تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : صانع النعوش



ياسر عبدالباقي
04-05-2005, 12:45 PM
صانع النعوش

لم يكن العم عطا الله النجار ، الرجل البسيط ، يدرك أن محلة الصغير سيكبر ويتسع ذات يوم وعماله سوف يزداد عددهم إلى ثلاثة غير أبنه الأكبر .
جاء إليه اليوم رجل يبكي وبيده بضع وريقات مالية :
- لا أملك سوى هذه . ووضع الوريقات في كف العم عطا الله وأجهش باكياً .
- أعاد المال للرجل وقال :
- كم عمره ؟!
رفع عينيه إلى السقف وتمتم بكلمات مختلطة بالدموع :
- لم يبلغ محمد بعد السادسة عشر .. وجد اليوم مذبوحاً كالنعاج . وبكى .
- إنا لله وإنا إليه راجعون .
اليوم باع سبعه صناديق ، ذات مرة باع عشرين صندوقاً ، الأمر موجع ومؤلم بالنسبة له .
الليلة لا تختلف عن بقية الليالي الماضية .. حجر زوجته أفضل مكان يضع رأسه عليه ، ثم يبكي كالأطفال . حيث تواسيه زوجته وتربت على رأسه .
- النعوش تزداد كل يوم يا أم نديم .
- ربنا كريم .. ربنا كريم .
قالت أيضاً .. وقد ترددت في قولها :
- إن ابن جارنا نصر لم يعد منذ ثلاث أيام من المعسكر .
رفع رأسه نحوها وتنهد بألم : يا الله .. لقد قلت له أن لا يرسل ابنه الوحيد إلى المعسكر .
- وماذا يعمل ؟.. حالتهم تسوء كل يوم !
- طلبت منه يعمل معي .
ثم وضع رأسه على حجرها مرددا : رحمتك يارب ..رحمتك .
ذات صباح ..
وقف نصر .. أمام باب محل العم عطا الله ، جثته الكبيرة حجبت ضوء الشمس ، رفع عطا الله رأسه ، وبقيت يده مرفوعة إلى الأعلى ممسكة مطرقته ، والمسمار محشور بين أصابع يده الأخرى .
- جاءني اتصال قبل قليل من مدير المستشفى .. طلب مني أن أحضر لأستلم جثة ابني .
- سقطت المطرقة من يد العم عطا الله .. تقدم بخطوات تعبه نحوه .
قال نصر دون أن يهتز : السيارة تنتظرني .. سآخذ معي صندوقاً .
ذات ليلة ..
الأجراس تقرع بحزن .. العراق لا ينام .. أصوات المآذن تزيده حزناً وألماَ ، لم تصمت أبداً ..
عطا الله النجار البسيط صانع الكراسي قديماً .. صانع النعوش حديثاً يضع رأسه على الحجر زوجته ويبكي كما يفعل كل ليلة .
تحدق زوجته في صورة مريم . ثم ترسم علامة على صدرها وتتنهد بألم .
- منذ أيام وأنا أصنع نعشي !
- ماذا تقول يا رجل ؟!
تابع كأنه لم يسمعها : أردت أن يكون صندوقاً مختلفاً كبيراً .. قوياً قادراً على حملي .
تغمض عينيها لتمنع فرار الدمعة: لا تقل ذلك .. انك تؤلمني .
تفر الدمعة من عينيها .. حين يرفع رأسه نحوها .. تسقط على عينيه وتمر بسرعة عبر وجنته لتسقط على الأرض وتتلاشي : أشعر آن أجلي قريب جداَ .
ذات يوم ..
الانفجار الذي حدث منذ دقائق قليلة جعل صناديق النعوش تسقط أو تتحرك من أماكنها .
ركض العمال إلى الخارج المحل .. الانفجار يبعد عنهم بشارعين ، الحرائق التهمت كل شئ في الشارع .
ناداهم عطا الله : حسن .. عزيز .. حارث عودوا إلى عملكم .
تمتم ببضع كلمات : ليحمينا الله .. ويحمي العراق .
ثم راح يحدق بصندوقه أو نعشه ، كم مرعب أنت أيها الموت عندما تتسلل إلينا ببرودة أحياناً ، وأحيانا ًأخرى بألم . طرقات المطارق تزيد من تصدعه ، يود أن يأخذه بأسرع وقت حتى لا يسمع مرة أخرى طقطقتها التي تذكرة بالموت كل يوم كل ثانية .
جلس على كرسيه القديم الذي صنعه قبل عشرات السنوات حيث كانت صناعة الكراسي كاسدة وغير مربحة ، وراح يتمتم بكلمات مبهمة غير مفهومة ، رسم علامة الصليب .
كان .. وكأنه ينتظر الموت .
ـ عطا الله .. عطا الله .
ظن أن الموت يناديه, بقي ساكناَ ينتظر أن ينزع روحه ببروده كما يشاء .
أفاق . فتح عينيه , قال كأنه يحدث نفسه : هذا صوت زوجتي .
واقفة أمام باب محله بردائها الأسود الفضفاض . لم يعرفها من البداية بدء وجهها كبركة ماء .
ـ ماذا حصل ؟ّ!
أشارت بارتجاف إلى الشارع .. وقالت بصوت متهتك :
ـ ابنك .. ياعطالله .. مات
ينهض من كرسيه عندما تلفظ ابنك .. ويسقط عندما تلفظ مات .
ياسرعبدالباقي

محمد الدسوقي
04-05-2005, 04:52 PM
الأخ

ياسر

مرحبا بك فى دوحة الخير

بين عمالقة الكلمة ونبض المشاعر

يحدق الموت فى شوارع الأحاسيس

فى جميع الطرقات

أنه الظلمة

سعد مبروري وقراتي لأقصوصتك

تقبل تحياتي

براءة الجودي
06-06-2013, 06:08 PM
أصبحوا ينتظرون الموت في اي وقتٍ ويتوقعونه
قصة معبرة وجميلة
شكرا لك