تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التينة



ابن الدين علي
10-01-2016, 02:14 PM
التينـــة

كم كانت حياة تتبرم من وجود تلك التينة وسط الحوش الضيق, و كم كانت تضجر من عناد زوجها "المهدي" الذي كان دوما يرفض طلبها كلما دعته إلى نزعها من الحوش.
منظر التينة كان يبعث الكآبة في نفسها, جذعها الخشن و أغصانها العارية الرمادية اللون كانت تغرق حياة في جو موحش, لذا كانت تترجاه قائلة:
ليتك تنزع هذه التينة,لقد أتت على مساحة كل الحوش.
-لا يمكن أن أتخلى عنها .. تينها من النوع الجيد..
-التين موجود عند الخضارين بوفرة.
-يا لحماقتك.
-يا سيدي لا نأكل التين, المهم إجتثها من جذورها و ارحنا منها.
-هذا أمر لن يحدث أبدا.

تنصرف حياة يائسة إلى عملها المألوف الممل, و يتوجه المهدي بإنائه جنب التينة و يشرع يتوضأ إستعدادا لصلاة العصر,و لما ينتهي من الوضوء يرمي ما تبقى من الماء على جذعها كما تعود دائما, محذرا حياة من رمي الماء الممزوج بالصابون أو ماء جافيل على جذورها.

لما كان المهدي ينصرف لأداء الصلاة لم يكن يعود إلى البيت إلا بعد صلاة العشاء, خلال هذه الفترة كانت حياة تتمنى الجلوس في الحوش لتتنفس أجواء الربيع, لكن وجود التينة سرعان ما يعكر صفوها: أغصانها المتشابكة كالثعابين الهائجة تحجب عنها زرقة السماء, حتى العصافير كانت ترغب عنها.

لم يكن لحياة أطفال يسلونها بوجودهم و هم يمرحون أمامها رغم مرور عقدا من الزمن على زواجها, عملت كل ما أمكنها أن تعمله و باعت كل ما يمكن بيعه طلبا للإنجاب, غير أن الطبيب المختص في هذا المجال أكد لها و بكل ثقة أنها ليست عاقرا و أنها على إستعداد للولادة بعد ما أجرى عليها كل التحاليل الضرورية .في آخر مرة طلب منها أن تدعو زوجها لزيارته ..
قد يكون هو المصاب بداء العقم. لكن هيهات أن يقبل المهدي هذه الدعوة, رغم ذلك ما فتئت حياة تحاول إقناعه قائلة:
لقد طلب منك الطبيب أن تزوره في العيادة ليكشف عليك.
-أنا أذهب إلى طبيب النساء ؟ إنه خاص بالنساء.
-هو في الحقيقة.. أخصائي فيما يتعلق بالولادة .. وأمر الولادة يتعلق بالرجل كما يتعلق بالمرأة.. الناس فقط تعودوا أن يسموه طبيب النساء ...
-أنا لست مريضا .. أنا معك منذ عشر سنوات هل لاحظت علي مرضا؟
-و لكننا لم ننجب.
-آه, فهمت . تريدين أن تقولي أني أنا السبب .. لا تخافي لن أطلقك .. لا يهمني الإنجاب..
-لكن أنا يهمني.
-يبدو أنك عاقر من أعماق قلبك, حتى التينة التي هي رمز للحياة واستمراريتها ترغبين في اقتلاعها.
-يا زوجي العزيز . التينة كرهتها لسببين :أولهما لأنها تينة و منظرها يوحي بقلعها, و الثاني لأنها استولت على كل مساحة الحوش الضيق لو أختير لها مكان جنب أحد الجدران و ليس وسطه.

هنا تحمس المهدي للرد الفوري:- التينة شجرة من النوع الذي لا يجب غرسه جنب الحائط, لأنه مع مرور الزمن تتفرع جذورها مضرة بقاعدة الحائط الذي لا يلبث أن ينهار.

بمجرد أن انتهى المهدي من كلامه انطلقت حياة ترد بتحد:- أشكرك لقد أضفت إلى معلوماتي معلومة جديدة كنت أجهلها... زيادة على منظرها القبيح بأغصانها العارية كالأفاعي فهي تخرب البيوت ..
-أغصانها لا تورق غي فصل الربيع بل في فصل الخريف.هكذا طبيعتها.
-نعم ..لما تستعد الأشجار الأخرى بمختلف أنواعها لتجديد ثوبها تورق هي.. إنزعها وأرحنا منها أراحك الله..
-أنت لا تحبين الحياة لهذا أنت عاقر,موقفك من التينة يدل على ذلك.
-تينتك هذه التي تقول عنها أنها رمز للحياة تتعرى في فصل الربيع و تورق في فصل الخريف,لمن تعطي ظلها و البرد وقتئذ بدأ يحط الرحال. أنا أريد أن أنجب في ربيع عمري و ليس في خريفه.
-أنجيبي إن قدرت حتى في الشتاء,لا يهمني الإنجاب , لا تخافي لن أرميك، مستقبلك معي.
-مستقبلي؟
-لو بإمكان شخص أن يغرس شجرة و هو يعلم أن القيامة قد حانت فليغرسها بدون تردد. و أنت تريدين أن أقتلع شجرة عمرها منذ عشرات السنين..؟

المهدي يضع حدا لهذا النقاش فينصرف إلى فراشه, و تنصرف حياة إلى ترتيب أواني المطبخ .. لكن المهدي لم يزره النوم هذه الليلة, و يبقى يفكر في كلام زوجته. ..
ساوره شك في أن تكون مريضة أو أصابها مس من الجنون فيتساءل:لماذا كل هذا العداء للشجرة؟.. إنسان يكره شجرة تمنحه الظلال و الثمار لا بد أنه مجنون .. ربما سبب عداءها هذا ناتج عن عقمها.. لو تنجب سيتغير موقفها تجاه شجرتنا, و لكن الطبيب أكد لها أكثر من مرة أنها سليمة و مؤهلة للإنجاب ..أنا العقيم؟؟ لا أبدا ...

لما كانت حياة تتردد على الطبيب كانت تناقشه في الموضوع بكل جرأة إلى أن قال لها : لا بد من حضور زوجك لأجري عليه التحاليل الكفيلة بتشخيص هذا الداء . لكن هيهات أن يخضع المهدي لمثل هذا الأمر و الويل لها إن دعته لذلك فقد يُُسمعها كلاما لاذعا .. لهذا استسلمت للأمر تاركة الأمور لمشيئة الله.

و يبقى المهدي يتقلب في فراشه كتقلب سمكة علقت بصنارة صياد , يتذكر حديثها حين قالت له :" أنا أريد أن أنجب في ربيع عمري و ليس في خريفه". في هذه اللحظة يقرر أنه لا بد من زيارة (الطالب) هو الذي سينقذ الموقف, إنه ذو كرامات و برئ على يديه كثير من المرضى كما قيل له, ... يداعبه هذا الأمل الذي يسلمه رويدا رويدا لنوم عميق.

حياة هي الأخرى يخاصمها النعاس,لما يضايقها شخير زوجها المزعج تخرج إلى الحوش علها تجد فيه متنفسا .. لكنها سرعان ما تصطدم بالوحشة التي تبثها التينة في الحوش و في نفسها الهائمة... ترفع رأسها إلى السماء متطلعة إلى النجوم فلا ترى سوى أغصانا متشابكة ممدودة نحو الأعلى على صورة امرأة عارية كأنها تتضرع إلى السماء مستنجدة, فيزيدها هذا المنظر كآبة و يعمق من إحساسها بالغربة.

كاملة بدارنه
10-01-2016, 07:20 PM
قصّة تناول موضوعها الكثير من الكتّاب، لكن كلام الزّوج كان حادّا وجارحا حين اتّهم الزّوجة بالرّغبة في اقتلاع التّينة بسبب عقمها
سرد جاذب
بوركت
تقديري وتحيّتي
(حبذا النتباه لبعض الأخطاء اللّغويّة)

ناديه محمد الجابي
10-01-2016, 09:03 PM
توقفت مع قصتك كثيرا وأنا أفكر في ( حياة)
تلك المرأة التي تشتاق أن تكون شجرة مثمرة
تهب الحياة إلى طفل صغير يكون امتداد لجزورها..
فلم هذا العداء للشجرة المباركة التي أقسم الله بها
سبحانه في القرآن.
تمتلك مهارة سردية عالية،وأسلوبا متمكنا في رسم
المشاهد فتشد المتلقي بسردك الماتع المشوق.
بوركت ـ ولك تحياتي وتقديري. :001:

خلود محمد جمعة
19-01-2016, 08:21 AM
نظرة حياة للحياة سلبيه نظرا لعدم انجابها مع يقينها انها تستطيع الانجاب
شجرة التين هي افكار زوجها الذي يرفض تغيرها او حتى تقبل فكر آخر
طرح طيب وفكرة نبيلة صيغت باتقان وسلاسة وجمال
بوركت وتقديري

عبد السلام دغمش
21-01-2016, 01:28 PM
الأستاذ ابن الدين علي


النص جميل .. والفكرة وأسلوب السرد مائزان..

ربما انتظرنا خاتمة أقوى مما قرأناه ..

أثني على تعليق الأخت خلود .. التينة هي التقاليد التي تجعل المرأة هي الداء .. والأفكار التي قادت زوجها لصاحب الكرامات .. والله قريب مجيب وشرع العلاج والدواء ..

بعض الملاحظات اللغوية كان بالإمكان تلافيها ..
تحياتي ..

ربيحة الرفاعي
28-02-2016, 11:58 PM
قص منتقى الفكرة عالج بتوظيف عناصر البيئة في خدمة الرمز قضية هامة تعددت محاورها في النص برموز فتحت آفاق التأويل أمام المتلقي مع وضوح ؤية ورسالة الكاتب
السرد كان شائقا وعاز اللغة شئ من المراجعة

دمت بروعتك أديبنا
تحيتي

آمال المصري
21-10-2016, 08:21 AM
التينة تلك الشجرة المباركة بفروعها المتشابكة ومقارنتها بحياة وحياتها الخالية من ظل في قولب بديع يحمل ولغة أنيقة وسرد ماتع
شكرا لك أديبنا الفاضل هذا البهاء
ومرحبا بك في واحتك
تحية وتقدير

ابن الدين علي
03-11-2016, 04:28 PM
التينة تلك الشجرة المباركة بفروعها المتشابكة ومقارنتها بحياة وحياتها الخالية من ظل في قولب بديع يحمل ولغة أنيقة وسرد ماتع
شكرا لك أديبنا الفاضل هذا البهاء
ومرحبا بك في واحتك
تحية وتقدير
شكرا لك أختي آمال على القراءة الواعية و الثاقبة ..أنا كلي امتنان باعجابك بها ....هذا ما يزيدني ثقة فيما اكتب ...مودتي اليك