مشاهدة النسخة كاملة : عودة بعد غياب وفصول من رواية إعدام مظلوم
علاء سعد حسن
01-07-2017, 08:38 PM
الفصل الاول
( 1 )
أدارت محرك السيارة بصعوبة بالغة، أصابع يدها ترتعش بعنف رغما عنها.. جسدها كله يرتجف.. في تصميم وعزم داست دواسة البنزين بقوة قبل أن ترفع قدمها اليسرى من فوق دواسة فصل الحركة.. فأنّت السيارة وأصدرت صريخا مخيفا بسبب احتكاك عجلاتها بالأسفلت، وأخذت تتلوى في طريق ضيّق بين عشرات السيارات على الجانبين مبتعدة عن مبنى المحكمة.. عندما ابتلعتها شوارع المدينة الجميلة بدا لها كل شيء مشوشا، معالم الطريق، إشارات المرور، أعمدة الكهرباء، الأشخاص الذين يعبرون الشارع في برود متناهي وغير مبالاة.. الدراجات البخارية التي كادت أن تصطدم بها أكثر من مرة.. لم تتوقف على جانب الطريق فلم تكن أدركت بعد أنها تبكي، وأن دموعها قد شكلت سحابة كثيفة على عدسات نظارتها الشمسية الأنيقة.. أفاقت من شرودها على صوت منبه حافلة كادت أن تصطدم ببابها وصوت سباب عال ينطلق من فم السائق.. وأصوات مكابح مرتفعة تتصاعد خلفها، أخيرا قررت أن تنعطف إلى شارع جانبي وخلعت نظارتها الشمسية ناظرة في مرآة السيارة، لتلمح عينين بلون ثمرتي الطماطم الناضجتين.. أمسكت حقيبة يدها وأخرجت منديلا ورقيا وأخذت تمسح عدسات نظارتها بشرود..
رأت محمود مقبلا عليها بابتسامته الباشة المعهودة، بطوله الفارع ونحافته الشديدة، ووجهه الأبيض ذو اللحية الخفيفة المهندمة، وشعره القصير جدا من جانبي الرأس على أحدث صيحة.. رأته يتوقف أمام سيارتها بجسارة وهو يقود دراجة بخارية فارهة يمتلكها صديق له.. بالكاد استطاعت أن توقف سيارتها في الوقت المناسب بعدما صرخت المكابح بعنف.. شهقت بقوة وكانت قد أغمضت عينيها فلم تتبين وجه قائد الدراجة البخارية بسبب انعكاس أشعة الشمس على الخوذة الصفراء اللامعة التي تخفي كثيرا من ملامحه.. قفز من فوق الدراجة أقبل عليها وهو يدق زجاج باب سيارتها بمرح.. صرخت وهي تفتح له الزجاج: أنت مجنون.. لقد كدت أصدمك بعنف.. لولا..
صاح بها قبل أن تجد الكلمات المناسبة: لولا ستر الله.. ألف مرة أحذرك من قيادة سيارتك وأنت شاردة..
قالت وفي صوتها رنة غضب حقيقية: وماذا لو لم أنتبه لجنون جنابك في اللحظة الأخيرة؟!..
هز كتفيه في استخفاف وقال: لا شيء.. كنت سأستدير بالماكينة بحركة بهلوانية رائعة وأسير أمامك أفسح لك الطريق أيتها الأميرة الحسناء..
ضحكت رغم أنها لم تكن قد سيطرت على كامل أعصابها بعد، تساءلت: وحتى تقنعني بعدم القيادة شاردة تلق بنفسك هكذا أمام سيارتي بجنون؟
رفع سبابته إلى شفتيه محذرا وهو يكتم ابتسامة عريضة: يجب عليك احترامي يا آنسة.. لن أسمح لك بوصفي بالجنون مرة أخرى.. يجب عليك أن تظهري لي قدرا من الاحترام أكثر من ذلك بكثير..
نظرت إليه بابتسامة هازئة لم تخفِ إعجابها المبطن بلهجته الجادة القوية وملامحه التي لوحتها شمس الصيف فزادت من وسامته.. تساءلت في محاولة لتبدي قدرا من الاستهانة: لماذا إن شاء الله؟.. هل قررت أن تتخلى عن جنونك لتصبح إنسانا محترما؟!
زام بشفتيه مصدرا أصواتا مبهمة، قبل أن يجيب: لا أظن أنني سأتخلى عن جنوني.. بالعكس أنا في هذه اللحظة مقبل على أكبر عمل مجنون في حياتي كلها.. عمي وافق يا سيدتي على موعد عقد الزواج.. الخميس بعد القادم!!
شهقت من الفرح والمفاجأة قبل أن يقفز بحركة بهلوانية عجيبة لتجده جوارها على المقعد الخالي في السيارة، اقترب منها إلى الدرجة التي جعلتها ترفع كفها في وجهه محذرة وهي تصرخ: تعقّل يا محمود.. نحن لسنا أزواجا بعد.. كما أننا في منتصف الشارع..
وقبل أن تنتهي من تحذيرها الصارخ، كان قد قفز في سرعة البرق قفزتين ليمتطي صهوة دراجة صديقه البخارية وينطلق بها من أمامها وهو يلوح لها بذراعه ويصيح: لو كنت ماهرة في قيادة سيارتك حقيقة فالحقي بي..
بعد ثوانٍ كان قد اختفى من أمام عينيها.. تبخّرت صورته فوق الدراجة البخارية.. تبدلت كليا ليظهر محمود من جديد في بدلة الإعدام الحمراء خلف قضبان قفص المحكمة، فارع الطول بين زملائه، رافع الرأس، يكتم دموع عينيه كلما التقت بعينيها من خلف الحواجز.. حتى هي كانت تداري لمعان دموعها عنه..
حاولت أن تمضي بسيارتها خلال الشارع الجانبي الذي انحرفت إليه منذ لحظات.. عادت السُحب الكثيفة على عدستي نظارتها الشمسية تحجب عنها الرؤية لم تعد ترى سوى محمود، رغم ضجيج الشارع العاج بالمارة وأصوات الضوضاء المنبعثة من المحلات الصغيرة المحيطة بها لم تعد تسمع سوى صوت محمود يجلجل في المحكمة، بعدما سمح له رئيس محكمة النقض بالحديث عن نفسه.. بدا لها محمود مستميتا في إثبات حقيقة ما.. إنها مؤمنة ببرائته.. كانت دوما مؤمنة ببرائته.. إيمانها ببرائته لم يتزعزع أمام الحكم بالإعدام الذي أصدرته عليه وعلى زملائه الخمسة محكمة الجنايات.. لكنها اليوم بعد سماعها له في المحكمة لم تعد فقط مؤمنة ببرائته، لقد صارت متيقنة من هذه البراءة تمام اليقين.. تشعر أنه كان يستصرخها يستنجد بها لتفعل شيئا من أجله.. تفعل شيئا حتى ولو كان مجنونا – كما كانت أفعاله كلها مجنونة من قبل- لإنقاذه من حبل المشنقة، وهي عازمة على ألا تضيع دقيقة واحدة دون أن تفعل هذا الشيء ولو كان مجنونا.. هذا الشيء الذي لا تعرفه بعد ومع ذلك يتوجب عليها أن تفعله، ومن جديد داست دواسة البنزين بقوة لا تتناسب مع مساحة الشارع الجانبي الضيق الذي انعطفت إليه، مما جعل الجميع يلتفتون إليها في دهشة وهي تخرج من الجهة المقابلة إلى زحام الطريق الرئيس وعلى وجهها تصميم عنيد وهي تردد لنفسها: لا وقت للدموع يا لمياء.. لا وقت الآن للدموع..
لا تدري لمَ كانت أول صورة تخطر ببالها هي صورة الحاجة سهير!.. على كل حال لقد كانت الحاجة سهير هي الشخص الملائم تماما للمساعدة فيما اعتزمت القيام به..
من جديد تملأ صورة محمود الفراغ أمامها.. لا تتذكر أنها رأته بهذا القدر من الجدية والوسامة من قبل، لقد ظهر رأسه حليقا تماما، لا توجد به شعرة واحدة.. لم تنتبه من قبل إلى أن عينيه كحيلتين إلى هذا الحد الفاتن.. إنهما لا تبدوان كذلك أبدا إلا إذا حلق شعر رأسه تماما.. لقد بدا جسده أكثر هزالا ونحافة في حلته الحمراء التي تتسع لشخصين آخرين معه داخلها!!.. وعلى خدوده بدت آثار بعض الكدمات، وحول عنقه آثار حروق .. لكنه مع هذه الجدية والصرامة التي لم تكن تظهر منه إلا نادرا جدا، حتى إن لمياء لا تستطيع أن تتذكر له موقفا أو اثنين بدا فيهما جادا عاقلا رزينا.. بدا رغم هزاله وإعيائه العام وسيما إلى درجة حمقاء.. كأنه اختار المكان الخطأ والزمن الخطأ ليثبت لها أنها أبدا لن تعرف غيره ولن تحب سواه.. مجنون محمود.. إنه فعلا مجنون في أدق تفاصيله.. لكن جنونه هذا لم يمنعه أبدا من شيئين غريبين جدا في هذه الحياة، لم يمنعه من تفوق فذ في دراسته وحياته العلمية والعملية، فهو من الأوائل دائما في دراسته، وهو من أوائل دفعته في كلية الصيدلة جامعة المنصورة، والشيء الآخر قدرته على اكتساب إعجاب الناس حوله به، وحب أكثرهم له!! هناك حقيقة ثالثة تملأ كيانها الآن كما تملأ صورة محمود أمام المحكمة الفراغ بينها وبين زجاج (بربيز) سيارتها فلا ترى من الطريق غيره، إنها أيضا تحبه بجنون، إنها أيضا مجنونة – يجب أن تعترف لنفسها- في حب جنونه!.. محمود في وقفته الشامخة –بهزاله وإعيائه- خلف قضبان قفص المحكمة لم يتبقَ منه سوى روح، روح مخيفة في كبريائها وعزمها ووهجها.. إنها تخاف من هذه الروح المجنونة كما تعشقها، تخاف منها لأنها ببساطة تسكنها الآن، توجه قراراتها وتصرفاتها، فروح محمود هي التي تحكمها الآن وتتحكم..
انحرفت بالسيارة من جديد عن المسار التي كانت تسير فيه، توقفت على جانب طريق لم يكن ضيقه يسمح بالوقوف، فانطلقت من خلفها عشرات آلات التنبيه في ضيق وانفعال، لكنها تجاهلت حتى سباب سائقي سيارات الأجرة حولها، ونظرات فضولية لعابري الطريق، أو لعلها لم تنتبه لذلك كله.. أخذت تعبث بمحتويات حقيبة يدها، وعندما ملّت من البحث، ألقت محتويات الحقيبة على المقعد المجاور لها –ذات المقعد الذي امتلأ بحيوية وشطحات محمود عندما كان يركب معها سيارتها متخليّا عن سيارته المتهالكة-بعثرت المحتويات على كامل المقعد حتى ظهرت بطاقة تعريف باهتة كانت هي ما تبحث عنه وسط كومة من العاديات المهملة.. رفعتها أمام عينيها وقرأتها –ربما لأول مرة-:دسوقي فهمي دسوقي محام.. التقطت العنوان واحتفظت بالبطاقة أمامها.. وتحركت بسياراتها في الشارع بنفس الرعونة والحمق التي توقفت بهما معرقلة حركة المرور.. من جديد ارتفعت أصوات الاحتجاجات مع نباح عشرات آلات التنبيه.. ولم تعبأ.. في الحقيقة لم تكن لمياء من قبل رعناء ولا حمقاء.. حتى قيادتها للسيارة كانت هادئة رزينة في المجمل، لم يكن يشوبها إلا شائبة واحدة، أنها كانت تقود وهي شاردة أحيانا.. ومحمود هو أكثر من كان يحذّرها وينهاها عن القيادة وهي على هذه الحالة من الشرود، هتفت حانقة: الأبله.. لم يكن يعرف أبدا أنه هو وحده دون سواه سبب كل هذا الشرود.. لم أكن أنوي أن أخبره بتلك البديهية يوما، فالبديهيات تُدرَك ولا تُخبَر!!
ارتفعت كفها في حركة لا إرادية فأمسكت أسفل صدرها الأيسر، كأنها تسند قلبها، إنها تشعر بوخز متعاقب.. لقد بات عليها أن تخبر محمود بالبديهيات الآن، لا بد أن يعرف كل الحقائق قبل أن .... ولم تستطع إتمام جملتها!!
ناديه محمد الجابي
01-07-2017, 10:33 PM
بأسلوب مشوق وسرد ماتع جاذب وبلغة أنيقة قوية
لقلم يعرف كيف يمتلك لب القارئ وعقله ـ استطعت ان تأسرنا
معك في قصتك لنبقى مشدودين وفي انتظار للتمة ..
تقديري لك ولقلمك
دمت ودام أدبك الناضج.
:v1::0014:
أحمد العكيدي
03-07-2017, 10:40 AM
مرحبا بعودتك أستاذ علاء.
استمعت كثيرا بقراءة هذا الجزء من الرواية الذي يبشر بفصول شائقة وممتعة، وبأحداث ونهايات غاية في الجمال والإبداع.
مع أجمل التحايا
علاء سعد حسن
04-07-2017, 06:43 PM
بأسلوب مشوق وسرد ماتع جاذب وبلغة أنيقة قوية
لقلم يعرف كيف يمتلك لب القارئ وعقله ـ استطعت ان تأسرنا
معك في قصتك لنبقى مشدودين وفي انتظار للتمة ..
تقديري لك ولقلمك
دمت ودام أدبك الناضج.
:v1::0014:
تحية كبيرة لاطلالتك سيدتي
اطلالة تأخذ بيد مغترب عائد الى بيته يتسقط ايماءات الترحيب
دمت بكرم والق
علاء سعد حسن
04-07-2017, 06:45 PM
مرحبا بعودتك أستاذ علاء.
استمعت كثيرا بقراءة هذا الجزء من الرواية الذي يبشر بفصول شائقة وممتعة، وبأحداث ونهايات غاية في الجمال والإبداع.
مع أجمل التحايا
تحياتي العطرة لمرورك الكريم استاذ احمد
علاء سعد حسن
05-07-2017, 12:14 PM
( 2 )
انعطفت بالسيارة في بعض الشوارع الجانبية الضيّقة متتبعة العنوان المكتوب على البطاقة التعريفية بالمحامي، حتى وجدت نفسها تسير داخل السوق في طريق لا يكاد يستوعب مرور سيارتها، فيضيق بالمارة وعربات الباعة الجائلين المصطفّة على الجانبين، وأقفاص الخضر والفاكهة التي تنتهك حرم الطريق، كما ينتهك ارتفاع أسعارها حرمة جيوب المشترين!!
بالكاد وصلت إلى نهاية السوق دون حوادث تذكر، فتعليقات المتجولين بعدم مناسبة الطريق لمرور سيارة به لم تعنِ لها شيئا في حالتها التي كانت عليها!
أخيرا انحرفت بالسيارة إلى منعطف على اليسار، كان يستوعب مقدمة سيارتها لا أكثر، وجدت من المستحيل عليها فتح بابها لتهبط منه، فاكتفت بكبس زر انزال زجاج بابها ومناداة بعض صبية يلعبون بالزقاق وسؤالهم عن مواعيد حضور المحامي الذي بدا لها مكتبه مُغلق النوافذ، وكان يشغل الطابق الثاني من بيت قديم متهدّم الشرفات، يعشعش العنكبوت بكثافة على القوائم الخشبية المهترئة لمدخله الضيْق المظلم وقت الظهيرة!
أجابها أجرأ الصبيان وأسرعهم استيعابا للسؤال:
آه الأستاذ دسوقي المحامي لم يعد يحضر إلى المكتب منذ جاءت الشرطة للقبض عليه..
ازدادت اضطرابا وسبقها لسانها بسؤال قبل أن تكتشف غباءه: وهل قبضوا عليه؟!
طمأنها الصبي وعلى وجهه ابتسامة خبيثة:
لا.. لا.. لم يكن موجودا وقت حضورهم.. تقول أمي أنه هجر المكتب من ليلتها..
شكرته وقامت بمغامرة شاقة جدا لإخراج السيارة من الوضع المأساوي الذي قادتها إليه..
بعد أكثر من نصف ساعة أخرى كانت تجلس في أحد المقاهي النظيفة في أحد الضواحي الهادئة بالمدينة، في انتظار حضور السيد دسوقي فهمي دسوقي، بعدما نجحت في مهاتفته أخيرا وكانت قد تفطّنت لترك رسالة نصية له ليأمن بالرد على رنين هاتفها المتواصل بلا انقطاع من جانبها ودون رد من جانبه..
لا تدري لمَ ابتسمتْ وهي تتذكر منظر الأستاذ (دسوقي) وكيل الفنان فؤاد المهندس في مسرحية (أنا وهو وهي) ببنطاله القصير وجملته الشهيرة: أنا الاستاذ دسوقي الوكيل بتاعه.. أو جملته الأكثر شهرة: بلد شهادات صحيح..
ضبطت نفسها تبتسم، ولامت نفسها بشدة فلم يعد من حقها أن تبتسم قبل أن تنقذ محمود من حبل المشنقة!!
أخيرا وصل الأستاذ دسوقي الذي بهرها مظهره تماما، فلم تكن تتخيل أبدا أن تراه على هذه الهيئة!!.. ولم تُخب صورته ظنونها، ولم تتباين كثيرا مع صورة الأستاذ دسوقي وكيل الفنان (فؤاد المهندس)!
والأستاذ دسوقي فهمي دسوقي رجل أربعيني من أصول ريفية واضحة على ملامح وجهه ولهجته تاركة بصمة واضحة على الطريقة التي اختارها في التخفي، مرتديا خليطا متنافرا تماما من الملابس، جعلته أقرب إلى ممثل كومبارس فار من استوديهات السينما أثناء تصوير فيلم كوميدي بملابس الشخصية التي يؤدي دورها في الفيلم!!
حاولت منع عقلها من طرح سؤاله التهكمي عليها، لكن السؤال انطلق إلى رأسها رغما عنها:
وهل هذا الرجل هو المنوط به إنقاذ زوجها أو خطيبها من الإعدام؟!
اضطراب الرجل ونظراته المختلسة حوله في كل لحظة تقريبا أثار شفقتها بشدة، حاولت إنهاء محنة المحامي بسرعة قدر الإمكان.. سألته عن الموقف القانوني لموكّليه، وجاءتها إجابته النموذجية في مثل هذه الظروف، قال هازئا:
لا يوجد موقف قانوني يا دكتورة.. الانقلاب العسكري عطّل القانون.. نحن نخضع لأسوء فترة مرّت على المحاكم عرفها التاريخ الحديث...
ثم انبرى الرجل في مرافعة طويلة حد الملل عن أوضاع البلاد، انهمك في مرافعته حتى أنه نسيَ توتره واضطرابه ونظراته المتلاحقة الباحثة عن عين مراقب ما..
وهي تتحيّن الفرصة لتوقف تلك المرافعة، لم يكن يعنيها شيئا من كل هذا اللغو الذي حفظته عن ظهر قلب من جرّاء ترددها على كل الأطراف التي تتعلق القضية بهم.. لقد وصلت رسالة هيئة الدفاع عن المتهمين الشباب.. وخلاصة الرسالة أن هيئة الدفاع نفسها متهمة بالتواطؤ مع المتهمين، وتعاني من المطاردة والتعقب، ومُشرّدة عن مكاتبها وبيوتها، وتعمل في ظروف بالغة التعقيد.. هيئة الدفاع تحتاج إلى ثُلّة من المحامين الأفذاذ للدفاع عنها!!
ربما خانها التعبير، أو خانتها المشاعر، لكن التقزز الواضح على ملامح وجهها جعل الأستاذ دسوقي فهمي دسوقي يفهم على وجه الدقّة السؤال الذي جاهدت دقائق لتصيغه بطريقة أكثر لباقة ولياقة.. لكن الرجل فهم المعنى مباشرة، وأجاب عليه بطريقة أكثر مباشرة:
مهمتنا تنحصر سيدتي فيما يتعلّق بالأمور الإنسانية.. الحصول على أكبر عدد ممكن من الزيارات للمتهمين من ذويهم، والتي تتعنت الداخلية في منعها أو تقليصها.. تهريب الأدوية الضرورية وبعض الطعام النظيف للمتهمين..
ثم شرع يشرح لها من جديد مغامرات المحامين المساكين مع أمناء الشرطة والمساعدين والجنود لتهريب هذه الأشياء الإنسانية البسيطة، وما يتكبّدونه من مصروفات يدفعونها بسخاء لهؤلاء نظير تمرير الحقوق البديهية الإنسانية للمتهمين وغيرهم..
أخيرا استطاعت أن تتخلص من هذا اللقاء الكئيب، معتذرة بأنها لا تريد أن تطيل اللقاء أكثر من ذلك حتى لا تسبب له قلقا مُضاعفا بسبب الأوضاع الأمنية..
في اللحظة التي حرّك فيها الأستاذ دسوقي مقعده إلى الخلف ونهض شبه واقفا، باغتته بالسؤال الذي التقته أساسا من أجل أن تطرحه عليه:
ما هو الحل الوحيد الممكن لايقاف تنفيذ حكم الإعدام؟!
أُسقط في يد الرجل، وانكفأ رأسه على صدره في هيئة كاروكاتيرية غريبة قبل أن يجلس من جديد.. بدا على ملامح وجهه أنه سيعيد شرح كل ما تقدم شرحه خلال الساعة الفائتة لكن بأسلوب مختلف، قال:
القضية برمّتها يا سيدتي قضية سياسية لا جنائية.. القضايا السياسية ليس لها إلا مخرج واحد لإيقاف تنفيذ الحكم هو العفو الرئاسي!!
أومأت له برأسها لتوهمه بتفهمها، وشكرته ثم كانت هذه المرة أول من نهض ليغادر المكان..
لم يكن في استطاعتها أن تفهم أن قضية جنائية مثل هذه فيها جريمة قتل واضحة لشرطي يعمل حارسا، يمكن أن تكون قضية سياسية بحتة!.. هي تدرك الظروف والملابسات المحيطة بالطبع، وتفهم جيدا حجج وذرائع المحامي وهيئة الدفاع جميعا.. لكن القضية لم تكن اختلاقا سياسيا محضا.. القضية لها أصل جنائي.. هناك قتيل فعلي حقيقي هو الشرطي، وإذا وُجد قتيل، فلا بد من وجود قاتل.. أن يُعدم بريء أو أبرياء نيابة عن المجرم الحقيقي قد يكون ملتبسا بشبهة تسييس.. لكن شطر القضية جنائي لا شك عندها في ذلك..
لم يكن في مقدورها أن تصارح الأستاذ دسوقي بخواطرها تلك، لقد أشفقت عليه منذ البداية مما يعانيه من اضطراب يجعل أكبر همه في الحياة أن ينأى بنفسه هو شخصيا عن الزج به في قضية من هذا النوع.. كانت نظرتها له منذ التقته أو ربما بالأحرى منذ رأت واجهة مكتبه المهجور، تتمثل في المثل الشعبي القائل: (جبتك يا عبد المعين تعينني.. وجدتك يا عبد المعين تنعان)!!
ملأ رأسها وهي في طريقها إلى سيارتها سؤالا ملحا: هل كل الأطراف المتأثرين بتلك القضية المصيرية على شاكلة الأستاذ دسوقي فهمي دسوقي؟!.. هل كلهم قد آمنوا أنه لا جدوى من أي شيء لأن السياسة غلبت كل شيء؟!..
من جديد قفزت إلى ذهنها صورة الحاجّة سهير كمنقذ محتمل..
عندما استقلّت سيارتها لم تستتطع أن تتحرك بها، لقد ملأ بصرها وسمعها حديث محمود من قفص المحكمة إلى رئيس المحكمة.. لقد كانت مرافعة محمود أقوى من كل مرافعات هيئات دفاع أقصى طموحهم تهريب شريط أقراص دوائية لزوم الربو أو السعال الديكي، وعدة أرغفة من الخبز النظيف الخالي من السوس!!.. هيئات الدفاع عن القانون وحقوق المواطنين لم تعد كذلك، ومكاتب المحامين الموَكّلين بالقضايا السياسية وشبه السياسية تحولت إلى مكاتب خدمات.. والذين يلعنون الانقلاب العسكري ليل نهار على صفحات تواصلهم الاجتماعي فيما يشبه التسبيح بالعشي والإبكار، أنفسهم يرشون ويوّسطون ويستجدون أصغر جندي في دولاب ماكينة ذات النظام الانقلابي لتمرير علبة دواء لذويهم!!.. وقفز إلى رأسها سؤال فرض نفسه إزاء تلك المفارقة العجيبة، هل هؤلاء معنيين حقا بقتل ذات الجنود الصغار، كالشرطي الحارس القتيل؟!
محمود لم يكن يهذي وهو يصيح بأعلى صوته كأنه يريد أن يُسمع مصر كلهامرافعته:
معالي المستشار رئيس المحكمة الموقر.. أنا أؤمن أن القتل كله حرام.. حرام ليس ككل حرام.. القتل أبشع جريمة عرفتها البشرية.. لقد علّمونا يا معالي المستشار أن من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا.. وعلّمونا أن من قتل نفسا بغير نفس أو أعان على قتلها بشطر كلمة جاء مكتوبا على جبهته يوم القيامة آيس من رحمة الله.. وعلّمونا أننا أبناء دعوة رفض مرشدها الثاني أن يصافح رجلا جاء يبايعه لأنه علم أنه كان قاتلا، ولا يمكن له أن يضع كفه في كف سفكت الدماء..
(رسم محمود فاصلا زمنيا وهو يلقي نظرة عابرة على الحضور، تنفس بعمق ثم أضاف):
يا معالي المستشار القتل جريمة بشعة نكراء في كل الأحوال والظروف.. والاغتيال غدرا وغيلة أشد دناءة وأبشع نكارة.. يا معالي المستشار رئيس هيئة المحكمة الموقرة إنني أُشهد الله وأُشهد هيئتكم الموقرة وكل من في هذه القاعة، قاعة الحق والعدل.. أنني أمقت القتل وأرفض مبدأ القصاص الفردي.. فالقصاص الفردي يحوّل المجتمع إلى غابة يستحيل العيش فيها فضلا عن الأمن والأمان.. فكيف لي أن أشارك في قتل جندي يعمل حارسا؟؟.. إن الذين يؤمنون بالقصاص الفردي لا يمكنهم أن يثبتوا أن هذا الجندي المسكين –رحمه الله- كان متورّطا بلحمه وشحمه في قتل واحد منهم محدد معلوم.. فهل من إنسان عاقل على هذه الأرض يؤمن بتوزيع القتل العشوائي على البشر؟!..
معالي المستشار إنني وأنا أعلن كلماتي هذه أشعر أنها آخر اتصال لي بالعالم خارج الأسوار.. الموت بات قريبا جدا إلى رقبتي ورقاب إخواني المتهمين معي في نفس القضية، وأنا لست محاميا مختصا لأدفع عن نفسي جريمة لم أرتكبها، ولم أطلب الكلمة كي ألتمس من معاليكم تخفيف الحكم.. إنني وقد بت قريبا من ملاقاة المولى الحَكَم الحق العدل الشهيد أردت أن أُسجّل للناس وللذاكرة وللتاريخ أن القتل جريمة بشعة لا يُقرها دين.. وأنني أرفضه وأمقته و........
انطلقت آلة التنبيه برعونة من سيارة كانت تقف خلف سيارة لمياء، انتظر قائدها طويلا لتبتعد بسيارتها مفسحة له مكان الخروج، فلما تمادت في ذكرياتها صرخ في وجهها بكل حدّة آلة التنبيه المزعجة بسيارته.. فاضطرت لمياء أن تتحرك بسيارتها مودّعة صورة محمود كأن قائد تلك السيارة اللعينة قد انتزعها انتزاعا من بين أحضان فتاها، فانطلقت ودموعها تنساب على خديها، كبست زر (الكاسيت)، فانبعث صوت (حمزة نمرة):
يا مظلوم ارتاح
عمر الحق ما راح
ليك يا ظالم يوم
تشرب أسى وجراح
ياللي اتظلمت خلاص
مستني ايه من الناس
ده زمان ملهوش أمان
فيه الغلبان عليه ينداس
أحمد العكيدي
06-07-2017, 09:58 AM
فصل أخر مميز للرواية مميزة بأسلوبها، وصورها، وأحداثها...
نترقب المزيد.
دمت مبدعا.
مع التقدير
ناديه محمد الجابي
06-07-2017, 10:43 AM
بحورك عميقة ، ولا تركب إلا الصعب من الموج
مواضيعك شائكة .. وشيقة ـ وبقلمك المتمكن تجعلنا نحلق معك
في فضاءات حرفك المسجل للأحداث بعين مفكر وقلم أديب جاد احيانا
وساخرا أحيانا أخرى .. ولكنه ممتع.
أتابع معك .. وبشغف
تحياتي وودي.
:v1::hat:
الفرحان بوعزة
06-07-2017, 07:44 PM
بدون شك أن السارد مهد لروايته بافتتاحية مثيرة ومغرية ،حيث ترك القارئ يتنبأ بأحداث سوف تظهر بعد هذه التوطئة،واختار توليد الفوضى في الشارع العام ،فوضى خلقت نوعا من الترقب والاستنفار لدى القارئ ،ومن هنا زاوج السارد بين السرد المتين والوصف الدقيق لما حدث متتبعا سلوكات معينة ترتبط بالبطلة والمارة عن طريق لغة شيقة، فطور الحدث إلى ما يشبه نوعا من التداعي ،والتخيل ،والواقع الممكن ... فبرز ما يكسر نمطية السرد عن طريق حوار مقتضب يزاوج بين الرغبة في التواصل وتصنع القسوة والخشونة في الحديث. بفنية أدبية متميزة عرف السارد كيف يتخلص من الحديث عن الفوضى إلى الحديث عن ما هو أخطر وأكبر لرفع درجة التشويق والإثارة خاصة بعدما تعقدت الأمور ووصلت القضية إلى تأرجح بين الموت والحياة .. ..
بداية موفقة ،وكتابة إبداعية متميزة ،تعتمد على تطويع اللغة لتكون منسجمة مع الأفكار ، وكما قيل : اللغة وعاء للأفكار ، فإذا انثقب الوعاء تبعثرت الأفكار ..
جميل ما كتبت وأبدعت أخي المبدع المتألق علاء..
محبتي وتقديري
مصطفى الصالح
08-07-2017, 12:25 AM
كأني أقرأ ل نجيب الكيلاني
سأقول أنك أبدعت بلا حدود
تشويق قوي
أسلوب رصين مزج الحاضر بالماضي وأثبت الواقع بطريقة فنية لائقة
ولغة جيدة خلت من السهوات إلا في كلمة واحدة
أبدعت
كل التقدير
علاء سعد حسن
08-07-2017, 01:38 PM
فصل أخر مميز للرواية مميزة بأسلوبها، وصورها، وأحداثها...
نترقب المزيد.
دمت مبدعا.
مع التقدير
شكر الله لك المتابعة.. التواصل والتشجيع يزيد اصرار الكاتب على مواصلة عمله ومحاولة تجويده
علاء سعد حسن
08-07-2017, 05:25 PM
بحورك عميقة ، ولا تركب إلا الصعب من الموج
مواضيعك شائكة .. وشيقة ـ وبقلمك المتمكن تجعلنا نحلق معك
في فضاءات حرفك المسجل للأحداث بعين مفكر وقلم أديب جاد احيانا
وساخرا أحيانا أخرى .. ولكنه ممتع.
أتابع معك .. وبشغف
تحياتي وودي.
:v1::hat:
تعليق حضرتك استاذة نادية بقدر ما يسعدني ويشرفني فإنه في ذات الوقت يحملني مسؤولية ان يظل العمل على هذا القدر من المصداقية مماهيا بين سخرية نقد الواقع والذات وجدية تقديم الفكرة والمضمون..
السير بين الاشواك مؤلم ومضني لكنه يجعل المشوار في النهاية له قيمة ما.. والخوض في المسكوت عنه شاق.. ومع ذلك لا اجد وظيفة حقيقية للكلمة سوى نقله من خانة الصمت الى خانة الكلام
دعوات حضرتك أن أصل الى ما تأمليه..
علاء سعد حسن
09-07-2017, 03:46 PM
بدون شك أن السارد مهد لروايته بافتتاحية مثيرة ومغرية ،حيث ترك القارئ يتنبأ بأحداث سوف تظهر بعد هذه التوطئة،واختار توليد الفوضى في الشارع العام ،فوضى خلقت نوعا من الترقب والاستنفار لدى القارئ ،ومن هنا زاوج السارد بين السرد المتين والوصف الدقيق لما حدث متتبعا سلوكات معينة ترتبط بالبطلة والمارة عن طريق لغة شيقة، فطور الحدث إلى ما يشبه نوعا من التداعي ،والتخيل ،والواقع الممكن ... فبرز ما يكسر نمطية السرد عن طريق حوار مقتضب يزاوج بين الرغبة في التواصل وتصنع القسوة والخشونة في الحديث. بفنية أدبية متميزة عرف السارد كيف يتخلص من الحديث عن الفوضى إلى الحديث عن ما هو أخطر وأكبر لرفع درجة التشويق والإثارة خاصة بعدما تعقدت الأمور ووصلت القضية إلى تأرجح بين الموت والحياة .. ..
بداية موفقة ،وكتابة إبداعية متميزة ،تعتمد على تطويع اللغة لتكون منسجمة مع الأفكار ، وكما قيل : اللغة وعاء للأفكار ، فإذا انثقب الوعاء تبعثرت الأفكار ..
جميل ما كتبت وأبدعت أخي المبدع المتألق علاء..
محبتي وتقديري
مرور حضرتك هو الاروع
اللغة هي وعاء الافكار حقيقة ادبية وفلسفية وفكرية ثابتة وقدر ما هي صحيحية قدر ما هي مخيفة للكاتب أو المفكر، فالإلمام بفنيات اللغة مما لا يدرك جله إلا على المختصين فيها وبها.. الهواة من أمثالي يتعثرون ، فربما يكون القاموس اللغوي للكاتب كبيرا ثريا يملك الكثير من المرادفات الثرية.. ومع ذلك تعيبه غياب الضوابط النحوية أحيانا وعندها يحدث الحرج..
تعليق حضرتك الثري فضلا عن كونه وسام شرف هو ايضا دافع للمضي قدما.. شكر الله لك
علاء سعد حسن
10-07-2017, 03:30 PM
[QUOTE=مصطفى الصالح;1104251]كأني أقرأ ل نجيب الكيلاني
سأقول أنك أبدعت بلا حدود
تشويق قوي
أسلوب رصين مزج الحاضر بالماضي وأثبت الواقع بطريقة فنية لائقة
ولغة جيدة خلت من السهوات إلا في كلمة واحدة
أبدعت
كل التقدير[/QUOTE
الدكتور نجيب الكيلاني رواياته كانت المعلم الاول
وابداعه يظل ملهما
على ان أغلب العمالقة لا يعوضون ولا يتكررون وان بقيت بقية من انفاسهم في انفاس تلامذتهم والمحبين لهم..
شكرا استاذ مصطفى إذ ذكرتني بحبيب.. مرورك العبق عطر محاولتي الروائية..
وانتظر أن توضح لي السهوة أو السهوات .. فمن فضلكم نتعلم ونرتقي
علاء سعد حسن
13-07-2017, 09:07 AM
( 3 )
لم يكن محمود يشعر بشيء مما حوله، والجنود يدفعونه لمغادرة المحكمة إلى عربة الترحيلات، كل شيء حوله وداخله أصبح خواء لا معنى له، ولا وجود له، لم يكن يهمه دفع الجنود له، ولا وكزاتهم المتتالية في كتفه وظهره، كل ما كان يحاوله أن يختبئ وسط الجنود ووسط زملائه المتهمين حتى لا تلتقي عيناه بعيني أمه ولا بعيني لمياء.. لقد صارت جلسات المحاكمة بالنسبة له عذابا لا يطاق، لأنها تجبره أن يرى عيونا ملؤها الهم والحزن والنكد..
يتساءل: وهل الحياة تستحق كل هذا الاهتمام والنكد؟!.. هل تستحق حياته هو بالذات وهو الذي لا يصنع شيئا سوى أن يملأ دنيا الناس حوله شغبا وصخبا ولهوا وفكاهة وجنونا، -كما كانوا يصفونه دائما- هل تستحق حياته تلك كل هذا الكم من الحزن والبؤس؟.. ألم يكن مجرد مهرّج يمكن استبداله بمهرّج آخر أقدر منه على الإضحاك؟!..
إن يوم المحاكمة يمثل له أكبر محنة تقابله منذ تم اختطافه من أمام الصيدلية منذ أكثر من عام، حتى حفلات التعذيب المنظّمة، وتلك الأخرى التي قد يؤديها بعض الحرّاس مجاملة للسادة الضباط وطلبا لمصلحة ما يمنحونها لهم.. حتى هذه الحفلات تهون أمام محنة أيام المحاكمة.. إنه يمقت طوله الفارع الذي يعقّد من مهمة تَواريه وسط الزملاء والعساكر.. ويكره أكثر التلكؤ المتعمّد الذي يمارسه زملاؤه إذا حازوا أقاربهم في محاولة يائسة لمنحهم نظرة أو ابتسامة مغتصَبة، سرعان ما ترتد إلى دموع حجرية تسكن المآقي وتُعمّق كسر القلوب.. في حرصهم المحموم هذا على تبادل نظرات اللوعة والحسرة، يدفعونه دفعا لأشد لحظات عذابه إيلاما وهي أن تلتقي دموعه بدموع من يحب!!
لم يحاول مرة أن يلفت نظر زملائه المتهمين معه في نفس القضية، أو غيرهم من رفقاء السجن إلى معاناته.. فأشد ما يعجب له هذا التباين، أو هذا الاختلاف، أو سمّه إن شئت: تنافرا مع أبناء درب واحد، ورفاق مصير مشترك محتوم!!
في هذا التنافر تكمن محنته الحقيقية، محنته التي جعلته يُفضّل حكما بالإعدام شنقا على حكم مخفف ولو بالسجن بضع سنين!!..
فالإعدام بالنسبة له هو هذا التلاشي في ذات جناب المحبوب.. تلاشٍ لا يشعر بعده بشيء من عذابات الدنيا ومآسيها العظام، إنه همزة الوصل إلى خلود أبدي يصرفه عن كل ما يكره، وما يُنغّص عليه لذة الخلوات.. والسجن ولو كان مخففّا مع مجموعة تتنافر معه كل التنافر هو حكم على الغريب الذي بداخله بالموت كل يوم عدة مرات!!
الإعدام موت واحد حاضر وبقوة لنفس غير مفتونة ولا مبدّلة، قسوة السجن وحفلات التعذيب ذات الأمسيات الطوال، ومضاهاتها بأمسيات أعمق منها إيلاما وأطول ساعات وأحلك ظلمة، هي تلك التي يمارسها معه بعض الرفاق في محاولة مستميتة لإنجاح عملية غسيل مخ له.. هذه القسوة المركّبة فرضت عليه سؤالا عجيبا حائرا:
أيهما أشد ضررا وأعمق أثرا على النفس، وأكبر جُرما عند الله محاولة فتنته عن الدين التي يمارسها معه زبانية التعذيب؟، أم الفتنة عن الفكر الذي يؤمن به ويوقن أنه منبثق من ذات الدين؟..
الدين عند محمود لا يقف عند حدود النصوص المقدّسة في كتاب أو سُنّة، لكنه هذا الامتزاج بين روح تلك النصوص وبين عقله وأحاسيسه وعواطفه.. فالدين المقدّس هو نتاج رباني خالص لا دخل للبشر فيه، أما فهم الدين فهو إنتاج ينتجه البشر في ضوء هداية النص المقدّس..
عندما حاول مرة أن يشرح وجهة نظره هذه، واجهه الجمع بقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا).. تساءل ساعتئذ عن معنى الاجتهاد وضرورته إذن؟! ولم يظفر حتى الساعة بإجابة تشرح صدره ولو قليلا..
لم ينسَ أنه سمع من أحد طلاب العلم بالأزهر تفسيرا يقول: إن الله تعالى وهب الإنسان العقل ليفهم به النص المقدس، لا ليحرّف فيه بالزيادة أو النقصان.. وهذا يتفق مع ما يفهمه.. وسمع الشيخ يوسف القرضاوي في حلقات الشريعة والحياة على فضائية الجزيرة الإخبارية يعرّف فقه الإمام أبي حنيفة بفقه المقاصد والعلل والغايات، وهو ما وافقه فيه الإمام الشاطبي.. فكيف نوفّق بين فقه هؤلاء وبين تجنب اتّباع الهوى؟!..
أسئلة الحيرة والغموض ما برحت عقل محمود خارج السجن وداخل السجن.. ومحمود قبل السجن طير حر طليق يتنقّل بين الأشجار، فإذا ضاق بفكر شيخ هنا، أو فكر مسؤول هناك، يطير إلى أغصان أخرى، أو يبتعد إلى أشجار أخرى فيلتقط من كل غصن أنضج ثماره، لكنه في السجن مُقيّد الحرية في قفص صخري الجدران مجبر أن يتناول عقله فكرًا واحدًا، كما هو مجبر على تناول طعام السجن الموَحد بما فيه من آفات!!.. وهذا ما يطلق عليه محمود بينه وبين نفسه ظلمات السجن السوداء بعضها فوق بعض..
رغم ظلمات السجن حالكة السواد، كان محمود يبتسم لنفسه كلما تذكّر قنبلة الدخان التي ألقاها داخل لقاء الأسرة ذات مرة.. سأل بعفوية شديدة:
ما الفرق بين إسلام سيدنا أبي بكر، وبين إسلام سيدنا عمر بن الخطاب؟ وكذلك بين إسلام بن عمر وبن عباس؟؟!..
غرق إخوانه في الضحك، لقد اعتادوا منه على إطلاق القفشات في ذروة أوقات الجد، ظنوها قفشة من قفشاته.. لكن الأستاذ سامي مسؤول الأسرة لم يضحك، نظر إليه مباشرة في عينيه كأنه يريد أن يقرأ خلف نظراته البريئة شيئا.. ثم قال بصرامة:
يا أخ محمود لا يوجد شيء اسمه إسلام سيدنا أبي بكر وإسلام سيدنا عمر.. الإسلام واحد يا أخي والأفهام والعقول والاجتهادات تتغير وتختلف..
أومأ محمود برأسه محاولا أن يكتم ابتسامة الظفر بما أراد!!
التباين الذي يصل إلى حد التنافر أحيانا سيطر على المتهمين الستة المحكوم عليهم بالإعدام في قضية قتل الحارس، منذ دفعهم الجنود إلى عربة الترحيلات وأغلقوا عليهم بابها الثقيل الصدئ، بدا الانهيار المكتوم على وجوه البعض، انهيارا صامتا لا صوت له، لا بكاء لا نشيج لا هيستيريا، انهيار يصنع شيئا أشبه بالاكتئاب والرغبة الملحة في تعجل تنفيذ الحكم، فوقوع البلاء أهون من انتظاره، وانتظار وقوع البلاء كل يوم، هو بلاء كل يوم!!
وهناك من سلّم أمره لله، تسليما جعله يترك نفسه كلها لله، فلا إرادة خاصة له، ولا رغبة منبعثة من ذاته، فإنما هو خلق من خلقه سبحانه يحركه كيف شاء وأنى شاء.. إن سجنا، فرضا، وإن إعداما فشهادة، وإن فرجا فابتلاء جديد وامتحان آخر..
ومنهم من كان يُغنّي في العربة التي تسوقه إلى عنبر الإعدام!!.. نعم يُغنّي بصوت مرتفع:
حتفرج حتفرج بإذن الإله
ونخرج وننعم بنور الحياة
يا قاعد لوحدك وكلك هموم
وسهران في ليلك تعد النجوم
ما تطرد شيطانك وحارب هواك
حتفرج حتفرج بإذن الإله
عيالك وأهلك في رحمة كريم
وهو المدبر وهو الرحيم
وأمرك في ايده وهو في علاه
في عربة الترحيلات كما في السجن، صاحب المبادرة والصوت الأعلى الأكثر جرأة هو الذي يفرض هيمنته.. من يستطيع أن يوقف غناء هذا الشاب المحكوم عليه توا بالإعدام حكما نهائيا باتا؟ وهل هذا غناء، أم مناجاة؟ أم صرخة سخرية واستهزاء بكل شيء؟!
ومحمود صاحب الشخصية المرحة المنطلقة حد الجنون، يكره التهريج ويميّز بينه وبين المرح وصناعة البهجة.. التهريج عنده نوع من السلبية واللا مبالاة واليأس المتنكّر في صورة استهانة.. وقد كان رغم تسليمه الأمر كله لله، يحترم اللحظة، يوقر رهبتها.. لا يمكن أن يدّعي لنفسه أن لحظة تأييد حكم الإعدام من محكمة النقض لا تختلف عن اللحظة السابقة حيث كان هناك أمل ولو متناهي الضآلة في تغيير الحكم.. إن كلمة الموت لها سطوتها التي تفرض رهبتها، والحكم بالموت ليس هيّنا، حتى ولو كان الموت نفسه أمنية!!
هو بحاجة ماسة أن يخلو بنفسه ساعات يراجع فيها حياته فيما كانت ولمن كانت؟.. يُعد نفسه لصاحب السطوة والجبروت الذي يدنو منه كل لحظة، وهو ينتظره!!..
في عربة الترحيلات كما في الزنزانة لا فرصة لأن تخلو بنفسك.. فالواحد في الكل والكل في واحد.. لا خصوصية لأدق مشاعرك خصوصية، وهذا نوع من العذاب يجعل تنفيذ حكم الموت نفسه فرجا ومخرجا!!
الفكرة التي سيطرت على عقل محمود في تلك الأجواء التي شبّهها بمولد من موالد الأولياء.. حيث التنافر بالغ مداه.. إنه مولد يصنعه ستة نفر فحسب لا أكثر من ذلك.. سيطرت عليه فكرة أو سؤال:
متى ينفّذون حكم الإعدام؟..
صورة أمه ولهفتها ولوعتها لم تفارق خياله.. صدمة لمياء تلك الرقيقة الحنون تصنع له حضنا دائما يغلّفه حتى في تلك الأجواء.. كل واحدة منهما يحدوها الأمل في تأجيل التنفيذ إلى أجل غير مسمى.. كل واحدة منهما تعتبر اليوم الذي يمر دون أن تسمع خبر تنفيذ الحكم هو حياة كاملة بالنسبة لها.. فحياة محمود تطول.. والأمر عند محمود عكس ذلك تماما، فكل يوم تُشرق شمسه هو تنفيذ محتمل للإعدام.. المحكوم عليهم بالإعدام يُعدمون كل طلعة صباح..
استدار إلى جانب من جوانب السيارة وجلس على ركبتيه وأغمض عينيه طلبا لخلوة مستحيلة وفي أذنيه نغم بات عذبا:
أبتاه إن طلع الصباح على الدُنا وأضاء نورُ الشمسِ كلَ مكان
واستقبلَ العصفورُ بين غصونه يوما جديدا مشرقَ الألوان
وسمعت أنغام التفاؤل ثرة تجري على فم بائع الألبان
وأتى يدقّ كما تعود بابنا سيدق باب السجن جلادان
وأكون بعد هُنيهة متأرجحا في الحبل مشدودا إلى العيدان..
انطلق صوت أجش من ناحية باب العربة:
وحّد الله يا دكتور محمود.. كله بأمره ولا أحد يموت ناقص عمر..
لحظة رِقّة انتابت الحارس الفظ، ضاعفت من عذابات محمود.. انتهكت مشاعره في لحظة خلوة مقدّسة، لن ينعم بها حتى يأتي الموت.. فمتى يأتي ذلك الموت؟!
علاء سعد حسن
13-07-2017, 11:12 AM
( 3 )
لم يكن محمود يشعر بشيء مما حوله، والجنود يدفعونه لمغادرة المحكمة إلى عربة الترحيلات، كل شيء حوله وداخله أصبح خواء لا معنى له، ولا وجود له، لم يكن يهمه دفع الجنود له، ولا وكزاتهم المتتالية في كتفه وظهره، كل ما كان يحاوله أن يختبئ وسط الجنود ووسط زملائه المتهمين حتى لا تلتقي عيناه بعيني أمه ولا بعيني لمياء.. لقد صارت جلسات المحاكمة بالنسبة له عذابا لا يطاق، لأنها تجبره أن يرى عيونا ملؤها الهم والحزن والنكد..
يتساءل: وهل الحياة تستحق كل هذا الاهتمام والنكد؟!.. هل تستحق حياته هو بالذات وهو الذي لا يصنع شيئا سوى أن يملأ دنيا الناس حوله شغبا وصخبا ولهوا وفكاهة وجنونا، -كما كانوا يصفونه دائما- هل تستحق حياته تلك كل هذا الكم من الحزن والبؤس؟.. ألم يكن مجرد مهرّج يمكن استبداله بمهرّج آخر أقدر منه على الإضحاك؟!..
إن يوم المحاكمة يمثل له أكبر محنة تقابله منذ تم اختطافه من أمام الصيدلية منذ أكثر من عام، حتى حفلات التعذيب المنظّمة، وتلك الأخرى التي قد يؤديها بعض الحرّاس مجاملة للسادة الضباط وطلبا لمصلحة ما يمنحونها لهم.. حتى هذه الحفلات تهون أمام محنة أيام المحاكمة.. إنه يمقت طوله الفارع الذي يعقّد من مهمة تَواريه وسط الزملاء والعساكر.. ويكره أكثر التلكؤ المتعمّد الذي يمارسه زملاؤه إذا حازوا أقاربهم في محاولة يائسة لمنحهم نظرة أو ابتسامة مغتصَبة، سرعان ما ترتد إلى دموع حجرية تسكن المآقي وتُعمّق كسر القلوب.. في حرصهم المحموم هذا على تبادل نظرات اللوعة والحسرة، يدفعونه دفعا لأشد لحظات عذابه إيلاما وهي أن تلتقي دموعه بدموع من يحب!!
لم يحاول مرة أن يلفت نظر زملائه المتهمين معه في نفس القضية، أو غيرهم من رفقاء السجن إلى معاناته.. فأشد ما يعجب له هذا التباين، أو هذا الاختلاف، أو سمّه إن شئت: تنافرا مع أبناء درب واحد، ورفاق مصير مشترك محتوم!!
في هذا التنافر تكمن محنته الحقيقية، محنته التي جعلته يُفضّل حكما بالإعدام شنقا على حكم مخفف ولو بالسجن بضع سنين!!..
فالإعدام بالنسبة له هو هذا التلاشي في ذات جناب المحبوب.. تلاشٍ لا يشعر بعده بشيء من عذابات الدنيا ومآسيها العظام، إنه همزة الوصل إلى خلود أبدي يصرفه عن كل ما يكره، وما يُنغّص عليه لذة الخلوات.. والسجن ولو كان مخففّا مع مجموعة تتنافر معه كل التنافر هو حكم على الغريب الذي بداخله بالموت كل يوم عدة مرات!!
الإعدام موت واحد حاضر وبقوة لنفس غير مفتونة ولا مبدّلة، قسوة السجن وحفلات التعذيب ذات الأمسيات الطوال، ومضاهاتها بأمسيات أعمق منها إيلاما وأطول ساعات وأحلك ظلمة، هي تلك التي يمارسها معه بعض الرفاق في محاولة مستميتة لإنجاح عملية غسيل مخ له.. هذه القسوة المركّبة فرضت عليه سؤالا عجيبا حائرا:
أيهما أشد ضررا وأعمق أثرا على النفس، وأكبر جُرما عند الله محاولة فتنته عن الدين التي يمارسها معه زبانية التعذيب؟، أم الفتنة عن الفكر الذي يؤمن به ويوقن أنه منبثق من ذات الدين؟..
الدين عند محمود لا يقف عند حدود النصوص المقدّسة في كتاب أو سُنّة، لكنه هذا الامتزاج بين روح تلك النصوص وبين عقله وأحاسيسه وعواطفه.. فالدين المقدّس هو نتاج رباني خالص لا دخل للبشر فيه، أما فهم الدين فهو إنتاج ينتجه البشر في ضوء هداية النص المقدّس..
عندما حاول مرة أن يشرح وجهة نظره هذه، واجهه الجمع بقول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا).. تساءل ساعتئذ عن معنى الاجتهاد وضرورته إذن؟! ولم يظفر حتى الساعة بإجابة تشرح صدره ولو قليلا..
لم ينسَ أنه سمع من أحد طلاب العلم بالأزهر تفسيرا يقول: إن الله تعالى وهب الإنسان العقل ليفهم به النص المقدس، لا ليحرّف فيه بالزيادة أو النقصان.. وهذا يتفق مع ما يفهمه.. وسمع الشيخ يوسف القرضاوي في حلقات الشريعة والحياة على فضائية الجزيرة الإخبارية يعرّف فقه الإمام أبي حنيفة بفقه المقاصد والعلل والغايات، وهو ما وافقه فيه الإمام الشاطبي.. فكيف نوفّق بين فقه هؤلاء وبين تجنب اتّباع الهوى؟!..
أسئلة الحيرة والغموض ما برحت عقل محمود خارج السجن وداخل السجن.. ومحمود قبل السجن طير حر طليق يتنقّل بين الأشجار، فإذا ضاق بفكر شيخ هنا، أو فكر مسؤول هناك، يطير إلى أغصان أخرى، أو يبتعد إلى أشجار أخرى فيلتقط من كل غصن أنضج ثماره، لكنه في السجن مُقيّد الحرية في قفص صخري الجدران مجبر أن يتناول عقله فكرًا واحدًا، كما هو مجبر على تناول طعام السجن الموَحد بما فيه من آفات!!.. وهذا ما يطلق عليه محمود بينه وبين نفسه ظلمات السجن السوداء بعضها فوق بعض..
رغم ظلمات السجن حالكة السواد، كان محمود يبتسم لنفسه كلما تذكّر قنبلة الدخان التي ألقاها داخل لقاء الأسرة ذات مرة.. سأل بعفوية شديدة:
ما الفرق بين إسلام سيدنا أبي بكر، وبين إسلام سيدنا عمر بن الخطاب؟ وكذلك بين إسلام بن عمر وبن عباس؟؟!..
غرق إخوانه في الضحك، لقد اعتادوا منه على إطلاق القفشات في ذروة أوقات الجد، ظنوها قفشة من قفشاته.. لكن الأستاذ سامي مسؤول الأسرة لم يضحك، نظر إليه مباشرة في عينيه كأنه يريد أن يقرأ خلف نظراته البريئة شيئا.. ثم قال بصرامة:
يا أخ محمود لا يوجد شيء اسمه إسلام سيدنا أبي بكر وإسلام سيدنا عمر.. الإسلام واحد يا أخي والأفهام والعقول والاجتهادات تتغير وتختلف..
أومأ محمود برأسه محاولا أن يكتم ابتسامة الظفر بما أراد!!
التباين الذي يصل إلى حد التنافر أحيانا سيطر على المتهمين الستة المحكوم عليهم بالإعدام في قضية قتل الحارس، منذ دفعهم الجنود إلى عربة الترحيلات وأغلقوا عليهم بابها الثقيل الصدئ، بدا الانهيار المكتوم على وجوه البعض، انهيارا صامتا لا صوت له، لا بكاء لا نشيج لا هيستيريا، انهيار يصنع شيئا أشبه بالاكتئاب والرغبة الملحة في تعجل تنفيذ الحكم، فوقوع البلاء أهون من انتظاره، وانتظار وقوع البلاء كل يوم، هو بلاء كل يوم!!
وهناك من سلّم أمره لله، تسليما جعله يترك نفسه كلها لله، فلا إرادة خاصة له، ولا رغبة منبعثة من ذاته، فإنما هو خلق من خلقه سبحانه يحركه كيف شاء وأنى شاء.. إن سجنا، فرضا، وإن إعداما فشهادة، وإن فرجا فابتلاء جديد وامتحان آخر..
ومنهم من كان يُغنّي في العربة التي تسوقه إلى عنبر الإعدام!!.. نعم يُغنّي بصوت مرتفع:
حتفرج، حتفرج بإذن الإله
ونخرج وننعم بنور الحياة
يا قاعد لوحدك وكلك هموم
وسهران في ليلك تعد النجوم
ما تطرد شيطانك وحارب هواك
حتفرج حتفرج بإذن الإله
عيالك وأهلك في رحمة كريم
وهو المدبر وهو الرحيم
وأمرك في ايده وهو في علاه
في عربة الترحيلات كما في السجن، صاحب المبادرة والصوت الأعلى الأكثر جرأة هو الذي يفرض هيمنته.. من يستطيع أن يوقف غناء هذا الشاب المحكوم عليه توا بالإعدام حكما نهائيا باتا؟ وهل هذا غناء، أم مناجاة؟ أم صرخة سخرية واستهزاء بكل شيء؟!
ومحمود صاحب الشخصية المرحة المنطلقة حد الجنون، يكره التهريج ويميّز بينه وبين المرح وصناعة البهجة.. التهريج عنده نوع من السلبية واللا مبالاة واليأس المتنكّر في صورة استهانة.. وقد كان رغم تسليمه الأمر كله لله، يحترم اللحظة، يوقر رهبتها.. لا يمكن أن يدّعي لنفسه أن لحظة تأييد حكم الإعدام من محكمة النقض لا تختلف عن اللحظة السابقة حيث كان هناك أمل ولو متناهي الضآلة في تغيير الحكم.. إن كلمة الموت لها سطوتها التي تفرض رهبتها، والحكم بالموت ليس هيّنا، حتى ولو كان الموت نفسه أمنية!!
هو بحاجة ماسة أن يخلو بنفسه ساعات يراجع فيها حياته فيما كانت ولمن كانت؟.. يُعد نفسه لصاحب السطوة والجبروت الذي يدنو منه كل لحظة، وهو ينتظره!!..
في عربة الترحيلات كما في الزنزانة لا فرصة لأن تخلو بنفسك.. فالواحد في الكل والكل في واحد.. لا خصوصية لأدق مشاعرك خصوصية، وهذا نوع من العذاب يجعل تنفيذ حكم الموت نفسه فرجا ومخرجا!!
الفكرة التي سيطرت على عقل محمود في تلك الأجواء التي شبّهها بمولد من موالد الأولياء.. حيث التنافر بالغ مداه.. إنه مولد يصنعه ستة نفر فحسب لا أكثر من ذلك.. سيطرت عليه فكرة أو سؤال:
متى ينفّذون حكم الإعدام؟..
صورة أمه ولهفتها ولوعتها لم تفارق خياله.. صدمة لمياء تلك الرقيقة الحنون تصنع له حضنا دائما يغلّفه حتى في تلك الأجواء.. كل واحدة منهما يحدوها الأمل في تأجيل التنفيذ إلى أجل غير مسمى.. كل واحدة منهما تعتبر اليوم الذي يمر دون أن تسمع خبر تنفيذ الحكم هو حياة كاملة بالنسبة لها.. فحياة محمود تطول.. والأمر عند محمود عكس ذلك تماما، فكل يوم تُشرق شمسه هو تنفيذ محتمل للإعدام.. المحكوم عليهم بالإعدام يُعدمون كل طلعة صباح..
استدار إلى جانب من جوانب السيارة وجلس على ركبتيه وأغمض عينيه طلبا لخلوة مستحيلة وفي أذنيه نغم بات عذبا:
أبتاه إن طلع الصباح على الدُنا وأضاء نورُ الشمسِ كلَ مكان
واستقبلَ العصفورُ بين غصونه يوما جديدا مشرقَ الألوان
وسمعت أنغام التفاؤل ثرة تجري على فم بائع الألبان
وأتى يدقّ كما تعود بابنا سيدق باب السجن جلادان
وأكون بعد هُنيهة متأرجحا في الحبل مشدودا إلى العيدان..
انطلق صوت أجش من ناحية باب العربة:
وحّد الله يا دكتور محمود.. كله بأمره ولا أحد يموت ناقص عمر..
لحظة رِقّة انتابت الحارس الفظ، ضاعفت من عذابات محمود.. انتهكت مشاعره في لحظة خلوة مقدّسة، لن ينعم بها حتى يأتي الموت.. فمتى يأتي ذلك الموت؟!
أحمد العكيدي
17-07-2017, 10:07 AM
ما زلت أستمتع وأستفيد من هذه الرواية الرائعة بسرد متقن وتصوير رائع يغري القارئ ويجذبه إلى المتابعة وانتظار باقي الفصول بشغف.
مع أجمل التحايا
ناديه محمد الجابي
19-07-2017, 05:48 PM
وقوع البلاء أهون من انتظاره، وانتظار وقوع البلاء كل يوم، هو بلاء كل يوم!!
إن كلمة الموت لها سطوتها التي تفرض رهبتها، والحكم بالموت ليس هيّنا،
حتى ولو كان الموت نفسه أمنية!!
كل يوم تُشرق شمسه هو تنفيذ محتمل للإعدام.. المحكوم عليهم بالإعدام يُعدمون كل طلعة صباح..
فمتى يأتي ذلك الموت؟!
أخترت هذه العبارات التي كان لها تأثير على
بسرد سلس سهل جعلتنا نعيش تلك اللحظات الإنسانية في نص تألقت فيه
بروعة الحضور وبلاغة التصوير ، يمس شغاف القلب بصدقه الشعوري وألقه التعبيري.
جميلة ماتعة قصتك ـ راقية الطرح، رائعة الوصف
تعبر عن خوالج النفس بصورة شفيفة.
شكرا لروعة قلمك وجميل أداؤك
متابعة معك بقوة.
:sb::sb:
علاء سعد حسن
26-07-2017, 11:50 PM
ما زلت أستمتع وأستفيد من هذه الرواية الرائعة بسرد متقن وتصوير رائع يغري القارئ ويجذبه إلى المتابعة وانتظار باقي الفصول بشغف.
مع أجمل التحايا
أحيانا يصاب الكاتب بشيء من السأم.. من شرود عام يمنع الكاتب عن استكمال عمله حينا من الدهر..
لكن متابعة ومرور وتشجيع اخواني الكرام قادر على اخراج الكاتب من سآمته
شكرا اخي احمد تواصلك ودعمك المستمر
علاء سعد حسن
27-07-2017, 10:19 AM
وقوع البلاء أهون من انتظاره، وانتظار وقوع البلاء كل يوم، هو بلاء كل يوم!!
إن كلمة الموت لها سطوتها التي تفرض رهبتها، والحكم بالموت ليس هيّنا،
حتى ولو كان الموت نفسه أمنية!!
كل يوم تُشرق شمسه هو تنفيذ محتمل للإعدام.. المحكوم عليهم بالإعدام يُعدمون كل طلعة صباح..
فمتى يأتي ذلك الموت؟!
أخترت هذه العبارات التي كان لها تأثير على
بسرد سلس سهل جعلتنا نعيش تلك اللحظات الإنسانية في نص تألقت فيه
بروعة الحضور وبلاغة التصوير ، يمس شغاف القلب بصدقه الشعوري وألقه التعبيري.
جميلة ماتعة قصتك ـ راقية الطرح، رائعة الوصف
تعبر عن خوالج النفس بصورة شفيفة.
شكرا لروعة قلمك وجميل أداؤك
متابعة معك بقوة.
:sb::sb:
الأستاذة الفاضلة نادية الجابي استمرار حضرتك في المتابعة والقراءة العميقة والنقد والتعليق يتخطى مرحلة التشجيع إلى معنى الدعم الشامل
شكر الله لحضرتك
علاء سعد حسن
28-07-2017, 10:12 PM
( 4 )
(معالي المستشار.. هيئة المحكمة الموقرة.. السادة الحضور المحترمين: إن لحظة النطق المهيب.. لحظة نُطق المحكمة بقرارها الذي تتوقف عليه حياة ستة من شباب هذا الوطن الغالي، هذه اللحظة هي لحظة الحقيقة.. لحظة لا يمكن أمامها العبث أو الكذب أو الخداع أو التضليل.. هي لحظة نردد فيها قول الحق تبارك وتعالى على لسان الذين آمنوا من سحرة فرعون (فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).. في هذه اللحظة الفارقة الرهيبة لا يمكنني إلا أن أُعلن ما أؤمن به حقا وصدقا.. فلو أننا قتلنا هذا الحارس المسكين، أو أننا تآمرنا على قتله، أو حتى كنا نؤيد هذا القتل ونوافق عليه، أقول لمعاليكم لو كنا فعلنا ذلك أو نوافق عليه فإنني سأعلن ذلك بملئ الصوت.. لأن الموتى أو المقبلين على الموت من أمثالنا لا يقولون إلا الحقيقة..
معالي المستشار وأيا كان حُكمكم في تلك القضية إنني سأمضي من أمامكم مرتاح الضمير لأنني لم أؤمن يوما بأن القتل غدرا وغيلة حلا أو جزءا من حل..
معالي المستشار رئيس المحكمة الموقرة كلمة أخيرة رجاء وسامحني على الإطالة فهي آخر كلماتي في الحياة إلى بشر يعيشون بعدي: لقد أشهدت الله تعالى على إدانتي المغلّظة لقتل النفس الإنسانية بغير حق.. فما قول معاليكم وأنتم المنوط بكم إقرار الحق والعدل، وأنتم عنوان العدالة على الأرض وأمناء الحق والحقيقة، ما قولكم في تنفيذ قتل المختلفين مع نظام الحكم فكريا وسياسيا باسم القانون؟؟!
نحن سنمضي إلى ربنا مرتاحي الضمير.. فهل سترتاح ضمائر معاليكم إن نطقتم بكلمة تؤدي إلى قتل أبرياء في قضية مُلفّقة تعتمد كل الاعتماد على شهادة الخصوم، وتحريات الخصوم، وأوراق تحقيقات الخصوم؟؟..
معالي المستشار: وحتى ترتاح الضمائر، فإن تلك قضية من عشرات القضايا التي حَكم فيها بالإعدام خصومُنا الذين خطفونا من الشوارع والطرقات والبيوت عنوة بدون وجه حق.. وانتزعوا ما انتزعوا من اعترافات وهمية، على جرائم خيالية، ومخططات خرافية كُرها على كره، ثم حكموا بما شاءوا.. نعم يا معالي المستشار لقد حكموا بما شاءوا، بما ساقوه إلى ساحة عدالتكم من أوراق مُختلَقة كل الاختلاق، كاذبة كل الكذب، ضالة كل الضلالة، جاءوا بها زورا وبهتانا ليستنطقوكم بحكم لن يرضوا من عدالتكم غيره، ولا ينتظرون منكم سواه.. فاحكموا بما شاءوا إن شئتم.. أو أعيدوا ملف القضية منذ البداية وابحثوا عن المجرم الحقيقي..
وأيا كان حكم عدالتكم فلا نقمة منا عليكم، فلسنا معكم في خصومة، وإنما خصومتنا مع من بغى علينا.. هيئة المحكمة الموقرة انطقوا بإعدامنا إن رأيتم ذلك حقا وعدلا.. لكننا نرجوكم رجاء أخيرا أن تنطقوا مع هذا الحكم الجليل المهيب، بحكم تجريم القتل باسم القانون.. أو تجريم تقنين قتل من يخالف السلطة الحاكمة في فكر أو قول أو فعل.. معالي المستشار: نستودع الله تعالى عدالتكم وحكمتكم.. والله تعالى المستعان على ما يصفون)..
تتعجب لمياء كل العجب، من أين أتى محمود بكل هذه الحكمة، وكل هذا المنطق، وكل هذا البيان؟!
محمود الذي لم تكن تراه إلا في مرح أو انفعال طفولي، أو حماس مبالغ فيه لفكرة من أفكاره المجنونة!!
هل انتظار الموت الوشيك يصنع هذه المعجزة في شخص محمود؟ أم أنه كان يُخبّئ كل هذا العمق وكل تلك الثقافة خلف قناع زائف من اللهو والمرح؟!
لم تعد تدري سوى أنها فُتنت بمحمود مرِحا مجنونا، وها هي الآن تفتن به فتنة أكبر وأشد رزينا عميقا حكيما!!..
إنها تكاد تحفظ مرافعته الأسطورية أمام هيئة المحكمة عن ظهر قلب.. ولم يكن محمود يترافع بلسانه، إنه ينقل أحاسيس قلبه، ومشاعر روحه، وإيمانه بمبادئه التي صاغت ضميره، إن سكتاته ولفتاته أثناء مرافعته، لبليغة بلاغة الكلمات التي يصوغها من أعماق وجدانه، وهي تؤمن أن هذه المرافعة بحروفها وكلماتها كما بسكتاتها والتفاتاتها تستحق أن تُدَرّس في كليات الحقوق ومنظمات حقوق الانسان، تُدَرّس فتُفهَم وتُحفَظ..
في غرفة الصالون بمنزل الحاجّة سهير بدأت تشعر بهذا التنافر الذي يشعر به محمود في زنزانته مع رفقاء الدرب وشركاء المصير.. لم يكن محمود قد حدّثها عن شيء من ذلك من قبل، ولم تكن تعلم عن محمود إلا أنه ينسجم مباشرة ودائما مع ما حوله ومن حوله.. لكنها لا تشعر بهذا الانسجام، رغم أن غرفة الصالون أو الاستقبال الواسعة في بيت الحاجة سهير بدت ككل غرفة استقبال دخلتها في بيوت أخرى كثيرة، لا يميّزها عن تلك الغرف غير أن اللوْحات المعلّقة هنا وهناك خلف الزجاج المصقول بين أُطر مذهّبة جميلة لم تكن لوحات لمناظر طبيعية، وإنما كانت ثلاث لوحات، واحدة معلّقة على الجدار في صدر المجلس نُقش عليها لفظ الجلالة (الله) بخط رائع ومطرزة بقطع صغيرة جدا من الكريستال اللامع الذي يعكس الضوء، على خلفية من قماش القطيفة سوداء اللون، فيجعل اللوحة تحفة فنية بديعة.. وعلى الجدار المقابل لها كانت لوحة مكتوب عليها الآية الكريمة (واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا).. أما اللوحة الثالثة والتي كانت لمياء تجلس أسفل منها، وكانت قد قرأتها وهي تتجه إلى مقعدها فكانت قوله تعالى (إن مع العسر يسرا).. زهريات الزهور الصناعية على الطاولات الرخامية في أركان الغرفة بدت أيضا شبيهة بتلك التي تراها في كل غرف الاستقبال.. تساءلت من أين يأتي هذا الشعور المتنامي بالتنافر إذن؟
إن ترحاب الحاجة سهير بها عفوي وصادق، ليس فيه أثر لتصنع أو مبالغة.. من نوع الترحيب الهادئ الذي ينطلق من القلب ويدخل إلى القلب مباشرة.. وابتسامتها التي لم تخفِ آلاما نفسية وأشواقا روحية، تعكس أيضا قدرا لا يستهان به من التسليم والتوكل..
لا لم يكن في الحاجة سهير عيب ما، ولا في غرفة استقبالها شيء يدعو للنفور.. لقد كان مصدر التنافر ينبعث من ضيفاتها ولا شك!!
قامت الحاجة سهير بواجب التعريف بين الحاضرات وبين لمياء، أشارت إلى السيدة الأولى الجالسة إلى مقعد مجاور لباب الغرفة قائلة: الدكتورة إيمان طبيبة أطفال.. ثم تابعت الإشارة إلى السيدة التالية: الأستاذة سلوى مدرسة دراسات، كانت التي تليها الأستاذة مها محامية، ثم أخيرا الأستاذة حنان ربة منزل.. أشارت إلى لمياء قائلة بعاطفة عفوية: ابنتي الدكتورة لمياء صيدلانية.. ثم أردفت كأنها تستدرك شيئا: إنها عروس دكتور محمود المحكوم عليه بالإعدام في قضية قتْل الحارس..
على الفور سرت همهمات بين الجالسات وانبرت الأستاذة مها المحامية تتكلم كلاما طويلا في محاولة للتخفيف من مصاب لمياء والتهوين عليها.. برق خاطر عابر على عقل لمياء، فالتي تتحدث إليها تعمل بالمحاماة، أو على الأقل درست القانون، فألقت سؤالها الحائر:
ألا يوجد أي حل ولو بدا مستحيلا لإيقاف هذه المأساة الكبيرة؟
وعلى الفور لاحظت مصمصات الشفاه، وانطلق صوت يقول في حزن: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم..
قاطع المتحدثة صوت آخر: كله بإذنه..
وتحوّلت الزيارة إلى سرادق للعزاء مقدما.. وتضاعف شعور لمياء بالنفور وتجسد لها العجز وحشا كاسرا، وكانت تضغط على أعصابها منذ الصباح، منذ كانت تستعطف بعض الحراس للسماح لها بدخول قاعة المحكمة.. تفاصيل اليوم كله تطبق على نفسها الآن، فانهارت أعصابها تماما، وهي الصلبة في مواجهة المصائب، وانخرطت في بكاء حاد مرير.. بكاء يقطع قلوب الحاضرات اللواتي تحرّكن جميعا بسرعة تجاهها، بيْن من تأخذ وجهها في صدرها وتربت على رأسها بحنان.. والحاجة سهير أسرعت بإحضار كوب ماء بارد.. وأخرى تهمس في أذنها بالصبر والثبات وحمد الله في السرّاء والضرّاء..
وعندما انتهت لمياء من نوبة بكائها المرير شعرت بشيء من الراحة، فقد كانت في حاجة ماسة لتفريغ بعض الشحنات الضاغطة عليها منذ فترة.. لكنها أيضا كانت حانقة على حماقتها.. لم تكن تحب أن يلمح انهيارها أحد، ولا أن تنخرط في البكاء بحضور أحد.. ماذا لو أنها تحاملت على نفسها مُجدَّدا وأبقت على صورتها القويّة حتى تهبط وتستقل سيارتها ثم تبكي ما شاء الله لها أن تبكي؟!
طمأنتها الحاجة سهير أنها في بيتها وبين أمها وخالاتها، وأن البكاء مطلوب في أوقات للتخفيف من ضغوط الواقع المرير.. وعاد الحديث كله منصبّا على الاستسلام لحكم الله تعالى، فالأمر كله لا يعدو أن يكون محنة وابتلاء ليختبر المولى عز وجل صدق إيمان عباده.. وإنّ صبرهم وثباتهم وتقديمهم أرواحهم وأرواح ذويهم لله في صبر واحتساب هو دليل الإيمان الكامل واليقين المستكين..
وتحدّثت إحداهُن عن الأمهات الفلسطينيات اللواتي يستقبلن خبر استشهاد فلذات أكبادهن بالزغاريد..
وأومأت الحاجة سهير إلى سلوى وكانت عذبة الصوت، أن تغني لهم شيئا يناسب الموقف ويخفف من معاناة الفتاة.. وانطلقت سلوى بعد تمنّع يسير استوجب إلحاحا أكثر من الحاضرات تشدو:
زغردي أم الشهيد واهتفي أحلى نشيد
لم يمت من مات لله وللدين المجيد
نحن في الحرب رجال نحن لا نخشى الوعيد
نحن نار نحن نور نحن عزم وحديد
ومن جديد انخرطت لمياء في بكاء مرير، ولم تهرع واحدة من الجالسات نحوها هذه المرة، ظلت كل في مكانها منخرطة في بكاء ونحيب.. وتحقق المأتم قبل أن يتم تنفيذ الإعدام!!
إشارات متتابعة أرسلتها لمياء بنظراتها من بين شهقات النحيب، استقبلتها الحاجة سهير بفراسة أملتها منها لمياء.. وفي عفوية وغير تكلف تخلّصت الحاجة سهير من زائراتها المُنتحبات، وانفردت بلمياء وقد أحضرت لها علبة مناديل ورقية لتمسح دموعها، وبادرتها بالسؤال كأنما لتخفف عنها حرج بداية الحديث:
- أشعر أنك لم ترتاحي لوجود الأخوات يا ابنتي؟!
أومأت لمياء بالإيجاب في خجل.. عقّبت الحاجة سهير:
- أنا لا ألومك فليس لكل البشر نفس القدرة على التأقلم السريع مع الصديقات الجدد..
سألتها لمياء مندفعة وفي غير تحفظ:
- هل أنتم بالفعل يا حاجة سهير مجتمع غريب عني؟ أم أنني أنا الغريبة بينكم؟!..
ولم تنتظر إجابة مضيفتها وإنما أردفت تجيب بنفسها على السؤال الذي طرحته، بأسئلة أكثر تعقيدا:
- ما كل هذا القدر من التواطؤ على الاستسلام؟.. ما كل هذا الاتفاق على تقبل الظلم على أنه قدَر الله الغالب الذي لا راد له ولا معقب عليه؟!.. ما كل هذا التوافق على معاني سلبية للإيمان بالابتلاء والمحنة؟!.. وهل توجد طرق أخرى للإيمان بالله تعالى؟ طرق صحيحة إيجابية غير طريقتكم؟!..
بدا على قسمات وجه لمياء استعدادها للاسترسال وإصرارها عليه.. تفهّمت الحاجة سهير ذلك على أنه نوع من الفضفضة، نوع من الصراخ أو التعبير عن الانفجار الداخلي بالاسترسال في الحديث، ورحّبت به، إن خير ما يخفف عن الفتاة الآن أن تُخرج كل ما في جوفها لتهدأ وتستكين.. أومأت لها مشجعة، فاندفعت ليماء تضيف:
- سيدتي الكريمة إنني أيضا تربيت في بيت شعاره الإيمان والتقوى، وثقافته دينية إسلامية كذلك، في هذا البيت تعلمنا أن سيدنا عمر بن الخطاب قال: (إنما نفر من قدر الله إلى قدر الله).. وتعلمنا أن موسى عليه السلام عندما خاف من فرعون تحرك هو وقومه جهة البحر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة إلى المدينة لصناعة واقع مختلف ومستقبل جديد للدعوة الإسلامية في مُناخ آخر وأرض جديدة..
تعلمنا أن التوكل عكس التواكل، والتسليم عكس الاستسلام، والثبات منافٍ للجمود و التشبث بالأخطاء.. تعلمنا أن ما يقع على الناس من محنة قاسية كاشفة فاحصة فإنها تابعة لقانون إلهي يقول: (قل هو من عند أنفسكم).. وتعلمنا أن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.. كيف نريد أن نخرج من المحنة بنفس ذات الأسباب، نفس الأفكار ونفس السلوكيات ونفس الممارسات التي أدخلتنا المحنة؟!!.. إن الأسباب التي أدخلتنا المحنة الأولى لا تصلح لإخراجنا منها، تلك الأفكار لا تصلح إلا لتراكم المحن بعضها فوق بعض!!..
عند هذا القدر لم تستطع لمياء تمالك نفسها فتوقفت عن الحديث المتدفّق المندفع، وانخرطت في بكاء حاولت أن تجعله مكتوما.. والحاجة سهير تنظر إليها في تعاطف وتفهّم.. تفهّم الحاجة سهير كله كان منصبا على الحالة النفسية التي تعانيها الفتاة، تفهّم ينطلق من شفقتها على فتاة تشعر بالعجز الكامل عن إنقاذ زوجها الشاب من إعدام قد يُنفّذ غدا أو بعد غد دون ذنب اقترفه أو جريمة فعلها..
والحاجة سهير تؤمن أيضا أن الثقافة الدينية لبيوت المتدينين من المسلمين غير ثقافة أبناء وبنات الحركة الإسلامية، فإن كل ما نطقت به لمياء يعبر عن ثقافة بيئتها، وهي معذورة فيه، إن الذين لا يمارسون العمل الحركي الإسلامي لا يعرفون حقائق القرآن الكريم، كيف لمسلم جيّد في عقيدته وعبادته وأخلاقه أن يفهم حقائق سورة التوبة مثلا دون أن يكون منخرطا في عمل إسلامي؟ وفي صف إسلامي؟.. كيف لواحد من هؤلاء المسلمين الطيّبين غير المنظمين أن يفهم وقع وظلال قوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)؟.. كان شيخ جليل يقول: (لولا الحركة الإسلامية والعمل الإسلامي المنظم لظلت كثير من أوامر القرآن فرائض محنّطة لا يمارسها مسلم)..
إن ما تواجهها به الفتاة من ثورة إنما هي تعبر عن ثورة المسلم على الإسلامي، فالمسلم يريد أن يعيش حياته هانئا، كل ما يكابده فيها هو التزامه بالطاعات واجتنابه المحرمات.. أما الإسلامي الذي يعمل لهذا الدين فهو مهموم بهَم نُصرة الدين، وهو يعي الحقيقة الخالدة التي وعيها الصحابة رضوان الله عليهم عندما وجههم نبيهم (أنه كان يؤتى بالرجل فيمن قبلكم فيُشق ما بين عظمه ولحمه بمنشار من حديد فلا يثنيه ذلك عن دينه شيئا)!!
عندما كانت الحاجة سهير تغوص في أفكارها، فإنها كانت تترك الفرصة المناسبة للفتاة لتهدأ وتستعيد سيطرتها على أعصابها، وأخيرا حوّلت لمياء ثورتها الحانقة إلى مطلب إيجابي واضح ومحدد، إنها تريد أن تقابل الأستاذ جمال عبد الكريم!!
آثار الدهشة والعجب لم تفارق ملامح وجه الحاجة سهير سريعا، وهي التي تعودت دائما إخفاء مشاعرها جيدا خلف ابتسامة متعاطفة حنون ترسمها بمهارة على وجه جليدي لا يكشف أبدا عن مشاعرها الحقيقية، حاولت السيطرة على أعصابها، ودارت في رأسها أسئلة كثيرة، فمن أين أتت لمياء بهذا الاسم؟ وكيف عرفت أنه على هذه الدرجة من الأهمية؟.. ولم تطرح أسئلة على ضيفتها الشابة، فطالما ذكرت اسما محددا فهي بكل تأكيد على علم بدلالة هذا الاسم، فأجابتها عوضا عن ذلك كله بهدوء:
- لكن الأستاذ جمال عبد الكريم مختفٍ منذ سنوات، بسبب أنه مطلوب أمنيا، ولا يعرف مكانه أحد.. أنا على وجه الخصوص لا أعرف يقينا هل هو داخل مصر أم خارجها..
قالت لمياء بحسم:
- محمود أخبرني أنه داخل مصر وأن أفرادا معدودين من شباب الجماعة يتواصلون معه كمندوبي اتصال بينه وبين المكتب الإداري المؤقت للجماعة بالمحافظة..
تساءلت الحاجة سهير وقد غلبها الانفعال هذه المرة:
- وما علاقة الأستاذ جمال عبد الكريم بإنقاذ محمود من حبل المشنقة، وهو لا يملك من أمر نفسه الشخصي شيئا؟!
أجابت لمياء في غموض:
- لديّ خطة.. هذه الخطة لا يمكنني عرضها إلا على الأستاذ جمال، فهو وحده الذي يستطيع معاونتي فيها.. كما أن محمود يعتبره أباه الروحي، ولا شك عندي أنه أحرص الناس على حياة محمود..
مرت دقائق من الصمت الثقيل، كانت الحاجة سهير تفكر خلالها في إجابة مناسبة وهي تستعرض مختلف الاحتمالات الممكنة.. فلمياء لا يمكن أن تكون عميلة لأي جهة كانت، فلو أن لها علاقة بأي جهة سيادية لكانت اطمأنت ولو قليلا على مصير زوجها.. أخيرا قالت:
- ابنتي لمياء أنت تقدرين الظروف التي نمر بها، وتدركين أن طلبك صعب قد يصل إلى درجة المستحيل.. ومع ذلك ولأن حياة محمود تهمني كأم فأعدك أنني سأبذل قصارى جهدي لتدبير هذه المقابلة، رغم أنني على يقين أنها لن تغير من الأمر شيئا.. فالأستاذ جمال.....
قاطعتها لمياء شاكرة:
- جزاك الله كل خير سيدتي، لن أنسى لك هذا المعروف طيلة حياتي.. هذه المقابلة لو تمت ستنقذ حياة إنسان لا يستحق الموت شنقا، وستنقذ حياتي معه..
نهضت لمياء بسرعة كأنها لا تريد إعطاء فرصة لمضيفتها بالتراجع عن وعدها أو التنصل منه بإضافة بعض التكهنات بصعوبة تحقيق هذا الوعد.. قبّلت وجنتيها وانصرفت من أمامها مندفعة في رعونة لم تكن من طبيعتها، لكنها بدت لها مخرجا مناسبا من أي استدراكات قد تضيفها الحاجة سهير لاحقا..
ناديه محمد الجابي
29-07-2017, 05:58 PM
تتشابك الأحداث وتتنامى الحبكة القصصية في سرد متدفق يسلط الضوء
على أحداث توحي بواقعيتها ـ وبوصف دقيق وأداء قصي محكم
وتحليل نفسي لأعماق أبطالها مما جعلنا ننساب في أحداث القصة
ونندمج معهم إلى حد الوجع.
تتمتع بمهارة قصية عالية، وقدرة على رسم المشهد
محملا بالأحساس.
وما زالت الأحداث تستهويني وتشوقني
متابعة معك بشغف
تحياتي وتقديري.
:sb::sb:
علاء سعد حسن
22-08-2017, 09:20 PM
نستكمل إن شاء الله.. وكل عام وأنتم بخير
علاء سعد حسن
24-08-2017, 09:26 PM
https://www.youtube.com/watch?v=yZC3rU0OX54&feature=share
ناديه محمد الجابي
06-09-2017, 09:30 PM
إلقاء جميل بصوت عذب معبر .. فاطمة الزهراء علاء
فهل أفهم بأنها ابنتك؟؟
ولكن أين بقية القصة
نحن على انتظار.
:sb::sb:
علاء سعد حسن
08-09-2017, 12:21 AM
إلقاء جميل بصوت عذب معبر .. فاطمة الزهراء علاء
فهل أفهم بأنها ابنتك؟؟
ولكن أين بقية القصة
نحن على انتظار.
:sb::sb:
فاطمة الزهراء ابنتي طالبة بكلية إعلام
وكل عام وحضرتك بخير
بقية الرواية تحتاج إلى وقت دعواتكم
ناديه محمد الجابي
10-09-2017, 09:18 PM
فاطمة الزهراء ابنتي طالبة بكلية إعلام
وكل عام وحضرتك بخير
بقية الرواية تحتاج إلى وقت دعواتكم
ما شاء الله .. حفظها الله وراعاها وأسعدك بها
صوتها جميل وإلقاؤها سليم
ولكما تحياتي وتقديري.
:0014::noc::0014:
علاء سعد حسن
26-09-2017, 04:50 PM
حاولت مرار خلال الايام التي أعقبت التطوير والترقية التقنية للمنتدى التهنئة والمباركة بهذا الحدث السعيد للإدارة الموقرة والاعضاء الكرام.. لم يستجب أبدا لاضافة اي رد.. أرجو من الله أن يستجيب اليوم وهنيئا للجميع هذا التطوير المدهش وهذه الواجهة الجذابة
أحمد العكيدي
04-10-2017, 01:45 PM
ما زلت أتابع أحداث هذه الرواية بشغف، أستمتع بكل تفاصيلها وأترقب المزيد من جمال سردها وحبكتها.
دمت مبدعا الأديب علاء سعد حسن.
علاء سعد حسن
04-10-2017, 03:30 PM
ما زلت أتابع أحداث هذه الرواية بشغف، أستمتع بكل تفاصيلها وأترقب المزيد من جمال سردها وحبكتها.
دمت مبدعا الأديب علاء سعد حسن.
أخي الحبيب أحمد تشجيعكم والأستاذة الفاضلة نادية الجابي يدفعني دائما للاستمرار رغم المعوقات والاحباطات.. تمنيت لو أن في الواقع من محبي الروايات ومتابعيها ونقادها الكثير من مثلكما لفعل ذلك فعل السحر في نفس الروائي..
أعدك بالاستكمال حالا إن شاء الله تعالى
علاء سعد حسن
04-10-2017, 03:36 PM
( 5 )
لم تكد تمر هذه الليلة حتى باتت لمياء وأسرتها وعلاقاتها كلها تحت المجهر.. وبذلت الحاجة سهير جهودا مضنية لإقناع مندوب المكتب بوجهة نظر الفتاة، كما بذلت جهدا مضاعفا للدفاع عن نزاهة لمياء وسلامة قصدها من وراء طلبها مقابلة الأستاذ جمال عبد الكريم، فسلوك الفتاة كله كان فوق الشبهات.. ومع ذلك لم يكن القرار سهلا فالظروف التي يمر بها الجميع تجعل من اتخاذ أي قرار عملية في غاية التعقيد، فهو على أي حال مخاطرة قد تكون غير مأمونة العواقب!!
أخيرا حسم حكيم الأمر بقوله:
- أنا أثق في هذه الفتاة، فهي لم تطلب مقابلة إلا اسم محروق لدى الجهات الأمنية، هي لا تريد أن تعرف المزيد، لا تريد أن تعرف مثلا البديل الذي يدير العمل الآن، ولو قصدت ذلك لَطلَبت مقابلة مسؤول المكتب الإداري.. إلا أنها تضع ثقتها كلها في شخص الأستاذ جمال عبد الكريم وتراهن عليه..
سكت الرجل وهو يدير نظراته في الجالسين، سأله أحدهم بلهجة استنكار حاول جاهدا تخفيف حدّتها:
- وهل سنسمح لها بهذه المقابلة الخطرة؟!
- لا يا أخي نحن لا نستطيع فعل ذلك، أولا نحن لا نعلم على وجه الدقة تحديد مكان الأستاذ جمال فهو دائم التنقل بين أماكن متعددة.. كما أن سلامة قصد الفتاة لا يمنع أعين الجهات الأمنية المختلفة من مراقبتها بشكل مشدد، فالفتاة منذ خرجت من المحكمة زارت مكتب الأستاذ دسوقي المحامي ثم منزل الحاجة سهير وهي أماكن مرصودة لدى جهاز الأمن الوطني.. ولا شك عندي أن الفتاة الآن موضوعة تحت رقابة مشددة..
قاطعه الآخر متعجلا بسؤال ينم عن فروغ صبره:
-إذن فطلب الفتاة مرفوض؟..
نظر إليه الحكيم طويلا ثم قال:
-حتى الرفض لا نستطيعه أخي.. فالفتاة تؤمن أن هناك فرصة ما ولو ضئيلة لإنقاذ ابننا محمود من حبل المشنقة.. فرصة لا نراها نحن، ونظنها من حيث المبدأ وَهْما في خيالها.. لكننا لا نستطيع أن نتخلى عن محمود.. ولعله هو الذي أرسلها برسالة من محبسه يوم المحكمة بخطة ما تدور برأسه.. علينا أن نستمع إلى الفتاة ومن ثَم نُقوّم الأمر برمّته..
-لكن مثل هذا اللقاء سيكون محفوفا بالمخاطر وربما عرّض أمننا جميعا لخطر داهم..
اعتراضات كثيرة خرجت من أفواه الحاضرين حملت هذا المعنى..
وقال الحكيم برويّة:
- سنتدبّر الأمر.. سنلتقي الفتاة وسنسمع منها وفي نفس الوقت سنُضلّل الرقابة المشدّدة عليها.. ثم نتصرّف بعد ذلك على ضوء ما ستُبلغه لنا!!
بعد ظهر اليوم التالي دخلت طفلة يبدو على مظهرها أنها تلميذة في المرحلة الابتدائية إلى صيدلية الدكتورة لمياء، اتجهت إليها مباشرة وسلّمتها ورقة صغيرة وهي تنظر في عينيها نظرات ثابتة تحمل كل مشاعر الرجاء ببراءة طفولية مدهشة.. ناولتها لمياء علبة من أقراص دواء البنادول المسكّنة.. وتناولت منها النقود، وابتسمت لها برّقة..
سجّلت لمياء بعض الأرقام على مسوَدة ورقية أمامها.. ثم انتبهت إلى أن الورقة المسجل بها اسم الأقراص التي سلمتها لها الطفلة ما زالت في كفها، فمزّقتها وألقتها في سلة المهملات خلف الطاولة.. بعد فترة فرغت بطارية هاتف لمياء المحمول، فتّشت في حقيبة يدها فأدركت أنها تركت شاحن الكهرباء في المنزل، بدا عليها الانزعاج والضيق الشديد، فهذا موعد إجراء مكالمة شخصية مهمة بالنسبة لها.. تطلّعت إلى وجه زميلتها في الصيدلية بأمل:
- الموبايل فصل شحن.. عندي مكالمة ضرورية..
قاطعتها زميلتها بابتسامة ودود وهي تُقرّب منها هاتفها وتهتف:
- تفضّلي..
تناولت لمياء هاتف صديقتها ودلفت داخل حجرة المستودع الملحقة بالصيدلية، وزميلتها تبتسم كأنها تُخمّن ماهية المكالمة الخاصة والهامة التي ستجريها لمياء.. ولم يدرْ بخاطرها قط أن لمياء تنفذ تعليمات وصلتها عبر الورقة الصغيرة التي ناولتها إياها الطفلة قبل قليل.. لم تكن تعلم أن الورقة الممزّقة والملقاة داخل سلة المهملات كانت عبارة عن رسالة تطلب من لمياء الاتصال من رقم غير رقمها برقم هاتف معين!!
أتمّت لمياء مكالمتها التي لم تستغرق سوى دقيقتين، وحرصت على حذف رقم الاتصال من قائمة حفظ المكالمات الأخيرة.. ثم خرجت من حجرة المستودع فمزقت المسوَدة الورقية التي دوّنت عليها رقم الهاتف بطريقة مبتكرة.. وسلّمت الهاتف لصديقتها ممتنة بابتسامة شاكرة.. ولم يكن الأمر غريبا، فهو أمر متكرر يحدث لكليهما بسبب نفاد شحن البطارية أو خلل مفاجئ يصيب هاتف إحداهما..
في المساء اتصلت لمياء بزميلتها لتخبرها بأنها لن تحضر في نهار اليوم التالي إلى عملها بالصيدلية لظروف ألمّت بها، وأن على زميلتها تغطية غيابها، على أن تعوّض لها ذلك لاحقا..
في صباح اليوم التالي كانت لمياء في محطة القطار تنتظر الديزل المتجه إلى مدينة الإسكندرية، كان الجو صيفيا حارا، وعشرات من أسر المصطافين تنتظر على رصيف المحطة.. بعد دقائق وصل القطار متأخرا عن موعده كالمعتاد، فاندفعت لمياء إلى العربة رقم اثنين وهي من عربات الدرجة الأولى المكيّفة بنظام الحجز، ثم إلى المقعد الذي حفظت رقمه منذ المكالمة الهاتفية ظهر الأمس..
رغم إصرارها على مواصلة المشوار إلى نهايته، فإن قلبها كان يدق بعنف، فهي في قلب مغامرة لم تحلم حتى في أشد أحلامها شذوذا وغرابة أن تجد نفسها فيها.. المقعد الذي بجوارها ظل شاغرا حتى اللحظة التي دوّت فيها صافرة قاطرة القطار في تنبيه أخير على قيامه من المحطة.. في تلك اللحظة لمحت رجلا أربعينيا عادي المظهر يدلف إلى عربة القطار وهو يلهث.. تمنّت لو أنه هو الذي يشغل المقعد المجاور لها.. لكن هذا لم يحدث، الذي حدث أنه ظل يتجادل مع رجل أربعيني آخر في طرف عربة القطار ، كان من الواضح أنه يشغل مقعده، وقد طلب إليه تبديل المقاعد.. لكن الرجل القادم في آخر لحظة قبل قيام القطار، اعتذر متعللا بقرب مقعده من باب العربة وأن هذا ييسر عليه نزوله من القطار نظرا لظروف صحية.. أخيرا نهض الرجل الآخر الذي احتل مقعدا خاطئا متوّجها إلى المقعد المجاور للمياء التي كانت ترقب كل هذه الأحداث في توتّر بالغ ونفاد صبر.. تمتم الرجل بالتحية وهو يدلف بجوار لمياء إلى المقعد الداخلي بجانب النافذة وأردف قائلا بنفس الصوت الخافت:
- دكتورة لمياء لا تلتفتي حولك..
عندما استقر على مقعده ناولها تذكرة القطار الخاصة بها، وهو يبتسم في أدب جم.. قال:
- لا تقلقي دكتورة.. المقعد الذي بجوارنا آخر الممر يشغله صديق.. كذلك الصف الذي خلفنا، والصف الذي أمامنا كل المقاعد يشغلها أصدقاء مع أسرهم، كلهم مصطافون يريدون شواطئ الإسكندرية!!
كان نظام المقاعد في عربة الدرجة الأولى عبارة عن مقعدين متجاورين يفصلهما ممر مُتسع عن مقعد فردي في الجهة المقابلة، وكل المقاعد مرصوصة في اتجاه واحد هو اتجاه قاطرة القطار..
ابتسمت لمياء رغما عن توتّرها البالغ، ولم تملك نفسها من التعليق الساخر بصوت متحشرج:
- لقد حجزتم كل مقاعد عربة القطار إذن!
- اكتفينا بالمقاعد التسعة حتى لا نلفت نظر موظفي الحجز.. اطمئني تماما وكوني على راحتك.. سنتناقش خلال رحلة السفر عما يدور برأسك.. اطمئني دكتورة، واسمحي لي أن أدعوك بابنتي، فلي ابنة تصغرك بسنوات قليلة هي الآن في الصف الثاني بالجامعة..
فكّرت لمياء برهة من الزمن، وتساءلت داخل نفسها ما كل هذه الاحتياطات والتدابير التي اتخذها هؤلاء الناس؟ هل فعلا الأمر على هذا المستوى من الخطورة؟ إنها تجد نفسها داخل إحدى الروايات البوليسية الشيّقة، أو كأنها بطلة من بطلات أفلام الأكشن الأمريكية!!.. تمالكت أعصابها وعلّقت في برود وجفاف:
- لكني لن أتكلم إلا أمام الأستاذ جمال عبد الكريم..
قابل الرجل جفاف منطقها ببرود مماثل قال:
- هذا يا ابنتي ما أمكننا تدبيره.. لا يمكننا تدبير لقاء مع الأستاذ بحال من الأحوال.. على العموم أنا نائبه، والمسؤول بمتابعة ملف قضايا الإعدام لمحمود وزملائه.. إن وجدتِ أن من واجبك أن تضعي ثقتك في، فأنا في خدمتك.. وإن كان رأيك غير ذلك فيمكنك مغادرة القطار في المحطة التالية..
قلّبت لمياء حديث الرجل في رأسها بسرعة، ووجدت أن من واجبها انتهاز الفرصة المتاحة ولو لم تؤدِ إلى النتيجة المرجوّة.. لم يكن من اللائق إفشال كل هذه التدابير الاحترازية، وكأنما سَرّها أن تستمر كجزء من المغامرة إلى أطول مدى ممكن.. قالت بعد فترة صمت:
- المسألة سيدي ليس لها علاقة بالثقة أو انعدامها.. المسألة أنني حريصة على لقاء الأستاذ جمال على اعتبار أنه يملك الخريطة الفعلية لأفراد الجماعة في المحافظة.. هو الذي يعرف من منهم سيستمر مع منهج السلمية، ومن سينجرف إلى تبني العنف.. من ظل على ولائه لمجموعة الدكتور عزت، ومن الذي تبنى موقف الراحل الدكتور محمد كمال.. ومن منهم يمكن أن تكون له صلة بحركة حسم!!
قاطعها الرجل بصرامة لا تتفق مع الظروف المحيطة، قال:
- وهل تظنين يا ابنتي أن في استطاعة أحد سواء من مجموعة الأخ محمد كمال أو من حركة حسم أن يقوم بتهريب زوجك أو عمل أي عملية مجنونة بهذا الخصوص..
تفاجأت لمياء برد فعله، لكنها حافظت على قناع من البرود وقالت بهدوء:
- لا.. لم أظن ذلك سيدي ولو للحظة واحدة.. وخطتي لا تقوم أبدا على مثل هذه التصورات الصبيانية.. وعفوا على استخدام هذا الوصف، لكن الخطة التي أحملها في رأسي خطة منهجية مبنية على أسس قانونية ومنهجية سليمة..
زفر الرجل زفرة طويلة استعاد بعدها رباطة جأشه، وبدأ يستحثّها بلطف لعرض فكرتها المنهجية والقانونية عليه.. لم يكن مقتنعا أن رأس مثل هذه الفتاة يمكنه أن يخطر له مثل هذه الخطة.. صحيح أن الخطة نفسها بدت مستحيلة التنفيذ لأنها كانت تحتاج إلى إرادة فولاذية.. إرادة الموت في سبيل الإيمان بقضية ما.. لكنه وجد نفسه منهمكا طوال أكثر من ساعتين في مناقشة كل التفاصيل الدقيقة، وكأن الفتاة الصغيرة قد سحرته تماما بترتيب عقلها ومنهجية تفكيرها، وسلاسة عرضها لتلك الأفكار المجنونة والممكنة في آن واحد!!
أخيرا وصل القطار إلى محطة الإسكندرية ولم يكن ثمة ترتيب بخصوص لمياء.. قال لها الرجل موَدّعا:
- لم نرتب في الحقيقة لك إلا أمر المقابلة في القطار.. نحن سنذهب إلى شاطئ البحر.. كل ما يجب عليك فعله الآن هو أن تقومي بفعل ما يروق لك كالتسوق مثلا، أو أي أمر آخر، ولكن لا يصح أن تغادري مباشرة على أول قطار عائد إلى المنصورة وإلا ستلفتين الأنظار إليك بشدة..
شكرت لمياء نصيحته بابتسامة وديّة، ولم تنسَ أن تنتزع منه تأكيدا أخيرا على وعده لها، فطمأنها قائلا:
أعدك يا ابنتي أنني سأبذل قصارى جهدي في هذا الاتجاه.. لعلي- لن ألقاك ثانية.. لكن من الآن فصاعدا اعتبري أنني متفرغ تماما لقضية محمود ورفاقه..
أرادت لمياء أن تشد بكفّها على كفّه تأكيدا للعهد وامتنانا لوعد شعرت به يصدر عن قلب صادق.. لكنها أدركت أنه يخشى من تلك اللحظة فاحتفظ بكفه في جيْب سُترته..
توقّف القطار فنهضت قبله مغادرة العربة إلى حيث ابتلعها زحام محطة مصر!!
ناديه محمد الجابي
04-10-2017, 07:24 PM
في عالمك لا نقرأ حروفا ، بل نعيش حياة أخرى
دقة تصوير وبناء متقن يتسلل بدهاء إلى هدفه مصيبا القارئ بالدهشة
جاعلا الفضول والشغف يسري في عروقه ليتابع..
على ضفاف حرفك تنبهت كل حواسي لأتابع بشغف سرد مشوق قصة معبرة
تحية لمداد عامر بالوهج ..
:sb::sb:
أحمد العكيدي
06-10-2017, 10:46 AM
هذه الرواية الجميلة حبلة بمفاجئات عديدة تجعل القارئ يتابع بشغف باقي مجريات الأحداث.
مع أجمل التحايا
طلعت عواد غنمى
06-10-2017, 02:15 PM
الأديب الراقى/علاء سعد حسن
السرد والصور الصور الجماليه البديعه والحبكه تضىئ
نصك الجميل
دمت بكل خير
تقبل احترامى
علاء سعد حسن
13-10-2017, 01:12 PM
في عالمك لا نقرأ حروفا ، بل نعيش حياة أخرى
دقة تصوير وبناء متقن يتسلل بدهاء إلى هدفه مصيبا القارئ بالدهشة
جاعلا الفضول والشغف يسري في عروقه ليتابع..
على ضفاف حرفك تنبهت كل حواسي لأتابع بشغف سرد مشوق قصة معبرة
تحية لمداد عامر بالوهج ..
:sb::sb:
دائما أقول: إن القارئ الجيد هو الذي يجعل من رواية مجهولة عملا روائيا ذا صيت.. القارئ الجيد شريك أساسي في العمل الروائي بقدرته على اكتشاف مساحات اضافية في العمل الأصلي، شريك في تأويل ما فات على كاتب النص..
حضرتك أستاذة نادية تجمعين إلى حس القراءة الممتازة الواعية روح الابداع وسمات الادب انتاجا وتذوقا.. ولكل هذا ترين خربشاتي رؤية في أفاق أرحب
دام حضورك البهي
علاء سعد حسن
15-10-2017, 09:38 PM
هذه الرواية الجميلة حبلة بمفاجئات عديدة تجعل القارئ يتابع بشغف باقي مجريات الأحداث.
مع أجمل التحايا
خالص الود والتقدير أخي الفاضل.. أرجو أن تظل الرواية عند حسن ظنك
علاء سعد حسن
15-10-2017, 09:40 PM
الأديب الراقى/علاء سعد حسن
السرد والصور الصور الجماليه البديعه والحبكه تضىئ
نصك الجميل
دمت بكل خير
تقبل احترامى
احترامي وتقديري
مرور حضرتك بعملي شرف لي
Powered by vBulletin® Version 4.2.5 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir