تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : تـــشابـــه .. !



الفرحان بوعزة
16-12-2014, 10:45 AM
استلقى على ظهره وتمـدّد .. صوّب الوسادة تحت قفاه ، مـص بقوة دخان تبغه الرخيص ؛ أخرج من فمه سحابة دخان أسود ، استرد أنفاسه فصفعته برودة شتاء قارس .. جلول يعرف سنه الحقيقي بالتقدير. ذكرت جدته أنه ولد في ليلة شاتية . يقارب العشرين من عمره ، تابع دراسته في السلك الثانوي شعبة الأدب ؛ لكنه لم يحصل على الباكالوريا .خجول يتوارى في المناسبات الاجتماعية ، يجد صعوبة في التعامل مع الناس ، ولا يتقاعس عن مساعدة أبيه طيلة أشغال الفلاحة ..
جارته عائشة تصغره بعامين، تحمل ملامح جمال متميز، وقد يـبرز بحدة عند ما ينضج ..! تكبر أمامه وتنمو كما تنمو الزهرة البرية . يُعِدُّ الأيام والأعوام لتصبح زوجته . يحيّـيها خفية ، ترد التحية وهي تختبئ وسط السنابل الخضراء، يعترضها في البئر، فترسم ابتسامة رقيقة على شفتيها. عمداً لا تبادله نفس الشعور مخافة افتضاح أمرها في القرية . ومع ذلك كان يمني نفسه بأمل منبثق من اللحظة ، لكن ثغرة عميقة نسفت ما كان يحلم بتشييده .غرق في أفكاره أياماً ، لكنه لم يسمح للفتور أن يتسلل إلى نفسه ،كلما تذكرها عاتب نفسه جهاراً قائلا :
ـــ كان من الأولى أن أتـقدم لخطبتها ، بدل أن أجْـري من ورائها مدة من الزمن . رمتـني كعقب السيجارة، استخفـت بالدُّوَار وأهله ، تنكرت لكَرْمتها وعوسجها . وفضلت مدينة الإسمنت لتعمل في البيوت ..
جـلول يعاند الأيام ويرجو نفادها ، يراقب منشار الزمن وهو يأكل أعصابه على مهل . لم يذق طعم النوم كأنه وهب مقلتيه لسهاد الدهر كله كعاشق مبتدئ أصابه داء الحب بغتة .. أخذ يبحث عن مخرج لنفسه ، فقرر أن يرحل عن المكان مهما كانت العواقب ..
جاء فصل الصيف شحيحاً ومبكراً، ولم تجُد السماء بالمطر الكافي من قبل ، ضاقت النفوس ، وبرزت ملامح الجفاف تؤشر عن موسم فلاحي ضعيف الإنتاج ، مما حفزه أكثر ليغادر القرية بدعوى البحث عن العمل رغم اعتراض والديه..
مر جواد الزمن يطوي أيامه ، سأل عنها في الحي الذي قصدته ، تقصى أخبارها فلم يصدق كل الشائعات المخيبة لآماله . أسر المأساة في نفسه ولم يعقب ..
عاشر جلـول المدينة يوماً كاملا ، يتناوب علي الدروب والأزقة .. درب يلفظه وآخر يحتضنه . خطواته متـثاقلة، رياح ضعيفة تتلاعب بستائر النوافذ، شوارع إسفـلتية صلبة تعاند الزمن ،غربة مملة وتهميش قاتل ..!؟
اندس في شارع كبير، اسمه تاريخي، انغلـقت دائرة الحياة من حوله . لا ينتظر من هذه المدينة مفاجآت سارة.. ومع ذلك ، استمر فيها بقوة داخلية لا يعيها تماماً . يعاند الزمن في كبرياء ، يحدق في وجوه غير مألوفة لديه ، بنظراته الحادة يخرق أجساد المارة ..
أجساد نساء تتماوج بين عينيه ، فتيات تـتـقن فن الإثارة ، صورة خلقت له ارتباكاً في رغباته . عادت به الذاكرة إلى رقصات الأجواق الشعبية التي كان يحضرها باستمرار. يتـنقـل بنظراته بين المارة كمن يبحث عن شخص معين ، يصطدم بحشود من الأجسام فـيفيق من سكرته . فكان نهْباً لكل الهواجس والتخمينات.
توقفت بالقرب منه حافلة ، لفظت ما في جوفها من لحوم بشرية . عادت جعجعتها في الاستمرار، استأنفت سيرها تاركة وراءها دخاناً أسود لم تستطع الرياح أن تبدده بسرعة . تقززت نفسه ، فاعترض بيده ما تسرب من دخان إلى أنفه..
خواطر نهشت عواطفه بحدة فغمغم قائلا : أسير بكل حرية في قريتي .. لا أتوقف، ممراتها مفتوحة أمامي . خريطتها مرسومة في ذهني . بعـوسجها وقصبها وصبارها ، الآن من أنا ؟ قد أموت في هذه المدينة فلا يعرفني أحد ..؟
كـبُر العالم في عينيه لما كان مألوفاً لديه في قريته . اعترف أنه غير قادر على احتواء ما يقع في شوارع المدينة . لوحة متنوعة الأحياء ، مبعثرة الأحشاء .. تـيقن أنه يلهث عبثاً وراء عالم جديد ، من الصعب أن يمتلكه دفعة واحدة . ومع ذلك ، توهم أنه قادر على اختراق هذا الفضاء الجديد عن طريق حرق مراحل عديدة من الزمن ..اسودّ الفضاء في عينيه ، ضاق بالدنيا وأهلها . استولى عليه الخوف ، فتحاشى أن يفتح مجموعة من الأسئلة ، والوساوس تتلجلج في صدره.. لم يعد يذكر من أين جاء ؟ ولماذا جاء ؟ بحث عن اللهو فوجده في نفسه، فـشتان بين الأمس واليوم .. بكل سهولة تجاوز العلامات الحمراء...
في الواحدة ليلا ، أفرغت الحانات ما كان بداخلها من لحوم بشرية ، فتسابق الكل إلى العلب الليلية ، حُفَر الموت البطيء كما يسمونها . فقد سمع عن نوادي المدينة أنها تـبتـلع خلائق بشرية من كل الأصناف . فتيات جميلات تتنافسن على آخر صيحات الموضة ،عصارة أحمر الشفاه تحدث ضجيجاً في النفوس ، وأصباغ تأكل الخدود وتتجدد في كل لحظة ..
لم يتمالك نفسه ، تدحرج في درج ملتو والأضواء الحمراء تداعب الأجساد والجدران . نغم صاخب يلعلع في الفضاء ، ورقـص يؤشر على خرق فاضح للأخلاق . حاول أن ينصهر في الوضع الجديد رغم أنه لم يألفه . اشتد جنون الرقص الماجن ، تحركت الأجساد وهي تتلوى بين أضواء خافتة ، تماوجت مع إيقاع شعبي مبتذل .. نشوة نادرة تستفزه قلما أحس بها من قبل . أرقام بشرية خارجة عن الرقابة تعيش زمن جاهلية ثانية.. !
دون تفكير تواطأ مع الزمن على نشوة اللحظة ، استجابت نفسه فوراً للحاضر الماجن . سرى شيء في مسامه، احتار أيْنَ يركز نظره ، تاه بين منعرجات أجساد تتحايل على الحياة ، يدفعها الجوع إلى الغوص في الرذائــل بلا مجداف إنه عالم الخطيئة والـقذارة، ومع ذلك وجده ممتعاً..
ـــ أيعـــقل هذا ؟ عائشة تقتل ذاتها هنا ؟ صنعت لنفسها شخصية متميزة ، ترقص وترقص ، وتقول : ما رقصت !ولكنها لا تدري أنها كانت توقع على أيامها الخالية ، ولم تعد تخبئ شيئاً تتدفأ به في المستقبل..
ضحك . أسْرَف في الضحك ، أصابه فزع يابس ، وخوف مبطن بالشك ، من يدري ؟ قضم حبة لوز بأسنانه الأمامية ، زحزحها بلسانه تحت أضراسه ، عندما يتوقف عن المضغ يَشْدُو جهاراً مع نغم شرقي صاخب : " ياريٌـي..ياريٌـي"
مـــر زمان وهي تسرق النظر إليه ، ترقبه من بعيد ، تترصد حركاته ، تقرأ ملامح وجهه على مهل . تكونت لديها قناعة أنه جلول ابن بلدها ؛ فلم تصدق أبداً، قالت في نفسها :
ـــ ما أظن أن الزمن يصلح ما فات ، ولكن .. من يدري ؟ فالزمن يدور بأيامه ..
اقتربت منه ، ودت أن تهمس في أذنه كلمات ، تمنت لو مد يده ليصافحها ، لكن ...؟ تأمل شعرها ، دقق النظر في وجهها، بحث عن سمات معينة.. احتار أين يركز نظره ، تلهى بشاربه الأشعث ، ابتسم ، أطال في ابتسامته ، غمغم بنبرة تنم عن شفقة خالية من الحب والوفاء وقال :
ـــ من أنت ؟ لا أدري أين رأيتك ؟

خلود محمد جمعة
17-12-2014, 09:46 AM
خريطة الحياة التي نرسمها لا تشبه ما يرسمها القدر
وما بين الحلم والواقع
الماضي والحاضر
ما لم يحدث وما حدث
ما خبرقلبه وما صدقه عقله
حالة من التناقضات والتأمل
رسمها الكاتب بدقة وعمق بحيث كل حرف في مكانه بدلالة مدهشة
وبحبكة قوية وأحداث متوقعة ومع ذلك يفاجئنا بنقشها بأسلوبه المائز وحرفه المدهش
دائم التجدد والروعة
بوركت وكل التقدير

الفرحان بوعزة
18-12-2014, 10:59 AM
خريطة الحياة التي نرسمها لا تشبه ما يرسمها القدر
وما بين الحلم والواقع
الماضي والحاضر
ما لم يحدث وما حدث
ما خبرقلبه وما صدقه عقله
حالة من التناقضات والتأمل
رسمها الكاتب بدقة وعمق بحيث كل حرف في مكانه بدلالة مدهشة
وبحبكة قوية وأحداث متوقعة ومع ذلك يفاجئنا بنقشها بأسلوبه المائز وحرفه المدهش
دائم التجدد والروعة
بوركت وكل التقدير

شكراً لك أختي المبدعة المتألقة ،خلود على قراءتك القيمة للنص رغم طوله ،
شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ،كلمة أعتز بها
تقديري واحترامي / الفرحان بوعزة

كاملة بدارنه
18-12-2014, 04:18 PM
إنكار للشخصيّة يعكس ألما حادّا بعد رحلة شوق طويلة لها كانت نهايتها صاعقة!
سرد جاذب ومتابعة للحدث بحبكة قويّة، ومقدرة رائعة على التقاط صورة المشهد
بوركت أخي الأستاذ الفرحان
تقديري وتحيّتي

عبد السلام دغمش
18-12-2014, 07:15 PM
رحلة لملاقاة الحلم والامل ،أفضت الى الضياع.
كثيرا ما يخلع المهاجرون ثوب تقاليدهم فتتعرى نفوسهم امام رياح الغربة والحياة الجديدة.
نص جميل ..وتصوير للاجواء المحيطة ببطل القصة ينقل القارئ ليكون بالقرب من الحدث.
تقديري أستاذ الفرحان بو عزة.

حارس كامل
18-12-2014, 07:36 PM
كالعادة يرسم لنا المبدع الفرحان بوعزة لوحة فنية
سرد سلس وحبكة قوية وتصوير مشهدي رائع
تحيتي

الفرحان بوعزة
19-12-2014, 10:27 AM
إنكار للشخصيّة يعكس ألما حادّا بعد رحلة شوق طويلة لها كانت نهايتها صاعقة!
سرد جاذب ومتابعة للحدث بحبكة قويّة، ومقدرة رائعة على التقاط صورة المشهد
بوركت أخي الأستاذ الفرحان
تقديري وتحيّتي

فعلا ،أختي الكريمة ، كاملة ، بنى حلمه على الفراغ فسقط في التيه والضياع ..
شكراً على قراءتك القيمة ،اهتمام أعتد به ..
مودتي وتقديري .. الفرحان بوعزة

الفرحان بوعزة
19-12-2014, 10:31 AM
رحلة لملاقاة الحلم والامل ،أفضت الى الضياع.
كثيرا ما يخلع المهاجرون ثوب تقاليدهم فتتعرى نفوسهم امام رياح الغربة والحياة الجديدة.
نص جميل ..وتصوير للاجواء المحيطة ببطل القصة ينقل القارئ ليكون بالقرب من الحدث.
تقديري أستاذ الفرحان بو عزة.

خيبة ما بعدها خيبة بعدما تنكر هو كذلك لإنسانيته ..
قراءة قيمة أضفت على النص جمالية أدبية متميزة،
تقديري واحترامي أخي المبدع المتألق عبد السلام /الفرحان بوعزة

الفرحان بوعزة
19-12-2014, 10:38 AM
كالعادة يرسم لنا المبدع الفرحان بوعزة لوحة فنية
سرد سلس وحبكة قوية وتصوير مشهدي رائع
تحيتي

شكراً لك أخي المبدع المتألق حارس كامل على قراءتك القيمة للنص رغم كثرة سطوره ،
شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ،كلمة أعتز بها
تقديري واحترامي / الفرحان بوعزة .

آمال المصري
20-12-2014, 05:39 PM
غربة أفضت إلى نزع أردية المبادئ وبحث كلا منهما عن ما يظنه ضالته المنشودة في ظل حياة مختلفة عما اعتاده وترعرع عليه فكانت النتيجة ضياع
بلغة أنيقة عهدناها من أديبنا الفاضل وسرد ماتع وحبكة قوية انتقلت بنا لأجواء النص وكأنه بانوراما نشاهد من خلالها الشخوص ونعيش معهم الأحداث والزمان والمكان
بوركت واليراع
تقديري الكبير

الفرحان بوعزة
21-12-2014, 09:05 PM
غربة أفضت إلى نزع أردية المبادئ وبحث كلا منهما عن ما يظنه ضالته المنشودة في ظل حياة مختلفة عما اعتاده وترعرع عليه فكانت النتيجة ضياع
بلغة أنيقة عهدناها من أديبنا الفاضل وسرد ماتع وحبكة قوية انتقلت بنا لأجواء النص وكأنه بانوراما نشاهد من خلالها الشخوص ونعيش معهم الأحداث والزمان والمكان
بوركت واليراع
تقديري الكبير

شكراً لك أختي المبدعة المتألقة ، آمال على قراءتك القيمة للنص رغم طوله ،
شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ،كلمة أعتز بها
تقديري واحترامي / الفرحان بوعزة

ربيحة الرفاعي
25-12-2014, 01:43 AM
رحلة مع الحلم طالت لتحط سفائنها على شواطئ الضياع، في قصة التقط الكاتب مشاهدها ووضع صورها بمهارة وتقانة عالية فيرسم التفاصيل المكانية وتلك المشكلة لخطوط الشخصية بما جعل تصاعدية الحدث متوقعة للقارئ، لكن قوة الحبكة وبراعة السرد لم تسمحا له بالإفلات من سلطة الكاتب وقبضة النص

دمت بخير أديبنا

تحاياي

الفرحان بوعزة
25-12-2014, 04:49 PM
رحلة مع الحلم طالت لتحط سفائنها على شواطئ الضياع، في قصة التقط الكاتب مشاهدها ووضع صورها بمهارة وتقانة عالية فيرسم التفاصيل المكانية وتلك المشكلة لخطوط الشخصية بما جعل تصاعدية الحدث متوقعة للقارئ، لكن قوة الحبكة وبراعة السرد لم تسمحا له بالإفلات من سلطة الكاتب وقبضة النص
دمت بخير أديبنا
تحاياي

الأديبة المتألقة ..ربيحة ..شكراً لك أختي الكريمة ،على قراءتك القيمة للنص رغم إغراقه في الطول على ما أعتقد ..
شكراً على اهتمامك النبيل وكلمتك الطيبة ،كلمة أعتز بها
تقديري واحترامي / الفرحان بوعزة

ناديه محمد الجابي
01-12-2019, 05:14 PM
رحل يبحث عن حلم عمره الذي فقده فكان اللقاء..
بغصة في الصدر، وبكاء ألم في القلب وضياع
قصة تعتمد على تصوير دقيق للغربة وفقدان الهوية والخيبة، والضياع
نسج محكم، وحبكة فنية، وبراعة في السرد، وخبرة مميزة في اختيار المفردة.
أبدعت في نص راق لي لغة ومضمونا
تحياتي وودي.
:009::005::007::cup:

د. سمير العمري
30-11-2020, 06:44 AM
عمق وذكاء في تناول الجانب الإنساني والوجدني بما يكشف بعضا من بشرية الطباع في النفوس ويشخص هذه الحالة تشبيها وتنويها.
دمت مبدعا كعادتك!

تقديري

أسيل أحمد
19-02-2021, 10:29 AM
قصة الريفي الذي يتوه في ملامح المدينة فيكاد يضيع فيها
وهو يبحث عن ماأحبه القلب ـ وعندما يجدها لا يجد فيها إلا صورة مشوهة لا تشبه الإنسانة التي أحب.
لغة أنيقةفي قصة عميقة الطرح ، رائعة الحرف والتصوير.
دام إبداعك.