عبدالكريم الساعدي
10-12-2015, 08:37 PM
كان الدرس صحواً
حملت حقيبتي القديمة، تنأى بعشرات الجراح، مزركشة بآثار نصال حادّة، تداعب مزحة الألوان الرابضة في عراء جلد متهرّئ، أذهب بعيداً عن كلّ الاختلافات والاختناقات، أفتّش عن فراغات الروح التي لم يدركها خواء الموت، موت يتخطّف الأبصار من حدقات ذاكرة ترتجف بالاتّقاد. كنت أكرّس نفسي عشقاً، يشدّني إلى حنايا الجامعة، حلم يرتدّ من كوابيس الحرب إلى الأمام، تفوح منه رائحة نشيج مكتوم، لم يسمعه سوى كوني المتكور داخل حقيبتي القديمة، المركونة على ضفاف الخراب. وعندما أصبحت الأحلام ضياء فجر، تحرّرت من سبات الأسر. ها أنا أرمّم منطقة الفراغ باشتهاء على قدر همتي، تحملني رغبة جامحة تفوح برائحة طفولة تعانق براءتها مقاعد الدرس من جديد؛ فتأفل كلّ تجاعيد العمر التي حفرتها أشواك السنين فوق وجه الورد، عمر تبعثر على أرصفة العدم، نكرة عارية من طيف المعرفة. خطوتي القادمة من نهاية نفق مظلم يمتدّ إلى خمس عشرة سنة وجع، وقهر، وقلق، ترسمني دفتراً وقلماً بعد إن خلعت تلابيب الشيب. يمّمت وجهي شطر عيون المصابيح الملوّنة بقوس انتفاضة الميلاد، وأطلال النهايات. كنت أعدّ أنفاسي قبل خطوتي هذه التي أوقظتهاأحلام منسيّة، راقدة بين أشيائي المكفّنة بالغبار، تساءلت كثيراً قبل أن أخطو إلى قاعة الدرس،
" كيف يمضي الموت، وتبقى الأحلام؟"
خطوات بلون البنفسج تغزل عشق أحلامي، تعزف نشيد انتصاري على قرار باذخ بالعبث، حين تعثّر الوطن وسط تركة من الظلام:
- لقد تمّ طي قيدك، راجع التجنيد.
- أيّ تجنيد يغلق باب الروح، ويدوّن أسماء الموتى فوق دفاتر الجامعة، لتصبح دفاتر خدمة بمرسوم شيطاني؟!
وبإصرار عجيب ختم على قلبي بالشمع الأحمر، يستبدل أمنياتي بقطعة قماش صحراوية، وبيرية وبسطال حجم(43)، حملت روحي وقوافي الشعر وحكايات الأنصار، حملت روايات عشقي الأولى، الحرب والسلام، الأخوة كرامازوف، قصة حبّ مجوسية، المصابيح الزرق، صيادون في شارع ضيق، و...، حملتها موشّاة بغربتي بعيداً عن عيون الرقيب، صوب غابات من الخراب والموت، عبر بوابة تحرسها آلهة االحرب لنعدم آلاف المرات في ظلمة سنين الجدب، وحين غصّ بنا الموت كنّا أشباحاً مغلّفة بالعزلة نبحث عن موت آخر، تطاردنا كلاب سائبة عبر مساحة ضيقة من الأزقة، المساجد، الحانات، والمقاهي، أحصوا أنفاسنا، قيّدوا خطواتنا بأوراق صفراء وأرقام هندية. الذاكرة تداهم مناطق غاصة بالوجع، إلّا أنّ خطواتي المتبقية تقترب من ساعة الصفر، تتّخذ موقعها للدرس، الدرس يختنق بظلال مدجّجة بالظمأ، إذ تنتمي إليه يقظة المساء، وأشجار النخيل والجوز والبرتقال وشجيرات الحنّاء، في محرابه يتحرّر القلب من شمعه الأحمر، تختلط فيه رائحة الدخان ورائحة البحر، كان الدرس صحواً وبقايا وطن. قاعة الدرس واحدة، لكنّها مختنقة بالمدن، تتسلّل الأحاديث فيها من ذاكرة مفعمة بالألم والمرارة، كلّنا يتذوق طعم التعارف، ثمة ضوء يمنحنا الرغبة في الولوج لميدان الحياة، ضوء يفتح باب الأمل، فنحتضن ظلّه بلهفة المحروم. العيون تقترب من صمتها، ترنو نحو الباب، حصون الذاكرة تتهاوى عند منعطف دقّات أجراس البدء، نقف جميعاً إجلالاً لهيبة الأستاذ، لكنّي لم أرَه، راحت عيناي تختلسان النظر إليه من بين أكتاف الطلبة، الأستاذ كأنّي رأيته من قبل، رجل لا تتجاوز قامته المتر، لكنّه مفعم بالطيبة والعلم، لم أنتبه لما يدور في الدرس، رحت أقلّب صفحات الأيام الماضية، وأنا في حيرة من أمري،
" أين رأيته "
شطبت عقد الحرب، لأنّه بعيد عن هذا المضمار، استوقفتني محطات تمتدّ إلى ما قبل أكثر من عشرين سنة، سنوات البراءة ونحن في المدرسة المتوسطة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين أيقنت أنّه ذات الطالب الذي رأى الويل منّا، كان يتعرض كلّ يوم للسخرية والأهانة من قبل أقرانه، أقل ما تلقّى من ألم نعته بالقزم، وأشدّ فتكاً بشخصيته هي الصفعات وضحكات الاستهزاء، لكنّي لم أكن واحداً منهم، لأنّي كنت أحبّه وأحبّ ذكاءه وفطنته، بيد أنّي لا أدري لماذا صفعته ذات يوم، ربما كان خوفاً من الآخرين أو التشبه بأفعالهم، حينها تألم كثيراً وبكى:
- لم أتوقع منك هذا، أنت صديقي الوحيد الذي أحبّه.
"يا ترى هل يعرفني بعد هذه السنين؟"
كنت في حرج شديد، أتحاشى النظر إليه، أهرب من مواجهته، وما زاد في إحراجي وقلقي أنّه يقف على اسمي كلّما قرأ أسماء الطلبة. كنت متميزاً في درسه، يشير إلى تفوقي دوماً، وحين أنظر إليه أراه شامخاً، محلّقاً في الأفق، بينما أنا أتلاشى أمام قامة علمه، حتى أبدو قزماً، وبمرور الوقت، وكثرة لقاءاتي به أدركت أنّه لا يعرفني، أنا زميله، كنّا ذات يوم نجلس سويّة في فصل واحد. حاولت كثيراً أن أبوح له بسرّي، لكنّي لم أفعل، كانت تأخذني العزة بالإثم، كم تمنيت أن يسامحني على تلك الصفعة التي أرّقت ضميري. كان الأستاذ يرعانا قبل أن نغادر الجامعة، وقبل حفل الوداع، كانت عيناه تطلقان الدعاء والودّ على ملامحي، بينما ترقد ذكرياته ضمن أشيائي المغلّفة بالنسيان. ملامح الطلبة غارقة بالفرح، وأنا غارق بكآبة ذنبي وضعفي على مواجهة الحقيقة. وقبل أن أودعه، سلّمت عليه وشكرته، قال لي:
- أنت طالب متميّز، أتمنى لك كلّ الخير.
- الفضل لك، يا أستاذ.
عانقني بلهفة، كانت آخر كلماته صدمة أذهلتني، صفعة هزّت ذاكرتي، وابتسامة الكبرياء تعلو شفتيه:
- الفضل للصفعات، ليس إلّا.
حملت حقيبتي القديمة، تنأى بعشرات الجراح، مزركشة بآثار نصال حادّة، تداعب مزحة الألوان الرابضة في عراء جلد متهرّئ، أذهب بعيداً عن كلّ الاختلافات والاختناقات، أفتّش عن فراغات الروح التي لم يدركها خواء الموت، موت يتخطّف الأبصار من حدقات ذاكرة ترتجف بالاتّقاد. كنت أكرّس نفسي عشقاً، يشدّني إلى حنايا الجامعة، حلم يرتدّ من كوابيس الحرب إلى الأمام، تفوح منه رائحة نشيج مكتوم، لم يسمعه سوى كوني المتكور داخل حقيبتي القديمة، المركونة على ضفاف الخراب. وعندما أصبحت الأحلام ضياء فجر، تحرّرت من سبات الأسر. ها أنا أرمّم منطقة الفراغ باشتهاء على قدر همتي، تحملني رغبة جامحة تفوح برائحة طفولة تعانق براءتها مقاعد الدرس من جديد؛ فتأفل كلّ تجاعيد العمر التي حفرتها أشواك السنين فوق وجه الورد، عمر تبعثر على أرصفة العدم، نكرة عارية من طيف المعرفة. خطوتي القادمة من نهاية نفق مظلم يمتدّ إلى خمس عشرة سنة وجع، وقهر، وقلق، ترسمني دفتراً وقلماً بعد إن خلعت تلابيب الشيب. يمّمت وجهي شطر عيون المصابيح الملوّنة بقوس انتفاضة الميلاد، وأطلال النهايات. كنت أعدّ أنفاسي قبل خطوتي هذه التي أوقظتهاأحلام منسيّة، راقدة بين أشيائي المكفّنة بالغبار، تساءلت كثيراً قبل أن أخطو إلى قاعة الدرس،
" كيف يمضي الموت، وتبقى الأحلام؟"
خطوات بلون البنفسج تغزل عشق أحلامي، تعزف نشيد انتصاري على قرار باذخ بالعبث، حين تعثّر الوطن وسط تركة من الظلام:
- لقد تمّ طي قيدك، راجع التجنيد.
- أيّ تجنيد يغلق باب الروح، ويدوّن أسماء الموتى فوق دفاتر الجامعة، لتصبح دفاتر خدمة بمرسوم شيطاني؟!
وبإصرار عجيب ختم على قلبي بالشمع الأحمر، يستبدل أمنياتي بقطعة قماش صحراوية، وبيرية وبسطال حجم(43)، حملت روحي وقوافي الشعر وحكايات الأنصار، حملت روايات عشقي الأولى، الحرب والسلام، الأخوة كرامازوف، قصة حبّ مجوسية، المصابيح الزرق، صيادون في شارع ضيق، و...، حملتها موشّاة بغربتي بعيداً عن عيون الرقيب، صوب غابات من الخراب والموت، عبر بوابة تحرسها آلهة االحرب لنعدم آلاف المرات في ظلمة سنين الجدب، وحين غصّ بنا الموت كنّا أشباحاً مغلّفة بالعزلة نبحث عن موت آخر، تطاردنا كلاب سائبة عبر مساحة ضيقة من الأزقة، المساجد، الحانات، والمقاهي، أحصوا أنفاسنا، قيّدوا خطواتنا بأوراق صفراء وأرقام هندية. الذاكرة تداهم مناطق غاصة بالوجع، إلّا أنّ خطواتي المتبقية تقترب من ساعة الصفر، تتّخذ موقعها للدرس، الدرس يختنق بظلال مدجّجة بالظمأ، إذ تنتمي إليه يقظة المساء، وأشجار النخيل والجوز والبرتقال وشجيرات الحنّاء، في محرابه يتحرّر القلب من شمعه الأحمر، تختلط فيه رائحة الدخان ورائحة البحر، كان الدرس صحواً وبقايا وطن. قاعة الدرس واحدة، لكنّها مختنقة بالمدن، تتسلّل الأحاديث فيها من ذاكرة مفعمة بالألم والمرارة، كلّنا يتذوق طعم التعارف، ثمة ضوء يمنحنا الرغبة في الولوج لميدان الحياة، ضوء يفتح باب الأمل، فنحتضن ظلّه بلهفة المحروم. العيون تقترب من صمتها، ترنو نحو الباب، حصون الذاكرة تتهاوى عند منعطف دقّات أجراس البدء، نقف جميعاً إجلالاً لهيبة الأستاذ، لكنّي لم أرَه، راحت عيناي تختلسان النظر إليه من بين أكتاف الطلبة، الأستاذ كأنّي رأيته من قبل، رجل لا تتجاوز قامته المتر، لكنّه مفعم بالطيبة والعلم، لم أنتبه لما يدور في الدرس، رحت أقلّب صفحات الأيام الماضية، وأنا في حيرة من أمري،
" أين رأيته "
شطبت عقد الحرب، لأنّه بعيد عن هذا المضمار، استوقفتني محطات تمتدّ إلى ما قبل أكثر من عشرين سنة، سنوات البراءة ونحن في المدرسة المتوسطة، وكم كانت دهشتي كبيرة حين أيقنت أنّه ذات الطالب الذي رأى الويل منّا، كان يتعرض كلّ يوم للسخرية والأهانة من قبل أقرانه، أقل ما تلقّى من ألم نعته بالقزم، وأشدّ فتكاً بشخصيته هي الصفعات وضحكات الاستهزاء، لكنّي لم أكن واحداً منهم، لأنّي كنت أحبّه وأحبّ ذكاءه وفطنته، بيد أنّي لا أدري لماذا صفعته ذات يوم، ربما كان خوفاً من الآخرين أو التشبه بأفعالهم، حينها تألم كثيراً وبكى:
- لم أتوقع منك هذا، أنت صديقي الوحيد الذي أحبّه.
"يا ترى هل يعرفني بعد هذه السنين؟"
كنت في حرج شديد، أتحاشى النظر إليه، أهرب من مواجهته، وما زاد في إحراجي وقلقي أنّه يقف على اسمي كلّما قرأ أسماء الطلبة. كنت متميزاً في درسه، يشير إلى تفوقي دوماً، وحين أنظر إليه أراه شامخاً، محلّقاً في الأفق، بينما أنا أتلاشى أمام قامة علمه، حتى أبدو قزماً، وبمرور الوقت، وكثرة لقاءاتي به أدركت أنّه لا يعرفني، أنا زميله، كنّا ذات يوم نجلس سويّة في فصل واحد. حاولت كثيراً أن أبوح له بسرّي، لكنّي لم أفعل، كانت تأخذني العزة بالإثم، كم تمنيت أن يسامحني على تلك الصفعة التي أرّقت ضميري. كان الأستاذ يرعانا قبل أن نغادر الجامعة، وقبل حفل الوداع، كانت عيناه تطلقان الدعاء والودّ على ملامحي، بينما ترقد ذكرياته ضمن أشيائي المغلّفة بالنسيان. ملامح الطلبة غارقة بالفرح، وأنا غارق بكآبة ذنبي وضعفي على مواجهة الحقيقة. وقبل أن أودعه، سلّمت عليه وشكرته، قال لي:
- أنت طالب متميّز، أتمنى لك كلّ الخير.
- الفضل لك، يا أستاذ.
عانقني بلهفة، كانت آخر كلماته صدمة أذهلتني، صفعة هزّت ذاكرتي، وابتسامة الكبرياء تعلو شفتيه:
- الفضل للصفعات، ليس إلّا.