هنا، فإن لم يكن بجسدها فبروحها التي تهب في كل مرة لنجدته، لأن روحها مرتبطة بروحه في الملكوت.. عقد رباطهما رب الأرض والسماوات!!

في اليوم الثالث، التف الأصدقاء حول فراش محمود.. وبدءوا يقصّون عليه ما فاته في الأيام الماضية منذ التقى الجيشان في إمبابة..
قال حنا في أسى:
- لقد التقى الجمعان في إمبابة.. وراعني أن أعداد عسكر الفرنساوية كانت أضعاف جند المماليك أضعافا مضاعفة.. أما مدافعهم فكانت شكل آخر مختلف بدت معه مدافع المماليك سلاح هالك خارج التاريخ!!