المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : لن تموت



علي الحسن
19-03-2015, 01:03 PM
الهدوء يخيم للحظاتٍ على أرجاء المكان. أُناس تطل برؤوسها من نوافذ البيوت. على قارعة الطريق يقف بعضهم يتفرج والبعض الآخر يلقي نظرة من بعيد ثم ينسحب، رائحة المطاط لا زالت تنبعث من الطريق المعبّد بالأسفلت. ينساب جمع كأنما انبثق من العدم ويلتئم كالزئبق ليشكل حلقة حوله وهو ملقي على الأرض، كان جسمه الممدد يكسوه بعض الغبار.

- فيكتور، فيكتور، فيكتور.

صرخات تأتي من الخلف منبعثة من سيدة ذات شعرٍ أشقر ملمومٍ للخلف، تلبس حذاءً أسود يغطي ساقيها.. أفلتت السيدة الشقراء بالطفلة التي بين ذراعيها حتى استقبلت هذه الطفلة الأرض بوسطها، وشقت هي طريقاً بين الجمع.

على بعد خمسة أمتار تقف سيدتان تتهامسان تقول إحداهما للأخرى: إنها جارتنا الجديدة السيدة ( جوليا ) زوجة رجل الأعمال الثري ( مصطفى كريم ).

- من الذي فعل هذا ؟ تكرر ( جوليا ) هذه العبارة عدة مرات وهي جاثية على ركبتيها.

- هناك.. يشير أحد الأطفال المتواجدين بذلك الاتجاه، وهو يمتطي درّاجة هوائية.

على بعد أمتارٍ يقف شاب برز شعره الطويل من تحت قبعته، كان واقفاً كتمثال من الجليد وباب سيارته مفتوحٌ والأغاني والموسيقى الصاخبة تنبعث منه. الأنظار كلها تتجه ناحية الشاب، وفي هذه الأثناء تتسلل الشمس من خلف الغمام لتكشف أكثر عن ملامحه وكأنما تتعمد هذه الشمس تسليط الأضواء عليه أكثر.

تندفع السيدة الشقراء ناحية الشاب وطفلتها الباكية تتبعها وهي متشبثة بها، فتتعثر هذه الصغيرة برجليها وتقع.

- ماذا فعلت أيها الغبي ؟ تقولها وهي تهز بقبضتيها كتفيّ الشاب فيهتز جسمه النحيل كاهتزاز عود الخيزران.

يحمر وجه الشاب وتخرج الكلمات متلعثمة من لسانه.

- ااااا لقد خخخخخرج عليّ فففجأاااة ففصدمته السيارة.

- صدمته السيارة ؟

- إنه حي، لم يمت بعد، انظروا إنه يتنفس. نطق رجلٌ وهو منحني الظهر وعيناه تجريان فوق ( فيكتور ).

تندفع ( جوليا ) من جديد نحو ( فيكتور ) بخفة لبؤة رشيقة والطفلة في أعقابها باكية.. تضطجع على الأرض، تمسد رأس ( فيكتور ) وهي تنظر إليه من خلف ضباب الدموع، تتساقط من محاجرها قطرات فوق رأسه، يحرك فمه وكأنما يريد أن ينطق ببعض الكلمات.

يُسقط رجلٌ آخر بصره في ساعة يده ثم يرفع رأسه ويقول:

- يوجد مستوصف حكومي غير بعيد يختص بهذه الحالات، وأعتقد أنه بقي على موعد إغلاقه مدة ساعة، هيا لننقله إلى هناك قبل فوات الأوان.

لحظاتٌ وتستقر سيارة أحد الحاضرين بمحاذاة ( فيكتور ) يبادر فيها صاحبها بطلب المساعدة ونقل المصاب.

في السيارة تجلس السيدة ( جوليا ) في المقعد الخلفي، تضع ( فيكتور ) بين جنبيها، وعلى رصيف الذاكرة يمر طيفه في مخيلتها فتستذكر تحركاته، ملاطفاته، إزعاجه، تمدده معها فوق السرير، إلقاء جسمه عليها عند رؤيتها، مرافقته الدائمة لها.

- أسرع من فضلك.

تحث السائق على السرعة فيستجيب هذا الأخير لندائها غير مكترث من قطع اللون الأحمر لإشارة المرور الضوئية.. تعود ( جوليا ) من جديد لتسبح في بحر أفكارها وتقول في سرها:
تحمّل يا عزيزي، اصمد قليلاً، لن تموت وتدفن في مقبرة النسيان، ستتجاوز هذه المحنة وتعود إلى البيت معافاً سالماً، سوف ترافقني في رحلاتي وتجوالي، سنمارس الرياضة معاً، سأطعمك أشهى الأكلات. هل تتذكر يا عزيزي آخر مرة سافرنا فيها معاً ؟ لقد قطعنا الوديان وتجولنا في البساتين والحقول الخضراء، واستمتعنا بجمال الطبيعة الخلابة، ومارسنا رياضة تسلق الجبال. ستسافر معي في المرة القادمة لزيارة أمي ( ريماس ) وجدتي ( سيلين ) فهما يستأنسان برؤيتك.

في المستوصف تجلس ( جوليا ) على مقعدٍ جلدي في صالةٍ يفضي بداية ممرها إلى غرفتين متقابلتين كان ( فيكتور ) يتم إسعافه في إحداهما، تتناول إحدى المجلات وما تكاد تقلب صفحاتها حتى تعيدها مرة أخرى على الطاولة، تنظر إلى ساعة الجدار، تذرع الغرفة جيئة وذهاباً، تستقر أخيراً خلف زجاج النافذة وتنظر للخارج، فقد بدأت الغيوم تتداخل ببعضها البعض ويبدو أنها ستمطر.

بعد مدة من الوقت ظهر الطبيب ومساعده في صدر الصالة.

استدارت ( جوليا ) وخطت للأمام لتواجه الطبيب بعد أن كانت تنظر من خلف أعواد الحديد لطائر الكاسيكو الذي كان يردد بعض الكلمات ويقلد صوت خطواتها..

- كيف حال ( فيكتور ) ؟

تقدم الطبيب ووقف على بعد خطوتين من ( جوليا )، تنحنح ثم صرف ما علق في بلعومه، ثم قال:

أعتقد أنه تعرض لنزيفٍ داخلي في الجمجمة، وبعض رضوضٍ وكسورٍ في الأضلاع هذا ما بدى لي من تشخيصي المبدئي.. أعرف أنه غالي الثمن وذو فصيلة نادرة، آسف يا سيدتي، لقد بذلنا ما في وسعنا ولم تسعفنا المحاولات، لقد مات، لقد فارق الكلب الحياة قبل قليل..

عبد السلام دغمش
21-03-2015, 08:38 PM
أخي الأستاذ علي الحسن ..
نص جميل وأحداث متلاحقة انتهت بمفاجأة ..
جوليا زوجة رجل الاعمال : لا بد وان تجلب معها تقاليدها .. و ما بتنا نراه بين ظهرانينا شاهدٌ على ذلك .
استمتعت بالمرور هنا .
تحياتي .

خلود محمد جمعة
22-03-2015, 10:43 AM
أدخلتنا جو النص ومتابعة الحدث لتأتي النهاية التي تضعنا أمام حقيقة قيمة الانسان عندنا وقيمة الحيوان عندهم
الفكرة عميقة والطرح طيب برسالة نبيلة وسرد شائق
بوركت

علي الحسن
27-03-2015, 08:03 AM
أخي الأستاذ علي الحسن ..
نص جميل وأحداث متلاحقة انتهت بمفاجأة ..
جوليا زوجة رجل الاعمال : لا بد وان تجلب معها تقاليدها .. و ما بتنا نراه بين ظهرانينا شاهدٌ على ذلك .
استمتعت بالمرور هنا .
تحياتي .


القدير عبد السلام دغمش

الجميل هو تواجدكم وتفاعلكم الدائم هنا وهناك..

تحاياي

آمال المصري
31-03-2015, 01:39 AM
كانت النهاية مفاجأة دفعتني لإعادة قراءة النص مرة أخرى
أحداث متلاحقة بلغة سلسة ماتعة وحبكة قوية وخاتمة قوية نجحت من خلالها في إيصال الفكرة تجعلنا نعترف أن للحيوان عندهم كيان نتمنى أن يطالنا بعضه عندنا
ربما فقدنا الشعور بالآدمية ....
استمتعت بالقراءة لك أديبنا الفاضل فشكرا لك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي

علي الحسن
03-04-2015, 09:43 AM
أدخلتنا جو النص ومتابعة الحدث لتأتي النهاية التي تضعنا أمام حقيقة قيمة الانسان عندنا وقيمة الحيوان عندهم
الفكرة عميقة والطرح طيب برسالة نبيلة وسرد شائق
بوركت


أستاذتنا الفاضلة خلود محمد جمعة

أشكركم لطيب تواصلكم، وجميل مداخلاتكم وما يحويها من مدح وإطراء..

دمتم بألف خير

ربيحة الرفاعي
06-05-2015, 04:37 PM
تصوير روائي متقن، وضع القارئ في بيئة قصّية تستدعي تأملا للتفاصيل
مترعة بالأحداث الجديرة بالمتابعة ليست قصّة الكلب آخرها، وخاتمة مباغتة تعود بالقارئ للسطور الأولى بحثا عما قد يكون فاته من مؤشرات ..ولعل لي وقفة عند العنوان والذي لم أجد فيه محاكاة للنص فيما عدا الموت، الذي هو أقل ما حمل النص أهمية ...

لفت انتباهي وقوف الشاب الذي صدمه بسيارته خائفا بفعلته، ففي منطقتنا يمضى من يدوس الكلب والقطة عابرا فوقها كأن لم يقترف فعلة !

حرف سأتابعة باهتمام
تحاياي

علي الحسن
07-05-2015, 07:36 PM
كانت النهاية مفاجأة دفعتني لإعادة قراءة النص مرة أخرى
أحداث متلاحقة بلغة سلسة ماتعة وحبكة قوية وخاتمة قوية نجحت من خلالها في إيصال الفكرة تجعلنا نعترف أن للحيوان عندهم كيان نتمنى أن يطالنا بعضه عندنا
ربما فقدنا الشعور بالآدمية ....
استمتعت بالقراءة لك أديبنا الفاضل فشكرا لك
ومرحبا بك في واحتك
تحاياي


الأستاذة آمال المصري

حمداً لله أن نال هذا النص المتواضع على استحسانكم..

شكراً لتواجدكم ومداخلاتكم الرائعة

علي الحسن
07-05-2015, 07:40 PM
تصوير روائي متقن، وضع القارئ في بيئة قصّية تستدعي تأملا للتفاصيل
يعرف أن مترعة بالأحداث الجديرة بالمتابعة ليست قصّة الكلب آخرها، وخاتمة مباغتة تعود بالقارئ للسطور الأولى بحثا عما قد يكون فاته من مؤشرات ..ولعل لي وقفة عند العنوان والذي لم أجد فيه محاكاة للنص فيما عدا الموت، الذي هو أقل ما حمل النص أهمية ...

لفت انتباهي وقوف الشاب الذي صدمه بسيارته خائفا بفعلته، ففي منطقتنا يمضى من يدوس الكلب والقطة عابرا فوقها كأن لم يقترف فعلة !

حرف سأتابعة باهتمام
تحاياي


القديرة والأستاذة ربيعة الرفاعي

شرف لي أن تكوني هنا، وممتن لحضوركم الرصين، وتعقيبكم الباذخ..

كوني بخير أستاذتي

كاملة بدارنه
09-05-2015, 03:39 PM
ما أغرب ما يهتمون به!
سرد جميل وجاذب أمسك بأنفاس القارئ حتّى القفلة المفاجئة والمغايرة للتّوقّعات!
بوركت
تقديري وتحيّتي

( همسة: مُلقًى ، تنتعل حذاءً، كتفَي ( بلا شدّة على الياء) ، معافًى، بَدا )

علي الحسن
09-05-2015, 05:22 PM
ما أغرب ما يهتمون به!
سرد جميل وجاذب أمسك بأنفاس القارئ حتّى القفلة المفاجئة والمغايرة للتّوقّعات!
بوركت
تقديري وتحيّتي

( همسة: مُلقًى ، تنتعل حذاءً، كتفَي ( بلا شدّة على الياء) ، معافًى، بَدا )



كما قال تشيكوف يوماً، أن تكتب قصة ناجحة هو أن تحبس أنفاس قارئك حتى آخر كلمة.. إذا هو مؤشر جيد على أن هذا النص المتواضع فيه شيئ بسيط مما قال..

همساتكم صحيحة سيدتي الكريمة، وتدل على قوة ملاحظة وإدراك، وما أحوجنا لمثل هذه المداخلات الشفافة التي تضع المرء في الدرب الصحيح نحو التعلم والرقي..

شكراً لكم

وليد مجاهد
01-06-2015, 12:13 AM
موضوع مهم في قصة جميلة وسرد مشوق
والخاتمة المفاجئة رائعة جدا
تقديري

نداء غريب صبري
13-08-2015, 01:44 AM
يتظاهرون بالأنسانية وأنهم يهتمون لموت حيوان، لكنهم يخططون لقتل أمتنا كاملة بدم بارد
قصتك جميلة وأسلوبك مشوق ولغتك قوية برغم وجود بعض الأخطاء القليلة

شكرا لك أخي
بوركت

رويدة القحطاني
14-09-2015, 08:11 PM
نجاح للقص أن يشدّ القارئ ويستحوذ على انتباهه
ونجاح أن يأخذ القارئ بعيدا عن الخاتمة التي تنقله لفكرة مختلفة كليّا عما كان يضعه في مخيلته
قصة ناجحة تماما

ناديه محمد الجابي
09-01-2017, 08:34 PM
قصة رائعة وأكثر ـ أخذتنا بوصف لمشهد مثير ، وبلغة فنية ممتعة
وحبكة تجذب القارئ للمتابعة لنتسائل.. زوجة الثري( مصطفى كريم)
فما هذه الجرأة في إظهار مشاعرها لفيكتور والخوف عليه..
لنصل إلى النهاية المفاجئة والمباغتة..
بديع كان النص قصا وحسا وفكرا..
تحية لك بحجم الإبداع.
:001::001:

عباس العكري
13-01-2017, 07:15 PM
https://4.bp.blogspot.com/-MFN2_c7Smdg/WHkY3ww8niI/AAAAAAAAFWw/MghZTq32FbsRshz3oZGvdSVrMgErkB3OgCLcB/s1600/%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25AD%25D8%25A9 1.PNG
https://4.bp.blogspot.com/-VeekQ5HSS50/WHkY37ZUHrI/AAAAAAAAFW0/15Ih31nZ8C4fw6GhV-11fpzPtmc9WlXeQCLcB/s1600/%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25AD%25D8%25A9 2.PNG
https://4.bp.blogspot.com/-Rc03KhXdNFU/WHkY3yqC9vI/AAAAAAAAFW4/IRg7LrNzsJgw_1hYefASRMMlnBwuK-1lACLcB/s1600/%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25AD%25D8%25A9 3.PNG
https://2.bp.blogspot.com/-jJuTzlf4ofQ/WHkY4aMx_NI/AAAAAAAAFW8/Cks5EXRdsbseAunWhO5-EUEuCLsSugQcQCLcB/s1600/%25D8%25B4%25D8%25B1%25D9%258A%25D8%25AD%25D8%25A9 4.PNG