المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المقامَة الحمَّامِية



عبد الرحيم صادقي
06-10-2014, 06:12 PM
حكى نبهان بن يقظان قال: قصدتُ الحمّام قُبيلَ ذَنَب السِّرحان، غيرَ وانٍ ولا كسْلان، لأزيلَ الدّرَن، وأطردَ الوَهَن. وكان بظهْري وَخٌّ، كأني رُخٌّ، أو لبَنٌ هُدابِد، غيرُ زابِد. ولمّا دخلتُ الحمّام، والناسُ نِيام، بدا ليَ أنه رَخاخُ العَيش، وزوالُ الطّيش، ورَغدٌ ما بَعْده رغَد، ونِعمةٌ تستجلبُ الحسَد. إذْ سرى السُّخْنُ في الجسد، كما تسري النارُ في ذاتِ المسَد. وبينا أنا أعالجُ الوَسَخ بِكيس، كما تحتَكُّ بالجُذيْلِ العِيس، إذ لمحتُ في ركنٍ قاتِم، شيخاً مُستَرْخياً كالنائِم. كثَّ اللّحيةِ مَعْروقَ الوَجه، يُعجبُكَ مُحيّاهُ على البَدْه. قد تمدّدَ على الأرض، وسترَ عوْرتَه والعِرض. وبينا أنا أرقبُه من طرَفِ العَيْن، إذْ جاءَهُ كهلٌ من ذاتِ البَيْن. ثم قال لي: ألَا تُعينُني لِأُحمِّمَه، وأَفرُكَهُ وأُكرِمَه. وأمْهِلْني لوْ شِئْت، حتى أحضرَ الطَّسْت. فقلتُ: حُبّاً وكرامَة، ورافقَتْك السّلامة. ثمَّ إنّ الرجلَ أطالَ الغِياب، بعدَ الذّهاب. فعرَضَ لي أنْ أحمِّمَ الشّيْخ، الذي استعْذَبَ الرَّيْخ. فكلّمتُه فلم يُجب، فقلتُ لا أقطعُ نوْمتَه ولا أحِبّ. ثم وضعتُ بِقُربه مِحَمّاً فحمَّمْتُه، فزادَ ارتخاؤه كأني سمَّمتُه. فقلت: ما له؟ بدَّدَ الله مالَه! وبينا أنا أغسلُه بماءٍ طَهور، إذْ دخلَ رجلانِ بأيْديهما حَنوطٌ وكَافُور. وإذا بأحدِهما يقول: إنّا لله وإنّا إليه راجِعون. كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموْت، فازَ من آبَ قبل الفوْت. فقلت: أميّتٌ هو؟ فقال أحدهما: وما تفعلُ به يا لُكَع؟ أتسرِقُ أبانا وقد وَدَّع؟ قد برِحَ الخفاء، وربِّ السّماء. قتلتَ أبانا ثم جئتَ تسْرقُه، والله لَننْزعنَّ جلدَك ونُحرقُه. ادفعْ دِيَةَ الوالِد! اضربْ يا خالد! قلت: ماذا يا هذا؟ هوَ كما ولدَتْهُ أمُّه، قال: أتذُمُّه؟ قلت: وما أسرقُ وهو كما تَرى؟ أمْهِلاني أُجَلّي الذي جَرَى. وكنتُ كلّما همَمتُ بالبَيان، أُقذَفُ بالدِّنان، وخالد يَسْلقُني بماءٍ محْموم، حارٍّ مجْموم. وأنا أصرُخ، ولا يكادُ الأمرُ يفْرخ. ثم أُضرَبُ بجماعِ كفّ، وأُوكَزُ من قُدّام وخَلْف. كلُّ ذلك وخالد يقول: أبِنْ يا لَعِين! قلت: أُبِينُ لكنْ مَهْ! قال: صَهْ! قلت: فسَلْ! قال: هلْ؟ ثم شواني بماءٍ يتسعَّر، كأنه زيتٌ يتقطّر. فما كانَ لي إلّا أنْ أَعترِفَ بما لم أَقْترِف، وأدفعَ دِيةً أشبَهَتِ الفِدْية. فلمّا أصابَا نَيْلَهُما، ونالَا صَوْبَهُما، احتملَ أحدُهما الجثّةَ على ظهْرِه، ليَذهبَ بهِ إلى قَبره، وقد كَفيْتُهما تَغسيلَه، وتطهيرَه وتجميلَه. وبينا أنا أهمُّ بالخروج من الحمّام، بعدَ أنِ استفاقَ الأنام، لمحتُ الميّتَ في خان، معَ فُلانٍ وفُلان، يزدرِدُ سمناً على خُبزِ مَلَّة، فأدركتُ أنْ ليسَ للقومِ مِلّة. وبينهم شايٌ وثَريد، وأَدْسَمُ في لَبِيد.
قال نبهان بن يقظان: فما رأيتُ يوماً كاليَوم، غسَّلتُ ميّتا ليسَ بمَيْت، وَلَيْتهُ كانَ يا لَيْت! وأُشْبِعتُ ضرباً وصَلْقا، حقّا وصِدْقا. ودفعتُ دِيةَ حيّ، وأيّ هيِّ بنِ بَيّ؟ وأدَّيْتُ أجْرَ حمّام، كِدتُ ألقى فيهِ الحِمَام. قال حنظلة الأحنف: اصبرْ واحتسبْ، وإيّاك وحمّامَ الفَجْر، وعليكَ بحمّامِ الهَجْر! فلَفحُ حَمّارةِ القيْظ، خيرٌ من لَفْحِ القُرْقُبِ على غَيْظ. قلت: لا فَجْرَ ولا هَجْر، هذه بيْضةُ العُقْر. لا حمَّامَ بعد اليوْم، ولو كثُر الطَّنْزُ واللَّوْم، وانبعَثتْ رائحةُ الفُوم، حتى يَضْجرَ القوْم، ويَحرُمَ النّوْم. ولوْ نَتَنَ الجِلْد وتَطبَّقَ الدّرَن، فثقُلتُ كحِمارٍ حَرَن. قال حنظلة: وكيف طُهْرُك؟ قلت: تَكفيني النِّية. قال: أوَتُزيلُ النِّية الدّرَن؟ قلت: أوَتمنعُ الموْتى دُخولَ الحمّام؟ ثم أنشأتُ أقول:
تَركْتُ حِمىً وحَمّاماً يَسُوءُ ؞؞؞ وَلوْ جَسَدِي بِأوْسَاخِي يَنُوءُ
وَلَوْ أحَدٌ مِنَ الموْتَى يَجِيءُ ؞؞؞ لِتَحْميمٍ بِآثامِي يَبُوءُ

عبد السلام دغمش
07-10-2014, 12:30 AM
مقامة طريفة خفيفة الظلّ .
استمتعت هنا بهذه القطعة الأدبية الفريدة.
بوركتم أديبنا الفاضل.
تحياتي.

مصطفى حمزة
07-10-2014, 07:27 AM
أخي الأكرم ، الأستاذ عبد الرحيم
أسعد الله أوقاتك
مقامة طريفة وممتعة في فكرتها ، وأحداثها . لكن قيمتها الأولى - كما في كل مقامات تُراثنا - في محتواها اللغويّ . فهي درسٌ في اللغة قبل أي شيء آخر .
- الكُدية هنا كانت عندَ أبناء ( الميت ) لا عندَ بطل المقامة - واسمه لايتفق مع أسّه - وهنا اختلاف مع مقامات بديع الزمان الهمذاني ، اختلاف مُبتكر يُحسب للكاتب .
- فيها بعض العجائبيّة ، أو الغرائبيّة المُفرطة لنقلْ : ترك العجوز وحده في الحمام ، وتمثيله دور الميت بهذا العمر ! وكيف دفعَ نبهان ( الدية ) وهو في الحمام ؟ !!
- عَروض الشطر الأول من البيت الثاني ( يجيءُ = فعولُ ) لاتستوي في الوافر كما أعلم إلا في التصريع في البيت الأول .
تحياتي وتقديري

عدنان الشبول
07-10-2014, 09:54 AM
مقامة جميلة ممتعة





دمتم بخير وسعادة

محمد محمد أبو كشك
07-10-2014, 10:13 AM
مقامات من جديد
ذكرتني بالمقامة الكشكية لبديع الزمان الكشكاوي :010:

ناديه محمد الجابي
07-10-2014, 11:29 AM
مقامة فكاهية تنتزع البسمة من الشفاة والضحكة من الأعماق
ومغامرة تثير العجب وتبعث الإعجاب بما فيها من أساليب
البيان وبديع اللفظ الرقيق والسجع القصير وجميل النثر والنظم.
بوركت ـ ولك تحياتي وتقديري. :001:

كاملة بدارنه
08-10-2014, 08:01 PM
تعيدنا إلى جمال التّراث الأصيل، واللّغة المميّزة في مقاماتك أستاذ عبدالرّحيم
شكرا لك على جميل ما تمتّعنا به
بوركت
تقديري وتحيّتي

ربيحة الرفاعي
12-10-2014, 01:25 AM
للمقامة بين فنون الأدب جمالية الأصالة والتمكن اللغوي وطرافة الفكرة وحلاوة روح القائل، ولمقامات الصادقيّ على ذلك كلّه ألق سمو الغاية الكامنة وراء الفكرة المطروحة
ما أجملها جرعة من أدب يقضيها القارئ في رحاب حرفك أديبنا

لا حرمك البهاء

تحاياي

خلود محمد جمعة
13-10-2014, 06:53 AM
مقامة حمامية على أوتار صادقية فيها من الطرافة ما يضحك الثغور ومن الادب ما يثلج الصدور
كل الشكر والتقدير أديبنا
دام الحرف نور على نور

عبد الرحيم صادقي
31-10-2014, 07:25 PM
بورك المارون من هنا، ونعم الزائرون.
وإنا عن إكرامكم لعاجزون، وعن شكركم لمقصرون.
فتقبلوا بكرمكم ما تيسر، وتجاوزوا عما تعذر.
أما أنت أخي الكريم الأستاذ مصطفى، فلمَ تعجب من دفع نبهان الدية في الحمام؟
أرأيت إن كانت لا تُقدر بأكثر من سمن على خبز مَلَّة، وشاي وثريد، وأدسم في لَبِيد؟ :sm:
أما الوافر والتصريع، فصدقني لو قلت لك إني أنتمي إلى عصر ما قبل العروض. :002:
لك مني التحية الطيبة المباركة

نداء غريب صبري
10-02-2015, 10:04 PM
مقامة جميلة وقطعة أدبية رائعة طريفة وممتعة

شكرا لك أخ

بوركت

ناديه محمد الجابي
17-12-2023, 04:26 PM
بارع أنت في سرد المقامات فجاءت مقامتك كقصة قصيرة مسجوعة
وحكاية خيالية أدبية بليغة عاشها الراوي ونقلها لنا بأسلوب بارع وروح خفيفة
فأمتعنا بمقامة لطيفة ظريفة.
بارك الله فيك ودمت بكل خير.
:v1::nj::0014: