تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ولادة مجرة



نزار ب. الزين
07-06-2005, 01:12 PM
ولادة مجرة
قصة بقلم : نزار ب. الزين*
-----------------------
اشتدت آلام معدتي ،

لم يتجاوب جسمي مع الأدوية المختلفة ،

تستمر الأوجاع...

تؤرقني ....

تسوِّدُ الدنيا في ناظري...

<< لا بد من إجراء جراحة >>

يقول الطبيب ، فاجيبه بلا تردد بالموافقة ؛

( وجع ساعة و لا كل ساعة ) أقول في سري .

أدخل غرفة العمليات ،

يحقنني طبيب التخدير بالبنج ،

أغيب عن الوجود هنيهة ،

ثم ....

ثم أنتبه لنفسي ، أنني في موقع مرتفع ، أطل منه على غرفة العمليات !

الجراح و مساعدوه و طاقم الممرضين و الممرضات...

أشاهدهم جميعا و قد أحاطوا بجسد مسجى إحاطة السوار بالمعصم ،

كل منهم أو منهن يقوم بعمل ما ،

بدوا جميعا كخلية نحل نشطة ...

يتقدم الجراح ،

تناوله المساعدة مشرطا ،

يبدأ بشق الجلد ،

تنبثق الدماء ،

تقوم ممرضة أخرى بتجفيفها ؛

أتساءل : << كيف سمحوا لي بالدخول إلى غرفة العمليات ؟ >>

أتذكر : << أنا المريض ، أدخلوني لإجراء جراحة في معدتي !>>

يصيبني الارتباك ،

يتحول الارتباك إلى هلع ،

اقترب ،

أتاكد ؛

ذلك هو جسدي !..

ذلك هو وجهي !!!

يتحول الهلع إلى رعب ،

كيف يحدث ذلك ؟

من أنا و من ذاك المسجى ؟؟

أذهب إلى دورة المياه بحثا عن مرآة،

أقف تجاه المرآة فلا أرى شيئا ...

مزيد من الارتباك ينتابني ،

أعود إلى غرفة العمليات ؛

ألاحظ ارتباك الجراح و معاونيه ،

أحدهم يصرخ :

- ضغطه يهبط .

يعلو صوته أكثر :

- ضغطه يزداد هبوطا .

ثم ....

يصيب الصورة أمامي تشوشا ،

ثم لم أعد أرى أو أسمع شيئا .

*****

صوت مألوف ،

ألتفت ،

لا أجد أحدا ،

و لكن الصوت يناديني من جديد ،

إنه والدي ،

يرحب بي و لكنني لا أراه ؛

أسمع صوت والدتي ترحب بي بدورها ،

و لكنني لا أرها ؛

أسأل والدي :

- لِمَ أسمعك و لا اراك ؟

يجيبني :

- سوف تراني هناك !

ثم يدعوني لأقوم بالسياحة التي طالما حلمت بها :

<< ما أن تفكر بموقع حتى تجد نفسك فيه !..>>

يقول والدي ، ثم تضيف والدتي :

<< و بعد سياحتك سوف نلتقي ، سوف تلتقي أيضا بكل الذين افتقدتهم في كل مراحل حياتك ...>>

أشعر براحة لم يسبق أن شعرت بمثلها ،

أشعر بخفة لم يسبق أن شعرت بمثلها !



*****

القمر ...

لطالما سحرني بجماله ...

حتى عندما وطئوه وقالوا أنه أرض قاحلة ، بقيت على حبه مقيما ،

ما كدت أذكره حتى كنت فوقه ،

أتابع آثار أقدام رواده ،

سهول جدباء كما قالوا ،

صخور و أحجار ،

نظرت إلى الأفق فبانت الكرة الزرقاء ،

إنها الأرض التي أنتمي إليها ؛

ثم همست إلى ذاتي :

هذا قمر الأرض فماذا عن عن قمر المشتري ؟

و إذا بي فوق أرض تيتان ..

يا للروعة ،

أنهار و بحار ،

غيوم و أمطار ،

مخلوقات تظهر فوق الماء بين كتل الجليد ثم تغوص فيه ،

مخلوقات لا تشبه الأسماك ،

و لا تشبه الحيتان ،

و لا تشبه البشر ،

مخلوفات متفردة ،

و لكنها رائعة الجمال ، دائمة الإبتسام ....

تعوم قليلا ، تصدح بأعذب الألحان ، ثم تغوص ليظهر غيرها في استعراض غنائي شجي !



*****

<<اكتشف علماء الأرض وجود كواكب شبيهة بالأرض في مجرتنا>>

قلت في سري ،

و إذا بي في أحد تلك الكواكب ،

كوكب يعج بمخلوقات شبيهة بالبشر ،

مخلوقات نشطة ،

رؤوسهم كبيرة و كذلك عيونهم ، و لكن لا أفواه لهم ؛

أتعجب !

أجول بينهم في الشوارع و البيوت باحثا عن السر ،

فأكتشف أنهم لا يأكلون البتة ،

عناصر الهواء تمنحهم أسباب الحياة ؛

و هم بالتالي لا يتكلمون ، ينظرون في عيون بعضهم بعضا ، فتنتقل الأفكار بينهم بالتخاطر !

هم أيضا لم يعرفوا أو يسمعوا قط بما نسميه بالصراعات ،

لم ييجربوا أبدا الحروب ،

ماعرفوا الجرائم أو الانحرافات أبدا ...

حكومتهم واحدة ،

حكومتهم منتخبة ،

حكومتهم لا مهمة لها غير الإعمار و البحوث العلمية ،

لم يحتاجوا قط إلى رجال أمن أو استخبارات ، و بالتالي لا سجون و لا معتقلات !



*****

ثم بدأت أتنقل من كوكب إلى آخر ،

مجرتنا درب اللبانة تعج بالكواكب ،

و كثير منها تعمرها المخلوقات ،

بعضها شبيه بالبشر و بعضها بعيد الشبه ،

بعضها يسبق حضارة البشر بآلاف السنين ،

و بعضها لا زال بدائيا ،

*****

ثم يلمع في ذهني سؤال :

<< ترى هل سأتمكن من التعرف على الثقوب السوداء ؟! ..>>

و فجأة أجدني إلى جوار ثقب اسود !

منظر تقشعر له الأبدان ،

مجموعات نجمية بكل كواكبها و أقمارها و مخلوقاتها تندفع نحوه بسرعة جنونية ..

<< لِمَ لا أندفع معها ؟ >>

تساءلت !

*****

لا أدري كم استغرق ذلك من الوقت ،

فقط شعرت باختلاط الزمان و المكان ،

هوة سحيقة يكاد لا يكون لها قرار ،

تهدر في وسطها النجوم و الكواكب كملايين الشلالات النورانية ،

أو كسرب من طائرات ف16 مؤلف من ملايين الطائرات ، تصخب معا ،

و تندفع لولبيا في دوامة هائلة الحجم ؛

ثم ينكشف أمام ناظري كون جديد مختلف ؛

ثم أجد نفسي فوق كوكب مختلف ،

مناظر خلابة لم أشهد أو أسمع بمثلها قبلا ،

أطيار و أشجار و أنهار ،

ألوان تأخذ الألباب !

و فجأة أسمع صوت والدي من جديد ،

ألتفت فأجده أمامي بشحمه و لحمه و لكن في أوج شبابه ،

ثم أسمع صوت والدتي ،

تهرع نحوي فتعانقني و تتشبث بي لفترة و هي تمطرني بقبلاتها ،

ثم يتوالي كل من عرفت من أقاربي من فرع أمي أو أبي للترحيب بي ،

ثم يتوالى كل من عرفت من زملاء و أصدقاء و جيران في كل مراحل عمري ،

جميعهم في أوج الشباب و في عمر واحد ؛

همست لأحد أصدقائي : << هل لديك مرآة ؟>>

يصحبني من يدي إلى شاطئ بحيرة ، صفا ماؤها حتى بدا ما في قعرها و كأنه في متناول اليد ،

اقتربت من صفحة الماء ،

فشاهدت وجهي للمرة الأولى منذ غادرت غرفة العمليات ..

فأنا أيضا عدت إلى شبابي !



*****

يصدح صوت يغرد مناديا :

- المميزون مدعوون لمشاهدة استعراض جديد ،

يتوجه الناس جميعا نحو ما يشبه مدرج هائل الحجم ،

مجموعات و أفرادا ؛

ثمت منظمون في ثياب زاهية ،

ينادي أحدهم :

- فليدخل الشهداء و ضحايا الحروب أولا ،

يصطفون في طابور طويل ، ثم يدخلون أحدهم خلف الآخر ،

المنظمون في الثياب الزاهية يدققون – مبتسمين - في الوجوه ،

ثم :

- فلتدخل الأمهات كل الأمهات بلا استثناء ،

ثم : المضطهدون و المظلومون و ضحايا الإجرام ،

ثم : ضحايا الأمراض و التلوث و الإعاقة بجميع أشكالها البدنية و العقلية ،

ثم : جميع الأطباء و العاملين بالمجال الطبي فيما عدا الذين اتخذوا من مهنة الطب تجارة !

ثم : المعلمون عدا من كان منهم يستعمل العصا و يدعي أنها من الجنة ،

ثم : جميع من عملوا أعمالا خيرة مهما دنت قيمتها .

ثم : أصحاب الأهداف السامية من الأدباء و الشعراء و الفنانين .

ثم : المخترعون و المبتكرون مهما كانت مساهماتهم في تطوير مجتمعاتهم تافهة ، و يستثنى منهم مخترعو الأسلحة .

و أضاف :

- كالعادة ،محظور دخول مخططي الحروب و المحرضين عليها و مخترعي و تجار السلاح بلا استثناء .

و كذلك : محظور دخول المجرمين و الزعماء المستبدين بلا استثناء ، و كذلك منفذي رغباتهم الإجرامية سواء بكبت معارضيهم و قمعهم أو سجنهم أو نفيهم أو قتلهم .

و كذلك : محظور دخول المتعصبين و المتزمتين عرقيا و قبليا و إقليميا و دينيا و مذهبيا مهما كانت ممارساتهم التعصبية تافهة .

و كذلك : محظور دخول الخونة و المحتالين و اللصوص و المرتشين .

و أخيرا : محظور دخول البخلاء و المقترين مهما كانت حججهم .



*****

أجد نفسي في الداخل مع المميزين ،

أتساءل : << ترى ما الذي ميزني ؟ >>

يأتيني الجواب بالايحاء :

<<أمضيتَ حياتك دون أن تؤذي أحدا ، و انتهت حياتك كضحية من ضحايا التلوث البيئي..>>



*****

و يبتدئ الاستعراض ....

ما يشبه شاشة التلفاز و لكنها شاشة عملاقة هائلة الحجم ،

خيوط من النور بجميع ألوان الطيف ما أعرف و ما لا أعرف ، تنبثق من المجهول ،

تتشابك ،

تتدافع ،

يبدو بعضها كمليارات الأسهم النارية تنطلق معا ،

يتدفق بعضها الآخر كشلالات من نور في كل اتجاه ،

تصدر أصواتا موسيقية أروع من أية سمفونية سمعتها من قبل ؛

لا تلبث الأنوار أن تتحول إلى غيوم سديمية ،

ثم ينقسم السديم إلى مجموعات ،

ثم تندمج كل مجموعة ببعضها بعضا ،

فتتحول إلى أجسام ،

ثم تتحول الأجسام إلى نجوم و كواكب و كويكبات ،

يعلو صياح المتفرجين مهللين فرحين مزغردين .....

لقد ولدت للتو مجرة جديدة !

يغرد أحدهم من ذوي الثياب الزاهية :

<< هيا انطلقوا فعمروها >>

*****

فجأة أجد نفسي ثانية في غرفة العمليات ،

فرغ الطبيب لتوه من إجراء صدمة كهربائية لجسدي المسجى ،

يعلن أحد المساعدين :

<< أرى نبضا ، قلبه يعود إلى العمل ! >>

بعد فترة لا أدري كم طالت ،

أفيق من تأثير المخدر ،

أجد زوجتي و أولادي إلى جانبي ، يهنئونني بالسلامة !.

----------------------------------------------------------

*نزار بهاء الدين الزين

مغترب يعيش في الولايات المتحدة من أصل سوري

البريد : nizarzain@adelphia.net

الموقع : www.FreeArabi.com

د.جمال مرسي
10-06-2005, 06:40 PM
الله الله عليك أخي المبدع نزار
و كأني ارى الجنة في كل الأوصاف التي وصفتها حعلني الله و إياكم و كل عبد مسلم من أهلها يا رب
قصة جميلة بالفعل مزجت فيها الخيال ( في لحظة التخدير ) بالواقع في لحظة إفاقتك من البنج و زوجتك و أولادك حولك يهنئونط بالسلامة )
و كأنك أردت أن ترسم لنا الملامح التي يجب أن يكون عليها المرء في دنياه كي يظفر بجنة عرضها السموات و الأرض فلا يظلم و لا يسفك و لا يزني و لا يسرق و لا و لا و لا ... إلخ
و كلها تعاليم حثنا عليها ديننا الحنيف .
أرى نزعة دينية في كتاباتك
بارك الله بك و سلمك من كل سوء
و تقبل ودي
د. جمال

نزار ب. الزين
11-06-2005, 02:06 PM
الأخ الكريم الدكتور جمال مرسي
تحليلك الرائع للقصة أصبت فيه كبد الحقيقة
شكرا لإهتمامك
نزار ب. الزين