تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : هل يجدي الندم



نزار ب. الزين
23-04-2005, 06:13 PM
هل يجدي الندم ؟
قصة قصيرة بقلم : نزار ب. الزين*
-------------------------------
إعتاد سامي بك منذ قدومه إلى مصيف (جل الغزال) أن يتوجه عصر كل يوم إلى مقهى ( الغابة المسحورة ) مشيا على الأقدام ، يتبعه عن بعد سائقه بسيارته الأمريكية الفارهة ، يمكث هناك ساعة أو بضع ساعة ، يتناول خلالها كوبا أو كوبين من عصير ( جلاب ) ، ثم يقفل عائدا بسيارته إلى الدارة التي استأجرها لقضاء الصيف .
لفت سامي بك أنظار أصحاب المقهى أولا، ثم أهل الضيعة جميعا ، بكثرة أسئلته ، فما أن يقترب منه طفل أو طفلة أو شاب أو شابة ، حتى يناديه أو يناديها ثم يبادر إلى السؤال : << من فضلك ...ما هو اسمك ، و ما اسم والديك ، و ما اسم عائلتهما ، و ما اسم جدتك و اسم جدك ؟؟ >> و لكن أحدا لم يجرؤ على استفساره عن هدفه من وراء طرح كل هذه الأسئلة !
ربما هي هواية التعرف على الأسماء ، قال البعض ،
ربما هو فضول عجوز يريد التسلية ؛ قال آخرون ،
أما القلة من خمنوا، أنه ربما يبحث عن شخص ما ؛
و لكن لِمَ لا يسأل مباشرة ؟ و لِمَ هذا الغموض ؟؟!
و في الدارة ، كان ينهض مبكرا ، فيجلس على الشرفة المطلة على وادي الصنوبر ، يرصد الغيمات الصغيرات القادمات من البحر و هن يتراقصن مع نسمات الصباح العليلة على أنغام تغاريد العصافير و الترغل و العندليب ؛ و لا يلبث سائقه الذي هو في الوقت ذاته خادمه و طباخه و سكرتيره ، أن يقدم له القهوة بالحليب .

سرح بعيدا في الماضي البعيد ، أيام الصبا ، يوم أحبها و أحبته ، يوم شعرا أنهما ملكا الدنيا بكل جمالاتها ، يوم تصورا أنهما ارتبطا بوثاق الهوى ، كعروة وثقى لن تفصمها قوة مهما بلغت .. و لكن وا أسفاه فصمتها الهزة الأولى !.. فقد اعترض والداه على زواجه منها و هدداه بحرمانه من الميراث .. و يا أسفاه فقد رضخ لهما .. هكذا بكل ضعف و خساسة

<< هل قرع بابنا أحد يا حازم ؟ >>
سؤال يتكرر كل بضع دقائق ، اعتاد عليه حازم و اعتاد أن يجيبه : << أي طارق سأجلبه إليك – سيدي - في الحال >>
فقد اعتاد أهل جل الغزال ، أن يرسلوا أبناءهم أو بناتهم ، إلى بيوت المصطافين ، لبيع ما ينتجونه من ألبان و فواكه و خضار طازجة أو من خبز الصاج و مناقيش الزعتر .
فما أن يتقدم أحدهم أو إحداهن منه حتى يبادره أو يبادرها بالسؤال : << من فضلك ... ما هو اسمك ، و ما اسم والديك ، و ما اسم عائلتهما ، و ما اسم جدتك لأمك و جدتك لأبيك و ما اسم جدك لأمك و جدك لأبيك ؟؟! >>
و رويدا رويدا أصبح سامي بك حديث أهل الضيعة في مجالسهم الخاصة و العامة ، و تحولت آذانهم إلى أطباق لاقطة تجمع كل ما يقال عن مصطافهم الغني ، الفضولي ، و الغامض ..
ترى لِمَ هو وحيد ؟ أين عائلته ؟ من أين هو ؟
و الأهم من ذلك كله لِمَ يطرح كل هذه الأسئلة ؟
*****
و ذات يوم لفتت نظره فتاة في العاشرة ،
أحضرها إليه حازم بعد أن اشترى منها حاجته من اللبن الحليب الطازج ..
تأملها سامي بك مليا قبل أن يسألها :
- ما اسمك يا صبية ؟
فأجابته كتلميذه تلقي درسها :
= أنا فؤادة بنت رعد رحمةَ الله ، يا بك ، و أمي اسمها سليمة .. يا بك
<< فؤادة ؟!
و لكن لم الاستغراب ؟
تلك هي عادة هذه العائلة !!!
يسمون سليم و سليمة ، بديع و بديعة ، فؤاد و فؤادة ، نبيل و نبيلة ، أظن أنني اقتربت ؟!! >> همست ذاته إلى ذاته و هو يتأمل الفتاة من جديد ، ثم أضاف يحدث نفسه : << الشبه عجيب ، نسخة طبق الأصل >>
ثم همس للفتاة قائلا :
- و جدَّتك اسمها سعاد و شقيق جدتك اسمه سعيد و أبو جدتك اسمه أمين و أم جدتك اسمها نجوى ، أليس كذلك ؟
تجيبه و قد عقدت الدهشة لسانها :
= كيف عرفت اسم جدتي و أهلها يا بك ؟ هل تعرفهم ؟ هل تعرفنا ؟
يبتسم سامي بك ، و يتابع سؤالها دون أن يتمكن من إخفاء فرحته :
- و ماهي أحوال جدتك سعاد ، يا صبية ؟
= جدتي مقعدة ، أما جدي فمات السنة الماضية و خالي سعيد أخو جدتي مات قبله بسنتين .
ثم تضيف فؤادة متلهفة :
= أنت تعرفنا يا بك ، إذاً تفضل لزيارتنا ،
يا بك ! بيتنا لا يبعد كثيرا يا بك !
إنه قرب النبع ، رمية حجر يا بك !
يبتسم لها ثانية ثم يجيبها بود و حنان :
- دعي والدتك تحضر لي اللبن الحليب غدا يا فؤادة !
*****
تدخل فؤادة تتبعها والدتها بخطوات مترددة خجلة ، يقبل الصغيرة و يستقبل أمها بترحاب كبير ، يتأملها مليا << صورة طبق الأصل عن أمها هي الأخرى >>
= لم أتشرف بمعرفتك يا بك ...
تسأله مرتبكة ، ثم تضيف :
= كيف أنك تعرف أهلي يا بك ؟
والدتي متلهفة بدورها لتعرف من جنابك يا بك !..
يبتسم سامي بك ، ثم يجيبها بهدوء و ود و حب :
- لوالدتك أمانة في عنقي يا سليمة ...
طلبتك من أجل سداد ذلك الدَين ..
دَين عمره خمسون سنة ..
و قولي لها :
<<سامحي من أساء إليك ، فقد أنهكه عذاب الضمير>>
ثم ناولها حقيبة مكتبية و هو يوصيها راجيا :
- لا تُفتح هذه الحقيبة إلا بيد سعاد بنت أمين البيَّاع ..رجاءً !
*****
تناولت العجوز الحقيبة ..
فتحتها ..
نظرت إلى محتوياتها مليا ...
تجمدت عيناها
تجمدت كذلك عيون أفراد العائلة الذين أنهكهم الفقر
و عيون الجيران الذين شاع بينهم الخبر فتكأكؤوا داخل المنزل و خارجه ..
فغرت أفواههم ..
"جاء الفرج ، ضمَنَّا جامعة الصبي .."
قالت سليمة ذلك ، و قد جحظت عيناها و كادتا تخرجان من مآقيهما ..
فقد كانت الحقيبة ملآى بالنقود ...
دولارات ، كلها من فئة العشرين ...
ثروة هبطت من السماء ..
و لكن ....
و لكن العجوز أغلقتها بعناية ...
صمتت طويلا ...
سرحت طويلا ...
غالبت دموعها طويلا...
ثم قالت لابنتها بشفتين مرتعشتين ، أمام ذهول الجميع :
- أعيديها إليه و قولي له :
<< العمر لا يباع بأموال قارون >>
ثم أضافت في سرها :
<< لا سامحك الله يا سامي ، لا في الدنيا و لا في الآخرة >>
*****
عندما عادت سليمة بالحقيبة لتسلمها للبيك ،
اكتشفت أن البيك قد غادر الدارة ..
و كذلك غادر ضيعة جل الغزال !
________________________
* نزار بهاء الدين الزين
مغترب في الولايات المتحدة الأمريكية من أصل سوري
الموقع : www.FreeArabi.com
البريد : nizarzain@adelphia.net

إسلام شمس الدين
23-04-2005, 09:57 PM
أستاذي العزيز نزار

أشهد لك بأنك أبرع من امتلك أدوات القص ؛ فأجاد استخدمها بحرفة ومهارة لا تخلو من إبداع وجمال
ولن أزيد

دمت كما عرفناك ؛ أديباً أريباً بارعاً
لك مودتي وتقديري
إسلام شمس الدين

نزار ب. الزين
24-04-2005, 07:53 PM
شكرا لتعقيبك الرائع أخي إسلام
و دمت متألقا
نزار ب. الزين

سلطان زمن
25-04-2005, 10:02 AM
أخي الحبيب والأديب نزار الزين

قصصك أخي لها طابع خاص ، جو خاص ، متعة خاصة ، ومميزة بشكل خاص .

ولك من الإعجاب أيضا إعجابا خاصا .

تقبل تقديري لشخصك الكريم .

تحياتي لك .

نزار ب. الزين
26-04-2005, 03:52 PM
أخي الكريم الدكتور سلطان
و تعليقاتك لها نكهة خاصة أيضا
مع كل التقدير و المودة
نزار ب. الزين

د.جمال مرسي
26-04-2005, 06:23 PM
أخي نزار
شهادتي فيك مجروحة
فالقصة بالفعل صيغت بأسلوب ادبي راقي و بديع
و كما تفضل اخي إسلام فغنك تمتلك أدواتك بقوة
بارك الله بك
استمتعت هنا
تقبل ودي
د. جمال

نزار ب. الزين
27-04-2005, 03:02 PM
شكرا أخي الدكتور جمال
شكرا لمرورك الكريم و لإطرائك ، آمل أن أستمر عند حسن ظنك و ظن القراء
مع المودة و التقدير
نزار ب. الزين

ياسمين عبدالله
07-05-2005, 09:20 PM
علِقت هذه القصة في ذهني مذ قرأتها، فالاسلوب مشوق ، والأحداث تتصاعد بلغة واضحة وسهلة .


اخي الكريم نزار...أتمنى أن تحتملني :

تبدأ القصة بقدوم سامي وبرحليه ، ربما كما دخل حياة الجدة و رحل عنها ولكنه خلف وراءه حقيبة مليئة بالنقود.
سامي كان يعرف اسم الجدة وعنوانها و أقاربها ....فلم لم يبادر بارسال النقود إليها ؟ لمَ تكبد كل هذا العناء ؟
كذلك الجدة تقول ( ان العمر لا يباع ) طيب ،،، هي لم تكن تنتظره ...فقد تزوجت وأنجبت و لها أحفاد ؟
وكلمات الجدة ( العمر لا يباع ) لم تؤد الهدف أو الغرض الذي يريد الكاتب ...( العمر لا يعوض ) ربما كانت أصح.


شكرا لسعة بالك.....ويبقى الاسلوب مميز و القصة تجذب القارىء.


تحياتي و احترامي

نزار ب. الزين
03-06-2005, 01:54 AM
أختي الكريمة ياسمين عبد الله
أشكرك لإطرائك و لنقدك البناء ،
حول الشطر الأول من ملاحظتك ففي خمسين سنة مثلا ، تتبدل المدن و القرى شكلا و مضمونا ،و يصبح من العسير التعرف على منازل أو أشخاص تواجدوا في ذلك الزمن ، أما بالنسبة للشطر الثاني فأعترف أن عبارتك أفضل و سآخذ بها
أكرر شكري و امتناني

جوتيار تمر
05-09-2006, 01:01 AM
الاستاذ الكبير نزار..
في كل مرة اقرأ لك قصة..ادرك اضيف الى مداركي قيمة انسانية اخرى من التي اتعلمها منك..
القيمة الانسانية التي باتت ضربا من الخيال في واقعنا المادي الجاف الذي لم للمشاعر والاحاسيس وجود ومكان فيه.
البيك..توأم للذين استغلوا الاهل والاصدقاء والاقرباء والفقراء وحتى الوطن من اجل الوصول الى مآربهم الشخصية التي لاتتعدى امتلاك الارواح باموالهم ظنا منهم انهم بذلك يبلغون السعادة وراحة البال والضمير.. ولاانكر ان البعض ممن دفن المشاعر والضمير..تحت انقاض الحياة يمكنه ان على الاقل ان يتظاهر بذلك.. لكن قلما نجد من لايعيد في الخفاء حساباته ويتالم وبذلك تكون سعادته محض افتراء وخداع لذاته قبل غيره.
والبيك..وامثاله..اصبحوا الان اكثر من اي وقت مضى..والاسباب معلومة.. فكل الظروف اصبحت مواتية لهم ليجنوا الاموال سواء من الفقراء او الوطن وقبلها الاهل..ولطالما سمعنا بمن اخذ اموال ابيه او زوجته او..او... وسافر بها ..ولطالما سمعنا بان الجماعة الفلانية باعت ارضها وطنها لمن يدفع اكثر.. وهذا ليس امرا شرقيا خاصا..با امه امر بشري عام..وقد يعلم الكثيرون بان الاسكا مثلا كانت روسية لكنهم باعوها للامريكان..اذا..بيع الارض ليس بالجديد.
المهم..هو ان الوصول الى الطموح والهدف على رقاب الاخرين اي كانوا يعد امرا لاانسانيا..اجراميا.. ولايمكن التسامح فيه..حتى لمن يكون التسامح عقيدته..لان المتسامحون انذاك يكون جزأ من العملية تلك عملية تحقيق اهداف هولاء على حساب الفقراء والذين تم استغلالهم.
البيك..وامثاله..بغض النظر عن عودة بعضهم..وتذكر الذين اشتغلوهم..هولاء دائما يكون حجر عثرة في تنامي القيم الانسانية داخل الاجتماع لانهم يخلقون غصبا مشاعر الحقد والكراهية في نفوس الاخرين.. لذا اظنني وقفت امام موقف العجوز..وهي تشرع بمقولتها(العمر لا يباع بأموال قارون)..شريعة جديدة يمكننا ان نستخدمها حتى في واقعنا السياسي..ونقول لمن يسرقوننا ويقتلوننا وينهبوننا علنا جهرا امام انظاارنا لاتنسوا بان عمرنا لايباع لذا ياتي يوم وننتقم..وهذا ما فعلته العجوز بدعائها.
تقديري واحترامي
جوتيار

نزار ب. الزين
05-09-2006, 04:31 AM
أخي الحبيب جوتيار
كعادتك تغوص و تجول في الأعماق و تستخلص المرامي و العبر ، بشكل مستفيض يتجاوز العمل المعروض .
حضورك يضفي على نصوصي بعدا حافزا فشكرا لك .
مودتي و إعجابي
نزار ب. الزين