تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خيال المآتة



حارس كامل
06-03-2016, 10:20 PM
خيال المآتة

ذات صباح، تفتحت عينا خيال المآتة على (أنثى خيال مآتة) مزروعة جنبه. بالأسى والفرحة فرك عينيه ليتيقن أنها حقيقة. هتف بأعلى صوته لما تأكد. حرك ذراعه إلى اليمين، فدفعته الريح ليحاذي وجهه وجهها. أمعن النظر في عينيها يزيد من دفقة الحلم التي تولدت من العدم.
كان لها عينان من زجاج تلمعان كوميض حركت داخله قلبا من قش وجعلته ينبض.
تقدم خطوة، وحدق فيها طويلا يتأمل شفتيها الحمراوين، وشعر مسدل أصفر كالذهب.. قال لها بسعادة، وغيمة تمر فوق رأسه في سماء زرقاء:
- كنت أحلم بك في صمت الليل، وضوضاء النهار.. حين يبزغ القمر وحين يغيب.. في ظل الزرع الأخضر، وفي لهيب الشمس.. كنت أفكر فيك منذ أن وضعني الفلاح هنا أعاني الوحدة
فكر كيف بدأت حكايته وقت أن رجع الفلاح غاضبا من الحقل، والشرر يتطاير من عينيه. ذرع البيت ذهابا ومجيئا يفكر ويردد: ضقت بتلك الغربان والعصافير.. لقد أنهوا على المحصول.
أمال بجسده تحت كنبة في صالة البيت، وأخرج حطبتي صفصاف غليظتين. شدّ الحطبة القصيرة على الحطبة الطويلة كصليب، وجعلهما ذراعين. أحكم وثاقهما بحبل من كتان. لف فوق قمة الحطبة الطويلة عمامته البيضاء، وجعلها رأسا. ثبت في العمامة خرزتين زرقاوين كعينين. وضع فوق الرأس طاقية صوف كان يرتديها.
أسرع وأحضر جلبابا من دولابه، وأدخله في الحطبتين، ليكتمل خيال المآتة.. تطلع إليه طويلا، ثم حمله وأسرع به إلى الحقل. حفر وسط الزرع حفرة عميقة وضع فيها طرف الحطبة، ثم أهال عليها التراب.
قال له الفلاح، وهو يحدق في عينيه:
- الآن أنت يا صديقي سيد ذلك الحقل كله.. عليك أنت تطارد الغربان والعصافير.
لم ينس الفلاح قبل أن يتركه أن يقول له:
- لك من هدية إن نجحت!
يبدو أن الفلاح صديقي وفى بوعده لي وجاء بأجمل هدية.
حاول أن يمدّ ساقه ليتقدم خطوة أخرى، فأوشك أن يقع. لملم نفسه بصعوبة، وثبت نفسه مرة أخرى.
كانت على حدود الحقل نخلتان وشجرة تقف فوقها العصافير تتأهب للولوج إلى الحقل في حذر، فضرب خيال المآتة على صدره، فرفرت عاليا مذعورة. واصل حديثه عن نفسه قائلا بفخر واعتزاز:
- أنا السيد هنا.. لا أخشى الريح ولا المطر.. تهابني العصافير ولا تقدر على الاقتراب.. يتعاقب عليّ الليل والنهار وأنا ثابت مكاني كزنهار.
رأى كأن (أنثى خيال المآتة) لا ترد عليه، فهز رأسه ينفض اليأس، وقال لها مشجعا:
- تكلمي معي. لا تخافي..
دندن لها بأغنية شجية، ومد لها يدا تورقت كغصن أخضر. لمح كأن على شفتيها ابتسامة، فاجتاحت صدره دفقة نور هدمت حزنا في مكان معتم.
واصل حديثه معها يحكي لها عن أيام وحدته وبطولاته حتى داهمه ليل بلا قمر. دقق النظر، فخالها في الظلمة كأنها غادرت. رجع يرتب أفكاره وأحلامه حتى لا يغرق في دوامة تطيح ببقايا الأمل.
قال لنفسه يؤنسها:
- سيزفها لي صديقي الفلاح في عربة يجرها حصانان تتقدم موكبا مهيبا.. سأرتدي جلبابا أبيض وعمامة بيضاء.. سأرقص معها ليلا بلا نهاية.
انتظر الصباح ليبرق له ما تولد في عقله من أحلام.
مع أول إطلالة ضوء تزيح العتمة جال ببصره يبحث عنها، فلم تقع عيناه إلا على سنابل القمح الناضجة على مدى البصر. أحس بالقنوط يجتاح النفس الخائرة، وتهدمت داخله ذكريات جميلة، سقط لها دمع من ريش وقش.
بعد قليل جاء الفلاح وبصحبته رجال آخرون يمسكون في أيديهم مناجل تلمع في ضوء الشمس. انكبوا بهمة على الأرض، وحصدوا الزرع.
بعد أن فرغ الفلاح من الحصاد، وقف يشد جسده من التعب، واضعا يديه وراء جنبيه. أبصرت عيناه خيال المآتة يقف وحيدا وسط الفضاء، فقال بنبرة ساخرة حملتها الريح:
- لا فائدة منك الآن!
هرع إليه، واقتلعه من منبته، وحمله فوق ظهره ليرميه بعيدا.
في تلك اللحظة، والتي وجد فيه خيال المآتة نفسه ملقى على ناصية الطريق، ورأى الشماتة في عيون العصافير والغربان فوق الشجرة أيقن أنه لم يكن سوى خيال مآتة.

ناديه محمد الجابي
07-03-2016, 08:36 PM
من فنتازيا القصة القصيرة جاءت هذه القصة الطريفة
عندما جعل الحياة تدب في شخصية من الخيال( خيال المآتة)
وبخروج عن الواقع .. يحلم بوجودأنثى تحرك مشاعره .. فيتحرك قلبه القش
وينبض ـ ويجتاح صدره دفقة نور تهدم حزنا .. ثم يحكي لأنثاه عن
بطولاته في سيادة الحقل .. ويحلم بها عروسا .
ولكنه يكتشف في النهاية إنه ليس سوى خيال مآته.
شاعرية في التعبير، وبهاء في التصوير في قالب قصي مشوق
مترف اللغة مغلف بالرمز.
إن خيالك وقلبك وروحك هم الذين يصنعون الإبداع فشكرا لك. :001:

خلود محمد جمعة
09-03-2016, 05:25 AM
هناك من يدرك ذاته في لحظة ما عندما يجد نفسه على قارعة الحياة صفر الحب ، وحيدا الا من قلب ينبض ليذكره أنه ما زال قيد حزن
كم الصعب ان تجد أنك لم تكن يوما سوى خيال مأته وأن كل حقيقتك لم تكن سوى وهم
قصة جميلة برمزية عميقة تسحبك خلف سطورها بسلاسة
بوركت وكل التقدير

كاملة بدارنه
16-03-2016, 03:58 PM
سرد جميل وعرض للفكرة بأسلوب رمزيّ شائق
بوركت
تقديري وتحيّتي

عبد السلام دغمش
18-03-2016, 09:48 PM
قصة رمزية عرضتها أديبنا الكريم بأسلوب شائق..
كثيرٌ ممن يتعلقون بالحياة و متاعها و مناصبها لا يدركون أنهم أدوات و سيأتي يومٌ ينجلي هذا الوهم عن عيونهم ..
شكرًالكم أديبنا العزيز..

آمال المصري
04-04-2016, 12:28 PM
كان مجرد أداة تحركها الرياح وإذا ما انتهى دورها أزيحت من موقعها
دنيا المصالح التي تجعل من خيال المآتة صاحب للمكان بعد التلميع
وماهو إلا صورة تتكرر بأردية وأبدان مختلفة ...
رمزية عالية نقدت الواقع الذي نعيشه بإتقان ووضعته في قالب ساخر هزلي
شكرا لك أديبنا الفاضل
تحاياي

ربيحة الرفاعي
19-05-2016, 09:11 PM
سرد شائق بتوظيف رمزي متقن تقابلت اسقاطاته تمنح التأويل بعدا فلسفيا لافتا، ونص حكى واقع الشريحة الأوسع من أحياء بلا حياة في عالم يرفعهم ما اقتضت مصلحة متنفذيه ويركلهم متى انتهى الدور المطلوب منهم

كأني باللحظات الأخيرة من المشهد جاءت قلقة رغم حملها القفلة الشارحة

دمت بخير اديبنا
تحيتي

حارس كامل
10-10-2016, 08:21 PM
من فنتازيا القصة القصيرة جاءت هذه القصة الطريفة
عندما جعل الحياة تدب في شخصية من الخيال( خيال المآتة)
وبخروج عن الواقع .. يحلم بوجودأنثى تحرك مشاعره .. فيتحرك قلبه القش
وينبض ـ ويجتاح صدره دفقة نور تهدم حزنا .. ثم يحكي لأنثاه عن
بطولاته في سيادة الحقل .. ويحلم بها عروسا .
ولكنه يكتشف في النهاية إنه ليس سوى خيال مآته.
شاعرية في التعبير، وبهاء في التصوير في قالب قصي مشوق
مترف اللغة مغلف بالرمز.
إن خيالك وقلبك وروحك هم الذين يصنعون الإبداع فشكرا لك. :001:
كل الشكر والتقدير لمروركم الكريم مبدعتنا الراقية
تحيتي

حارس كامل
10-10-2016, 08:22 PM
هناك من يدرك ذاته في لحظة ما عندما يجد نفسه على قارعة الحياة صفر الحب ، وحيدا الا من قلب ينبض ليذكره أنه ما زال قيد حزن
كم الصعب ان تجد أنك لم تكن يوما سوى خيال مأته وأن كل حقيقتك لم تكن سوى وهم
قصة جميلة برمزية عميقة تسحبك خلف سطورها بسلاسة
بوركت وكل التقدير

تقدير واعتزاز لمروركم
تحيتي

حارس كامل
05-07-2017, 09:02 PM
سرد جميل وعرض للفكرة بأسلوب رمزيّ شائق
بوركت
تقديري وتحيّتي

الاستاذة القديرة كاملة بدارنة
شكرا لمرورك الكريم
وتقدير أكبر لدعمك المتواصل
تحيتي

حارس كامل
05-07-2017, 09:04 PM
قصة رمزية عرضتها أديبنا الكريم بأسلوب شائق..
كثيرٌ ممن يتعلقون بالحياة و متاعها و مناصبها لا يدركون أنهم أدوات و سيأتي يومٌ ينجلي هذا الوهم عن عيونهم ..
شكرًالكم أديبنا العزيز..

الاستاذ العزيز عبدالسلام دغمش
شكرا للقراءة والحضور البهي
تحيتي

حارس كامل
05-07-2017, 09:05 PM
كان مجرد أداة تحركها الرياح وإذا ما انتهى دورها أزيحت من موقعها
دنيا المصالح التي تجعل من خيال المآتة صاحب للمكان بعد التلميع
وماهو إلا صورة تتكرر بأردية وأبدان مختلفة ...
رمزية عالية نقدت الواقع الذي نعيشه بإتقان ووضعته في قالب ساخر هزلي
شكرا لك أديبنا الفاضل
تحاياي

الاستاذة القديرة آمال المصري
شكرا لدعمك ومرورك
تحيتي

حارس كامل
05-07-2017, 09:10 PM
سرد شائق بتوظيف رمزي متقن تقابلت اسقاطاته تمنح التأويل بعدا فلسفيا لافتا، ونص حكى واقع الشريحة الأوسع من أحياء بلا حياة في عالم يرفعهم ما اقتضت مصلحة متنفذيه ويركلهم متى انتهى الدور المطلوب منهم

كأني باللحظات الأخيرة من المشهد جاءت قلقة رغم حملها القفلة الشارحة

دمت بخير اديبنا
تحيتي

الاستاذة القديرة ربيحة الرفاعي
شكرا لملاحظتك القيمة والتي اطلعت عليه متأخرا
بالفعل كنت أجريت على النص تعديلا، سأرفقه هنا
تحيتي

حارس كامل
05-07-2017, 09:13 PM
خيال المآتة

ذات صباح، تفتحت عينا خيال المآتة على (أنثى خيال مآتة) مزروعة جنبه. بالأسى والفرحة فرك عينيه ليتيقن أنها حقيقة. هتف بأعلى صوته لمَّا تأكد. حرَّك ذراعه إلى اليمين، فدفعته الريح ليحاذي وجهه وجهها. أمعن النظر في عينيها، يزيد من دفقة الحلم التي تولدت من العدم.
كان لها عينان من زجاج تلمعان كوميض حركتا داخله قلبًا من قش وجعلته ينبض.
تقدَّم خطوة، وحدَّق فيها طويلًا يتأمل شفتيها الحمراوين، وشعرًا مسدلًا أصفر كالذهب.. قال لها بسعادة، وغيمة تمر فوق رأسه في سماء زرقاء:
- كنت أحلم بكِ في صمت الليل، وضوضاء النهار.. حين يبزغ القمر وحين يغيب.. في ظل الزرع الأخضر، وفي لهيب الشمس.. كنت أفكر فيكِ منذ أن وضعني الفلاح هنا أعاني الوحدة
فكَّر كيف بدأت حكايته وقت أن رجع الفلاح غاضبًا من الحقل، والشرر يتطاير من عينيه. ذرع البيت ذهابًا ومجيئًا يفكر ويردد:
"ضِقت بتلك الغربان والعصافير.. لقد أنهوا على المحصول".
مال بجسده تحت كنبة في صالة البيت، وأخرج حطبتي صفصاف غليظتين. شدّ الحطبة القصيرة على الحطبة الطويلة كصليب، وجعلهما ذراعين. أحكم وثاقهما بحبل من كتان. لف فوق قمة الحطبة الطويلة عمامته البيضاء، وجعلها رأسًا. ثبَّت في العمامة خرزتين زرقاوين كعينين. وضع فوق الرأس طاقية صوف كان يرتديها.
أسرع وأحضر جلبابًا من دولابه، وأدخله في الحطبتين، ليكتمل خيال المآتة.. تطلع إليه طويلًا، ثم حمله وأسرع به إلى الحقل. حفر وسط الزرع حفرة عميقة وضع فيها طرف الحطبة، ثم أهال عليها التراب.
قال له الفلاح، وهو يحدِّق في عينيه:
- الآن أنت يا صديقي سيد ذلك الحقل كله.. عليك أن تطارد الغربان والعصافير.
لم ينس الفلاح قبل أن يتركه أن يقول له:
- لك مني هدية إن نجحت!
"يبدو أن الفلاح صديقي وفَّى بوعده لي وجاء بأجمل هدية".. قالها بسعادة وهو يتأمل بوله أنثاه.
حاول أن يمدّ ساقه ليتقدم خطوة أخرى، فأوشك أن يقع. لملم نفسه بصعوبة، وثبَّت نفسه مرة أخرى.
كانت على حدود الحقل نخلتان، وشجرة تقف فوقها العصافير تتأهب للولوج إلى الحقل في حذر، فضرب خيال المآتة على صدره، فرفرفت عاليا مذعورة. واصل حديثه عن نفسه قائلا بفخر واعتزاز:
- أنا السيد هنا.. لا أخشى الريح ولا المطر.. تهابني العصافير ولا تقدر على الاقتراب.. يتعاقب عليّ الليل والنهار وأنا ثابت مكاني كزنهار.
رأى كأن (أنثى خيال المآتة) لا ترد عليه، فهز رأسه ينفض اليأس، وقال لها مشجعا:
- تكلَّمي معي.. لا تخافي..
دندن لها بأغنية شجية، ومد لها يدا تورقت كغصن أخضر. لمح كأن على شفتيها ابتسامة، فاجتاحت صدره دفقة نور هدمت حزنًا في مكان معتم.
واصل حديثه معها يحكي لها عن أيام وحدته وبطولاته حتى داهمه ليل بلا نجوم ولا قمر. دقق النظر، فخالها في الظلمة كأنها غادرت. رجع يرتب أفكاره وأحلامه حتى لا يغرق في دوامة تطيح ببقايا الأمل.
قال لنفسه يؤنسها:
- سيزفُّها لي صديقي الفلاح في عربة يجرها حصانان تتقدم موكبا مهيبا.. سأرتدي جلبابا أبيض وعمامة بيضاء.. سأرقص معها ليلًا بلا نهاية.
انتظر الصباح ليبرق له ما تولد في عقله من أحلام.
مع أول إطلالة ضوء تزيح العتمة جال ببصره يبحث عنها، فلم تقع عيناه إلا على سنابل القمح الناضجة على مدى البصر. أحس بالقنوط يجتاح النفس الخائرة، وتهدَّمت داخله ذكريات جميلة، سقط لها دمع من ريش وقش.
بعد قليل جاء الفلاح وبصحبته رجال آخرون يمسكون في أيديهم مناجل تلمع في ضوء الشمس. انكبوا بهمة على الأرض، وحصدوا الزرع.
بعد أن فرغ الفلاح من الحصاد، وقف يشد جسده من التعب، واضعًا يديه وراء جنبيه. أبصرت عيناه خيال المآتة يقف وحيدًا وسط الفضاء، فقال بنبرة ساخرة حملتها إليه الريح:
- لا فائدة منك الآن!
وكأنه ندبة سيئة للزمن يجب التخلص منها، جاءه الفلاح سريعًا، واقتلعه من منبته، حمله فوق كتفه، ومضى به إلى خارج الحقل.
من مكانه فوق كتف الفلاح، ورأسه مدلى نحو الأرض، أخذت الريح تعبث بوجهه، والذكريات تتداعى إلى رأسه كضربات معول: حبوب القمح التي ولجت إلى الأرض والعيدان الخضراء تكبر أمام عينيه، وسنابل القمح تنضج كلون الذهب تبرق، وثمة أصوات بعيدة وخافتة كجنون حتمي تنسل إلى النقطة البعيدة في وعيه، كأنها لتلك العصافير والغربان التي تقف هناك فوق الشجرة، ترمقه بحسرة في جنازته الصامتة وفي وداعه الأخير.
فقط الآن يسمع صوتها واضحًا وجليًّا، وقد تفكك جسده إلى أشلاء على ناصية الطريق، تذكره وبكل أسف أنها لطالما أخبرته: أنه لن يكون يوما أكثر من خيال مآتة!..

***

حارس كامل
05-07-2017, 09:14 PM
الرجاء من مشرفي الواحة التعديل

مصطفى الصالح
07-07-2017, 11:18 PM
رائع جدا يا صديقي
رمزية باهرة متقنة ولغة سوية وأسلوب ناضج
هذا هو حال الحكومات العربية والدكتاتوريات أينما كانت
أسعدني كثيرا هذا النص
دام الابداع
تقديري