المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عودة البلشون



عبدالكريم الساعدي
18-10-2016, 11:12 PM
عودة البلشون
إلى/ الشهيد القلسطيني الصبي ( عبدالله )

في لحظة غفلة يقع في الشِباك، تحاصره عيون طافحة بالتوحش، متّشحة بالخراب، تبرز لهم ملامح البراءة طفلاً مذعوراً، منكسراً، يطلق فزعه، تبزغ على الشفاه ابتسامات صفراء، تتهامس، تُبشّر بصيدها الثمين؛ السكين تبرق في فضاء مضمّخ بالدماء، تداعب عنقه الجميل، تحاصره التكبيرات، عيناه تستحمّان بموجة رعب، يلملم حتفه، المدى يغلق بابه، المسافة الممتدّة بين شجرة الزيتون وبحيرة الأسد تتقلص، تتلاشى، يستبدّ به عشق النجاة، يهزّه صوت أبيه:
- يا ولدي، كلّما نهشتك المحن، اقطف من بستان الحلم زهرة قرنفل، علّقها على باب القلب، وابتسم.
يغمض عينيه، يبتلع شيئاً من خوفه، يرهف السمع لعزف سماوي، يتأمل طيفاً من فسحة الغياب، يعتلي سرج العشق، يهبط هناك، تشاكسه شرفته المطلّة على بحيرة هادئه، تهدهده ارتعاشة موجها، يسحره ألق فراشاتها الملوّنة، تستفزّه أشجارها المزدحمة بأصوات الطيور، يغمره ضياء فجرها العابق بنشوة الأحلام؛ السكين تتربص اللحظة، تشاكس عروجه، يسقي عروق كبريائه، يمدّ بساط الشوق لطائر جميل، ناصع البياض، زاهد، يتلو أنشودة الفجر في ظلّ لحن شجي، يطرب الأسماع. كانت عيناه في مواسم الفرح، تنظران بشغف إليه، يصيخ السمع لتراتيله، تبهجه رقصته، لم يعد مذ تَعمّد فضاء المدينة بغبار البارود؛ بيد أن شرفته ظلّت مشرعة نوافذها. الأيدي تلتفّ حوله، رقبته تلهث على حافة السكين، تبعثر صراخه، يحلم بالفناء، بالرحيل إلى عشّه؛ يغمره فيض من الوله، يحبس دمه، يخلع موته، تتشكّل أنفاسه جسراً، ينكشف الستر، يعبر ناحية شرفته مزدحماً بالوجد، حاملاً زوادته على طرف غصن الزيتون، ينتزع ذكرياته من رحم الغربة، يطوف سبعاً حول المخيم، يعود إلى نسغه، يجوب أطلال الخراب، يفتح أبوابه المختنقة بالذهول، يلثم نهد الأرض؛ فيصبح بساط العشب سجادة للصلاة؛ يتدثّر بالذكر، يغطي الأجساد الهامدة بعباءة آذان الفجر، يصعد محتجباً بضباب كثيف؛ يحمل صرة أسفاره، يهبط على ضفة شرفته المهملة، يحاور اللحظة، تدهمه بتغريد الطائر المهاجر، ينتفض مجنوناً بالشوق، تلهث عيناه في حنان، تجوبان الآفاق، تشتعل اثنتا عشرة شمعة لرؤيته، يحطّ، يسمع نبض ألفته، يمدّ جناحيه، يعانقه، يشمّه، يقبّله، يعاتبه:
- لماذا تأخرت؟.
تدمع أعين الأشجار والفراشات والطيور، تتساقط الدموع فرحاً، تختلط بماء البحيرة الهادئة؛ وقبل أن يُشيَّع رأسه، وتُلطخ أيدي الظلام بدمه، يفتح عينيه، يحدّق في مرايا السماء، يلجم فزعه، يصفع التماعة السكين بابتسامة هازئة، يتهجّى لحن الفناء، يرتّل بخشوع آية اللقاء:
- حمداً لله، أنّك عدتَ إلى البحيرة، أيُّها البلشون الجميل.

.................................................. ..........................................
*البلشون: طائر يعيش بالقرب من المياه، يمتاز بطول سيقانه ورقبته، ويطلق على البلشون الأبيض أيضاً( مالك الحزين).

ناديه محمد الجابي
19-10-2016, 08:18 PM
تسجيل قوي ومعبروصادق لجريمة قتل ذلك الطفل الفلسطيني ( عبد الله عيسى)
ذبحا على يد جماعة إسلامية مسلحة في مخيم شمالي حلب
جريمة تختزل الماساة المستمرة في سوريا بكل فصولها.
عشت مع سردك البارع ولغتك وتعابيرك الدقيقة البليغة
لحظات امتدت إلى أعمق أعماقي لتحملني إلى غيمة
أبعد من عالم البشر.
بوركت ـ وقلمك وقلبك. :001::

عبد السلام دغمش
20-10-2016, 08:17 PM
نص جميل .. ونقل جميل للحدث إلى أبعاد أوسع من التصاوير ..

والعنف اديبنا الكريم عم بلاؤه .. ربما تم التركيز على هذه الصورة لبشاعتها مع أن الكوارث أصعب وأشد في غير موضع ..

تحيتي لك .

عبدالكريم الساعدي
23-10-2016, 06:27 PM
الأديبة الفاضلة نادية محمد الجابي
ممتن لجميل حضورك وبهاء إعجابك

عبدالكريم الساعدي
23-10-2016, 06:28 PM
الأديب الفاضل عبدالسلام دغمش
خالص الشكر والتقدير لحرفك البهي وحضورك الجميل

عباس العكري
29-10-2016, 03:43 PM
https://1.bp.blogspot.com/--UqUOKz2gT8/WBSjccxhMVI/AAAAAAAAE7Q/5X6T8tx2ElI1MnaiHRj0OSwWCtucU8RxQCLcB/s1600/.%2B%252819%2529.PNG

كاملة بدارنه
17-11-2016, 07:21 PM
تصوير متلاحق وسريع بكلمات مؤثّرة وسرد حزين جاذبّ
بوركت
تقديري وتحيّتي

عبدالكريم الساعدي
18-11-2016, 09:39 PM
خالص التقدير لبهاء حضورك الأديبة كاملة بدارنه