تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : أغنية العيد-قصة قصيرة



أحمد العكيدي
22-05-2017, 11:09 AM
أرخت الشمس أشعتها على الشاطئ فاجتاحت جسده المتورم موجة من الدفء شعر بها تدغدغ جفنيه فاستفاق على مضض من غيبوبته. تجول ببصره في الأفق لعله يهتدي إلى هوية المكان والزمان، بحث في الأشياء المبعثرة هنا وهناك عن ذاكرته وماضيه، حاضره ومستقبله، فخدلته اللحظة.

بعينين متعبتين رمق، من بعيد، ثوب قميص أحمر يداعبه الريح جيئة وذهابا، تارة يدسه تحت الرمل وتارة أخرى يقذفه في السماء. زحف نحوه كالرضيع، يرسم أثار قدميه ويديه فوق الرمل، التقطه ثم ضمه إلى صدره للحظات واستنشق رائحته بعمق فاشتعلت في دواخله آهات وآهات. تأمله وتفحص طرفه المفقود فتسللت من إحدى عينيه دمعة في سكون واختلطت بحبات الرمل. تأبطه ثم استند إلى قطعة خشب لفضها البحر وبدأ يبحث عن حياة بين الأجساد المنتفخة والمبعثرة كأوراق الخريف حول القارب المحطم.

تَراءى له، من بعيد، جسم صغير خيل له من بؤسه أنه يتحرك، أسرع نحوه ولم تسعفه الخطوات فتعثر وسقط فوق جسد امرأة مغمور وجهها في الرمل. أدار رأسها بحركة سريعة فتطاير الماء من فمها في كل اتجاه. تصلب في مكانه للحظات بدون حراك كتمثال حجري قبل أن يدرك أنها جارته التي قُتل زوجها وجميع أبنائها في قصف جوي، كانت هي الوحيدة التي سلمت منه لتلقى حتفها في هذا المكان بدون هوية ولا عنوان.

استمر في سعيه والأمل لا يفارقه رغم الهموم التي تحرق صدره والآلام التي تدمي قلبه والأحزان التي يضمرها. أخد جسمها الصغير بين ذراعيه المرتجفتين ونظر إلى ثياب العيد التي لم يتسن لها أن تستمتع بها ولو للحظات بعدما تقاطر عليهم الرصاص والقنابل من كل اتجاه فنزحوا مجبرين إلى حيث لا يعلمون، همس لها بكلمات يرددها الآباء على مسامع أطفالهم في كل صباح: "انهضي يا بنيتي لقد حان وقت المدرسة..."

حضنها بحنان ورأفة واستمر يتنقل بين الأجساد المتراكمة في كل مكان، لمح من هناك عباءة تتطاير حول جسد أنثوي يمتزج لونه الداكن بزرقة البحر والسماء، توجه نحوها جسدا بدون روح، جثا على ركبتيه فوق رأسها وتأمل، في ذهول، ثيابها الممزقة على جسدها العاري، تحسس وجهها الممتلئ بندابات وكدمات كادت تخفي ملامحه الشامية وغالب البكاء. تطلع إلى أصابعها يدها المشدودة، ثم فتحها بهدوء فارتعشت جوارحه وانهمرت العبرات من مقلتيه وتدحرجت على صدرها فبللته، أخد من بين أناملها قطعة الثوب الأحمر ووضعها على الجزء المفقود من القميص وألبسه لطفلته وغنى لها أغنية العيد وهو يتحسس صوتها فلا يتردد في أدنيه سوى صوت الأمواج وهي ترتطم على الصخور.

استجمع ما تبقى من قواه ووضعها بين أحضان أمها وبدأ يذكرهما، بصوت خفيت، بالخطة التي وضعوها، على عجل، للنزوح من قريتهم في ضواحي مدينة حلب: "هنيئا لنا لقد تخطينا كل الصعاب.. ها نحن الأن على أرض أروبا حيث لقمة ساخنة تنتظرنا وبيت جميل يأوينا ووطن بديل يحضننا..."، حثهما على النهوض فلم يتحركا، هز جسديهما فلم يستجيبا، تلمس وجهيهما بنعومة فانتقلت إلى قلبه برودة غريبة فسقط بجانبهما مغشيا عليه.

ناديه محمد الجابي
22-05-2017, 05:13 PM
عيد ؟؟.. وأي عيد هذا !!
قوارب الموت مرة أخرى ـ ومشهد إنساني عميق بفكرته و تناوله للمضمون من زاوية مختلفة
وسرد قصي مؤلم أعتمد على الوصف ، وببراعة أدخل المتلقي إلى جو النص ليعيش
الحدث وينفعل ويتفاعل معه.
لوحة قصية مرسومة بحس إنساني ، ولغة حية مسبوكة بعناية فائقة ، ومهارة أديب
وذكاء قاص أحسن القص حتى النهاية الحزينة المؤثرة.
سلمت ودام مداد قلمك.
:hat::hat:

أحمد العكيدي
25-05-2017, 02:40 PM
عيد ؟؟.. وأي عيد هذا !!
قوارب الموت مرة أخرى ـ ومشهد إنساني عميق بفكرته و تناوله للمضمون من زاوية مختلفة
وسرد قصي مؤلم أعتمد على الوصف ، وببراعة أدخل المتلقي إلى جو النص ليعيش
الحدث وينفعل ويتفاعل معه.
لوحة قصية مرسومة بحس إنساني ، ولغة حية مسبوكة بعناية فائقة ، ومهارة أديب
وذكاء قاص أحسن القص حتى النهاية الحزينة المؤثرة.
سلمت ودام مداد قلمك.
:hat::hat:

أستاذة ناديه محمد الجابي أسعدني كثيرا مرورك الطيب وقراءتك العارفة بالنص وبنيته وتحليلك المتميز والشامل للقصة الذي لا يأتي إلا من أديبة متميزة بحس رفيع.
مع أجمل التحايا

مصطفى الصالح
22-06-2017, 12:08 AM
نص شاهق متين
من أجمل ما قرأت لك أخي الفاضل
سرد متلاحق متدفق المشاعر والصور والأحداث

أبدعت

الرجاء من المشرفين التثبيت

تقديري

أحمد العكيدي
25-06-2017, 11:28 AM
نص شاهق متين
من أجمل ما قرأت لك أخي الفاضل
سرد متلاحق متدفق المشاعر والصور والأحداث

أبدعت

الرجاء من المشرفين التثبيت

تقديري

رأيك الأستاذ مصطفى الصالح يهمني ويسعدني كثيرا مرورك الطيب.
مع أجمل التحايا

كاملة بدارنه
29-06-2017, 10:18 PM
سرد واصف للواقع المؤلم الذي بات مشهدا متكررا في رحلات الموت بحثا عن الحياة!
بوركت
تقديري وتحيّتي

أحمد العكيدي
03-07-2017, 10:43 AM
سرد واصف للواقع المؤلم الذي بات مشهدا متكررا في رحلات الموت بحثا عن الحياة!
بوركت
تقديري وتحيّتي

سعدت كثيرا بمرورك الرائق أستاذة كاملة بدارنه وبتعليقك الجميل.

مع التقدير

علاء سعد حسن
03-07-2017, 12:32 PM
أحيا كثيرة أفقد قدرتي على التعليق على نص عندما تكون حالة الشجن الساكنة به اكبر من قدرتي على التعبير.. ولعل ذلك نابع من قراءتي للنصوص قراءة نفسية بعيدا عن قواعد النقد الادبي الذي لا اجيده..

هذا واحد من النصوص التي توقفت امامها اياما قبل ان اكتب ما كتبت اخي الاديب أحمد

أحمد العكيدي
05-07-2017, 02:29 PM
أحيا كثيرة أفقد قدرتي على التعليق على نص عندما تكون حالة الشجن الساكنة به اكبر من قدرتي على التعبير.. ولعل ذلك نابع من قراءتي للنصوص قراءة نفسية بعيدا عن قواعد النقد الادبي الذي لا اجيده..

هذا واحد من النصوص التي توقفت امامها اياما قبل ان اكتب ما كتبت اخي الاديب أحمد

الأستاذ الأديب علاء، أمام عبارتك الجميلة أجدني عاجزا عن التعبير على إحساسك الجميل وقراءتك العميقة للنص.
أسعدني كثيرا مرورك الطيب.
مع أجمل التحايا

آمال المصري
15-07-2017, 03:12 AM
سرد شائق ناطق بالوجع ومشاهد مبكية بئيسة تروي لنا واحدة من الملاحم الشامية أجدت وأتقنت نسجها بدهاء قاص متمرس
بوركت والحس الصادق والحرف الناطق
تحية وتقدير

أحمد العكيدي
21-07-2017, 07:12 PM
سرد شائق ناطق بالوجع ومشاهد مبكية بئيسة تروي لنا واحدة من الملاحم الشامية أجدت وأتقنت نسجها بدهاء قاص متمرس
بوركت والحس الصادق والحرف الناطق
تحية وتقدير
شكرا لك أستاذة آمال المصري على تعليقك الجميل واهتمامك بالنص. بفضل المتابعة يستمر العطاء.
مع أجمل التقدير.

حسام القاضي
19-09-2017, 12:53 PM
سرد رائع متمكن
مشحون بالوجع ..
لم يترك الزملاء هنا الفرصة
لأضيف الكثير ..
تقبل اعجابي
مع

تقديري واحترامي

أحمد العكيدي
28-09-2017, 12:24 PM
سرد رائع متمكن
مشحون بالوجع ..
لم يترك الزملاء هنا الفرصة
لأضيف الكثير ..
تقبل اعجابي
مع

تقديري واحترامي

سعدت كثيرا بإطلالتك البهية وشكرا على تعليقك الطيب الأستاذ حسام القاضي.
مع أجمل التحايا