المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كانون بيتنا



فتحي العابد
23-03-2016, 09:57 AM
بسم الله الرحمان الرحيم

قضيْنا سنين في ريف ناء أشبه بصحراء، تكيَفنا مع هوائه، وعجاجه، وترابه.
لم يكن لدينا وقتها في ليل شتائه من مدفئة سوى كانون نار صنعته زوجة أبي بإشراف جدتي رابحة رحمهما الله، وكانت قد جلبت طينه أمي من ربوة في آخر نقطة من أرض والدي تسمى "مقطع الطين"..
كانت أمي أو زوجة أبي يتداولا على جمع الحطب وقطعه قطعا صغيرة من كومة بجانب زريبة الشياه.
كنا نحمل الكانون فارغا قبيل الظلام بقليل خارج البيت ونشعل فيه الحطب، لنعود به إثر غياب الشمس مباشرة، مليئا بالجمر الذي يصلي وجوهنا حتى ندخل به للبيت، بعد أن نشعل مصباح زيتي ضوءه خافت، يصنع ظلالا وهمية لموجودات الغرفة، ويضخمها.. فنجتمع كلنا، من جدتي وزوجة أبي وأمي وأبي وأنا وإخوتي الخمسة حول الكانون ندفأ به أجسامنا المرتعشة من البرد، وكانت الأيدي تتسابق أيها تكون فوق الجمر ليجري الدم مجددا بها بعد أن يكون قد قارب على التجمد.
كانون بيتنا لم يكن مجرد وسيلة للتدفئة بل كان أبعد من ذلك بكثير، كان تراثا وأسلوب حياة لا يعرفها إلا من عاش تلك الفترة وجلس مع أهله حول الكانون.
كان الكانون يجمع كل العائلة حوله، إذ كلما ابتعد أحد عن كانون النار سيشعر بالبرد حتى لو مترين لذلك كان يجبرنا على الجلوس قريبا منه، وبغياب التلفزيون كنا نتبادل الحديث، والألغاز والنكات، ونثرثر في كل شيء، فكانت جدتي تحدثنا عن الغول وحكايات أم السيسي..
وفي الأثناء كانت جدتي تحضر الشاي على الجمر، ومن من محبي الشاي لايحب تحضيره على الجمر، وكيف أن له نكهة مختلفة وأكثر لذة، أو نقلي اللوز، أو حبات عباد الشمس ما يساعد في إطالة السهر والسمر، لأنه في فصل الصيف والإبتعاد عن الكانون كانت تقل تلك الجلسات التي تضم الجميع مرغمين.
كنا نمنع نحن الصغار من احتساء الشاي بالنعناع لأنه يضرنا، أو نصبح مدمني شاي ومايتبعه من وجع في الرأس حسب فقهائه. ورغم المنع كنا نحبذ الجلوس قرب البراد وهو يهدر والزبد يتطاير من تحت غطائه المنتفض، أو يوشوش إذا انسدت منافذه وكانه يستجدي خلع غطائه.. وحتى وإن سمح لنا بشرب الشاي فيخلط بالماء حتى يقل تركيزه، نترشفه ونحن نتلذذ به كأننا أمام خمر معتق منذ عشرات السنين.
اليوم اختفى كانون النار من بيوتنا، بعد أن سافر كل من كبر منا إما للدراسة وبعدها لسوق الشغل أو خارج حدود الوطن أصلا..
اختفى الكانون فاختفى معه ليس الشاي فقط، بل تجمعنا.. ولم نعد نجتمع إلا ما ندر وبعد اتصال مسبق وربما في المناسبات فقط، اختفى كانون النار، وبراد الشاي على الجمر، وأخذا معهما النكهة التي يجهلها أبني ويتشوق لعيش اشبه بتلك عندما أقص عليه ماضينا، لكن بطريقته العصرية.
اختفى الكانون فاختفت معه الآذان الصاغية التي كانت تستمع لأحاديث الكبار فتتعلم منها، اليوم أنا أجلس بجانب ابني لأتعلم منه الألعاب الإلكترونية التي حولت كثيرا من أبنائنا لآلات، ليس لديهم وقت للإستماع لنا.. ولا تحمل نكهة القص من جيل مضى.
كم أنا مشتاق لكانون بيتنا.. بيتنا الذي كان عند هبوب الرياح يدلف ترابا وبردا أثناء الليل من عدة شقوق في الباب أو في الشباك. حاولنا سدها بخرق قماش أكثر من مرة ففشلنا.. فصرنا نسمع صوت صفير الريح متتاليا وكأنه عزفا موسيقيا ننام على أنغامه بعد أن نكدس الغطاء على أبداننا، ونستغرب بغياب ذلك العزف الشتوي المنفرد.
لم أكن أعلم أبدا أنه سيأتي يوم أشتاق فيه لكسرة الشعير المطهوة في الطابونة.. أو لذلك العزف الطبيعي الذي من الله به علينا..
ربما جراء غرقنا في مياه الهجرة، أو تلوث هوائنا من "الرومية" مع مرور الأيام والأعوام..

ناديه محمد الجابي
23-03-2016, 07:23 PM
ذكريات جميلة من الماضي حيث كان دفء العائلة يربط ويقارب بين كل أفراد العائلة
وكانت التقاليد العائلية تعزز من الشعور بالهوية والتقارب والأحساس بالأمن والطمأنينة.
بعكس ما يحدث الآن .. حتى لو اجتمعت العائلة فلا فائدة في ظل إنشغال كل فرد بمتابعة جواله
إن وسائل التواصل الأجتماعي هى السبب الرئيسي للتمزق والتفكك الأسري.
قرات اليوم خبرا طريفا .. جدة من تركيا تشترط على أولادها وأحفادها بترك جوالاتهم في سلة
عند الباب عند زيارتهم لها ... صدقت والله. D:
نصك جميل وأسلوبك ظريف وممتع ـ ولكني شعرت إنه نثر أكثر منه قصة ـ مجرد رأي.
استمتعت بحرفك الناطق ولوحتك الأصيلة
دمت بكل خير. :001:

عبد السلام دغمش
24-03-2016, 08:07 AM
هو نقلة ما بين عهدين : البساطة وإلى جانبها راحة البال والتآلف الأسري .. مقابل التطور وما يجره من انشغال المرء بنفسه وانشغال ذوي الأسرة عن بعضهم البعض ..
نص جميل أستاذ فتحي وبرأيي أنه أقرب الى النثر منه إلى القصة القصيرة ..

تحياتي ..

كاملة بدارنه
08-04-2016, 09:13 AM
ما بين الماضي والحاضر تتداخل أفكار كثيرة فيحثّنا الحنين على العودة إلى جذور الماضي، وتدفعنا الحياة إلى اعتلاء جذوع الحاضر!
بوركت
تقديري وتحيّتي

سلوى سعد
08-04-2016, 11:57 AM
ذكريات جميلة وأجواء حقا ممتعة وجميلة لم اجربها كثيرا لكنني أحببتها وأتمنى أن أعيشها من جديد
كانت تجمع الجميع ويتبادل الحديث ونمضي وقت سعيدا ، أما الشاي فله طعم مختلف تماما على الكانون عن غيره وكذلك دائما نضع للأطفال الماء على الشاي .
نص جميل جدا وكأنه يحكي أيضا ذكرياتي
شكرا لك ودام قلمك مبدعا وسلمت أناملك
مودتي وتقديري

ربيحة الرفاعي
13-05-2016, 02:27 AM
جولة في فضاء الذاكرة وما تبعث في الروح من حنين يتفجر بوحا نابضا

دمت بخير أيها الكريم

تحيتي

فتحي العابد
28-05-2016, 10:07 AM
شكرا استاذة ربيحة على ماتفضلتي به
لامستقبل لنا بدون الإستناد على الماضي

فتحي العابد
28-05-2016, 10:14 AM
بارك الله فيك أستاذة نادية
نعم هو نص نثري

فتحي العابد
28-05-2016, 10:15 AM
شكرا لك أستاذ عبد السلام
أخطأت وضعه في منتدى القصة
هو نص نثري

فتحي العابد
28-05-2016, 10:16 AM
بارك الله فيك استاذة كاملة
وكملنا الله ببعضنا البعض

فتحي العابد
28-05-2016, 10:18 AM
شكرا استاذة سلوى
وبارك الله فيك على المرور والمجاملة