تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الاحسان كخيار استراتيجى



هشام النجار
12-11-2014, 06:42 AM
الاحسان مع الخصم من منطلق كونه استراتيجية حركية وليس فقط قيمة أخلاقية .. لماذا ؟
فقد يتحجج البعض بأنه مستوى أخلاقى راق خاص بتكوين شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أحد بعده الا نادراً قادر على الوصول الى هذا المستوى من تأخير حظوظ النفس ورغباتها فى الانتقام ورد الاساءات والسيئات بمثلها ، هنا لابد من الوقوف على الاحسان كونه استراتيجية لحماية المنهج واحاطة الدعوة بضمانات عدم انزلاقها فى تحشيد العداوات والخصوم ومحاولات انهاكها وضربها من كل اتجاه ؛ فالقضية لم تعد هنا شخصية ولا أخلاقية ولا مرتبطة فقط بشخص الرسول ونموذجه البشرى الذى لا يتكرر ، انما متعلقة بمصلحة المنهج .
طريق الثارات وتصفية الحسابات الخبرات أدى فى كل مرة لاضعاف الحركة والمنهج فى مواجهة التحديات الكبيرة بالدخول فى مواجهات محمومة وممارسات منفلتة تشوش وتشوه انسانية المنهج وثوابته وتجرد قادة الحركة من القدرة على تعرية الخصوم ، وبدلاً من تعزيز مكانة الدعوة فى الساحة ، يعززون موقف الخصوم على الأقل باظهارهم مناوئين لعدوانيين أشرار ، واهداء الخصوم فرصاً ما كانوا ينالونها لتبرير مواصلة الانهاك ، ولخطورة القضية وتأثيرها المباشر فى تهديد وجود الدعوة والمنهج وحضورهما كان هناك طريق آخر رسمه وسار فيه القائد المنهجى الرائد صلى الله عليه وسلم لحماية الدعوة والحفاظ على منجزاتها وعدم الدخول بها فى مسارات مهلكة ومقوضة رغم المرارات وثقل وقع الاساءات على النفوس التى طالما ترغب فى التشفى ، هنا نشاهد القائد المنهجى الرائد حريصاً على الأعداء أكثر من أنفسهم باذلاً اليهم الخير مقابل الشرور والاساءات كمن يقابل القذارات بالابتسامات والورود ، يشفق عليهم ويلتمس الأعذار ويرجو لهم الخير ويجتهد فى ايصالهم لبر الهداية رغم يقينه بما يضمرونه له من شر ورغبات فى الافناء .
تلك استراتيجية منهجية وليست فحسب كما يروج الدعاة قيمة أخلاقية ؛ فهى من جهة تعطى فرصاً ومساحات رحبة للخصوم لمراجعة مواقفهم وتغيير أسلوب تعاملهم وربما يقودهم هذا الاحسان الاستراتيجى لتبنى مواقف الدعوة ومؤازرتها اما باعلان الاصطفاف الكامل معها أو باضمار التعاطف وكف الأذى ، ومن جهة أخرى فهو بهذه الفلسفة الحركية العميقة يجرد الخصوم والأعداء من امتلاك أقوى سلاح فى أيديهم وهو أيضاً سلاح استراتيجى لدى الأعداء قائم فى مختلف العصور والمراحل لمواجهة المنهج والدعوة لكنه يتوقف على القيادة المنهجية واختياراتها ، فاذا اختارت الطريق الأول سهل على الخصوم استخدام استراتيجيتهم المفضلة فى تبرير مواجهة الشرور والقبح وسفكة الدماء ورواد الكراهية وحركات الانفصال والعزلة والهدم - بحسب التوصيف الرائج الذى يسبق عمليات القصف - .
كان القائد المنهجى الرائد صلوات ربى وسلامه عليه يمتلك بما أوتى من مكانة رسالية دعماً فورياً من السماء لانزال العقاب بخصومه وأعدائه ، وهذا ما لا يمتلكه من بعده من رواد المنهج والقريبين منه " لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ؛ اذ عرضت نفسى على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبنى الى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهى فلم أستفق الا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسى ، فاذا أنا بسحابة قد أظلتنى ، فنظرت فاذا فيها جبريل فنادانى فقال : ان الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث الله اليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فنادانى ملك الجبال فسلم على ، ثم قال : يا محمد ، فقال : ذلك فيما شئت ، ان شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " .
هنا رواد المنهج بين طريقين اما يحتجون بأنها قيمة أخلاقية رسولية لا يرتقون اليها فيختارون الاساءات والسيئات والانتقام ، والله تعالى قادر بدون مجهودهم هذا أن يخسف بأولئك الأرض .. واما يختارون الاحسان كاستراتيجية حركية ويستشرفون المستقبل كاستشراف القائد المنهجى الرائد " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً " ، هنا - وهنا فقط - فكأنهم وصلوا الى تلك المكانة السامقة والى الذروة فى الاشتغال بذهنية القائد المنهجى الحقيقى ، بل وكأنهم يعيدون المسيرة ويراهم جبريل عليه السلام ويفرح بصنيعهم ويسلم عليهم ملك الجبال ويعجب من دقة متابعتهم لنبيهم .