تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خريف المهرج



عبدالكريم الساعدي
02-07-2016, 04:41 PM
خريف المهرج

اعتدت أنْ أكون حاضراً كما يشاء أنّ يراني الملك في بلاطه؛ أخفي صلعتي وبقية شعر متناثر للخلف بقبعة سخيفة، عليّ أن أصبغ وجهي باللون الأبيض، وأحيط عينيّ بكحل عريض، أرسم دائرة حمراء على أنفي الطويل، مرتدياً ثياباً ملونة فضفاضة؛ في حضرته أستبدل حزني بالضحك، أخفي خلف قناع الوهم وجهاً مكلّلاً بغار الدمع؛ لا أجيد سوى العزف على أوتار الجسد، من ايماءات، ورقص، أقفز كما القرد من مكان إلى آخر؛ أيامي كلّها خواء في خواء، هكذا رسمتني الأقدار مذ أتيت من العدم؛ سنواتي تجفّ، أنطفأ في بلاط الملك؛ فتؤسرني سخرية القدر، أصبحتُ غير مرغوب به،
- لستَ سوى مهرج شاخ، عليك أن ترحل، قال كبير الخدم.
ألتحف غصّة، أحدّق في الحضور عن بعد قبل أن يرافقني الندم، أفرك عينيّ، أبتسم لغبائي، كنت أظنّ أنّي المهرج الوحيد في حضرته. في الطريق إلى ما تبقّى منّي، ثمة خطوات ضريرة، تطرق أبواب العطش إلى مرآة يستعصي عليها غياب وجه المهرج؛ تتناسل المسافة مخاوفَ، تنكمش الخطى عند مساء يشتعل بالقلق، ينبثق وجهي من طرف الغياب، ألاقيه عند ناصية مرآتي القديمة، أخلع قناع الذل، أفكّ أسره، عيناه غائرتان في محجرين تلفّهما العتمة، مُقعد عن المشي، يراوح مكانه، يضع كفّه على أنفه؛ حتى لا يستنشق رائحة الأصباغ الكريهة، يستدير صوب الشرفة، يكاد لا يرى سوى وجهٍ مكتسي بفوضى الألوان، أتوضأ بصراخه:
- لماذا أغلقت مسارب النور، وأطفأت نهاراتي؟
أستعين بذكرياتي المنسيّه، أحاول أن أزيح الغبار عن عمائي، وأرتّق صمتي باعتذار شديد؛ لعلّه يخفّف من وطأة غضبه؛ كان الندم باذخاً بالحضور، لكن اللحظة مكتظّة بالضباب، أنثر انكساري أمام مرآتي الصدئة في حضرة وجهاً آخر، يرفض وجودي، يتهستر كلّما نظرت إليه:
- لِمَ آثرت تغييب ملامحي؟
- كنتَ حاضراً معي، لم تفصل بيننا الألون.
- لا تكذب، كنت تحمل وجهين، وجهاً خانعاً، وآخر احترفت نسيانه.
أدسّ نفسي في معطف الصمت قليلاً، أتفادى النظر إليه خجلاً، كان كلّ شيء عارياً حدّ البياض، عليّ التعامل معه بحذر شديد؛ لأنّي مدرك تماماً أنّه عاش عمراً طويلاً يحلم بالشمس؛ تهفو نفسي لعناقه، أقترب منه، يرافقني ظلّ الأمس، أهدم أسوار العزلة، أتّكئ على عصا من حنين، قلت له:
- أنت واهم، لقد حملتك هماً يرافقني كما الظلّ، لا يزهر العمر إلّا بك.
التفتَ إليّ، وقطف ملء العين دهشة:
- أيّ عمر هذا الذي تزهره العتمة؟ يبدو أنّك لا تعلم معنى الظلام.
زجاج النافذة يتضبضب بأنفاس الاختلاف، الشفاه تتصارخ:
- أعد لي القناع، فأنّي لم أعد قادراً على الرؤية.
كنت مجندلاً بالاستغراب، تلفّني الحيرة:
- استحلفك بأحلام الطفولة أن تخرج من هذه المرآة اللعينة، وترافقني متحرّراً من سجن الوهم.
يترهل في القول، غير مبالٍ لتوسّلي و انكساري:
- نحن لا نتآلف، ولن نلتقي؛ لأنّك لم تدرك ألمي... أعد لي القناع.
أسقط من صبري الشاهق، أصرخ في وجه الاضطراب متحدّياً:
- سأثبت لك عكس ما ترى.
وفي لحظة لا نكهة لها، يتماثل للجنون، يتعثّر بوجهي الذي لم يعد مألوفاً لديه؛ متوهماً أنّي خرافة شائعة؛ فيمضي تاركاً خلفه ظلّاً يلهث بالجحود؛ الحدقات تترقرق بقليل من الغضب، كلّ شيء توقف عن الحركة، تبزغ من حنقي رجفة، تهشّم وجه المرآة الواهي، جبهتي تفترس شظاياها المتناثره، أنعطف نحو النافذة، أمشي على نثار الزجاج، أرفع رأسي، أشعر بألم شديد، وببرودة سائل لزج؛ كان الدم مدلوقًا على خدي، أحسّ بارتياح شديد لم ينغّصه شيء.

فاتن دراوشة
03-07-2016, 03:38 AM
ما بينَ الأنا النقيّة من الشّوائب حيث يلمع معدن الإنسان

وما بين الأنا المصطبغة بالزّيف والمتوارية بالأقنعة

صراع يؤرّقنا ويضنينا

قصّة عميقة المضمون سامية الهدف تحلّق بنا لنتأمّل هذا الحوار بين المظهر والجوهر بين الأصيل والدّخيل

صراع نصطدم به في الكثير من محطّات الحياة وكان الانتصار هنا للأصالة والصّدق حيث غسلت الدّماء الوهم

تصوير رائع بأسلوب ممتع جميل وشيّق

دمت مبدعا

عبدالكريم الساعدي
04-07-2016, 11:36 PM
الأخت الفاضلة فاتن دراوشة
ممتن لحضورك البهي وجميل رؤيتك العميقة للنص... رعاك الله

أحمد العكيدي
05-07-2016, 01:25 PM
قصة ممتعة دمت مبدعا
تحياتي وتقديري

عبدالكريم الساعدي
06-07-2016, 11:29 AM
الفاضل أحمد العكيدي
شكراً لبهاء حضورك...

عباس العكري
09-07-2016, 05:23 AM
https://2.bp.blogspot.com/-c7uRzqTtEv4/V4BuD9kIF9I/AAAAAAAADAk/Nl6ZvIsh4ekCar_D6G8xlODBs1F-Mb9awCLcB/s1600/%25D8%25A7%25D9%2584%25D9%2585%25D9%2587%25D8%25B1 %25D8%25AC.png

عبدالكريم الساعدي
11-07-2016, 01:04 AM
الأخ الفاضل عباس العكري
خالص الشكر والتقدير لذوقك الراقي... أعزك الله

ناديه محمد الجابي
03-09-2016, 08:17 PM
قصة رائعة وعميقة حلقت فيها اللغة والصور الشاعرية
الفكرة باهرة والمشاعر رقيقة تنبض بصدق الحس وسمو المعنى
دمت مبدعا. :001:

عبدالكريم الساعدي
05-09-2016, 08:41 PM
شكراً لإطلالتك البهية أختي الفاضلة نادية محمد الجابي

آمال المصري
12-11-2016, 11:35 PM
أسلوب متقن وسرد ماتع ولغة أنيقة تزدان بتعابير فارهة من خلال نص جميل أبدعت نسجه فشكرا لك أديبنا الفاضل
ومرحبا بك في واحة الجمال
تحية وتقدير

عبدالكريم الساعدي
13-11-2016, 02:21 PM
شكراً لك على عبير حرفك وحضورك البهي الأديبة الفاضلة آمال المصري... رعاك الله

كاملة بدارنه
07-01-2017, 09:35 PM
وصف للصّراع بأسلوب جميل وجاذب
بوركت
تقديري وتحيّتي

عبدالكريم الساعدي
08-01-2017, 08:25 PM
امتناني وتقديري لك الأديبة الفاضلة آمال المصري

عبدالكريم الساعدي
16-01-2017, 08:50 PM
شكراً لحضورك الجميل الأديبة الفاضلة
آمال المصري..... رعاك الله