المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : امرأة القمر / قصة قصيرة



عبدالكريم الساعدي
21-01-2016, 05:47 PM
امرأة القمر

القمر يكمل دورته في عينيه، يغزل ضوءاً لشمس توارت خلف الأفق، الأشجار الجرداء تزهر خضرة، تتبرعم أغصانها، وحده يسير باتجاه النهر، يسعى لخلع معطف الأرق في طقوس تشبه العادة، يفترش الحشائش عند ضفة النهر، النهر معبده، يسند ظهره إلى شجرة الصفصاف، المكان يتدثّر بحلكة ليل صيفي، أمواج صغيرة تنبثق من تحت زورق يتهادى وسط النهر، تتكسّر عند حافة النظر، بقايا أغنية تضيء حفيف غفوة ، يحاول أن يستمطر ذاكرته، لعله يقتنص ملامح اسمه، لا شيء غير صور مشوشة مصابة بالعدمية، يا ترى أين اختفت تلك السنين قبل أن يغزو فروة رأسي بياض الغياب؟. الليل الذي أعشقه حدّ الجنون مازال يهطل مخاوفاً، هواجس قلقة من المجهول، يلاحق خطى صمتي، يستفزني متحدياً أن أذكر له وجهاً واحداً، فأقبل التحدي، تلك هي طقوسي الليلية، طقوس تحركني باتجاه الدمع، أتمنى أن أرى وجه الأمس، وأزيح هذا الحزن الصخري الجاثم فوق أنفاسي، أتهيّأ لرحلتي بعدما يشبّ لهب ليلي الضرير، يسوقني ظمأ الفراغ إلى عوالم متداخلة، متقاطعة، على غير عادتي تعتريني رعشة مزدحمة بتساؤلات غير واضحة، من أكون؟ ولِمَ لا أذكر شيئاً من حياتي الماضية؟ هل هذا قدري؟ يا له من قدرٍ مخيف!. لا أدري متى، وكيف أتيت إلى هذا الإسطبل؟ لكنّي على يقين أنّي كنت مختلفاً تماماً عمّا عليه الآن، أسئلة محيّرة، لم تفارقه مذ أتى هنا، يحدّق في صفحة السماء كلّ ليلة، يبثّ شكواه لعلّه يجد طريقاً للجواب، لا يملك شيئاً سوى القلق والحيرة،
" من يهزّ ذاكرتي اللعينة فأمنحه ما تبقّى من عمري؟"
لا جواب سوى صدى الخواء، وسموم تجلد ملامحه الشائخة. لا يعرف شيئاً غير النهر، وشجرة الصفصاف التي توسّد ظلّها, وأحصنة تعرفهُ جيداً أكثر من أي شخص آخر، لا يعرف سوى أنّه سائس في إسطبل يقع في طرف أحد القرى النائية، يعشق النهر حدّ الجنون، يسهر وضفّته طول الليل، يتّخذ من نسيمه العليل أرجوحة، يحلّق بعيداً حيث النجوم والأقمار، ثم يهبط على مشارف الخواء، باسطاً كفّه لعزلته، وحيداً يلملم جراحه، يفزعه صمت الأشياء من حوله. لا أدري، كلّما استنشقت رائحة النهر أحسّني أطير في الفراغ، رائحة تمسّ أثر جرح أكاد أبصره، لكن سرعان ما يختفي في حلكة الليل، سأحتفظ بتلك الرائحة، علّها ترشدني إليّ. ما من أحد يعرف وحشة الوحدة مثلي، كانت جحيماً، حتى أن كثيراً من الناس الذين يأتون هنا لم أعد أراهم ثانية، يؤرقني أنّي لا أتذكّر ملامحهم، كلّما أحاول أن أستعيد صورهم، تبدو مشوّشة. ما أتمناه العثور على شخص يشاركني وحدتي، يهتمّ بي مثلما أهتمّ بهذه الأحصنة، أو أكون حصاناً بلا ذاكرة، لا أريد أن أكون سائساً بعد اليوم. منذ أكثر من عشرين سنة، أو ثلاثين، لا أدري، وأنا أنتظر قادماً من المجهول يطفئ حيرتي ويجفّف دمعي، يزيل الحجب عن رؤياي. حتى النهر الذي عشقته، كلّما أحدّق فيه أرى ظلّ رجل يشبهني، أطرح عليه السؤال نفسه، لا النهر ولا هو يردّان جوابي، لم يعرفا غير الصمت مذ فارقت اسمي. ذات ليلة قمراء، كنت أنقّب في وجه القمر، تراءت لي امرأة يُخيّل إليّ أنّي أعرفها، كان جوارها طفل يلثم نهدها، يا ترى من تكون؟، وجه ينزلق كلّ ليلة من شرفة أغرقتها العتمة، لا أدري لِمَ يشدّني الحنين إليها؟ بيد أنّي مدرك تماماً أنّه ليس ثمة ما يستفزّ ذاكرتي سواها، حاولت مراراً أن أرسم صورة لها، لكنّي لم أعد قادراً على استحضار ملامحها. الأيام تمرّ سريعة، تنسج يأسي، أكاد لا أرى في هذه الحياة غير موتي، ربما هذه الكائنات التي تمرّ أمام ناظري كلّها أموات، من يدري؟ لعلّ هذا العالم مقبرة كبيرة، ليس فيها لآمالنا محلّ. بدأت تراودني فكرة الخلاص، حتى نضجت في البال، لولا ذلك الحلم الذي أخر موتي، حلم يكاد يتكرّر كلّ ليلة، قمر نصفه امرأة، ونصفه الآخر طفل، امرأة حزينة، تحدّق بي، عيناها فيهما شيء من دمعي، يحملان عتباً، يضمران تساؤلاً. لم أترك أحداً إلّا وطلبت منه تأويل حلمي، الجواب يأتيني متشابهاً " أضغاث أحلام ". لم يدم الأمر طويلاً، ذات ليلة شتائية، تناهى لسمعي طرقات على باب الغرفة، ربما كانت جلبة أحدثتها الريح، يتكرّر الصوت، يبدو أن شخصاً ما خلف الباب، يا ترى من يكون؟.
- من الطارق؟.
- عابرة سبيل.
وكم كانت المفاجأة حين رأيت ذات المرأة التي تسكن القمر، التقت عيناي بعينيها، حدقّت فيها ملياً، نعم هي بلا شك، ذات الوجه الشحوب، الحزين، كنت ألمح في عينيها بارقاً يعتصر قلبي:
- مَن؟ امرأة القمر!
لم تنبس ببنت شفة:
- أين الطفل؟
علتْ شفتيها ابتسامة شفيفة، استدارت إلى الوراء:
- أيّ طفل تتحدّث عنه؟
- ومنْ تكوني...؟
- أنا عابرة سبيل. ثم ألقت مكامن سرّها:
- هناك من يروم قتلي، هل لك أن تأويني وتحفظ سرّي؟
- نعم سآويك...
امرأة يشكّلها الحنان، عامرة بالأسى، لها رائحة النهر، قطنت أرضي اليباب، يندلق من عينيها شعاع ضوء، يمتدّ في فضائي المسكون بالصمت؛ ليلامس شغاف القلب، ضوء ينير عوالمي المظلمة، وكأنّي وجدت الطريق إلى التذكّر، نافذة أطلّ منها على تلك الأيام، لعلي أفتح باباً أوصده الزمان، هكذا كنت أظنّ، كنت متّكئاً على ظلّ الضوء، مكتظاً بالحنين، لكنّ الأمر بدأ يقلقني، حيث أرنو ببصري إليها من خلف النافذة، أراها تسند ظهرها إلى شجرة الصفصاف، شاردة العقلّ، وكلّما أسألها عن سرّها الدفين، تتنهد بلوعة، تجهش بالبكاء. كان دائماً يصغي لصمتها، مردّداً،
" يكفيني صمتك، وهذه الدموع، يا امرأة القمر ".
كانت تطعنه بسؤال لم يستطع أن يجيب عنه:
- أنا نور، لِمَ لا تحفظ اسمي، يا عاشق القمر؟
ذات يوم كنت وإيّاها في الإسطبل، الحيرة تكاد تفتك برأسي، أدور في متاهة لغز، أليس لها علاقة بسنيني الماضية؟، أنا مدرك تماماً أنّها ليست عابرة سبيل، ولم يكن الأمر محض صدفة، أترجّل من صهوة الأحجيات، ألملم أوصال ذاكرتي المعمّدة بالنسيان، أرى في الروح مخاضاً يتسلّق أفق ذاكرتي، حينها كنت مسنداً ظهري إلى سياج الإسطبل، حمحمة الحصان الأدهم تقطع خيط الوصل، يحدّق بي، لم يطأطئ رأسه هذه المرة، لا أعرف السرّ لمَ أكره هذا الحصان دون بقية الأحصنة. فكرة رعناء حلّت في رأسه، سلّط سوطه عليه، حتى تعالى صهيله، الحصان يدور في مكان ضيق، يلوذ بزاوية الإسطبل، الضربات تنهال عليه من كلّ جانب، يرفسه بعنف، يسقط أرضاً مضرجاً بجنونه، المرأة هرعت إليه صارخة، أرادت أن تقول له شيئاً، أطبقت فمها، حين رأته فاقداً الوعي، شاخصاً بالغياب. عيناها ترنوان إلى المشفى، يسبقها اللهاث، تتعثر بتفاصيل الاحتمالات:
- ربما لا يبصر ثانية. قال الطبيب.
لحظة قلق، المكان محفوف بالصمت، انتظار لعين، طويل، المرأة تغرق في لجة المجهول، يتسوّرها رعب العتمة والنسيان، الجميع يترقّب اللحظة، يفتح عينيه ببطء شديد، لم يبصر سوى ضباب كثيف، عيناه تتسعان، صور مشوشة بدأت تتسلّق مشهداً يرتسم خلف الضباب، أغمضَ عينيه، فتحهما على اتساعهما، صفّ من أشخاص بلا ملامح، ارتدّ الطرف حائراً، إحساس موغل بالقلق متّشح، بالخوف، نقّل طرفه بين الحاضرين، يقف على صورة في طرف الصف الأيسر، تنبثق من خلف العتمة، مؤطّرة بالضباب، الصورة تتفتّح كما زهرة عباد الشمس، حيث مال النظر تميل، تتضح الرؤية، يبتسم:
- نور، امرأة القمر!.
ألقت بنفسها فوق صدره، يضمّها بين ذراعيه، يقبّل جبينها:
- من أنا أيّها المجنون؟
- نور.
- هل تراني؟
- نعم، وبكلّ وضوح، لا تخشي شيئاً حتى لو لم أرك سيقودني أنفي إليك.
سؤال قديم مازال يصهل بالحسرة:
- أين الطفل؟
- أ وَ تذكره؟
- نعم مثلما أراك الآن.
- لقد مات؟
- وأين أجد قبره؟
- هناك، تحت شجرة الصفصاف.

كاملة بدارنه
22-01-2016, 07:59 AM
امرأة القمر ورجل غاب عنه نور الحقيقة
وصف جاذب، بلغة سامقة لما يمرّ به من حالة نفسيّة صعبة!
بوركت
تقديري وتحيّتي

عبدالكريم الساعدي
22-01-2016, 07:16 PM
الأخت كاملة بدارنه
بورك حضورك وشكراً لجميل قراءتك

ناديه محمد الجابي
23-01-2016, 10:44 AM
( امرأة القمر) وجه أطل عليه من الحلم ليرسم
شعاع من نور وسط ظلام الذاكرة ـ لتطفئ حيرته
وتجفف دمعه وتزيل الحيرة عن رؤياه وتؤنس
وحدته .. فإخترقت أوصال ذاكرته المعمدة بالنسيان.

حبكة تقوم على فكرة قوية في نص باذخ بلغته الغنية
وأسلوبه الأدبي المتين.
دمت بهذا التوجه والألق. :001:

عبدالكريم الساعدي
23-01-2016, 03:33 PM
الأخت نادية محمد الجابي
دام حضورك البهي... ممتن لجميل قراءتك الواعية... تحياتي

سحر أحمد سمير
24-01-2016, 06:42 PM
امرأة القمر ..و خيال ارتبط بواقعه الفعلي من أجل الخروج من عنق زجاجة النسيان ..

قص موفق السرد و الحبكة ..

راقت لي كثيرا ، دمت بخير و عافية أستاذي الفاضل ..

تحاياي

عبدالكريم الساعدي
25-01-2016, 06:00 PM
الأخت الفاضلة سحر أحمد سمير
سرّني حضورك البهي وجميل إعجابك... رعاك الله.

ربيحة الرفاعي
29-02-2016, 12:17 AM
فكرة النص جميلة ولغته قويّة وسرده شائق
وبراعة الكاتب في معالجة الصراع الداخلي زادت النص بهاء

دمت بروعتك أديبنا
تحيتي

عبدالكريم الساعدي
01-03-2016, 06:14 PM
الأخت الفاضلة الأديبة ربيحة الرفاعي
دائماً تغمريني بفيض معرفتك ورؤيتك العميقة... شكراً لحضورك البهي... رعاك الله

ناديه محمد الجابي
27-10-2021, 08:41 PM
عزفت في (امرأة القمر ) سيمفونية إبداعية ببراعة متناهية، وقدرة على شد القارئ
وتركيز كل حواسه وانتباه لإجلاء الغموض ، والتعرف على كينونة الشخصية
أسلوب فريد في القص القصير بالتكثيف والتصوير ـ أسلوب قصصي يمتاز بالصدق
ولغة زاخرة بالعطاء والفكر.
قصة رائعة وإبداع مدهش.
:v1::0014::0014:

ناريمان الشريف
05-11-2021, 08:03 PM
يصبح الخيال جميلاً إذا ما ارتبط بالواقع
قصة تُقرأ
بوركت أخي عبد الكريم
تحية ... ناريمان