هشام النجار
03-11-2014, 08:57 PM
في العاشر من المحرم من كل عام يكثر النحيب، وتقام مآتم العزاء.. وتنقل الفضائيات ووكالات الأنباء صور إحياء ذكرى استشهاد الحسين بن على رضي الله عنهما في كربلاء بالعراق.. مخضبة بالدماء مليئة بضرب الهامات والأكتاف والصدور مصحوبة بالبكاء والصراخ والعويل ..
وقبل أن نسرد القصة ونستلهم العبرة منها ، وقبل أن نتعرف على قاتل الحسين وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى صنف من البشر مردوا على الخيانة والغدر.. وقبل أن ندافع عن الشهيد ونبرأ ساحته من العصيان والتمرد وخلع البيعة وإحداث الفتنة .. وقبل أن تدمع أعيننا أسفا وحزنا على استشهاده في ساحة كربلاء في معركة غير متكافئة يبقى في نهايتها وحيدا بعد موت أصحابه يقاتل من خذلوه وخانوه حتى يسقط صريعا مضرجا في دمائه .. وقبل أن تنخلع قلوبنا ونحن نتابع ونسائل في حسرة : كيف جرؤ هؤلاء قساة القلوب مشوهوا العقول على اجتزاز رأس ابن بنت رسول الله وسيد شباب أهل الجنة .. نورد أولا باختصار ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وابن كثير في البداية والنهاية في شأن هذه الطريقة المنحرفة الشاذة في إحياء ذكرى عاشوراء .. يقول ابن تيمية رحمه الله : " .. وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين : بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثى وما يفضى إلي ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم ... وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة فان هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله " .. ويقول ابن كثير رحمه الله في كلام جميل موزون: " ... فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه ، فانه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته ، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا .. ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء .. وقد كان أبوه أفضل منه وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين ، فان أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلي صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين هجرية ، وكذلك عثمان كان أفضل من على عند أهل السنة والجماعة وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذى الحجة سنة ست وثلاثين وقد ذبح من الوريد إلي الوريد ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتما ، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلى ، قتل وهو قائم يصلى في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء من قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين ... "
لماذا خرج الحسين ؟
لم يخرج الحسين رضي الله عنه ثائرا متمردا ناكثا للبيعة راغبا في الفتنة والقتال ، إنما خرج يريد صلاح الأمة وبقاءها على ما كانت عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء المهديين .. خرج رضي الله عنه معارضا معارضة سلمية أن تتحول الخلافة إلي ملك وراثي وأن يغيب مبدأ الشورى وأن يتولى أمر المسلمين رجل متهم في عدالته مشكوك في صلاحه وتقواه.. ، خرج رضي الله عنه ولم تكن في عنقه بيعة لأحد فقد مات معاوية رضي الله عنه وقد تم نقض أحد بنود صلحه مع الحسن وهو أن يكون الأمر بعده شورى بين المسلمين ، فها هو يزيد بن معاوية يرث الحكم عن أبيه ...خرج الحسين رضي الله عنه بعد أن راسله أهل العراق وبايعوه واستقدموه لنصرته فشعر بالمسئولية وعلم أنه موكول إليه مهمة جليلة وهى مقاومة الظلم والاستبداد بالحكم .. خرج معولا على نصرة هؤلاء الذين راسلوه وكاتبوه وحمل معه حقيبتين مملوءتين برسائلهم حتى إذا أنكروا واجههم بها ...
ولماذا عارضه الصحابة والتابعون ؟
في " تاريخ خليفة " روى خليفة بن خياط عن داود بن عبد الله الأودى عن حميد بن عبد الرحمن قال : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد لا أفقه منها فقها ولا أعظمها فيها شرفا ؟ .. قلنا : نعم .. قال: وأنا أقول ذلك ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق .. أرأيتم بابا لو دخل فيه أمة محمد وسعهم أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه ؟ .. قلنا : لا .. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله أكان هذا يسعهم ؟ .. قلنا : نعم .. قال: فذلك ما أقول لكم ".. وكان هذا من أهم أسباب المعارضة .. أن تجتمع أمة محمد ولا تفترق ، ولكن الحسين كان اجتهاده ورؤيته أن تجتمع أمة محمد على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، على الشورى والعدل وليس على اغتصاب السلطة ووراثة الحكم .. ومن أسباب المعارضة أيضا وعيهم رضي الله عنهم بما يحدثه التنازع على السلطة من فتن، وما حدث بين على ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن قد مر عليه زمن طويل.. كذلك من الأسباب المهمة اشتهار شيعة الكوفة على وجه الخصوص بالغدر حتى قال البغدادي في كتابه ( الفرق بين الفرق ) : " .. روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل وقد سار المثل بهم فيها حتى قيل : أبخل من كوفي وأغدر من كوفي ، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي :
أ- بعد مقتل على رضي الله عنه بايعوا الحسن وغدروا به في ساباط المدائن فطعنه سنان الجعفي
ب- كاتبوا الحسين رضي الله عنه ودعوه إلي الكوفة لينصروه على يزيد فاغتر بهم وخرج إليهم فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يدا واحدة عليه حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء
ج- غدرهم بزيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب .. نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال .. "
يقول عبد الله بن الزبير ناصحا الحسين – رغم معارضته ليزيد وموافقته للحسين - : .. أين تذهب، إلي قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟ ! .. فقال الحسين : لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بى ، يعنى مكة ..
وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ينصحه قائلا : .. إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم ، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ، ثم أقدم عليهم .. وإلا فسر إلي اليمن فان بها حصونا وشعابا ولأبيك به شيعة وكن عن الناس بمعزل ، وأكتب إليهم وبث دعاتك فيهم فانى أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب .. ، ثم قال له رضي الله عنه : فان كنت ولابد سائر فلا تسر بأولادك ونسائك ، فوا لله أنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ... وكان من كلام عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : .. أين تريد ؟ .. قال الحسين : العراق ، فقال : لا تأتهم .. قال الحسين : هذه كتبهم وبيعتهم .. فقال ابن عمر : إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وإنكم بضعة منه ، لا يليها أحد منكم أبدا ، وما صرفها الله عنكم الا للذي هو خير لكم فارجعوا ... فلما رأى ابن عمر إصرار الحسين وعزمه وتصميمه اعتنقه قائلا : أستودعك الله من قتيل .. وفي طريقه إلي الكوفة مع أهل بيته قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور ، فسأله الحسين عن رأيه في أهل الكوفة .. قال الفرزدق : يخذلونك .. قال الحسين : هذه كتبهم ورسائلهم معى .. قال الفرزدق : لا تذهب ، فانك تأتى قوما قلوبهم معك وأيديهم عليك ..
وها هو عبد الله بن عمر كما ورد في مسند الإمام أحمد يحمل العراقيين المسئولية في مقتل الحسين عندما سأله وفد منهم عن دم البعوض في الإحرام ، فقال : عجبا لكم يا أهل العراق ، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض ؟ ! ..
استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ..
ومسلم هو ابن عم الحسين وسفيره ومبعوثه إلي العراق لأخذ البيعة وتهيئة الأجواء لقدومه ، وكان قد انضم اليه عدد كبير من الكوفيين .. وهانئ هو زعيم قبيلة مذحج وأكبر مناصرى مسلم وأكثر المتحمسين لقدوم الحسين .. ألقى القبض أولا على هانئ وبعد حوار مع عبيد الله بن زياد رفض تسليم مسلم بن عقيل فضربه بن زياد على وجهه فهشم أنفه وكسر حاجبه .. وهنا جمع مسلم من بايعوه من أهل الكوفة وكان عددهم أكثر من أربعة آلاف واتجه بهم صوب قصر الإمارة المحتجز به هانئ فأخرج لهم عبيد الله الزعماء والوجهاء وخوفوهم ، فبدءوا ينصرفون عن مسلم حتى لم يبق معه إلا خمسمائة رجل ، ثم أخذ العدد يتضاءل شيئا فشيئا ، وبعد معركة لم تدم طويلا طلب فيها من تبقى من المبايعين النجاة ، بقى مسلم وحيدا في طرقات الكوفة بعد أن خذله أهلها ، ثم قبض عليه ، وفي طريقه إلي عبيد الله بن زياد بكى فقيل له : إن من يطلب ما تطلب لا يبكى إذا نزل به مثل الذي نزل بك ، قال : انى والله ما لنفسي أبكى وما لها من القتل أرثى وان كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكنى أبكى لأهلي المقبلين إلي الكوفة .. أبكى حسينا وآل الحسين ..
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية .. " .. فأصعد إلي أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلى على ملائكة الله ويقول : اللهم أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا ثم ضرب عنقه رجل يقال له بكير بن حمدان ثم ألقى رأسه إلي أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده " ... ثم قتل هانئ بن عروة، ثم صلب مسلم وهانئ في السوق أمام الناس..
الطريق إلي كربلاء ..
في طريقه إلي الكوفة جاء الحسين خبر مقتل مسلم بن عقيل بن أبى طالب وتخاذل شيعته عنه كذلك مقتل الرسل الذين أرسلهم إليه ، فنادي الحسين رضي الله عنه في الناس وقال : من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يمينا وشمالا .. .. يقول الحر بن يزيد الذي انضم للحسين بعد أن أرسله بن زياد لقتاله ، يقول مناديا أهل الكوفة وموجها حديثه لعمر بن سعد بن أبى وقاص قائد الجيش البديل الذي أتى لتنفيذ المهمة : " .. يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل.. أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير ، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش .. بئس ما خلفتم محمدا في ذريته ، لا أسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه " ..
وعند كربلاء أحاطت بالحسين الخيل من كل اتجاه ، فبدأ بالتفاوض وأشار بيده إلي الحقيبتين الكبيرتين اللتين تضمان أسماء المبايعين من أهل الكوفة .. وقال : كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت ، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم .. .. فكتب عمر بن سعد إلي ابن زياد ما قاله الحسين ، فتمثل ابن زياد قول الشاعر :
الآن اذا علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولاة حين مناص
وكتب إلي عمر بن سعد قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم .. أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل رأينا فيه رأينا والسلام .. ورفض الحسين ولكنه أكد رغبته في مقابلة يزيد أو أن يدعوه ينصرف وكاد ابن زياد يوافق لولا تدخل شمر بن ذى الجوشن الضبى الذي كره أن تحل القضية وأن يسود السلام ، وطلب أن ينزل الحسين على حكم عبيد الله بن زياد ، فرفض الحسين وقال : لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدا .. ، وقال لأصحابه ممن تبقوا معه : أنتم في حل من طاعتي .. ولكنهم أصروا على مصاحبته والقتال معه حتى الشهادة ...
المشهد الأخير..
في يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين هجرية كانت المواجهة غير المتكافئة بين الحسين بن على ومن معه وبين جيش مدرب مجهز بالعدة والعتاد يقوده عمر بن سعد ... استبسل أصحاب الحسين وأظهروا مقاومة شديدة وتسابقوا في الدفاع عن الحسين .. وقتل أصحاب الحسين وبقى الحسين يقاتل وحده في ساحة المعركة ، وقاتل الحسين بشجاعة نادرة ،ولم يجرؤ أحد على قتله وكل واحد منهم يخشى أن يبوء بهذا الإثم العظيم وتمنوا أن يستسلم ، ولكن الحسين ظل بأرض المعركة ثابتا يأبي الاستسلام أو الانسحاب.. عندئذ صاح شمر بن ذي الجوشن بالجند وأمرهم بقتله فضربه زرعة بن شريك التميمى ثم طعنه سنان بن أنس النخعى واجتز رأسه ، ويقال أن الذي أجهز عليه هو شمر بن ذي الجوشن ... وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونساءه ومن كان معه من الصبيان إلي ابن زياد ...
استشهد مع الحسين في كربلاء من آل أبى طالب .. الحسين وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان وجميعهم أولاد على ابن أبى طالب ، ومن أولاد الحسين قتل على وعبد الله ، ومن أولاد الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر ، ومن أولاد عقيل بن مسلم قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ، ومن أولاد عبد الله بن جعفر قتل عون ومحمد .. رحمهم الله جميعا ..
اليوم نتذكر استشهاد الحسين وعيوننا دامعة وقلوبنا خاشعة حزينة .. ولكن حزننا عليه وعلى أصحابه وآل بيته ليس جلدا للذات ولا سعيا وراء فتنة وفرقة بين المسلمين .. وليس تزويرا للتاريخ وتشويها للأحداث وتأليها للأشخاص مهما علت مكانتهم وسمت منزلتهم .. ليس مجرد مظاهر مبتدعة تسئ للإسلام وتصوره أمام العالم دينا همجيا دمويا ..
اجتهد الحسين رضي الله عنه ولكنه أخطأ في اجتهاده ، كانت غاياته نبيلة وأفكاره جليلة لكنه أخفق في تحقيقها وتطبيقها على أرض الواقع عندما أصر على الخروج ولم يأخذ بما عرض عليه من استراتيجيات وخيارات أخرى من قبل الناصحين المخلصين ..
اغتر الحسين رضي الله عنه بمراسلات أهل الكوفة ومبايعاتهم ، فخرج إليهم ظنا منه أنهم سينصرونه وسيكونون معه يدا واحدة لإقامة دولة العدل والشورى ، فخذلوه وتخلوا عنه وقتلوه ...
لتكن ذكرى استشهاد الحسين إذن سعيا للإصلاح ودرءا للفتن .... لتكن عارا على الخونة والغادرين .
وقبل أن نسرد القصة ونستلهم العبرة منها ، وقبل أن نتعرف على قاتل الحسين وآل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى صنف من البشر مردوا على الخيانة والغدر.. وقبل أن ندافع عن الشهيد ونبرأ ساحته من العصيان والتمرد وخلع البيعة وإحداث الفتنة .. وقبل أن تدمع أعيننا أسفا وحزنا على استشهاده في ساحة كربلاء في معركة غير متكافئة يبقى في نهايتها وحيدا بعد موت أصحابه يقاتل من خذلوه وخانوه حتى يسقط صريعا مضرجا في دمائه .. وقبل أن تنخلع قلوبنا ونحن نتابع ونسائل في حسرة : كيف جرؤ هؤلاء قساة القلوب مشوهوا العقول على اجتزاز رأس ابن بنت رسول الله وسيد شباب أهل الجنة .. نورد أولا باختصار ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة وابن كثير في البداية والنهاية في شأن هذه الطريقة المنحرفة الشاذة في إحياء ذكرى عاشوراء .. يقول ابن تيمية رحمه الله : " .. وصار الشيطان بسبب قتل الحسين رضي الله عنه يحدث للناس بدعتين : بدعة الحزن والنوح يوم عاشوراء من اللطم والصراخ والبكاء والعطش وإنشاد المراثى وما يفضى إلي ذلك من سب السلف الصالح ولعنهم ... وقصد من سن ذلك فتح باب الفتنة والفرقة بين الأمة فان هذا ليس واجبا ولا مستحبا باتفاق المسلمين ، بل إحداث الجزع والنياحة للمصائب القديمة من أعظم ما حرم الله ورسوله " .. ويقول ابن كثير رحمه الله في كلام جميل موزون: " ... فكل مسلم ينبغي له أن يحزنه هذا الذي وقع من قتله رضي الله عنه ، فانه من سادات المسلمين وعلماء الصحابة وابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أفضل بناته ، وقد كان عابدا وشجاعا وسخيا .. ولكن لا يحسن ما يفعله الشيعة من إظهار الجزع والحزن الذي لعل أكثره تصنع ورياء .. وقد كان أبوه أفضل منه وهم لا يتخذون مقتله مأتما كيوم مقتل الحسين ، فان أباه قتل يوم الجمعة وهو خارج إلي صلاة الفجر في السابع عشر من رمضان سنة أربعين هجرية ، وكذلك عثمان كان أفضل من على عند أهل السنة والجماعة وقد قتل وهو محصور في داره في أيام التشريق من شهر ذى الحجة سنة ست وثلاثين وقد ذبح من الوريد إلي الوريد ولم يتخذ الناس يوم مقتله مأتما ، وكذلك عمر بن الخطاب وهو أفضل من عثمان وعلى ، قتل وهو قائم يصلى في المحراب صلاة الفجر وهو يقرأ القرآن ولم يتخذ الناس يوم قتله مأتما ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة وقد قبضه الله إليه كما مات الأنبياء من قبله ولم يتخذ أحد يوم موته مأتما يفعلون فيه ما يفعله هؤلاء الجهلة من الرافضة يوم مصرع الحسين ... "
لماذا خرج الحسين ؟
لم يخرج الحسين رضي الله عنه ثائرا متمردا ناكثا للبيعة راغبا في الفتنة والقتال ، إنما خرج يريد صلاح الأمة وبقاءها على ما كانت عليه أيام النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء المهديين .. خرج رضي الله عنه معارضا معارضة سلمية أن تتحول الخلافة إلي ملك وراثي وأن يغيب مبدأ الشورى وأن يتولى أمر المسلمين رجل متهم في عدالته مشكوك في صلاحه وتقواه.. ، خرج رضي الله عنه ولم تكن في عنقه بيعة لأحد فقد مات معاوية رضي الله عنه وقد تم نقض أحد بنود صلحه مع الحسن وهو أن يكون الأمر بعده شورى بين المسلمين ، فها هو يزيد بن معاوية يرث الحكم عن أبيه ...خرج الحسين رضي الله عنه بعد أن راسله أهل العراق وبايعوه واستقدموه لنصرته فشعر بالمسئولية وعلم أنه موكول إليه مهمة جليلة وهى مقاومة الظلم والاستبداد بالحكم .. خرج معولا على نصرة هؤلاء الذين راسلوه وكاتبوه وحمل معه حقيبتين مملوءتين برسائلهم حتى إذا أنكروا واجههم بها ...
ولماذا عارضه الصحابة والتابعون ؟
في " تاريخ خليفة " روى خليفة بن خياط عن داود بن عبد الله الأودى عن حميد بن عبد الرحمن قال : دخلنا على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استخلف يزيد بن معاوية فقال : أتقولون إن يزيد ليس بخير أمة محمد لا أفقه منها فقها ولا أعظمها فيها شرفا ؟ .. قلنا : نعم .. قال: وأنا أقول ذلك ولكن والله لأن تجتمع أمة محمد أحب إلي من أن تفترق .. أرأيتم بابا لو دخل فيه أمة محمد وسعهم أكان يعجز عن رجل واحد لو دخل فيه ؟ .. قلنا : لا .. قال: أرأيتم لو أن أمة محمد قال كل رجل منهم لا أريق دم أخي ولا آخذ ماله أكان هذا يسعهم ؟ .. قلنا : نعم .. قال: فذلك ما أقول لكم ".. وكان هذا من أهم أسباب المعارضة .. أن تجتمع أمة محمد ولا تفترق ، ولكن الحسين كان اجتهاده ورؤيته أن تجتمع أمة محمد على ما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم ، على الشورى والعدل وليس على اغتصاب السلطة ووراثة الحكم .. ومن أسباب المعارضة أيضا وعيهم رضي الله عنهم بما يحدثه التنازع على السلطة من فتن، وما حدث بين على ومعاوية رضي الله عنهما لم يكن قد مر عليه زمن طويل.. كذلك من الأسباب المهمة اشتهار شيعة الكوفة على وجه الخصوص بالغدر حتى قال البغدادي في كتابه ( الفرق بين الفرق ) : " .. روافض الكوفة موصوفون بالغدر والبخل وقد سار المثل بهم فيها حتى قيل : أبخل من كوفي وأغدر من كوفي ، والمشهور من غدرهم ثلاثة أمور هي :
أ- بعد مقتل على رضي الله عنه بايعوا الحسن وغدروا به في ساباط المدائن فطعنه سنان الجعفي
ب- كاتبوا الحسين رضي الله عنه ودعوه إلي الكوفة لينصروه على يزيد فاغتر بهم وخرج إليهم فلما بلغ كربلاء غدروا به وصاروا مع عبيد الله بن زياد يدا واحدة عليه حتى قتل الحسين وأكثر عشيرته بكربلاء
ج- غدرهم بزيد بن على بن الحسين بن على بن أبى طالب .. نكثوا بيعته وأسلموه عند اشتداد القتال .. "
يقول عبد الله بن الزبير ناصحا الحسين – رغم معارضته ليزيد وموافقته للحسين - : .. أين تذهب، إلي قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك ؟ ! .. فقال الحسين : لئن أقتل بمكان كذا وكذا أحب إلي من أن تستحل بى ، يعنى مكة ..
وهذا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ينصحه قائلا : .. إن أهل العراق قوم غدر فلا تغترن بهم ، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوهم ، ثم أقدم عليهم .. وإلا فسر إلي اليمن فان بها حصونا وشعابا ولأبيك به شيعة وكن عن الناس بمعزل ، وأكتب إليهم وبث دعاتك فيهم فانى أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب .. ، ثم قال له رضي الله عنه : فان كنت ولابد سائر فلا تسر بأولادك ونسائك ، فوا لله أنى لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه ... وكان من كلام عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : .. أين تريد ؟ .. قال الحسين : العراق ، فقال : لا تأتهم .. قال الحسين : هذه كتبهم وبيعتهم .. فقال ابن عمر : إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ، وإنكم بضعة منه ، لا يليها أحد منكم أبدا ، وما صرفها الله عنكم الا للذي هو خير لكم فارجعوا ... فلما رأى ابن عمر إصرار الحسين وعزمه وتصميمه اعتنقه قائلا : أستودعك الله من قتيل .. وفي طريقه إلي الكوفة مع أهل بيته قابل الحسين الفرزدق الشاعر المشهور ، فسأله الحسين عن رأيه في أهل الكوفة .. قال الفرزدق : يخذلونك .. قال الحسين : هذه كتبهم ورسائلهم معى .. قال الفرزدق : لا تذهب ، فانك تأتى قوما قلوبهم معك وأيديهم عليك ..
وها هو عبد الله بن عمر كما ورد في مسند الإمام أحمد يحمل العراقيين المسئولية في مقتل الحسين عندما سأله وفد منهم عن دم البعوض في الإحرام ، فقال : عجبا لكم يا أهل العراق ، تقتلون ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتسألون عن دم البعوض ؟ ! ..
استشهاد مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة ..
ومسلم هو ابن عم الحسين وسفيره ومبعوثه إلي العراق لأخذ البيعة وتهيئة الأجواء لقدومه ، وكان قد انضم اليه عدد كبير من الكوفيين .. وهانئ هو زعيم قبيلة مذحج وأكبر مناصرى مسلم وأكثر المتحمسين لقدوم الحسين .. ألقى القبض أولا على هانئ وبعد حوار مع عبيد الله بن زياد رفض تسليم مسلم بن عقيل فضربه بن زياد على وجهه فهشم أنفه وكسر حاجبه .. وهنا جمع مسلم من بايعوه من أهل الكوفة وكان عددهم أكثر من أربعة آلاف واتجه بهم صوب قصر الإمارة المحتجز به هانئ فأخرج لهم عبيد الله الزعماء والوجهاء وخوفوهم ، فبدءوا ينصرفون عن مسلم حتى لم يبق معه إلا خمسمائة رجل ، ثم أخذ العدد يتضاءل شيئا فشيئا ، وبعد معركة لم تدم طويلا طلب فيها من تبقى من المبايعين النجاة ، بقى مسلم وحيدا في طرقات الكوفة بعد أن خذله أهلها ، ثم قبض عليه ، وفي طريقه إلي عبيد الله بن زياد بكى فقيل له : إن من يطلب ما تطلب لا يبكى إذا نزل به مثل الذي نزل بك ، قال : انى والله ما لنفسي أبكى وما لها من القتل أرثى وان كنت لم أحب لها طرفة عين تلفا ، ولكنى أبكى لأهلي المقبلين إلي الكوفة .. أبكى حسينا وآل الحسين ..
يقول ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية .. " .. فأصعد إلي أعلى القصر وهو يكبر ويهلل ويسبح ويستغفر ويصلى على ملائكة الله ويقول : اللهم أحكم بيننا وبين قوم غرونا وخذلونا ثم ضرب عنقه رجل يقال له بكير بن حمدان ثم ألقى رأسه إلي أسفل القصر وأتبع رأسه بجسده " ... ثم قتل هانئ بن عروة، ثم صلب مسلم وهانئ في السوق أمام الناس..
الطريق إلي كربلاء ..
في طريقه إلي الكوفة جاء الحسين خبر مقتل مسلم بن عقيل بن أبى طالب وتخاذل شيعته عنه كذلك مقتل الرسل الذين أرسلهم إليه ، فنادي الحسين رضي الله عنه في الناس وقال : من أحب أن ينصرف فلينصرف فتفرق الناس عنه يمينا وشمالا .. .. يقول الحر بن يزيد الذي انضم للحسين بعد أن أرسله بن زياد لقتاله ، يقول مناديا أهل الكوفة وموجها حديثه لعمر بن سعد بن أبى وقاص قائد الجيش البديل الذي أتى لتنفيذ المهمة : " .. يا أهل الكوفة، لأمكم الهبل.. أدعوتم الحسين إليكم حتى إذا أتاكم أسلمتموه ، وزعمتم أنكم قاتلوا أنفسكم دونه ثم عدوتم عليه لتقتلوه ، ومنعتموه التوجه في بلاد الله العريضة الوسيعة التي لا يمنع فيها الكلب والخنزير ، وحلتم بينه وبين الماء الفرات الجاري الذي يشرب منه الكلب والخنزير وقد صرعهم العطش .. بئس ما خلفتم محمدا في ذريته ، لا أسقاكم الله يوم الظمأ الأكبر إن لم تتوبوا وتتراجعوا عما أنتم عليه من يومكم هذا في ساعتكم هذه " ..
وعند كربلاء أحاطت بالحسين الخيل من كل اتجاه ، فبدأ بالتفاوض وأشار بيده إلي الحقيبتين الكبيرتين اللتين تضمان أسماء المبايعين من أهل الكوفة .. وقال : كتب إلي أهل هذه البلاد وأتتني رسلهم فسألوني القدوم ففعلت ، فأما إذا كرهوني فبدا لهم غير ما أتتني به رسلهم فأنا منصرف عنهم .. .. فكتب عمر بن سعد إلي ابن زياد ما قاله الحسين ، فتمثل ابن زياد قول الشاعر :
الآن اذا علقت مخالبنا به يرجو النجاة ولاة حين مناص
وكتب إلي عمر بن سعد قائلا : بسم الله الرحمن الرحيم .. أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت ، فاعرض على الحسين أن يبايع ليزيد بن معاوية وجميع أصحابه فإذا فعل رأينا فيه رأينا والسلام .. ورفض الحسين ولكنه أكد رغبته في مقابلة يزيد أو أن يدعوه ينصرف وكاد ابن زياد يوافق لولا تدخل شمر بن ذى الجوشن الضبى الذي كره أن تحل القضية وأن يسود السلام ، وطلب أن ينزل الحسين على حكم عبيد الله بن زياد ، فرفض الحسين وقال : لا والله لا أنزل على حكم عبيد الله بن زياد أبدا .. ، وقال لأصحابه ممن تبقوا معه : أنتم في حل من طاعتي .. ولكنهم أصروا على مصاحبته والقتال معه حتى الشهادة ...
المشهد الأخير..
في يوم الجمعة العاشر من المحرم سنة إحدى وستين هجرية كانت المواجهة غير المتكافئة بين الحسين بن على ومن معه وبين جيش مدرب مجهز بالعدة والعتاد يقوده عمر بن سعد ... استبسل أصحاب الحسين وأظهروا مقاومة شديدة وتسابقوا في الدفاع عن الحسين .. وقتل أصحاب الحسين وبقى الحسين يقاتل وحده في ساحة المعركة ، وقاتل الحسين بشجاعة نادرة ،ولم يجرؤ أحد على قتله وكل واحد منهم يخشى أن يبوء بهذا الإثم العظيم وتمنوا أن يستسلم ، ولكن الحسين ظل بأرض المعركة ثابتا يأبي الاستسلام أو الانسحاب.. عندئذ صاح شمر بن ذي الجوشن بالجند وأمرهم بقتله فضربه زرعة بن شريك التميمى ثم طعنه سنان بن أنس النخعى واجتز رأسه ، ويقال أن الذي أجهز عليه هو شمر بن ذي الجوشن ... وأرسل عمر بن سعد برأس الحسين ونساءه ومن كان معه من الصبيان إلي ابن زياد ...
استشهد مع الحسين في كربلاء من آل أبى طالب .. الحسين وجعفر والعباس وأبو بكر ومحمد وعثمان وجميعهم أولاد على ابن أبى طالب ، ومن أولاد الحسين قتل على وعبد الله ، ومن أولاد الحسن قتل عبد الله والقاسم وأبو بكر ، ومن أولاد عقيل بن مسلم قتل جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ، ومن أولاد عبد الله بن جعفر قتل عون ومحمد .. رحمهم الله جميعا ..
اليوم نتذكر استشهاد الحسين وعيوننا دامعة وقلوبنا خاشعة حزينة .. ولكن حزننا عليه وعلى أصحابه وآل بيته ليس جلدا للذات ولا سعيا وراء فتنة وفرقة بين المسلمين .. وليس تزويرا للتاريخ وتشويها للأحداث وتأليها للأشخاص مهما علت مكانتهم وسمت منزلتهم .. ليس مجرد مظاهر مبتدعة تسئ للإسلام وتصوره أمام العالم دينا همجيا دمويا ..
اجتهد الحسين رضي الله عنه ولكنه أخطأ في اجتهاده ، كانت غاياته نبيلة وأفكاره جليلة لكنه أخفق في تحقيقها وتطبيقها على أرض الواقع عندما أصر على الخروج ولم يأخذ بما عرض عليه من استراتيجيات وخيارات أخرى من قبل الناصحين المخلصين ..
اغتر الحسين رضي الله عنه بمراسلات أهل الكوفة ومبايعاتهم ، فخرج إليهم ظنا منه أنهم سينصرونه وسيكونون معه يدا واحدة لإقامة دولة العدل والشورى ، فخذلوه وتخلوا عنه وقتلوه ...
لتكن ذكرى استشهاد الحسين إذن سعيا للإصلاح ودرءا للفتن .... لتكن عارا على الخونة والغادرين .