تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : آسف... حدث سهواً



عبدالكريم الساعدي
07-03-2016, 09:43 PM
آسف... حدث سهواً

في قاعة الانتظار يلتقيان صدفة، شاب في مقتبل العمر و جاره الرجل الستيني، يحدّقان في هياكل عظمية، وأعضاء بشرية، احتوتها لوحات معلّقة على جدار أصفر؛ يتبادلان الحديث على مضض، يبدو أنّهما منهمكان في ضياع الوقت، لم يجدا الحديث الكافي لتبديد القلق، يأخذان قسطاً من الراحة في ظلّ سكون مطبق، ينتظران نتيجة التحاليل الطبية لأمراض خبيثة؛ يحاصرهما النداء، الرجل الكبير يستدعيه الصوت، يصفرّ وجهه، عيناه تهومان بعيداً عن غرفة الطبيب، يبسمل، يرفع كفّيه، يدعو الله أن ينجيه من علّته؛ دقائق تمرّ، يخرج مذعوراً، يلهث حدّ الهذيان، تشفّ ملامحه عن خوف لا حدود له، الشاب يرسم نافذة حلم، يغوص في كتلة أمل، يتظاهر بالسؤال عن حال الرجل الستيني، وكأنّه يريد تأخير سماع نتيجته:
- ما به؟
- مسكين، لا أمل في علاجه، لم يبقَ من عمره غير ثلاثة أو أربعة أشهر؛ أمّا أنت
- يا نبيل- ففي تمام الصحة، التهاب بسيط. قال الطبيب.
ينطلق نبيل فرحاً، يتشمّم رائحة الحياة، يتسلّق سيقان الأمل، يقطف حلماً؛ ليغيب فيه؛ بيد أنّه يتوقف، يستفيق على أنين جاره وعويل عائلته، ترتسم غلالة حزن على ملامحه، لقد نصبوا له عزاء مبكراً. الرجل الستيني يحاصره رعب المجهول، يغوص في متاهات العالم السفلي، ترهبه ظلمة قبر موحش؛ ينتظر موته، يستعرض شريط العمر، يتأمله، تستوقفه محطات مكتظّة باللوعة والأسى، عيناه تنوءان بندم حارق؛ لم يكن أمامه إلّا أن يكتب وصيته، وينزوي في عزلة مريرة، تعرج به إلى أهوال القيامة، دون أن يفكر بأيّة إطلالة على الحياة. بعد ثلاثة أشهر، يستيقظ على صراخ مخيف، يصدر من بيت جاره، يتساءل:
- ما الأمر؟
- لقد مات نبيل.
يصعقه الخبر، ينهض من سريره فزعاً، يحوقل، يتيه في دهشة، يهرع إلى بيت جاره معزّياً، عيناه تغرورقان بالدموع، لا يفقه من الأمر شيئاً، يغرق في موجة استغراب، هو لم يشعر بأيّة آلام خلال الأشهر الماضية، يحاصره الشكّ، يخطر في باله إعادة التحليل مرة أخرى، ربما هناك خطأ ما.
الطبيب ينظر بإمعان إلى ورقة التحليل، يصيبه الذهول، يقع في دائرة الحيرة، يحدّق في الرجل مدهوشاً، يخبره بنظافة التحاليل، يعتذر:
- آسف جداً، حدث سهواً.
- ماذا فعلت؟ وأيّ أسفٍ هذا؟ لقد هشّمت مرايا الحياة.
يرنو ببصره إلى السماء، يحدّق بعيداً، ربما يتوهج بستان الأحلام في خريف العمر. يزمّ شفتيه بعصبية، يبصق في ورقة التحليل، يزيح كابوساً مرعباً بابتسامة هازئة بما تبقّى من سنين.

خلود محمد جمعة
08-03-2016, 11:42 AM
ربما الغلط الذي وقع سهوا كان مقدرا ليعيش نبيل ما تبقى له بسعادة وليستمتع بساعاته لا عدها
وربما كان امتحان لإيمان الجار
من أجمل ما قد يحدث سهوا بمنظوري
قصة جمعت بين الحدث والقدر والعظة بسلاسة وعمق
اسجل اعجابي
بوركت

عدنان الشبول
08-03-2016, 12:11 PM
يا سلام عليك كيف لم تترك القارئ مجالا ليبعد عن النص ولو للحظه لما فيه من التشويق والجمال والحكمة والواقع
أعجبني تعليق الأستاذة خلود كذلك ... برغم أني أكره الأخطاء الطبية البسيطة والكبيرة منها


دمتم بخير دوما

عبدالكريم الساعدي
08-03-2016, 09:18 PM
الأخت خلود محمد جمعة
تحياتي مع خالص الشكر لحضورك الجميل

عبدالكريم الساعدي
08-03-2016, 09:19 PM
الأديب عدنان الشبول
ممتن لحضورك البهي ولجميل إعجابك... خالص المحبة والتقدبر

ناديه محمد الجابي
10-03-2016, 08:50 AM
من رحمة الله بنا أن لا نعرف موعد موتنا وإلا كنا
عشنا أيامنا في رعب وخوف وترقب.
ولكن المؤمن الفطن هو من يعمل لدنياه كانه يعيش أبدا
ويعمل لآخرته كأنه يموت غدا فيعد نفسه بالعمل الصالح
الذي يصلح له آخرته.
آسف جدا .. حدث سهوا..
كان هذا السهو في صالح نبيل ـ فلم يعش رعب مجابهة

الموت، وترك الدنيا ، ورهبة ظلام ووحشة القبر.
فعاش أيامه الأخيرة سعيدا يتشمم رائحة الحياة، ويحى بالأمل والحلم.
وربما كان أيضا في صالح الرجل الستيني .. فالشعور بان الأنسان
على حافة الموت يجعله يلجأ إلى الله ، ويكثر من العبادات التي تقربه
من ربه.
أمتعنا سردك الرائع في قصة عميقة في المعنى، جميلة في الطرح
قوية في الفكرة..... دام بريق قلمك. :001:

عبدالكريم الساعدي
10-03-2016, 05:29 PM
الأخت الجليلة نادية محمد الجابي
دام حضورك البهي... رعاك الله

سحر أحمد سمير
10-03-2016, 07:14 PM
كست وجه نبيل السعادة حتى آخر لحظة في عمره شيئا قدريا رغم آلامه التي لم تعالج جذريا ..

و تدثر الجار الستيني بالرهبة و العزلة في ثلاثة أشهر أيقظنا على بشاعة الخطأ الذي أحدثه الطبيب ..حيث لا ينفع أسف ..

نص ثري موفق الحبكة بانزياحات نفسية للشخصيات صيغت ببراعة ..

فائق احترامي لشخصك الكريم

تحاياي

عبدالكريم الساعدي
11-03-2016, 08:38 PM
الأخت الفاضلة سحر أحمد سمير
سرّني حضورك.. خالص المحبة والتقدير

كاملة بدارنه
13-03-2016, 06:53 PM
ذكّرتني بقصّة لي مشابهة في الفكرة
سهو يقتل الصّحو ويطفئ بريق الحياة
سرد جاذب ومؤثّر
بوركت
تقديري وتحيّتي

عبدالكريم الساعدي
13-03-2016, 08:08 PM
الأخت كاملة بدارنه
تشرفت بحضورك البهي... رعاك الله

ربيحة الرفاعي
09-04-2016, 10:50 PM
سهو منح نبيل فرصة عيش شهوره الثلاث بأمل وفرح
وحرم بالمقابل جاره من الحياة طوال تلك الأشهر الثلاث حين أدخله قوقعة ترقب الموت

ترى أكانت الخسارة على الجار بحجم الكسب الذي تحقق لنبيل بعيش شهوره تلك حيّا يباغته الموت فجأة بدل أن يجلس في انتظاره!
تساؤل لن يفر منه عابر بنصك الجميل

سرد شائق وأداء متقن وبراعة قصّيّة لاتة

دمت بروعتك
تحيتي

عبدالكريم الساعدي
10-04-2016, 05:32 PM
خالص المحبة والتقدير لحضورك الجميل الأديبة كاملة بدارنة

آمال المصري
14-08-2017, 10:44 PM
تجميل الأقدار جعلت من الخطأ السهو فرصة صنعت سعادة ورضا .. وسخط ويأس .. انتظار لغائب مريب كان في زيارة الربيع حينما اعترض الخريف على القضاء
حكمة بليغة يحملها النص ببيان ثر وحبكة قوية وسرد محكم أجدت نسجه أديبنا الفاضل فشكرا لك
تحية وتقدير