تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : رائحة المكان



ريان الشققي
15-05-2005, 02:13 PM
رائحة المكان


تحياتي القلبية،
الحنان والألفة والاستمرار،
أبي الكريم.
.. ملؤها المحبة والمودة والحنين.
... أتمنى... بخير وعافية من الله ....
هو ذا مظروف يتهادى بلون ربيع الأيام الفاتح، أطرافه مزركشة بالأحمر والأزرق يتعاقبان على شكل معينات، وعبارة البريد الجوي مطبوعة على خده الأيمن، وها هي ورقة زرقاء كسماء الصيف الصاحية أرفعها إلى شـفـتيّ وأقبّـلها ثم أنظر إليها وإلى الحروف فيها وأطويها بعناية، وبلطف أدفع بها داخل المظروف، ألوان الطيف تعانق أعطافي المتقوقعة على مودة عارمة تكاد تنبهر بأصداء الذكريات، وتنساب على عمر الأحزان المتحرك، ولكن الذكريات ثبتت فيه وانطبعت على أروقته وأكنافه. اتخذ المظروف مكانه داخل دفتر المواعيد كي يتم التصاقه ويُحكم إغلاقه فلا تهرب منه كلمة ولا تنفذ منه رائحة الذكريات، هذا الدفتر المليء بإشارات تنم عن وجع الرأس وسرعة الزمان وكثرة الأشغال، ثم نام المظروف هادئا في الدفتر حتى الصباح.

سألني موظف البريد: رسالة عادية.
قلت: نعم عادية فيها سلامات وسؤال عن الصحة والأحوال.
استبشر وجهه وبانت نواجذه حين قال بلهجة السؤال: أقصد عادية أم مسجلة.
رددت الابتسامة وقلت: عادية.
استدار ووضع ختما على الرسالة وهو يسأل عن النقود، وما زالت آثار الابتسامة على محياه. لم أعط للأمر انتباها إلا حين رمى الرسالة في كيس من القماش معلق على عربة معدنية، قلت: على مهلك المظروف فيه عواطف أخشى أن تُخدَش فتصحو وتهرب. أعاد الإبتسامة التي لم تنطفئ بعد وقال بصوت فيه مودة: أراك ما زلت تستخدم البريد العادي أليس لديك بريد الكتروني أو جوال. كان الوقت مبكرا والجو في الخارج يعلوه الغبار وقرص الشمس يحاول الوصول إلى الأرض وتكاد تسمع صدى صوتي وصوته في صالة مكتب البريد، أجبته: لدي كل هذا ولدي أيضا (ماسنجر) كله متوفر والحمد لله. قال مردفا: ولماذا ترسل رسالة فيها عواطف فقط وتكلفك أكثر من رسالة جوال أو بريد الكتروني. قلت بأدب: أرجوك هذا شأني. فجاء معتذرا طالبا مني الصفح بشأن تطفله عليّ فخجلت منه ورجعت نحوه بعد أن هممت بالخروج وقلت: لا عليك يا أخي الكريم إنما هي عادة اعتدت عليها مع أبي وأنا في الغربة ولا أحب أن أقطعها أو أكسرها، أخاف على نفسي من الجفاء العاطفي. أومأ وأرجع البسمة قائلا: معك حق فالسرعة أفسدت أشياء كثيرة في حياتنا. أتبعته بقولي: خطي بقلم الحبر السائل هو أنا يعبر عن مكنونات سريرتي، ولواعجي أبثها بحميمية ومودة لا تستطيع أن تقارنها مع القليل مما تعطيك التقنية الحديثة، الزمن يتوقف مع كتابة كل حرف باتجاه أهلي ويعيدني على موجات الأثير طفلا حانيا، أرجو أن تفهم قصدي، والمكان في تلك اللحظات لحظات الكتابة ينبع أمامي، يتصابى وينتشي، يتباهى بوجودي ويؤيد شكواي، يداي مشغولتان، فأتحسسه بأنفي وأملأ منه صدري شهيقا عميقا لا أتركه حتى يحمر وجهي، وأنا لا أعترض على التقنية الحديثة ولكن كيف ننسى الماضي بحلاوته وطلاوته، نضرب به عرض الحائط وهو ما أتى بنا ورعانا. كان منصتا بشغف ومرفقاه على الطاولة التي بيني وبينه، استقام وقال: صدقت يا أخي أقسم لك أني تعبت من الركض وراء الحياة المتفلتة وأتمنى أن أجلس ساعة أكتب فيها رسالة حميمية لأحد أحبه، لم أفعل ذلك منذ عدة سنين. ثم استدار نحو الباب فقد تناثرت الأصداء ولم ترجع فهاهو زبون يمشي باتجاهه ومعه طرد بريدي، قال لي: أرجو ألا تذهب. أخذ منه الطرد ووزنه ثم دفع الزبون المبلغ وخرج. أكملت وقد عاد الصدى: كان أبي يعرف أنني أدخن وأنا واثق أنه لم يخبره أحد عن الأمر ولم ير قط لفافة في يدي من قبل عند زياراتي القليلة له، كان يشم رائحة ورقة الرسالة لا شك، كنت أدخن بشراهة عندما أكتب دائما ولم أشعر بهذا، وعندما دخنت الغليون لفترة قالت لي أمي على الهاتف تدخن الغليون فقلت كيف عرفت قالت من والدك، وقتها قنعت أنه يشم رائحة المكان مثلما أتحسس أنا رائحة الذكريات هناك، كل بطريقته، وبعد أن أخرجت زفيرا طويلا ومزقت آخر لفافة ورميت آخر غليون من الشباك وصلتني رسالة منه يقول فيها مبروك يا بني حافظ على صحتك. قال صاحبي وقد عاد إلى الاستناد على مرفقيه: الله الله يا أخي، أعدتني إلى ذكريات لدي حميمة كدت أنساها في خضم العمل والمسؤوليات المتزاحمة. ثم قص علي قصة من عنده. تركته هائما بلذة سامقة وخرجت وقد تلاشت آثار الغبار من الجو فجأة وبرزت الشمس بعد محاولات بكل إشعاعاتها إلى الأرض، وفي عينيّ بحر من الدمعات تترقرق وستخرج حتما لتنزل سيلا على الخدين، خديّ أبي.

د.جمال مرسي
16-05-2005, 10:36 AM
رحم الله أباك و غفر له
و هل أحن من الأب على ولده إلا الأم
كلاهما من يحس و يشعر بابنه و ألمه و فرحه و حزنه
هكذا أحسها مع والدي غفر الله له و رحمه .
كانت أخر رسالة أرسلتها لوالي منذ حوال 6 سنوات جاءت بشكل قصيدة سميتها رسالة إلى والدي
تخيل أخي ريان أنني من بعدها و مع انتشار الجوالات و البريد الإلكتروني لم أعد أكتب بالمرة أي رسالة لأي أحد رغم شوقي لذلك .
لكن هكذا هو تطور الحياة و تسارع عجلاتها .
ألا ليت القديم يعود يوما =فأخبره بما فعل الجديدُ
مع الإعتذار لأمير الشعراء

شكرا لك أخي الحبيب ريان
أمتعتني هنا
دمت بخير
د. جمال

حوراء آل بورنو
16-05-2005, 07:17 PM
حقا جميلة ، جميلة هي العواطف هنا ، جميلة هي الروح هنا ، جميلة هي الأحاسيس هنا .

تحية عطرة لك .

ريان الشققي
17-05-2005, 02:20 PM
عزيزي الدكتور جمال
حاضر أنت في كل مكان حتى في القلب
تحياتي
ريان

ريان الشققي
17-05-2005, 02:23 PM
حره
اسم جميل ومعنى واسع الأفق ذو إيحاءات فيها جلاء ومتعة
تحياتي وشكري
ريان

ياسمين عبدالله
08-06-2005, 08:48 PM
تدعو هذه القصة للبساطة و الماضي الجميل ، والمكان هنا المشاعر و الحنين للأسرة ودفء العائلة .


اخي ريان...أكثر ما اعجبني هنا لجوء الكاتب لتقنيات في السرد جعلت القصة أكثر جمالا و أعمق اثرا،
بداية القصة وكتابة مقطع من الرسالة هي بداية مشوقة للقارىء .

المقابلة بين الظرف بهدوء مشاعره وحنينه للماضي في دفتر مليء بالأشغال ( ولعلها رمز لحياة الشخصية في القصة )

الاهتمام بحركة الاشخاص ..وتتبع تصرفاتهم ووصفها بدقة .(استبشر وجهه وبانت نواجذه حين قال بلهجة السؤال) (كان منصتا بشغف ومرفقاه على الطاولة التي بيني وبينه، استقام وقال) ( ورجعت نحوه بعد أن هممت بالخروج ).....

نهاية القصة أكثر من رائعة.....(وفي عينيّ بحر من الدمعات تترقرق وستخرج حتما لتنزل سيلا على الخدين، خديّ أبي.)
وأكثر من ذلك...

بعض الملاحظات أتمنى أن أجد منها فائدة وأنا اذكرها لك وبانتظار رأيك :

* بداية القصة رغم انها مشوقة لمعرفة المزيد من التفاصيل ولكنها كلمات لا تحمل الشوق الذي نتوقعه من ابن يعيش في الغربة لوالده البعيد عنه .(الحنان والألفة والاستمرار،
أبي الكريم.
.. ملؤها المحبة والمودة والحنين.
... أتمنى... بخير وعافية من الله ....)

* تمنيت أن يكون صاحب البريد رجلا كبير في السن حينها سيكون لذلك الوصف وحاله حين يستند على مرفقيه أو حين يعود يستقيم معنى اعمق...كأنه يسترجع ذكرياته ....مجرد أفكار خطرت في بالي...

قصة جميلة وشكرا لأنني أمضيت وقتا مفيدا معها .

تحياتي واحترامي


ياسمين عبدالله

ريان الشققي
11-06-2005, 08:47 AM
الأخت الفاضلة ياسمين
أولا تحية طيبة لك ولتعليقك النابض بالألفة
أسعدني أنني حققت قسما من النجاح في بعض العناصر، وأثلج صدري أن التذوق الإنساني لا ينقطع

ألفاظ البداية: نعم يمكن أن تكون أكثر إثارة ولكني رغبت أن أبدأ من دون إثارة كبيرة، ورأيك على عيني.

فكرة رجل البريد: معك حق ففي الواقع رجعت ورأيت أنني لم أعط الشخصية الثانوية (الداعمة) مساحة كبيرة تتوازى مع الحدث بشكل عام وكان التركيز المكثف على الشخصية الرئيسة.
شكرا وتحية

ريان

د. سمير العمري
08-08-2005, 12:54 AM
أخي الحبيب ريان:

لا تزال تشدني بفكرك وتسعدني بحرفك شعراً كان أو نثرا.

هي عودة لماض جميل تولى وتبرم من زمان ماتت فيه كل المشاعر الدافئة والقيم الجميلة.

آه على أيام كان للحب فيها أسمى مكان.

دمت مبدعاً ولك التحية كاملة يا صاحب الحروف النابضة.


تحياتي وتقديري
:os::tree::os:

ليال
20-10-2005, 01:38 AM
سيدي الفاضل
أتعرف معنى ان تندفع نحو إطار الردود قبل ان تصل إلى نهاية النص لتستجلب من روحك ومن عقلك ردا يكون بحجم الأثارة والإنفعال الذي خلفته تلك السطور القليلة!!..إن هذه القطعة الأدبية الراقية والمشغولة بعناية المحترف وعين الخبير تدفع بالقاريء لأن يقول أو يكتب شيئا بعبارة أخرى لأن ينفعل من دون أن يدرك على وجه التحديد أين يكمن مصدر الإنفعال والتأثير فيها ..هل يكمن في رومانسية الفكرة التي نلمسها مثلا في استخدام البطل للبريد العادي بدل البريد الإلكتروني او في تلك العلاقة الرقيقة الحانية بين اب شغوف بإبنه وابن منبهر بابيه..او هل يكمن مصدر الإثارة في بساطة كاتب الرسالة وجمال روحه ..او لعله في كل ذلك مجتمعاً في اسلوب ادبي راق،، من أجمل ما قرأت من الرسائل ..فإذا كان للمكان رائحة وللذكريات رائحة فإن للموهبة أيضاً رائحة يفوح عبيرها هاهنا بين السطور...شكرا لك وتقبل خالص أحترامي وتقديري

ريان الشققي
22-10-2005, 08:28 AM
الفاضلة ليال
تعليقك أرقني لأنه بعد أن أثلج صدري وقفت عاجزا عن الشكر لكلماتك الرقيقة المتناسقة، أولا انتشيت ثم خجلت من الإطراء ثم جمعت سهامي وهممت بالكتابة هنا في نافذة الرد السريع،

مع احترامي الخالص للتذوق والاستمتاع ولا أخفيك بأن عيني تدمع قليلا كلما قرأتها عند النهاية.
مع التقدير
ريان

ريان الشققي
22-10-2005, 08:31 AM
الحبيب الدكتور سمير
لك مني التحية على روحك الوثابة وإبداعاتك السامقة وتذوقك الفريد

مع المودة
ريان

بكاء الياسمين
25-10-2005, 11:02 PM
وَ
لـ صديق العائلة ...الـ شققي
ألف تحية وَ سلام
لـ لقائي به أيضاً هنا


رحم الله احبابك
وَ جمعك بهم في جنات النعيم





كانت رسالتك التي أرسلت منها
نسخة لنا ... تحوي الشيئ الكثير
وَ تعيد لنا الـ حنين
لـ أمور ٍ لهتنا عنها الحياة الدنيا




جـُلّ احترامي لك
وَ أمنياتي لك ياشاعرنا بـ كل الخير

ريان الشققي
29-10-2005, 11:48 AM
العزيزة بكاء الياسمين
تحية طيبة جدا وقد أثلجت صدري بالتعليق السخي الوافي

وأرجو أن أكون عند حسن الظن

ولك بالمثل أمنيات طيبة بكل الخير وحبة مسك
وفقك الله إلى السداد دوما
ريان