تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : كلّما اخترتُكٓ...أفقِدُكٓ



خديجة منصور
30-06-2015, 09:24 PM
كلما اخترتكٓ.... أفقدكٓ


قانعة هي بما يأتيها من فضاء صغير على سعته، جزء من السماء تجود به الطاقة في أعلى جدار أكلته الرطوبة و عشعشت في تضاعيفه مخلوقات صغيرة، لا تعرف من الدنيا إلا ما يتسلل إليها من أحاديثِ السّجّان مع سجينات أخريات، لا يصلها منها إلا نبرات أصواتٍ، تتناهى إليها من وراء الباب الحديدي فتأتيها مترعة بأخلاط من روائح الرطوبة و نسائمٍ نسجها خيالها بألوان اللوحات المتعاقبة أمامها عبر الطاقة، فهذه نبرة بلون حمرة الأصيل و الأخرى براقة كسبائك أشعة الشمس و أحيانا تصلها نبرة فضية برقة هلال بداية الشهر، أما التي تملأها جزعا فنبرة ليلة عاصفة تجعلها ترتكن إلى أشدّ الزوايا قتامة.
كانت تنظر الى جزء من السماء ينذر بليلة سيختفي فيها القمر وراء غيوم كثيفة، فسمعت رنين المفاتيح الحديدية و فتح باب زنزانتها، استغربت، تعودت ان يرموا لها الطعام من فجوة في أسفل الباب، دخل سجّان لم تره قبلا، لم يكن ينظر إليها، تفحصته بنظرة عميقة بددت للحظة قتامة المكان و حركت باطنها بقوة مذهلة، خرج كما دخل في سكون، و أعقب اختفاؤه صمت رهيب، لأول مرة تسمع صمت المكان، لم تستطع يومها ان تقرب طعامها، و لا في اليوم التالي و لا الذي يليه، كان السّجّان يدخل صامتا و يخرج و كأنه لا يبالي أو لا يستوعب انها لم تلمس طعامها البتة، حركته مدروسة كأنه إنسان آلي.
تسربت وشوشة عبر الدهاليز بوجود حالة عصيان، و أنذر الأمر بوجوب التدخل السريع،
دخل ذات الصباح بحركاته المعتادة، وقف على كثب منها، و حين أطال الوقوف لم تجد بداً من ان تطالعه بوجه شاحب، غائر العينين، وهي تهم بتحويل نظرها عنه، استوقفها بريق تألقت له عيناه و أضفى على تقاسيم وجهه الحادة جمالا اختصت به الانسانية في ذروتها.
ترددت لبرهة ثم ابتسمت له ابتسامة شاحبة، بادلها النظر و هو يغوص في أعماق روحها، و بقلبٍ كلًّه هيام خُيِّلٓ إليها أنها لمحت شبه ابتسامة، وقبل أن يدركها اليقين، كان خياله العملاق يتوارى خلف الباب الحديدي.
لم تترك بعد تلك اللحظات و لو فتافيت في صحنها، كان يجلس بمحاذاتها الى أن تُكمل طعامها، و كانت تأمل أن تستزيد لكي لا يبرح مكانه، أضحت بسمته تنير كل الأركان المعتمة و كلماته تترك صداها نغما يشدو مع كلّ إطلالة بهيّة له، اخترق مراتٍ القوانين و هو يفُكُّ السلسلة من قدمها لترتع مبتهجة في فضائها الضيق و تشرئب بطولها لترى من الطاقة ما خفي عنها سنيناً عدة، اتّسع بسعادتها المكانُ، و تخطّت جدرانه مدى بصرها، و امتلأ جوُّه بنسائم دافئةٍ و رياحين و أزهار جذبت أسراب طيور مغرّدة من كلّ حدب و صوب.....

دخل كعادته يكسو دنياها ندى، فتح الباب الحديدي على مصراعيه و اقترب منها في هدوء، انحنى الى قدمها و فكّ القيد، ابتهجت و زغردت الفرحة في حناياها و تلألأت النجوم في عينيها الواسعتين و بادرته بنبرة رقيقة مرتعشة:
- أتأخذني معك إلى عمق الوجود؟
ابتسم لها و نظر الى الباب المفتوح:
- اذهبي فأنت حرّة....
فجأة ضاقت بها الدنيا بما رحُبت في خيالها و تحركت الجدران الرطبة لتعصر فؤادٓها، و مدّت قدمها اليه في جزع:
- رجاءا أعد قيدي
- هذه فرصتك ماذا دهاك
قلّبت وجهها في المكان و قد استعاد ظُلمته، و لفح بشرتها هواء ساخن قادم من فوهة الباب:
- ضلّلتني؟
- حرّرتكِ !!
- لكنني أحببتك بصدق
- و أنا أشفقت عليك من الدّمار صادقا.

همّت بالكلام فصدّتها صراحة عينيه الجامدة المبتسمة، همّت بالصراخ فخذلتها حنجرتها الملتهبة، استدارت ثانية إليه فشجّعها بتقاسيم وجهه الحادة على المضيِ قُدُما و فُوّهة الباب تتسع لتبتلعها....تنهّدت و الغصّة تملأ جوفها و رسمت وجها بلا ملامح، و مضت في طريقٍ يٓشُقُّ الضباب ... .

خديجة
٢٠١٥

خلود محمد جمعة
01-07-2015, 09:25 AM
الاختيار في حالة توفر اكثر من فرصة
حالة الاجبار هي التي غيرت وجه الحقيقة
أراه حررها قبل فك قيدها
جميلة ومؤثرة
بوركت وكل التقدير

علاء سعد حسن
02-07-2015, 09:58 PM
رائعة دكتورة كعادتك

هل تركها السجان حقا تمضي؟

هل حقا فك قيد قدميها وأطلق سراحها؟؟؟

هل أدركت هي في تلك اللحظة التي تتعذب فيها بالتيه بعيدا عنه كم أحبها؟

هل أدركت أن السجان أحبها أكثر من نفسه ومن حياته ومن كل شيء سواها؟

دعيني سيدتي أخبرها أن السجان يعشق مهنته حد الهوس.. هو معجون بها.. السجان جزء من ذاته ومن شخصيته.. في اللحظة التي يتخلى فيها عن نفسه عن مهنته عن طبيعة عمره وحياته كلها ليطلق سراحها هي لحظة الانتصار للانسان فيه على السجان الذي عاش به ومعه وداخله وسجنه ألف عام

دعيني أذكرها - وهي السجينة داخل وخارج الزنزانة- أنه ربما يوما قال لها : لن يتركها تؤذي نفسها ثانية ووعدها بذلك..

ولعله مرة أخرى قال لها .. سأظل أسعى لتحريرك من القيد سأفعل ذلك أو أهلك دونك..

لعله عندما أطلق سراحها همس لها وهو يريها صورة طائر بديع يخرج من القفص الذهبي ليحلق نحو السماوات مكتوب تحتها : " أطلقتك لأني أحبك"

لعلها لو فتحت خزينة رسائلها القديمة تجد كل تلك الرسائل الأزلية التي تعيش في وجدانه..

لعلها لو فتحت دولاب ذاكرتها بشيء من رفق وتأني لوجدت رسائله إليها محفورة على جدرانه

لعله لو استطاع اللحاق بها يوما أن يُريها كل ما قاله أو كتبه لها مُخزّنا في رسائله كما هو مخزنا في روحه ومكتوبا على أعماق نفسه..

ولا أظن السجان إلا ينتوي اللحوق بها .. فلا تبتئس سجينتك ولا تندم على حريتها..

شكرا لإبداعك لقد أطلق العنان لتيار أفكاري الخاصة أن تنساب معه..

كاملة بدارنه
07-07-2015, 12:07 AM
دخلت أسيرة الجسد، وخرجت أسيرة الروّح!
مدخل رائع بوصفه للمكان الذي احتلّ حيّزا هامّا في السّرد، وسرد جاذب مميّز حتّى النّهاية الرّائعة
شكرا لجمال الحرف والفكرة
بوركت
تقديري وتحيّتي
( اختفاءه،رجاءً)

ربيحة الرفاعي
15-07-2015, 03:07 AM
دخول متقن في بيئة النص بوصف تفصيلي للمكان ومعطياته برزت في علاقتها به وجدانية عالية، بررت انسلال الشخصية الثانية فيه لعالمها وجعلتها مفهومة رغم غياب ملامحها الخارجية والداخلية.
التدرج الحدثي الهادئ والتنامي الشعوري المواكب كان عميق التأثير في تفاعل المتلقي واستلابه لمعايشة الحوار الداخلي والذي بدى الصراع الخارجي في موازاته هامشيا إلا من تأثيره فيه.
وكان للمزاوجة بين السرد القصّي والحوار في بنية النص دورها التشويقي المائز.

أعجبني إيجاز الأستاذة كاملة بدارنة للحكاية "دخلت أسيرة الجسد، وخرجت أسيرة الروّح! " ولعل استنباط العنوان من اختصار كهذا يتيح للساردة عنوانا لقصتها أوفق، حيث يحبذ في العنوان الاختصار والإشارة لما هو أعمق في النص.

دمت ورعة يراعتك غاليتي
تحاياي

عبد السلام دغمش
08-08-2015, 07:21 PM
قصة جميلة وسرد متمكن استحوذ على انتباه القارئ حتى النهاية..
الحرية ليست في عالم المكان ..وحين تنطلق الروح في عوالم الصدق والحب تعيش الحرية في آفاقها..
أظن السجينة كانت تعيش سجنا أو حصارا قبل قيدها جعلها تنحاز الى التقرب من سجانها.
بوركتم أديبتنا وسلم الإبداع.
تحياتي.

ناديه محمد الجابي
10-11-2015, 07:11 PM
يأخذنا سردك الرائع لنعيش مع تلك السجينة حيث تتضافر عبارات الوصف
مع التصوير البديع في أسلوب رغم إنه لم يبتعد عن البساطة إلا إنه كان عميقا
صورة وتأثيرا ـ فتنساب الأحداث بخفة إلى نفوسنا فنندمج فيها .. فنرى الحب
وقد بدأ يتسرب إلى أعماق روحها ، فيكسو الندى دنياها، وتتلألأ النجوم في عينيها.
ثم أحسسنا بالغصة عندما ملأت جوفها، وقد مضت في طريق يشق الغبار.

وجبة أدبية دسمة أستمتع بها دائما على مائدة صفحاتك
ثم كانت التعليقات أكثر من رائعة .. وأثني خاصة على أ. علاء سعد حسن
فقد جاء رده فكان أدب على أدب لتكمل متعتنا بما نقرأ.
سلمت يداك .. يحني الإبداع هامته أمامك. :001:

آمال المصري
14-11-2015, 02:39 PM
أقوى من أسر الجسد كان هنا أسر الروح والذي جعلها تخرج من محبسها مرغمة محررة الجسد فقط
وانتصار للإنسانية تتجلى في صورة بهية تخبرنا بأن مازال هناك من تتملكهم آدميتهم
أبدعت سردا وفكرا وبيانا أديبتنا الفاضلة فشكرا لك
تحاياي