تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الجامع لأحكام الصّلاة



تقي بن فالح
10-11-2017, 08:20 AM
الجامع لأحكام الصّلاة
أبو إياس محمود بن عبد اللطيف بن محمود (عويضة)
http://img718.imageshack.us/img718/9031/57128075.jpg
كتابٌ في أحكام الصلاة سميته الجامع لأحكام الصلاة لأنني دونت فيه جميع مسائل الصلاة التي تناولتها النصوص دون تلك الأبحاث التي دونها الفقهاء مستدلين عليها بالقياس أو بالاستحسان وما إلى ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه في العبادات ذلك أن العبادات توقيفية تُؤخذ من النصوص فحسب: الكتاب والسنة ولا يصح أخذها من سواهما ولهذا جاءت الأحكام في هذا الكتاب بمثابة فقه النصوص ليس غير وقد راعيت عند أخذ النصوص أخذها من مصادرها من كتب الحديث وليس من كتب الفقه.

الجزء الأول
أحكام الطّهارة


262,2
عويضة، محمود عبداللطيف
الجامع لأحكام الصلاة/ محمود عبداللطيف عويضة.-
ط 3.- عمان: المؤلف، 2004 .
880ص.

تقي بن فالح
10-11-2017, 08:21 AM
-
http://htmlimg2.scribdassets.com/6m8jeinc3kcgz2n/images/1-5af1ae48c2.jpg
http://img148.imageshack.us/img148/6343/42470630.jpg
-

تقي بن فالح
10-11-2017, 08:23 AM
مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين ، والصلاة والسلام على رسول الله المبعوث رحمة للعالمين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلَّم تسليماً كثيراً .
أما بعد، فهذا كتابٌ في أحكام الصلاة سميته [الجامع لأحكام الصلاة] لأنني دونت فيه جميع مسائل الصلاة التي تناولتها النصوص دون تلك الأبحاث التي دونها الفقهاء مستدلين عليها بالقياس أو بالاستحسان وما إلى ذلك مما لا يصح الاعتماد عليه في العبادات ، ذلك أن العبادات توقيفية تُؤخذ من النصوص فحسب: الكتاب والسنة ولا يصح أخذها من سواهما، ولهذا جاءت الأحكام في هذا الكتاب بمثابة فقه النصوص ليس غير .
وقد راعيت عند أخذ النصوص أخذها من مصادرها من كتب الحديث وليس من كتب الفقه، إذ أن هناك تفاوتاً في الألفاظ بين الأحاديث في كتب الفقه وبين الأحاديث في كتب الحديث بشكل عام. وقد التزمت عند الاستدلال بالحديث بوضع صاحب اللفظ المثبَت في الكتاب - عند تعدد الرواة - في مقدمة الرواة، فإذا قلت رواه مسلم وأحمد والترمذي مثلاً ، فإن اللفظ المُثْبَت في الكتاب هو لفظ مسلم ، وإذا قلت رواه الترمذي ومسلم وأبو داود ، فإن اللفظ المُثْبَت هو لفظ الترمذي، وهكذا، وإذا وجدتم في سياق الحديث فراغاً مملوءاً بالنقط، فإن ذلك يدل على جزءٍ محذوفٍ من الحديث لا يلزم إثباته عند الاستدلال، خاصةً إذا كان الحديث طويلاً .
أما الأحاديث التي رواها الإمام أحمد فقد أخذتها إمَّا من مُسنده مباشرة، وإمَّا من كتاب [الفتح الرَّبَّاني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني] لمؤلفه أحمد عبد الرحمن البنَّا، وقد نوَّهت بهذا الأمر لأن [ الفتح الرَّبَّاني] ربما أورد أحاديث المسند بطريق الاقتباس أو اقتطاع أجزاء من الأحاديث، سيما عند تكرار وضعها في الكتاب حسب أبواب الفقه فيه .
وإذا قلتُ روى هذا الحديث مسلم مثلاً فإن ذلك لا يعني أن الحديث انفرد مسلم بروايته وأن أحداً غيره لم يروه، وكذلك إذا قلت إن الحديث رواه البخاري والنَّسائي مثلاً، فإن ذلك لا يعني أن الراويَيْن قد انفردا بروايته وأن غيرهما لم يرووه، ففي هذا الأمر لم ألتزم بقاعدة ثابتة، فربما ذكرت راوي الحديث صاحب اللفظ فقط، وربما ذكرت صاحب اللفظ ورواةً آخرين شاركوه في الرواية، وإذا حصل ذلك فإنما هو من أجل زيادة المعلومات لدى القاريء، وإلا فكما قلت لا يكون اللفظ إلا لصاحبه الأول فحسب، وأما الرواة الآخرون فإن ألفاظهم ربما تطابقت مع لفظ الراوي الأول وربما اختلفت عنه قليلاً ، فالمعتمد في الاستدلال هو لفظ الراوي الأول فحسب، راجياً أن يكون هذا الأمر واضحاً تماماً .
وقد التزمت في الاستدلال بأخذ الأحاديث الصحيحة والحسنة التي صحَّت وحسُنت عند جمهرة المُحَدِّثين أو بعضهم، ولم أستدلَّ بأي حديثٍ علمت أنه ضعيف عند جميع المُحَدِّثين، أما الحديث المختلَفُ عليه من حيث الصحة والضعف فربما أخذته وربما تركته، والأخذ والترك متعلقان بموافقة الحديث أو مخالفته للأحاديث الصحيحة والحسنة .
وهذه الأحكام المدوَّنة كلها قد توصلَّتُ إليها باجتهادٍ شخصي فلم آخذها من اجتهادات المجتهدين، وإنما هي أحكام مستقلة عن اجتهاداتهم، ربما تطابقت معها وربما اختلفت قليلاً أو كثيراً . فعلى المتَّبعين في مسائل الصلاة للأئمة الأربعة أو لغيرهم أن يبقوا متَّبعين لأئمتهم إن هم اتبعوهم بعد معرفة أدلتهم، واعتبروهم أصحَّ اجتهاداً ، أما إن هم قلَّدوهم تقليداً - بمعنى أنهم أخذوا الأحكام منهم ، وعملوا بها دون الاطِّلاع على أدلَّتها - فهؤلاء يمكنهم الانتقالُ إلى هذه الأحكام المقترنة بالأدلةِ ووجوهِ استنباطها، واتِّباعُها، وأما غير هؤلاء وأولئك فشأنهم في الأخذ بهذه الأحكام أو تركها ، شرط أن لا يراعوا في ذلك الأسهل والأوفق لهواهم ومصالحهم ، فإن ذلك حرام لا يجوز .
إن الغاية من وضع هذا الكتاب، وخاصة الجزء الأول منه هي أنني أردت أن أضع نموذجاً لكتابة الفقه، رأيت أنه الأنسب والأصح ، يبرز فيه استعراض النصوص كلها في المسألة الواحدة ، واستحضار الأحكام التي استنبطها الفقهاء لمحاكمتها، ومن ثَمَّ التوصُّل إلى الحكم الصحيح وبيان الحكم الخطأ، حتى يأخذ المسلم الحكم بقناعةٍ واطمئنان نفسٍ، وينأى بذلك عن التقليد الأعمى لهذا الفقيه أو ذاك، فالتقليد الأعمى آفة أصابت المسلمين في عهودهم الأخيرة، فسببت لهم الهبوط ولا أقول الانحطاط، ولم أقصد من وضع هذا الكتاب أن أضع مجرد كتابٍ في الفقه، وذلك لأن كتب الفقه المطبوعة دون المخطوطة تزيد كثيراً عن حاجة المسلمين، فهذا الكتاب ليس سوى محاولة مني لوضع النموذج الصحيح الذي أراه لكتابة الفقه ، راجياً من الله سبحانه أن أكون قد وُفِّقتُ فيما سعيت إليه.
كما أنني بوضع هذا الكتاب إنما أشارك عدداً من العلماء الذين ثاروا على واقع هذه الأمة الإسلامية الكريمة، ورفضوا الإذعان لغلق باب الاجتهاد الذي أدى إلى هبوط الأمة فكرياً ومن ثَمَّ سياسياً، أُشارك هؤلاء المجتهدين بفتح باب الاجتهاد على مصراعيه للعلماء المخلصين المالكين لأدوات الاجتهاد وهم بأعداد لا بأس بها، ولا تنقص معظمهم إلا الجرأة والإقدام على طَرْق هذا الباب والولوج فيه .
وليعلم هؤلاء أن المجتهد غير عالم أصول الفقه ، فكما أن الأديب غير عالم النحو والصَّرف، إذ يستطيع أن يكتب القطع الأدبية دون إتقانٍ منه لعلوم اللغة كإتقان عالم النحو والصرف، فكذلك المجتهد يستطيع أن يستنبط الأحكام من أدلتها دون إتقانٍ منه لعلم أُصول الفقه كإتقان عالم أصول الفقه ، فهذا وذاك يحتاجان من هذه العلوم إلى قدر معقول ومناسب دون الإتقان التام والإحاطة الكاملة لهذه العلوم، فربما اجتهد مجتهد في عشر مسائل وعشرين مسألة دون أن يحتاج من علم أصول الفقه إلا للقدر اليسير منه .
لقد وضعت هذا الكتاب ابتداءً في عام 1407 من الهجرة و1987 للميلاد، وقد حالت ظروفٌ دون نشر الكتاب من قبل، وفي هذا العام وقد تيسَّر لي نشره قمت بمراجعته وإدخال إضافاتٍ كثيرة نافعة عليه، راجياً أن يلقى من القراء جميعاً الرضى والقبول.
واللهَ أسأل أن يتقبَّل مني مـا بذلت ومـا نويت ومـا إليه هـدفت، والحمد لله أولاً وآخــراً.

تقي بن فالح
10-11-2017, 08:27 AM
تمهيد

.الطهارة في اللغة النقاوة والتنزُّه من الأدناس. وفي الشرع رفعُ ما يمنع الصلاة والطواف ومسَّ المصحف من حَدَثٍ بالماء، أو رفع حكمه بالتراب، وإزالة النجاسة بهما أو بغيرهما. فأغسال الجنابة والحيض والنفاس تدخل تحت رفع الحدث الأكبر ، والوضوء يكون لرفع الحدث الأصغر، وكلاهما يدخل تحت مدلول الطهارة ، فالمسلم يكون طاهراً طهارة كاملة بالغسل والوضوء إضافةً إلى إزالة النجاسة.
والطهارة عبادة وعمل من الأعمال، فتفارق المعاملات التي هي تصرفات قولية، ولذلك احتاجت إلى النية لقوله عليه الصلاة والسلام «إنما الأعمال بالنِّيَّة، وإنما لامريءٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» رواه مسلم والبخاري من طريق عمر بن الخطاب.
وقد جاءت النصوص تعيِّن الماء لرفع هذين الحدثين دون سواه ، خلافاً لرأي أبي حنيفة الذي يجيز الوضوء بالنبيذ، فإن عدم الماء قام التراب في التيمُّم مقامه مؤقتاً في جميع الأغسال والوضوء ريثما يوجد الماء .
أما إزالة النجاسة فلا تفتقر إلى النية، خلافاً لمالك وأحمد، وأن المطلوب فقط هو زوال النجاسة بأي شكل أو أداة أو مادة، خلافاً لمالك والشافعي وأحمد الذين أوجبوا إزالة النجاسة بالماء فحسب . فالجسم نجس ما حمل نجاسة، وطاهر ما خلا منها، والحكم إنما يكون في الحال لا في المآل ولا في سابق الوقت، فإذا كان جسم لا يحمل نجاسة حكمنا بطهارته دونما حاجة لمعرفة ما إذا كان من قبلُ نجساً أو لا، ولا كيف زالت نجاسته إن علمنا أنه كان من قبلُ نجساً، كما أننا نعُدُّه طاهراً ما دام لم يتنجس .
والنجاسات تسع: أربعٌ من الإنسان هي البول والغائط والمذي والودي، وثلاث من الحيوان هي الكلب والخنزير والميتة ، وواحدة مشتركة بينهما هي الدم المسفوح ، وواحدة من غيرهما هي الخمر. والنجاسات هذه لا تُطَهَّر، وإذا خالطت جسماً طاهراً نجَّسته، فصار هذا الجسم الطاهر متنجِّساً، وعلى المتنجِّس مدار البحث في إزالة النجاسة . هذا هو مجمل الكتاب، وإليكم البيان والتفصيل .
تابعوا معنا >>>>>>>

تقي بن فالح
11-11-2017, 12:38 PM
الفصل الأول
أحكام المياه
خلق الله سبحانه الأرض وغطى ثلثيها بالماء، وخلق الحيوان والنبات - وهما طعام الإنسان - خلقهما من الماء، وتوَّج مخلوقاته بالإنسان، وجعل ثلاثة أرباع بدنه ماء، وصدق الله إذ يقول وجَعَلْنا من الماءِ كُلَّ شَيءٍ حَيٍّ الآية 30 من سورة الأنبياء. فالله سبحانه قد كرَّم الماء إذ جعل مدار الحياة في الأرض عليه، وجعله طَهوراً ، وعلَّق به وبوجوده العديد من العبادات، فبالماء يزيل المسلم جنابته، وبه يتوضأ لتكتمل بذلك طهارته من الحدثين كي يتسنى له الوقوف أمام ربه في أجلِّ عبادة هي الصلاة، ويطوف في حجِّه حول الكعبة مبتدئاً بالحجر الأسود يمينِ اللهِ في الأرض ، ويلمس المصحف المجيد، وبالماء يزيل معظم ما يصيبه من النجاسات ، وبالماء ينظف بدنه وثيابه وأشياءه.
ولما كان مدار الطهارة عليه فقد جعله الله سبحانه وتعالى كلَّه طَهوراً، فماء المطر طَهور لقوله تعالى ويُنزِّل عليكم من السَّماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به الآية 11 من سورة الأنفال. ولقوله سبحانه وأنزلنا مـن السَّماءِ ماءً طَهوراً الآية 48 من سورة الفرقان.
وماء البحر طَهور لما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «سأل رجلٌ رسولَ الله  فقال : إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال : فقال النبي : هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ ميتتُه» رواه أحمد ومالك وأبو داود والنَّسائي والترمذي. وصححه البخاري والترمذي وغيرهما.
وماء الآبار والينابيع طَهور لما رُوي عن أبي سعيد أنه قيل لرسول الله  «أنتوضأ من بئر بُضاعة - وهي بئر يُطرح فيها الحِيَض ولحم الكلاب والنتن - فقال رسول الله : الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» رواه أبو داود والترمذي وحسَّنه. وصحَّحه أحمد ويحيى بن معين.
والطَّهور هو الطاهر في نفسه المطهِّر لغيره ، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام «الماء طَهور لا ينجِّسه شيء» عام في كل ماء، سواء نزل نقياً من السماء أو خالطته ملوحة في البحار، أو علِقت به طحالبُ وأتربةٌ في مجاري الينابيع والأنهار، ما دام يحمل اسم الماء، ولذا فإن الأصل في الماء كلِّ الماء الطُّهوريةُ وعدمُ إخراج أي ماء من الطُّهورية . فهذا هو حكم الماء، وذلك لأنه لم يرد في النصوص أي وصف آخر له من حيث الطُّهورية.
وتتخرج من ذلك حالتان، الأولى : ما إذا خالطه شيءٌ أو أشياء بحيث يفقد اسمه بتغيُّر أحد أوصافه ، بحيث لا يعود يطلق على المزيج الجديد اسم الماء، بل يصبح شيئاً آخر غير الماء، وآنذاك لا يكون ماء طَهوراً، لأنه لم يَعُد ماءً لا في اسمه ولا في وصفه، والثانية أنه قد ورد نصٌّ شرعي يستثني حالة واحدة فحسب من حالات الماء - مع بقائه ماء - من الطُّهورية، هو ما رُوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال «سمعت رسول الله  وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب ، قال : فقال رسول الله : إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ» رواه الترمذي وأبو داود وأحمد . وصححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والحاكم. ولأحمد « لم ينجِّسه شيء». ولأبي داود «فإنه لا ينجُس» . فاستثنى من حالات الماء حالة واحدة هي كون الماء دون قُلَّتين وقد أصابته نجاسة ، ففي هذه الحالة فحسب يفقد الماء طُهوريته ويصبح نجساً، أي ينتقل مباشرة من الطُّهورية إلى النجاسة. فالماء ليست له سوى حالتين اثنتين فقط هما حالة الطهورية، وحالة النجاسة المستثناة.
هذه ببساطة أحكام المياه، فالماء طَهور ما دام يحمل اسم الماء، ولا يفقد طهوريته إلا في حالة وحيدة هي ما إذا كان دون القُلَّتين وأصابته نجاسة ، ففي هذه الحالة يفقد طهوريته ويفقد طهارته لأنه يصير نجساً، وما سوى هذه الحالة يظل طَهوراً صالحاً للغسل من الجنابة، وللوضوء، ولإزالة النجاسات.
ولقد تشعَّبت آراء الفقهاء وتعدَّدت كثيراً في هذه المسألة، ونحن سنستعرض هذه الآراء كلها بإذن الله، ونناقشها حتى نقف على الصحيح منها ونطرح ما سواه.
قالوا : الماء أقسام عديدة منه الطَّهور ومنه الطاهر، ومنه النجس، ومنه المستعمَل الطَّهور، ومنه المستعمَل الطاهر ، ومنه المستعمَل النجس، فجعلوا الماء ستة أقسام، وكان حقه أن يكون قسمين اثنين فقط.

وللبحث بقية
.

تقي بن فالح
11-11-2017, 12:40 PM
الماء الطَّهور
قالوا إن الماء الطهور إذا خالطته مواد طاهرة فغيرت أوصافه، كأن صار لونه أحمر أو أصفر ، أو صارت له رائحة، أو تغير طعمه، أو تغير قِوامه ، صار هذا الماء طاهراً وفقد طُهوريته، ولم يعد يصلح للاغتسال به من الجنابة أو الحيض أو النفاس، أو للوضوء ، ولم يكتفوا بذلك بل فصَّلوه على النحو التالي:
أ- ما يوافق الماء في الطُّهورية كالتراب والملح.
ب- وما لا يختلط بالماء كالدهن.
جـ- وما لا يمكن التحرُّز منه كالطُّحلب.
د- وما سوى هذه الأنواع كالزعفران.
دون أن يذكروا إن كان الماء دون قلتين أو أكثر ، وأعطَوْا لكل حالة حكماً ، ودخلوا في تفريعات لا حاجة بنا لذكرها، فنرد عليهم بما يلي:
أما ما ذكروه في أول البند فصحيح من وجه وخطأ من وجه آخر ، والحالات الأربع داخلة في الصحيح والخطأ دون حاجة لهذه التبويبات. أما أنَّ الماء إذا تغير بمخالطته لمواد طاهرة فَقَدَ طُهوريته فقولٌ صحيح ، ولكن أن يقولوا إنه صار ماءً طاهراً فخطأ، لأن الماء هو تلك المادة ذات الصفات والخصائص المعروفة ، فإذا اختلفت هذه الصفات والخصائص بشكل بيِّن لا يبقى الماء ماء ، ولا يصح إطلاق اسم الماء عليه ، وسمِّه آنئذ بما شئتَ من أسماء حسب المادة التي اختلطت به. فقولهم يكون الماء طاهراً ـ هكذا بذكر كلمة (الماء) ـ خطأ ، فالنبيذ وهو ماء نُقِع فيه تمر لا يصح أن يقال عنه إنه ماء طاهر غير طَهور، لأنه لم يعد ماء لا في اسمه ولا في واقعه، والشاي المشروب الأحمر لا يسمى ماء، والسوس لا يسمى ماء، والماء إذا غُلي فيه الحمص حتى صار أصفر ذا طعم خاص لا يصح أن يقال إنه ماء ، لا ماء طاهر ولا ماء طَهور، فما دامت هذه الأشربة والمحاليل لا تتصف بصفات الماء ولا تحمل خصائصه فيجب إخراجها من هذا البحث، وعدم إدراجها في باب المياه وأقسامها.
والقاعدة الواجب اعتمادها هي أن الماء ما دام ماء - أي اسمه ماء وحقيقته أنه ماء - إن خالطته شوائب طاهرة فلم تسلُبْه اسمَه ، ولم تغيِّر أوصافه وخصائصه ظل ماء طَهوراً يصلح لكل حالات التطهير، لا فرق بين الحالة والأخرى من الحالات الأربع. فإذا أُذيب في الماء قَدر كبير من الملح أو خالطته كمية كبيرة من التراب والطين أو الكبريت أو الزعفران بحيث لم يعد يسمى ماء أُخرج من بحث أقسام المياه ودخل في بحث المواد الأخرى التي سلبته اسمه وحقيقته . فشراب الزعفران طاهر، وشراب السوس طاهر ، والشاي طاهر ، والنبيذ - أي منقوع التَّمر - طاهر، ومحلول الكبريت طاهر ، ولكن هذه لا تُبحث في باب المياه ولا تأخذ أحكامها، وبالتالي لا يقال لهذه الأشربة والمحاليل إنها مياه طاهرة غير طَهورة ، ولا فرق في ذلك بين ما كان فوق القُلَّتين أو دونهما.
وهذا الموضوع كله ليس موضوع نصوص، وإنما هو موضوع تحقيق مناط الماء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول «الماء طَهور» ونحن نبحث في مناط الماء وعلى ماذا ينطبق هذا اللفظ ، ولم يقل عليه الصلاة والسلام شراب الزعفران طاهر أو طَهور حتى يدخل في هذا الباب. وعليه فإن قولهم إن الماء طاهر إن خالطه ما غيَّر أوصافه أو سلبه اسمه صحيح من وجه وخطأ من وجه ، وقد بان الوجهان تماماً. وقل مثل ذلك على إدام الطعام وأدوية الصيدليات السائلة والمحاليل الكيماوية والعُصارات والعطور ، فكلها لا علاقة لها بأحكام المياه من حيث الطُّهورية والطهارة لا من قريب ولا من بعيد ، فلا تصلح للوضوء ولا للأغسال من نفاس وحيض وجنابة.
قد يقال إن عكرمة والحسن والأوزاعي وأبا حنيفة أجازوا الوضوء بالنبيذ مستدلين بما رُوي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي  قال له ليلة الجن «ما في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال : تَمْرةٌ طيبةٌ وماءٌ طَهور» رواه أبو داود وأحمد والترمذي وابن ماجة. فنردُّ عليهم من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعارض الآية الكريمة ... فلم تجدوا ماءً فتيمَّموا... سورة النساء 43، وسورة المائدة 6. ذلك أن الآية قد أوجبت الانتقال إلى التراب عند فقد الماء ولم تجعل بينهما شيئاً آخر .
وثانيها: هذا الحديث ضعيف، لأن في إسناده أبا زيد ، وأبو زيد هذا قال عنه الترمذي (مجهول عند أهل الحديث) وقال ابن حِبَّان (ليس يُدرَى مَن هو ولا أبوه ولا بلده، ومن كان بهذا النعت ثم لم يروِ إلا خبراً واحداً خالف فيه الكتاب والسنة والإجماع والقياس استحق مجانبة ما رواه) .
وثالثها: إن مسلماً روى أن ابن مسعود نفسه قال «لم أكن ليلة الجنِّ مع رسول الله  ووددت أني كنت معه ». وروى أبو داود أن ابن مسعود قد سُئل «من كان منكم مع رسول الله  ليلة الجن؟ فقال: ما كان معه منا أحد» . وبذلك يسقط الاحتجاج بالحديث على جواز الوضوء بالنبيذ . قال ابن قُدامة في المغني (فأما غير النبيذ من المائعات غير الماء كالخل والدهن والمرق واللبن فلا خلاف بين أهل العلم فيما نعلم أنه لا يجوز بها وضوء ولا غسل، لأن الله سبحانه أثبت الطُّهورية للماء بقوله ويُنَزلُ عليكم من السماءِ ماءً ليُطهِّرَكم به وهذا لا يقع عليه اسم الماء ) وهو تلخيص جيد وصحيح.
إلا أن الشرع الحنيف قد خفف عن المسلمين في ماء البحر وماء السواقي، فجعل ماء البحر طَهوراً رغم أنه يفقد صفة من صفات الماء لكونه مالحاً، وجعل ماء السواقي طَهوراً رغم ما يعلق به من طين أو شوائب تغيِّر لونه ، فهذان الماء إن حالة استثنائية فيُقْتَصَرُ عليهما ولا يقاس عليهما، ويبقى ما سواهما يعامَل كما سبق بحثه، ولذلك قال الفقهاء والأئمة إن الماء إذا خالطه ما يختلط به عادة يظل طَهوراً كالملح والتراب، وما سوى ذلك إذا خالط الماء فسلبه صفة من صفاته بطل عدُّه ماء، ولا يجري تصنيفه في أقسام المياه الطَّهورة.
من كل ما سبق يتبين لنا أنه لا يوجد شيءٌ اسمه الماء الطاهر غير الطَّهور، وبذلك يسقط القسم الثاني من أقسام الماء.

تقي بن فالح
12-11-2017, 02:17 PM
الماءُ النَّجِس(1)أما القسم الثالث من تقسيماتهم وهو الماء النجس فهو صحيح جُملةً ، أي أنه موجود في الواقع، ولكن فيه تفصيل لا بد من الوقوف عليه.
لقد افترق الفقهاء في هذه المسألة ثلاث فرق : فرقتين كبيرتين وفرقة ثالثة هي أبو حنيفة وأصحابه. فذهب ابن عباس وأبو هريرة وحذيفة والحسن البصري وسعيد بن المسيِّب وعطاء وعكرمة وجابر بن زيد وابن أبي ليلى والثوري وداود وإبراهيم النخعي ويحيى القطان والأوزاعي وعبد الرحمن بن مهدي ومحمد بن المنذر ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل في رواية عنه والشافعي في رواية عنه إلى أن الماء إذا خالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجساً، وإذا خالطته نجاسة فلم تغيِّر أوصافه ولم تسلبه اسمه ظل طَهوراً، سواء كان الماء قليلاً أو كثيراً .
وذهب عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وإسحق وأبو عبيد، والشافعي وأحمد في المشهور عنهما إلى أن الماء إذا كان قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة فغلبت عليه وسلبته اسمه وغيَّرت أوصافه صار نجساً، وإذا كان دون القُلَّتين تنجَّس بحلول النجاسة فيه، سواء غيرت اسمه وأوصافه أو لم تغيِّر ، قليلةً كانت أو كثيرة. وسنعرض لرأي كلٍّ من هذين الفريقين ونناقشهما، ثم نعرض لرأي أبي حنيفة وأصحابه.
استدل الفريق الأول على رأيهم بالأحاديث الآتية:
1 - عن أبي سعيد الخُدري رضي الله عنه قال «قيل : يا رسول الله أنتوضأ من بئر بُضاعة؟ - وهي بئر يُلقى فيها الحِيَض ولحومُ الكلاب والنتنُ - فقال رسول الله : إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» رواه الترمذي وحسَّنه. ورواه أبو داود ، وصححه أحمد ويحيى بن معين وابن حزم.
2 - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال « سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينـة، فقيل لــه : إن الكلاب أو السباع تَرِدُ عليها؟ فقال : لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدار قطني . ورواه الطبراني من طريق سهل. ورواه البيهقي من طريق أبي سعيد الخدري وقال : إسناده حسن. إلا أن الهيثمي والحاكم وابن الجوزي قد ضعَّفوه.
3- عن أبي أُمامة الباهلي قال : قال رسول الله  «إن الماء لا يُنجِّسه شيء إلا ما غَلَب على ريحِه وطعمِه ولونِه» رواه ابن ماجة والبيهقي. ورواه الدار قطني أيضاً من طريق ثوبان دون قوله «ولونه». وجميع طرق هذا الحديث ضعيفة. فقالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفرِّق بين القليل والكثير ، ولأنه لم تظهر على الماء إحدى صفات النجاسة، فلم ينجس بها كالزائد عن القُلَّتين، وردُّوا حديث القُلَّتين لأنه ضعيف.
واستدل الفريق الثاني بالأحاديث التالية:
1- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال «سمعتُ رسول الله  وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال : فقال رسول الله : إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية لأبي داود «فإنَّه لا ينجس» ورواية ثالثة للحاكم وأحمد «لم يُنجِّسه شيءٌ » وسنعرض بعد قليل لدرجة هذا الحديث.
2- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال « إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً ، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي والترمذي. ورواه البخاري ولم يذكر العدد ثلاثاً.
3 - عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله  قال « إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسله سبع مرات» رواه مسلم والبخاري وأحمد . وفي روايةٍ لمسلم «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهنَّ بالتراب ».
فقالوا: تحديد الحديث الأول بالقُلَّتين يدل على أن ما دونهما ينجس، إذ لو استوى حُكم القُلَّتين وما دونهما لم يكن التحديد مفيداً. وقالوا عن الحديث الثاني إنه لولا أنه يفيد منعاً لم ينه عنه. وعن الحديث الثالث قالوا : أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بغسل الإناء من ولوغ الكلب وإِراقةِ سُؤْرِه، ولم يفرِّق بين ما تغير وما لم يتغير ، مع أن الظاهر عدم التغيُّر ، وردُّوا حديث أبي أُمامة الذي رواه ابن ماجة وغيره لأنه ضعيف. واستشهد الفريقان بأشياءَ أخرى ، وقالوا كلاماً آخر دون الكلام الأول سنعرض له في المناقشة بإذن الله.
من استعراض أدلة الفريقين وما استنبطوه من أحكام يتبين أن الخلاف بينهما ليس واسعاً فالماء قسمان - ما دون القُلَّتين ، وقُلَّتان فأكثر - أما ما كان قُلَّتين فأكثر فقد اتفق الفريقان على أنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، إلا إذا غيَّرت النجاسة أوصافه وسلبته اسمه ، أما إذا وقعت فيه فلم تسلبه اسمه ولم تغير أوصافه بقي طَهوراً - أما أبو حنيفة وأصحابه فإن لهم رأياً مختلفاً سنعرض له فيما بعد كما قلنا - أما ما كان دون القُلَّتين فقد اتفقوا أيضاً على أنه إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرته وسلبته اسمه صار نجساً، وهذا قول صحيح أيضاً. قال محمد بن المنذر (أجمع العلماء على أن الماء القليل والكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيَّرت له طعماً أو لوناً أو ريحاً فهو نجس) . بقي الماء دون القُلَّتين وأصابته نجاسة قليلة لم تغير وصفه ولا سلبته اسمه، هذا الماء فقط هو مدار الخلاف بين الفريقين هذين، ونناقش هذه المسألة فنقول :
إن الماء إذا بلغ قُلَّتين فأكثر وخالطته نجاسة يسيرة فلم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه بقي طَهوراً ، وإذا كثرت النجاسة بحيث سلبته اسمه وغيَّرت وصفه صار نجساً ، وهذا الأخير واضح فيه خروجه من أقسام المياه ، وأنه بالتالي لا يصح إدراجه في أقسام المياه ، لأنه خرج عن كونه ماء، فيكون مثل الماء الذي خالطته أشياء طاهرة فغيَّرت أوصافه وسلبته اسمه، والذي أخرجناه من قبلُ من أقسام المياه. وما قلتُه عن هذا الماء أقوله عن الماء الذي دون القُلَّتين وخالطته نجاسة فغيَّرت وصفه وسلبته اسمه، فإنه يخرج هو الآخر عن كونه ماء، وبالتالي لا يصح إِدراجه في أقسام المياه.
أما الماء النجس المتبقي والذي يُدْرَج في أقسام المياه فهو ما كان دون قُلَّتين وخالطته نجاسة يسيرة لم تغيِّر وصفه ولم تسلبه اسمه، فهذا يُدرج في أقسام المياه ، وهذا الماء هو المختَلَف فيه بين الفريقين : فريق يقولون بنجاسته ، والآخرون يقولون بطُهوريته.
وبالنظر في أدلة الفريقين يتبين أن الفريق الأول أخذوا بعمومات الأدلة ، بينما استشهد الفريق الثاني بالأدلة المخصِّصة، ولذا بقي الخلاف بينهما، وكان يمكن لهذا الخلاف أن ينتهي لو وافق الفريق الأول الفريق الثاني على أدلة التخصيص هذه، ولكنهم رفضوا منها ما رفضوا وتأوَّلوا منها ما تأوَّلوا ، ولهذا السبب استمر الخلاف ولم ينته. ونحن سنعمل على استعراض هذه الأحاديث من حيث السند والمتن، ثم ننظر في دلالاتها منطوقاً ومفهوماً كي نصل في هذه المسألة إلى الرأي الراجح بإذن الله.
1- حديث أبي سعيد «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» يصلح للاحتجاج، لأن أحمد وابن معين وابن حزم قد صحَّحوه. هذا الحديث منطوقه يفيد العموم ، لأن كلمة (الماء) المعرَّفة بأل الجنس عامة تشمل كل ماء ، فالحديث عام ليس فيه تخصيص، وحديث الحياض الذي فيه «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» مطلق في الماء من حيث الكمية، لأن كلمة «لنا ما بقي» مطلقة دون تقييدٍ بحجم أو كيل فتظل على إطلاقها، فليس في الحديثين تخصيص وإنما هما يفيدان العموم والإطلاق.
على أن حديث الحياض ليس سوى إسنادٍ للحديث الأول، فليس فيه جديد، ولذا فلو طعن فيه المُحدِّثون وأسقطوه لما تأثر حكم القائلين بعدم التخصيص، فالأمر سيَّان العملُ به أو ردُّه . أما الحديث الثالث فنصفه الأول «إن الماء لا ينجِّسه شيء» يماثل في لفظِهِ الحديثَ الأول، وأما الاستثناء في آخره «إلا ما غَلَب على ريحه وطعمه ولونه» فأقول : حيثما ورد الاستثناء في روايات هذا الحديث فهو ضعيف ، فقد رواه ابن ماجة والدار قطني من طريق أبي أُمامة وفي سنده رشدين بن سعد وهو متروك، ورواه الدار قطني أيضاً من طريق ثوبان بلفظ «الماء طَهور إلا ما غَلَب على ريحه أو على طعمه» وفي سنده أيضاً رشدين بن سعد، وهو متروك كما ذكرنا . وروى البيهقي هذا الحديث عن أبي أُمامة عن النبي  قال «إن الماء طاهر إلا إنْ تغيَّر ريحُه أو طعمُه أو لونُه بنجاسةٍ تَحدُث فيه» وفيه أيضاً رشدين. قال الشافعي: وما قلت من أنه إذا تغيَّر طعم الماء ولونه وريحه كان نجساً يُروى عن النبي من وجه لا يُثبِت أهل الحديث مثلَه. وقال الدار قطني (لا يَثبُت هذا الحديث) وقال النووي (اتفق المُحدِّثون على تضعيفه) . فيسقط الاحتجاج بالحديث. ومع ذلك يبقى الحكم قائماً ودليله الحديث الأول.
وأود أن أشير هنا إلى أن هذا الحديث وإن كان ضعيفاً، أو كان الاستثناء الذي فيه ضعيفاً إلا أن معناه صحيح، وهو ما حققناه من قبل في بحث تحقيق مناط الماء. قال الشافعي والبيهقي وغيرهما : الإجماع على أن التغيُّر بالنجاسة ريحاً أو لوناً أو طعماً نجس. وهم يعنون بالإجماع هنا إجماع العلماء، وقد سقنا من قبل قول ابن المنذر بهذا الخصوص فلا نعيد، وأثبتنا هناك أن هذا الأمر لا يحتاج إلى نصوص.
2- رد الفريق الأول حديث القُلَّتين وقالوا إنه ضعيف لأنه مضطرب سنداً ومتناً، فلا ينتهض عندهم لتخصيص الحديث الأول، فيظل الحكم على عمومه ، وقالوا إن مدارَه على الوليد بن كثير عنه عن محمد بن جعفر بن الزبير ، وقيل عنه عن محمد بن عباد بن جعفر، وقيل عنه عن عبيد الله بن عمر ، وقيل عنه عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، وهذا اضطراب في السند. وقالوا إنه قد رُوي أيضاً بلفظ « إذا كان الماء قدر قُلَّتين أو ثلاث لم ينجِّسه شيء» كما في روايةٍ لأحمد والدار قطني . وبلفظ « إذا بلغ الماء أربعين قُلَّة فإنه لا يحمل الخَبَث» كما في روايةٍ للدارقطني من طريق جابر بن عبد الله. وهذا اضطراب في المتن.

تقي بن فالح
12-11-2017, 02:20 PM
الماءُ النَّجِس(2)فنجيبهم على دعوى الاضطراب في الإسناد بأن هذا لا يُعدُّ اضطراباً لأنه انتقالٌ من ثقة إلى ثقة. قال ابن حجر (وعند التحقيق أنه عن الوليد بن كثير عن محمد بن عباد بن جعفر عن عبد الله بن عمر المكبر ، وعن محمد بن جعفر بن الزبير عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر المصغر وما سوى ذلك وهْمٌ) وهؤلاء كلهم ثِقات. وللحديث طريق ثالثة عند الحاكم جوَّد إسنادها يحيى بن معين ، وقال الحاكم (صحيح على شرطهما وقد احتجَّا بجميع رواته) وقال ابن منده : إسناد حديث القُلَّتين على شرط مسلم . وبذلك يتضح أن سنده صحيح .

أما دعوى الاضطراب في المتن فهي ساقطة أيضاً ، فإن رواية «و ثلاث» شاذة، ورواية «أربعين قُلَّة» ضعيفة ضعَّفها الدار قطني بالقاسم بن عبد الله العُمَري فلا يُحتج بها، وهذا لا يهمُّ ما دامت رواية القُلَّتين ذات إسناد جيد.

3- ولكنهم لم يتوقفوا عن الطعن في هذا الحديث، فقالوا إن القِلال غير معلومة المقدار ، وإنَّ تقييد من أخذوا بالحديث للقِلال بقِلال هَجَر غير مقبول ، وردوا الرواية التي قيدتها بقِلال هَجَر بأنها من رواية المغيرة بن صقلاب وهو منكر الحديث. هذه حجتهم في الرد أيضاً، وهي حجة واهية لأن الرسول عليه الصلاة والسلام حينما يذكر كيلاً أو وزناً يُفسَّر ويُحدَّد بمعرفة ما كان الناس عليه زمنه عليه الصلاة و السلام، ولا يلزم أن يقع ذلك في حديثه عليه الصلاة والسلام. فبالرجوع إلى ما كان عليه المسلمون زمن الرسول عليه الصلاة والسلام نجد أن قِلال هَجَر هي التي كانت شائعة فيهم ، فلا يُصار إلى غيرها إلا بنص، فقد كثر استعمال العرب لها في أشعارهم كما قال أبو عبيد في كتاب الطهور، وروى البيهقي عن مالك ابن صعصعة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر حديث المعراج وفيه « ثم رُفِعتُ إلى سِدْرة المُنْتَهى، فحدَّث نبي الله صلى الله عليه وسلم أن ورقها مثل آذان الفيلة وأن نَبقَها مثل قِلال هَجَر» وقال بعد ذلك (مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن أبي عروبة)، وهذا يدل على أنها كانت مشهورة فعلاً، ولذا لا يضيرنا ضعف رواية المغيرة بن صقلاب لأنها ليست بلازمة.

إذن حديث القُلَّتين صالح للاحتجاج ولا يضيره أن عدداً من الأئمة ضعَّفوه، لأنه لا يكاد يخلو حديث من تضعيف إمام أو أكثر ، ولو شئنا أن نردَّ عليهم بمثل ردهم لقلنا بضعف حديث أبي سعيد «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» لأن الدار قطني قال عنه إنه ليس بثابت، وأعلَّه ابن القطان بجهالة راويهِ عن أبي سعيد واختلاف الرواة في اسمه واسم أبيه ولكننا لا نفعل وإلا تعطل العديد من الأحكام . فهذا الحديث صحيح ويُحتج به لأن أحمد قال: حديث بئر بُضاعة صحيح. وصححه أيضاً يحيى بن معين وابن حزم والحاكم، حتى إن ابن القطان قال بعد تضعيف الحديث : له طريق أحسن من هذه. فالمطلوب حين العمل بالأحاديث أن تصح منها رواية واحدة ولو ضُعِّفت سائر رواياتها، وهذا الحديث قد صحت منه أكثر من رواية، فيُعمل به وهو صالح للتخصيص.

قال الشَّوكاني (والحاصل أنه لا معارضة بين حديث القُلَّتين وحديث الماء طَهورٌ لا ينجِّسه شيء ، فما بلغ مقدار القُلَّتين فصاعداً فلا يحمل الخبث ولا ينجس بملاقاة النجاسة، إلا أن يتغير أحد أوصافه فنجس بالإجماع، فيخص به حديث القُلَّتين وحديث لا ينجِّسه شيء، وأما ما دون القُلَّتين فإنْ تغير خرج عن الطهارة بالإجماع وبمفهوم حديث القُلَّتين، فيخص بذلك عموم حديث لا ينجِّسه شيء ، وإنْ لم يتغير بأن وقعت فيه نجاسة لم تغيره، فحديث لا ينجِّسه شيء يدل بعمومه على عدم خروجه عن الطهارة لمجرد ملاقاة النجاسة ، وحديث القُلَّتين يدل بمفهومه على خروجه عن الطُّهورية بملاقاتها).

4- ما قلناه عن الحديث الثاني والحديث الثالث من أدلة الأولين من أنهما غير لازمَيْن لإثبات رأيهم نقوله عن حديثي الاستيقاظ وولوغ الكلب، وذلك بعد ثبوت الحجة بحديث القُلَّتين هذا عدا عن أن حديث الاستيقاظ ليس منطبقاً على المشكلة لأنه ليس بحثـاً في النجاسة ، وإنما هو بحث في الاستقذارِ ، والنجاسةُ فيه مرجوحة.

أما حديث الولوغ فهو في النجاسة وإن كان المالكية صرفوه عنها بادِّعاء الناحية التعبدية فيه حتى تطرَّفوا في الحكم ، فاعتبروا سُؤر الكلب طاهراً يجوز التوضؤ به. وثانياً لو افترضنا أنهما في لبِّ المشكلة فليس فيهما تحديدٌ لكمية الماء التي تتنجس إن أصابتها نجاسة، فإن كلمة (إناء) الواردة في حديث الولوغ وفي حديث الاستيقاظ في رواية له «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يُدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات، فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يده أو أين كانت تطوف يده » رواه أبو داود من طريق أبي هريرة. ورواه الترمذي وابن ماجة. هذه الكلمة لا تفيد تحديداً كحديث القُلَّتين ، وكل ما تفيده أن الماء قليل، فيقتضي منا بعدئذ البحث عن دليل آخر يحدد هذا القليل، وهكذا نعود أدراجنا إلى حديث القُلَّتين. ولسوف نناقش هذين الحديثين بما يغني في باب الماء المستعمَل وباب النجاسات بإذن الله.

5- حشد الفريق الثاني زيادةً على ما سبق مجموعةَ أدلة لا تغني شيئاً ولا تُثبت حجة أُوردها هنا التزاماً بالنقل فقط، ولن أطيل الوقوف عندها لأنها ظاهرة في عدم انطباقها على موضوع البحث وهاكم الأحاديث:

أ - عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال«لا يبولنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري، ثم يغتسل فيه» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي وأبو داود.

ب - عن وابصة بن مَعْبَد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له «يا وابصة استفتِ قلبك واستفتِ نفسك، ثلاث مرات، البِرُّ ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتَوْك» رواه أحمد والدارمي، وحسنه السيوطي والنووي .

ج - سُئل الحسن بن علي «ما حفظتَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: حفظتُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم: دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك ...» رواه التِّرمذي وصحَّحه، وصحَّحه أحمد وابن حِبَّان .

ما الحديث الأول فالقول فيه هو القول نفسه في حديثي الاستيقاظ والولوغ ، فهو لا يفيد تحديداً سوى تخصيصه بالماء الراكد فقط ، ويظل عاماً دون تحديد في الماء الراكد، وبذلك لا يصلح للاحتجاج ، لأنه هو يحتاج إلى دليل يحدده، وذلك على اعتبار أن الحديث يفيد تنجيس الماء. وأما إن كان الاغتسال فيه هو المقصود فإنَّا نقول إن الاغتسال المنهي عنه هنا ليست النجاسة علته ، وإنما العلة هي احتمال الاستقذار والتلوُّث، فيسقط الاحتجاج به أيضاً. وسوف نفصِّل هذه الأمور بشكل وافٍ بإذن الله حين بحث الماء المستعمَل.

أما الحديثان الثاني والثالث فليس فيهمـا مــا يصلح للحجــة لأنهمـا عامَّان، ليس فـي الماء فقط بل في سائر الأحكـام الشرعية الظنيـة، وهما فـي أمور تقديرية مدارُهــا على القلب، والمطلوب هنا غير ذلك ، وحتـى لو استشهد بهــا هــؤلاء فــإن الآخَــرين يمكنهــم الاستشهاد بهــا بدورهــم، وكــان الأَحــرى والأَوْلى بهم أن لا يذكــروهمــا هنــا، وأن يكتفوا بحديث القُلَّتين، ولا حاجة بهم وقد صح حديث القُلَّتـين إلى أن ينقِّبوا فـي بطون كتب الحديث عـن مثل هـذه النصوص فالبساطـة والوضوح أساس الفقه، وأساس الشرع كله.

وبالبساطة أقول إن ملخص ما جاء على أَلْسِنة الفريقين إنما هو: هل يُعمل بالحديث العام «إن الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» لأن حديث التخصيص لم يصح، أم أن حديث التخصيص صحيح يصلح لتخصيص الحديث العام؟ والأحاديث التسعة التي أوردوها كان بالإمكان الاقتصار منها على هذين الحديثين فقط . وبالعمل بالحديث المُخصِّص وهو حديث القُلَّتين نخرج بالرأي القائل إن هناك ماءً نجساً وإنه موجود ، وبالتالي يُصنَّف في باب أقسام المياه، ولكنه فقط ما كان دون القُلَّتين وأُصيب بنجاسة يسيرة ، وما سوى ذلك من الماء، إن أصابته نجاسة كثيرة فغيرت اسمه وصفاته صار نجساً، ولكنه صار كسائر النجاسات الأخرى غير الماء، أي ما دام ليس ماء لا في الاسم ولا في الصفات فلا يُصنَّف في باب أقسام المياه، اللهم إلا إن كان للأحناف رأي أقوى في هذه المسألة فلْننظر في أدلتهم ودلالاتها.

6- انفرد أبو حنيفة وأصحابه بالرأي الآتي (الماء الكثير ينجس بالنجاسة إلا أن يبلغ حداً يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه) واختلفوا في حدِّه، فقال أبو حنيفة : هو ما إذا حُرِك أحدُ طرفيه لم يتحرك الآخر. وقال أبو يوسف: هو ما بلغ عشرة أذرع في عشرة أذرع، وما دون ذلك ينجس وإن بلغ ألف قلَّة ، لأن النبي ïپ² قال «لا يبولن أحدُكم في الماء الدائم ثم يتوضأ فيه» فنهى عن الوضوء في الماء الراكد بعد البول فيه ولم يفرق بين قليله وكثيره، ولأنه ماء حلَّت فيه نجاسة لا يُؤمن انتشارها إليه فينجس بها كاليسير. أي أن ما دون ما حدَّدوه ينجس بأدنى نجاسة، وما فوق ما حددوه لا ينجس إلا بالتَّغيُّر. والجواب عليه من وجوه:

أ - إن قولهم إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفرق في الماء بين قليلِه وكثيرِه يُبطل رأيهم بأن حدود الماء الكثير هي عشرة أذرع في عشرة، أو هي ما إذا حُرِّك أحدُ طرفيه لم يتحرك الآخر إذ ما دام الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحدِّد كثير الماء باعترافهم فكيف جاز لهم هم تحديده؟.

ب - إنهم هم أنفسهم اختلفوا في تحديد الماء الكثير، فإذا كانوا هم اختلفوا في هذا التحديد فكيف يمكن إقناع الآخرين به أو تقليدهم فيه؟.

ج - إن حديث القُلَّتين نصٌ في تحديد قليل الماء الذي ينجس بمخالطة النجاسة، وكثيره الذي لا ينجس، وما دام الحديث صحيحاً فقد بطل القياس والرأي.

د - حديث بئر بُضاعة صحيح هو الآخَر وهو نصٌّ أيضاً، وبئر بُضاعة لا تبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود (وسمعت قتيبة بن سعيد قال: سألت قيِّم بئر بُضاعة عن عمقها ، قال: أكثر ما يكون فيها الماء إلى العانة، قلت: فإذا نقص؟ قال: دون العورة، قال أبو داود: وقدَّرت أنا بئر بُضاعة بردائي، مددته عليها ثم ذرَعْتُه ، فإذا عرضها ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه: هل غُيِّر بناؤُها عما كانت عليه؟ قال: لا، ورأيت فيها ماءً متغيِّر اللون) فبئر بُضاعة كانت النجاسات تُلقى فيها، فيتغيَّر لون مائها قليلاً، ومع ذلك تبقى طاهرة الماء كما أفاد الحديث الشريف مع أن هذه البئر دون الحد الذي ذكروه، فهذا الحديث أيضاً ينقض رأيهم في التحديد.

هـ - هذا التحديد للماء الكثير وللماء القليل طريقه التوقيف، فلا يُصار إليه إلا بنصٍّ أو إجماع صحابة، وليس معهم نص ولا إجماع صحابة، فمِن ذلك كله يتضح خطأ هذا الرأي. وإذن فقد ثبت القول السابق وهو أن الماء النجس الذي يُصنَّف في باب أقسام المياه هو فقط ما كان دون القُلَّتين وأصيب بنجاسة ، وما سوى ذلك يظل طَهوراً على أصل حكمه.

وقبل الانتقال إلى الماء المستعمَل بفروعه الثلاثة أود أن أُثْبِت ملاحظة هي أن هذه الأدلة والمناظرات الواقعة بين الفريقين إنما كانت من الفقهاء والأئمة دون صحابة رسول الله ïپ²، بل دون سائر التابعين ، ولكنني قرنت بين الأئمة والتابعين والصحابة لاشتراكهم في الرأي.
يتبع ................... الماء المستعمل

تقي بن فالح
13-11-2017, 08:59 PM
الماءُ المستعمَل
اختلف العلماء في الماء المستعمَل كثيراً ، وذهبوا فيه مذاهب شتى، وحتى يسهل علينا أن نناقش آراءهم فقد جمعت هذه الآراء في أصول ثلاثة ، تاركاً التفاصيل والتفريعات إلى نهاية البحث، إلا ما لا بد من ذكره، فأقول : الماء المستعمل قسمان: قسمٌ مستعمَلٌ في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وقسمٌ مستعمَل فيما سوى ذلك، ونحن سنناقش القسم الأول ثم ننتقل لمناقشة القسم الثاني.
1) ذهب الأئمة في هذا القسم مذاهب ثلاثة ، فذهب الليث والأوزاعي ومالك في رواية، وأبو حنيفة في المشهور عنه، والشافعي وأحمد إلى أن الماء المستعمَل في رفع الحدث طاهر ولكنه غير مطهِّر لا يرفع حدثاً ولا يزيل نجاسة، واستدلوا على رأيهم بالأحاديث التالية:
أ- عن الحَكَم بن عمرو - وهو الأقرع – «أن النبي  نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طَهور المرأة » رواه أبو داود والترمذي وأحمد. وفي رواية لأحمد وابن ماجة عن الحَكَم بلفظ «وضوء المرأة ». وحسنه الترمذي وصححه ابن ماجة وابن حِبَّان.
ب- عن رجل صحب النبي  قال «نهى رسول الله  أن تغتسل المرأة بفضل الرجل أو يغتسل الرجل بفضل المرأة، ولْيغترفا جميعاً» رواه أبو داود والنَّسائي. وصححه ابن حجر.
ج- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله  «لا يغتسل أحدُكم في الماء الدائم وهو جُنُب، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال : يتناوله تناولاً» رواه مسلم وابن ماجة .
د- عن أبي هريرة أن النبي  قال «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه» رواه البخاري وأحمد وأبو داود وابن حِبَّان والنَّسائي.
هـ- عن عبد الله بن زيد المازني «أنه رأى رسول الله  توضأ فمضمض، ثم استنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً ، ويده اليمنى ثلاثاً ، والأخرى ثلاثاً، ومسح برأسه بماء غير فضل يده، وغسل رجليه حتى أنقاهما» رواه مسلم وابن حِبَّان .
و- عن عبد الله بن زيد «أن النبي  أخذ لرأسه ماءً جديداً » رواه الترمذي .
ز- عن نمران بن جارية عن أبيه قال : قال رسول الله  «خذوا للرأس ماءً جديداً» رواه الطبراني في المعجم الكبير .
عن الحديثين الأول والثاني قالوا إنَّ نهيَ الرسول عليه الصلاة والسلام عن الوضوء بفضل وَضوء المرأة ، ونهيه عن الاغتسال بفضل الرجل وبفضل المرأة إنما هو لعلَّة الاستعمال - والنهي يقتضي فساد المنهيِّ عنه - ولو لم يكن الوضوء والغسل فاسدين هنا لما نهى عنهما، وقالوا عن الحديثين الثالث والرابع: إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن الاغتسال في الماء الدائم، أي الانغماس فيه ، وهذا النهي يدل على أنه يؤثِّر في الماء تأثيراً يمنع من التوضؤ به، وأن اقتران نهي الاغتسال بالنهي عن البول يقتضي التسوية في أصل الحكم لا في تفصيله ، ومعنى ذلك أن التسوية هنا إنما تكون في المنع من الوضوء بالماء الذي يُبال فيه والذي يُغتسل فيه ، وهذا هو أصل الحكم، ولا يلزم الاقتران هنا التسوية في تفصيل الحكم، وهم يعنون بذلك أنه لو كانت التسوية في تفصيل الحكم لوجب القول بنجاسة الماء الذي يغتسل فيه كنجاسة الماء الذي يُبال فيه، وهم لا يقولون ذلك. وقالوا لولا أن النهي يفيد منعاً لم ينه عنه ، ولأنه أُزيل به مانعٌ من الصلاة فلم يَجُز استعماله في طهارة أخرى كالمستعمل في إزالة النجاسة.
والأحاديث: الخامس والسادس والسابع أخذوا منها أن فعل الرسول عليه الصلاة والسلام في أخذ ماء جديد لرأسه في الوضوء، وأمرَه المسلمين بأخذ ماء جديد لمسح الرؤوس في الوضوء إنما هو لعلَّة الاستعمال، وقالوا هذا يدل على أن غير الجديد لا يصح مسح الرأس به، وغير الجديد يعني المستعمل.
2) وذهب أبو يوسف القاضي وأبو حنيفة في روايةٍ عنه، إلى أن الماء المستعمَل في الوضوء والاغتسال الواجبة نجس، واستدلوا على ذلك بما يلي:
أ - بالحديث الرابع من أحاديث الفريق السابق .
ب- بقولهم إن الماء الذي تُزال به الجنابة أو يُتوضأ به هو ماء يُزال به مانعٌ من الصلاة، فانتقل المنع إليه كغُسالة النجس المتغيرة .
ج - إن الغسل أو الوضوء يسمى طهارة، والطهارة لا تكون إلا عن نجاسة، إذ تطهير الطاهر لا يُعقل. وعن الحديث الأول قالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قرن في هذا الحديث بين النهي عن التبوُّل في الماء الدائم وبين الاغتسال فيه، وحيث أن النهي عن التبوُّل إنما هو لعلَّة التنجيس، فكذلك النهي عن الاغتسال هو أيضاً لعلَّة التنجيس بدلالة الاقتران.
3) وذهب الباقون إلى أن الماء المستعمَل في رفع الحدثين الأكبر والأصغر يظل على طُهوريته، وأصحاب هذا الرأي هم: الحسن البصري وعطاء وسفيان الثَّوْري وأبو ثَوْر وإبراهيم النخعي والزُّهري ومكحول ومالك وأهل الظاهر، والأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد في روايةٍ عن كلٍ منهم . وأصحاب هذا الرأي استشهدوا بعموم أحاديث طُهورية الماء، وبعددٍ من الأحاديث الصريحة في ذلك، وردوا على استشهادات الفريقين السابقين. وأَدَعُ ردودهم الآن لأنكم سترونها في أثناء مناقشة الرأيين السابقين.
4) نناقش الآن الرأي الأول فنقول: الحديث الأول فيه نهي الرجل عن التوضؤ بفضل وضوء المرأة فقط، والحديث الثاني فيه نهي الرجل عن الاغتسال بفضل المرأة، ونهي المرأة عن الاغتسال بفضل الرجل، وليس في الحديثين ما يفيد نهي الرجل عن الوضوء أو الاغتسال بفضل الرجل، أو المرأة بفضل المرأة، فهذه قرينة صارفة لعلَّة الاستعمال، إذ لو كانت العلَّة هي الاستعمال لما كان لتخصيص النهي برجال مع نساء أو نساء مع رجال فائدة، ولو كان الحكم عموم النهي لقال الحديث مثلاً: نهى الرسول  عن الوضوء أو الاغتسال بفضول الماء ، أو لقال: أنهاكم عن التوضؤ بفُضول وضوئكم مثلاً، فلما انعطف الحديثان عن صيغة العموم دل ذلك على معنى خاص مقصود وهو هنا يعالج عملاً بيتياً، وخاطب فيه الرجل مع المرأة والمرأة مع الرجل، فكان ذلك قرينة صارفة عن عموم التوضؤ بفضل الوضوء، وعموم الغُسل بفضل الغُسل ، فإذا اقترن ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام «ولْيغترفا جميعاً» في آخر الحديث الثاني بان القصدُ واضحاً، وهو أن هذين الحديثين يعالجان عملاً بيتياً خاصاً بالأزواج، الرجال وزوجاتهم، فهما خاصَّان بهذا الأمر فحسب، وذلك لأنه إذا ذُكر الرجل إلى جانب المرأة في عمل بيتي كان قرينة على العلاقة بين الأزواج ، فإذا كان العمل يصحبه تعرٍّ كاملٌ عند الاغتسال ولا يكون تعري الرجل والمرأة معاً إلا في حالة الزوجية فقط، كان قرينةً قطعية على أن الحديثين يعالجان موضوعاً خاصاً بالأزواج، لأن المرأة لا تستطيع أن تتوضأ مع الرجل من إناء واحد في وقت واحد لما في عملية الوضوء من انكشاف شعرها ويديها ورجليها إلا مع محارمها، ومع زوجها، ولا تستطيع الاغتسال وهي عارية مع الرجل إلا إذا كان زوجها فقط، فطلب الحديث من الرجل والمرأة في الاغتسال أن يغتسلا من إناء واحد في وقت واحدٍ بقوله «ولْيغترفا جميعاً»، وهما عاريان طبعاً، كان ذلك بالقطع دليلاً على أن هذين الحديثين خاصان بالزوج والزوجة فحسب، وهذا ينفي بالجزم عموم الحكم وتنتفي بالتالي علَّة الاستعمال، فلا يصلح الحديثان دليلاً على أن الماء المستعمل لا يصلح للوضوء أو الغسل، ويظل للمسلمين أن يتوضأوا بفضولهم ويغتسلوا بفضولهم من الوضوء والغسل ، فيُردُّ الاستشهاد بالحديثين من هذه الناحية.
ومن ناحية ثانية ورد ما يلي:
أ - عن ابن عباس «أن رسول الله  كان يغتسل بفضل ميمونة» رواه مسلم.
ب - عن ابن عباس عن ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله  توضأ بفضل غُسلها من الجنابة» رواه أحمد وابن ماجة.
فهذان حديثان يعارضان الحديثين السابقين، وهما مثلهما في القوة أو أعلى ، وإنه وإن أعلَّ بعضهم الحديث الأول إلا أن البخاري ومسلماً رويا عن عبد الله بن عباس «أن النبي  وميمونة كان يغتسلان من إناء واحد» والحديث الثاني صححه ابن خُزَيمة وغيره كما قال الحافظ ابن حجر ، فهما إذن صالحان للاحتجاج وهذان الحديثان معارِضان للحديث الأول وللحـديث الثاني في النهي عن الوضوء والاغتسال بفضل الماء.
ولا يقال هنا إن الحديثين الأوَّلين قول، وإن الحديثين التاليين فعل ، وقول الرسول عليه الصلاة والسلام مُقدَّم على فعله، وإذا تعارضا حُمل الفعل على خصوصية الرسول عليه الصلاة والسلام ووجب العمل بالقول، لا يُقال ذلك هنا، لأن عندنا حديثاً ثالثاً يصرف فعل الرسول  عن الخصوصية ، هو ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال «اغتسل بعض أزواج النبي  في جَفْنَةٍ ، فجاء النبي  يتوضأ منها - أو يغتسل - فقالت له: يا رسول الله إني كنت جُنُباً ، فقال رسول الله  : إن الماء لا يُجْنِب» رواه أبو داود وأحمد. ورواه الترمذي وقال : حديث حسن صحيح. فهذا الحديث ينفي الخصوصية، بتعليله الجواز بأن الماء لا يُجْنِب، وهذا التعليل يدل على عدم اختصاص ذلك بالرسول عليه الصلاة والسلام، لأن قوله «إن الماء لا يُجْنِب» عامٌّ في كل فضل وضوء أو فضل غسل، ثم هو قول وليس فعلاً.
ومن ناحية ثالثة هم يقولون إن النهي عن الوضوء وعن الاغتسال من فضول الوضوء والأغسال إنما هو لعلَّة الاستعمال، ويقولون إن فضل الوضوء والغسل هو ما يبقى في الإناء بعد أخذ ماء الوضوء منه، والمعلوم أن معنى ذلك أن المسلم كان يأخذ بيده ماء فيتوضأ به، وتبقى في الإناء بقية ماء بعد الاغتراف، وهو مايطلق عليه فضل الوضوء ، فيقولون إنَّ هذا الماء الفضل صار بالاغتراف مستعمَلاً، وكون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن الوضوء بالفضول ، فإنه يدل على عدم صلاح الفضول للوضوء أو الغسل، ولا علَّة لهذا النهي إلا لأنه صار مستعمَلاً بالاغتراف منه. فنقول لهم: لو سلَّمنا بما تقولون، لكان قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني «ولْيغترفا جميعاً» خطأ ، وهو مُنتفٍ عنه عليه الصلاة والسلام ، فيكون هذا القول منه معارِضاً لقولكم وفهمكم، وذلك لأن الاغتراف معاً من إناء واحد يجعل ما في الإناء في أثناء الوضوء أو الغسل من قِبَل اثنين مستعمَلاً أيضاً بالمقياس نفسه، أي ما أن يغمس أحدهما يده مرة أو مرتين في أثناء الوضوء أو الغسل حتى يجعله مستعمَلاً، فإذا جاء الآخر ليأخذ لوضوئه منه أو لغسله يكون ما يأخذه حينئذ ماءً مستعمَلاً، بل إن الشخص الواحد إذا اغترف لوضوئه وحده صار الماء مستعمَلاً من أول غَرفة غرفها من الإناء ، فبطل وضوؤه، وهذا يرد عليكم قولكم.
يتبع /2

تقي بن فالح
16-11-2017, 07:45 AM
الماءُ المستعمَل2
ولكن بعضهم يقولون إنه لا يصبح مستعمَلاً إلا بعد أن يفرغ الشخص من الاغتراف لجميع وُضوئه أو لجميع غُسله، ولا يكون مستعمَلاً قبل الفراغ، لأنه لا يُسمى مُزيلاً لحدثه إلا بعد تمام العمل لا قبل ذلك، وأن المنهيَّ عنه هو الماء المتبقي في الإناء بعد إزالة الحدث منه لا قبله ولا في أثنائه فنقول لهؤلاء : كيف تفسرون قول الرسول عليه الصلاة والسلام «ولْيغترفا جميعاً» ؟ والمعلوم أن الاغتراف جميعاً يقتضي من أحد المغترفَيْن أن يفرغ قبل الآخر ، فإذا فرغ الأول وزال حدثه صار ما بقي في الإناء آنذاك فضلاً مستعمَلاً لا يجوز الوضوء منه أو الغسل، فكيف يتسنى للثاني أن يكمل وضوءه أو غسله منه؟ هذا تناقض. ومن هذه الناحية يسقط احتجاجهم أيضاً، وبذلك يسقط الاحتجاج بالحديثين من وجوه ثلاثة.
بقيت نقطة هي: كيف العمل أو التوفيق بين هذه الأحاديث؟ فنقول إن أحاديث النهي تُحمل على التنزُّه عن المستقذَر لأن الغسل والوضوء قد يُقَذِّران الماء والأَوْلى للمسلم أن يستعمل ماء نظيفاً خاصةً في عبادته، فالنهي إنما هو لأجل ذلك أو لأجل أن المرأة إذا فرغت من الماء أو الرجل إذا فرغ منه في بيته قلَّ اهتمامه بنظافته، وربما أدى عدم اهتمامهما إلى إصابته بنجاسة أو قذر ، فكان النهي لأجل ذلك أي لأجل احتمال الاستقذار أو النجاسة ، وليس لعلَّة الاستعمال فنهاهما عن الاغتسال منفردَيْن، وطلب منهما الاغتسال مجتمعَيْن حتى ينتفي احتمال النجاسة واحتمال الاستقذار بعدم الاهتمام، سيما وأن قوله عليه الصلاة والسلام في فضل الغسل «إن الماء لا يُجْنِب»صريح في صلاحه للغسل والوضوء، وبذلك تنتفي علة الاستعمال تماماً. ولسوف نعود لحديث « إن الماء لا يُجْنِب» بعد قليل لنستقرأه في موضوع آخر قريب بإذن الله.
5) أما الحديث الثالث والحديث والرابع، فقد رُويا بستة ألفاظ فيها بعض اختلاف، لا بأس بإيرادها كلها:
رواية البخاري «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ، ثم يغتسل فيه» ورواه النَّسائي إلا أنه قال (منه) بدل (فيه) .
ورواية أحمد وابن حِبَّان والترمذي «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه» قال الترمذي: حسن صحيح.
ورواية أبي داود «لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة».
ورواية مسلم «لايبولَنَّ أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه» ورواها أيضاً أبو داود.
ورواية ثانية لمسلم وأحمد «لا تَبُلْ في الماء الدائم الذي لا يجري ثم تغتسل منه».
ورواية ثالثة لمسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال: يتناوله تناولاً» ورواها أيضاً ابن ماجة.
فهذا كله حديث واحد روي بألفاظ مختلفة، ويبعُد أن يكون الرسول  قد لفظ جميع هذه الروايات، لا سيما وأنها جميعها مروية من طريق أبي هريرة وحده، فالحديث فيه اختلاف في المتن، ولا بد من أن متناً منها أقوى من سائر المتون فيُعمل به ويرجَّح على غيره، والمعلوم أن البخاري التزم في رواية جميع الأحاديث باللفظ كما لم يلتزم به غيره، فرواية البخاري تقدَّم على سائر الروايات الأخرى. هذه واحدة.
والثانية هي أن الروايات الخمس الأولى قد قرنت في النهي بين البول في الماء الدائم والاغتسال فيه أو منه ، أو الوضوء منه ، إلا الرواية السادسة فقد انفردت بالنهي عن الاغتسال في الماء الدائم دون أن تذكر النهي عن البول فيه، فهي جزء من الحديث، وليست حديثاً منفصلاً، لا سيما وأن أبا هريرة راوي هذه الرواية هو الراوي نفسه للرواية التي تقرن بين النهيين، ولا يبعد أن تكون الرواية السادسة كلها من لفظ أبي هريرة موقوفة عليه، وأنه قالها في مناسبة وقعت أمامه، يشهد لهذا الاحتمال أن آخر الرواية حوى سؤالاً، وحوى جواباً من أبي هريرة هو قوله «يتناوله تناولاً » فالرواية تقول « لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال : كيف يفعل يا أبا هريرة ؟ قال يتناوله تناولاً». فصياغة هذه الرواية تجعل المدقق يميل إلى وقفها على أبي هريرة لهذا السبب، ولأنها شذت عن سائر الروايات، فيُعمل بروايات النهيين وتُترك رواية النهي الواحد. هكذا يُفعل عادة حين تقع اختلافات في الأحاديث ويصبح لا بد من ترجيحٍ وردٍّ لا سيما وأن هذه الرواية معناها موجود كله في الروايات الخمس الأخرى وليس فيها معنى جديد زائد عن الروايات الأخرى، ولذا فإني أكتفي بمناقشة روايات النهيين وأترك رواية النهي الواحد.
الحديث ينهى عن البول في الماء الدائم وبعد ذلك يأمر بعدم الاغتسال فيه، وقد ورد في أربع روايات من خمس «لا يبولنَّ ... ثم ...» و «لا تَبُل ... ثم ...» وورد في الثالثة « لا يبولنَّ ... ولا ... » بدون (ثم) فتحمل رواية «ولا» على الروايات الأربع «ثم» وتفسر بها، لأن الأحاديث يفسر بعضها بعضاً، وأربعة أحاديث تكفي لتفسير حديث واحد.
وثانياً لأن الواو في اللغة تفيد الترتيب عند الفرَّاء وثعلب وأبي عبيد والشافعي في رواية عنه ولا تفيد الترتيب عند سائر اللغويين والأئمة، ولكن اللغة تجعل الواو تفيد الترتيب إذا وُجدت قرينة، وقد وُجدت هنا قرينة، وهي الروايات الأربع التي فيها «ثم» فهذه الروايات الأربع قرينة على أن «ولا» هنا تفيد الترتيب والتعقيب، فيكون معنى الحديث إذن: لا تبولوا في الماء، وبعد التبوُّل فيه لا تتوضأوا منه ولا تغتسلوا فيه. فالنهي عن الوضوء أو الاغتسال إنما جاء لوجود البول في الماء وليس لأي سبب آخر.
والماء الدائم إما أن يكون دون قُلَّتين فيتنجس بالبول وإما أن يكون أكثر من قُلَّتين فيتقذَّر، ولا احتمال آخر ، فالحديث إذن ينهى عن الاغتسال من الماء النجس أو الماء القذر، فتكون علَّة النهي النجاسة فيما دون القُلَّتين والقذارة فيما فوق القُلَّتين، ولا يوجد في الحديث أية علَّة أخرى. أما ما يدَّعونه من أن علَّة النهي عن الاغتسال أو الوضوء هي الاستعمال، فهو مرجوح وبعيد ، فاقتران النهيين لم يجيء عبثاً، ولو كان الاستعمال هو العلَّة لما لزم اقتران البول بالاغتسال، فوجود النهي عن البول في الحديث مقترناً بالنهي عن الوضوء أو الاغتسال قرينة صارفة لعلَّة الاستعمال إلى القذارة والتلوث بالنجاسة.
وأُضيف من وجه آخر ما يلي: روى أبو داود وأحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه قال «اغتسل بعض أزواج النبي  في جَفْنة، فجاء النبي يتوضأ منها، أو يغتسل فقالت له : يا رسول الله إني كنت جُنُباً، فقال رسول  : إن الماء لا يُجْنِب». وبالتدقيق في نصِّ الحديث يتبين لنا أن زوجة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد اغتسلت في جَفْنة، وخلَّفت فيها فضل غُسل، فلما جاء الرسول  ليغتسل مما فضل في الجَفْنة من ماء غُسلها، أخبرته أنها اغتسلت من هذا الماء وأن هذا الماء هو فضل غُسلها، فلم ير الرسول  أن فعلها مانع له من الاغتسال بفضل الماء، وقال لها «إن الماء لا يُجْنِب» أي أن الماء الذي يُغتسل منه لا يُجنب. ولا شك في أن هذا الماء قد غمست فيه يديها حين الاغتراف، وأصابه شيء من رشاش ماء الغسل، ولولا ذلك لما أخبرت رسول الله  بأنها اغتسلت في الجفنة، فهذا الحديث ينفي علَّة الاستعمال. فقول الرسول عليه الصلاة والسلام حين ذكر الماء المستعمَل «إن الماء لا يُجْنِب» هو قول صارف لعلَّة الاستعمال، وصارف أيضاً لادِّعاء من يقول إن الحديث هذا من خصوصياته.
يتبع /3

تقي بن فالح
16-11-2017, 04:22 PM
الماءُ المستعمَل3
وأُضيف من وجه ثالث أنهم قالوا إن اقتران النهي عن البول بالنهي عن الاغتسال في الماء يقتضي التسوية في أصل الحكم لا في تفاصيله ، وجعلوا المنع من الوضوء في حالة البول في الماء متساوياً مع المنع من الوضوء في حالة الاغتسال فيه ، أي أنهم قالوا إنه لا يجوز التوضؤ بالماء الذي اغتسل فيه لأنه لا يرفع الحدث، كما أن الماء الذي خالطه البول لا يرفع الحَدَث، ونفَوْا التسوية في التفاصيل.

فنجيبهم بأننا أثبتنا أن الاغتسال في الماء لا يمنع الاغتسال منه ثانية كما في حديث الجَفْنة وهذا يدل على عدم التسوية في هذا الحديث بين الأمرين، فالاغتسال في الماء لا يمنع رفع الحدث به بينما البول في الماء يمنع رفع الحدث، فزالت التسوية من هذا الوجه. ونحتاج إلى إثبات هذه التسوية مع شيء آخر ، فنقول إن هذا الأمر الآخر هو الاستقذار كما أسلفنا، ونبسط الموضوع قليلاً.

قلنا إن الماء إما أن يكون دون قُلَّتين وإما أن يكون قُلَّتين فأكثر ، ولا ثالث لهما، فإن كان الماء دون قُلَّتين، فإن النهي عن البول فيه إنما هو لأجل تحاشي منع رفع الحدث به، لأن نجاسة الماء تمنع رفع الحَدَث به، وفي هذه الحالة فإن النهي عن الاغتسال من هذا الماء إنما هو لبيان أن الماء لا يصلح له لنجاسته. وإذن فإن النهي عن الاغتسال منه إنما هو لنجاسة هذا الماء قبل بدء الاغتسال منه أو فيه، ولا يزيده الاغتسال شيئاً، فالنجس لا ينجس، ولا ينجس إلا الطاهر ، ولذلك جاءت ألفاظ الحديث (منه) و (فيه) أي لا يحل التوضؤ بالماء الذي خالطته نجاسة وكان دون قُلَّتين، يدل على ذلك أن النهي عن الاغتسال منه ولو بالاغتراف قد بقي وهذا التعليل يصرف علَّة الاستعمال.

وإذا كان الماء قُلَّتين فأكثر فإن البول فيه لا ينجِّسه، وبالتالي يجوز التوضؤ منه، فلما نُهينا عن التوضؤ منه أو الاغتسال فيه، وقد أُجيز لنا التوضؤ والاغتسال في الماء المستعمل كما جاء في حديث الجَفْنة، فهمنا من ذلك أن ذلك كان لأن الماء صار قذراً فقط ولم يصِر نجساً، فيكون النهي للاستقذار وليس للنجاسة ، وبالتالي يكون حكم النهي عن الاغتسال فيما دون القُلَّتين للتحريم، ويكون فيما فوق القُلَّتين للتنزيه فحسب. ولولا أن الماء قد خالطه بول لما كان هناك نهي، بدليل حديث الجَفْنة ، فإن الجَفْنة لما لم يكن فيها بول لم يمتنع الرسول صلى الله عليه وسلم من الاغتسال منها، وقال «إن الماء لا يُجْنِب» أو قال «إن الماء ليس عليه جنابة » كما ورد في روايةٍ لأحمد. وهذا يعني أن الماء النازل من أعضاء المتوضِّيء أو المغتسِل يبقى على حاله وهو الطُّهورية.

وإن أصرَّ هذا الفريق على الاستشهاد بحديث انفراد النهي عن الاغتسال في الماء، أجبناهم بحملِهِ على النظافة ومنع الاستقذار ، لأن المغتسِل عموماً لا يخلو بدنه من وسخ ودرن يَعْلق بالماء، فاستحبَّ الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخلو ماء الوضوء والغسل من القذارة ، ولو بكمية قليلة بقرينة ما جاء في الحديث «يتناوله تناولاً» وبذلك يسقط الاحتجاج بهذا الحديث على اختلاف رواياته على ما ذهبوا إليه من أن المستعمل في رفع الحدث لا يرفع حدثاً. فالحديث ينهى عن الاغتسال في الماء الذي فيه بول وينهى عن التبول في الماء الذي يغتسلون فيه، هذا هو معنى الحديث وهذا هو الفقه فيه.

6) بقي للنقاش من الأحاديث: الخامس والسادس والسابع.

الحديثان الخامس والسادس ، موضوعهما واحد، هو مسح الرأس بماء غير مستعمَل، فالرسول عليه الصلاة والسلام حين أراد مسح رأسه في الوضوء أخذ له ماء جديداً من غير فضل يده، أي أنه بعد أن غسل يده اليسرى في الوضوء، تناول ماء جديداً لمسح الرأس، ولم يمسحه ببقية الماء في يديه ، فقالوا لولا أن الماء المستعمَل في غسل يديه لا يرفع حدثاً، ولا يُستعمل في الوضوء لمسح الرسول عليه الصلاة والسلام رأسه به دون حاجة منه إلى غَرفة ماء جديد لمسح الرأس. هكذا علَّلوا الحديثين، وقالوا إنهما صحيحان يُحتجُّ بهما.

وجوابنا على ذلك هو أن الرسول صلىى الله عليه وسلم كما فعل هذا الفعل قد فعل عكسه أيضاً، وجاء ذلك بأحاديث صحيحة أيضاً ، فعن ابن عباس رضي الله عنه «أنه توضأ فغسل وجهه، أخذ غَرفة من ماء فمضمض بها واستنشق، ثم أخذ غَرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بهما وجهه، ثم أخذ غَرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غَرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى، ثم مسح برأسه، ثم أخذ غَرفة من ماء ، فرشَّ على رجله اليمنى حتى غسلها، ثم أخذ غَرفة أخرى فغسل بها رجله - يعني اليسرى - ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلىى الله عليه وسلم يتوضأ» رواه البخاري. فهذا الحديث يصف فيه ابن عباس فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في الوضوء، وفيه أنه كان يغرف غَرفة ماء لكل عمل من أعمال الوضوء، فغَرفةٌ للمضمضة والاستنشاق، وغَرفة لغسل الوجه، وغَرفة لغسل اليدين وغَرفة لغسل الرجلين ، ولم يذكر أنه اغترف غَرفة لمسح الرأس، مما يدل على أن الرسول صلى الله غليه وسلم مسح برأسه بماءٍ فَضَل في يديه ولم يمسحه بماء جديد.

نعم قد يقال إن هذا ردٌّ على المنطوق بالمفهوم وهو ضعيف ، فنقول : هو ضعيف لو كان المفهوم يعارض المنطوق ولا يمكن الجمع بينهما، وهنا لا تعارض ، فالرسول عليه الصلاة والسلام وقد مسح رأسه بماء جديد، ثم جاء عنه أنه مسح رأسه بماء مستعمَل لا يقال عنه هذا تعارض، وإنما يقال إن الفعلين جائزان لوقوعهما منه عليه الصلاة والسلام فلا يقبل ردهم على هذا القول .

وعلى أية حال فإننا كي نقطع الحُجَّة عليهم نورد لهم حديث الرُبَيِّع بنت مُعَوِّذ بن عفراء الذي يصف كيف كان الرسول  يتوضأ ، وجاء في الحديث «ومسح - أي الرسول عليه الصلاة والسلام - رأسه بما بقي من وَضوئه في يديه مرتين، بدأ بمُؤَخَّرِه، ثم ردَّ يده إلى ناصيته وغسل رجليه ثلاثاً ... » رواه أحمد. ورواه أبوداود بلفظ «أن النبي صلىى الله عليه وسلم مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» ولم يختلف الأئمة في رُواة سنده إلا في عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، وقد رد عليهم الترمذي فقال (عبد الله ابن محمد بن عقيل صدوق ولكن تكلم فيه بعضهم من قِبَل حفظه ) وقال فيه البخاري (كان أحمد وإسحق والحُمَيدي يحتجُّون بحديثه) وبذلك صلح هذا الحديث للاحتجاج.

فهذا الحديث ردٌّ بالمنطوق على المنطوق، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد مسح رأسه من فضل ماء كان بيديه، فماذا بقي بعد ذلك من حجة في الاستشهاد بالحديثين على أن الماء المستعمَل في الوضوء لا يصلح للاستعمال؟ فيسقط احتجاجهم بالحديثين، ولم يبق لهم إلا حديث واحد هو السابع، وهو حديث جارية الذي رواه الطبراني، وهو قول من الرسول عليه الصلاة والسلام «خذوا للرأس ماءً جديداً» فهذا هو بقية شُبُهاتهم في منع استعمال المستعمل. هذا الحديث قال عنه الهيثمي: فيه دهثم بن قران ضعفه جماعة، وذكره ابن حِبَّان في الثقات، فهو إذن مختَلَف فيه، حتى إن ابن حِبَّان هذا لم يُثْبته في صحيحه ، ومع ذلك فلآخذه على أنه صالح للاحتجاج. هذا الحديث هو في موضوع الحديثين السابقين نفسه باستثناء أن الحديثين السابقين وردا في فعل الرسول عليه الصلاة والسلام ، وهذا نص في قوله عليه الصلاة والسلام ، فالموضوع واحد . وقد روينا حديثين عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لم يأخذ لمسح رأسه ماء جديداً، أحدهما جاء فيه «مسح برأسه من فضل ماء كان في يده» وهو منطوق، وجاء في الآخر أنه لم يغْرِف لرأسه غَرفة جديدة كما كان يفعل في كل عمل من أعمال الوضوء وهو مفهوم، وقد تضافر المنطوق والمفهوم على مغايرة حديثي الباب «مسح برأسه بماء غير فضل يده» و «أخذ لرأسه ماء جديداً» وهما منطوقان، وتغايُرُ الأحاديث هنا يدل على نفي علَّة الاستعمال، إذ لو كان المستعمَل لا يُستعمل لما ورد استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم فضل الماء في حديثين.

يتبع /4

تقي بن فالح
17-11-2017, 04:31 PM
الماءُ المستعمَل4
وقد يقال إن هذا منه يدل على أنه من خصوصياته، فنجيب بأن هذه دعوى غير صحيحة، لأنه لا يصح اعتبار ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم من خصوصياته إلا أن يقوم الدليل على أن الفعل هو من خصوصياته، ولم يقم الدليل هنا على ذلك . والمعلوم للصحابة ومَن بعدهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يصلي فيأخذ الصحابة عنه كيفية الصلاة ، وكان يتوضأ فيتعلم منه المسلمون الوضوء، وإن معظم أحاديث الوضوء التي عمل بها المسلمون هي أفعال منه عليه الصلاة والسلام ، أو أفعال من الصحابة ذكروا أنها تشبه أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام، وكانوا يجاهرون صراحة حين يتوضَّأون بأنهم توضَّأوا كما كان الرسول عليه الصلاة والسلام يتوضأ، وكان منهم من يقول: إني أَشْبَهُكم وضوءاً برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا الفرض الشرعي أُخذ من الرسول عليه الصلاة والسلام من فعله أكثر مما أُخذ من قوله ، ثم يأتي من يقول إن هذا المسح للرأس من فضل ماء اليدين هو من خصوصياته عليه الصلاة والسلام ، ما هكذا تفهم النصوص!
من هذه الأرضية السابقة ننطلق إلى القول بأن حديث جارية على فرض صحته يُحمَل على مَحْمل الأحاديث السابقة لأنه في موضوعها، والمقصود منه واضح وهو أن يمسح المسلم رأسه بماء جديد، أي بغير ما فضل في يديه، وهذا يضاف إلى الحديثين السابقين اللذين يذكران ذلك من فعله عليه الصلاة والسلام، وليس فيه جديد، فقد أمر الرسول عليه الصلاة والسلام هذا المسلم المخاطَب بأن يفعل في مسح رأسه كما مسح هو رأسه بماء جديد ، كما جاء في حديثي الباب وهما اللذان خالفهما حديثان آخران، واختلاف الأحاديث يدل على إباحة مسح الرأس بماء جديد وإباحة مسحه بماء يفضل في اليدين، فالأمر فيه سعة.
هكذا يجب أن تفهم النصوص، لا أن تُحَمَّل ما لا تحتمل، حتى استنبطوا منها علَّة الاستعمال، وهي غير موجودة في النص لا منطوقاً ولا مفهوماً اللهم إلا لرجلٍ وضع هذه العلَّة في ذهنه وبدأ يبحث لها عن سند.
ولقد اختلف الفقهاء كثيراً في موضوع مسح الأذنين، واستشهدوا بالأحاديث وأعمال الصحابة واستعانوا بمعاجم اللغة، ومدار النقاش يدور حول: هل الأذنان من الرأس، أم هما مستقلَّتان عنه؟ فمَن قالوا إنهما من الرأس، وإنهما بالتالي جزء من عضوٍ، قالوا: إن الأُذُنين تُمسحان مع الرأس مسحة واحدة مشتركة ولا يُؤخذ لهما ماء جديد، ومَن قالوا إن الأُذُنين ليستا من الرأس قالوا بوجوب أخذ ماء جديد لهما. وهكذا أوجبوا لكل عضو مستقلٍّ في الوضوء أن يُؤخذ له ماءٌ جديد، وذلك من أجل الفصل بين الأعضاء، واعتبروا الفصل علَّة لأخذ الماء الجديد، وتركوا هنا علَّة الاستعمال، وبما أن الرأس عضو مستقل فقد وجب عندهم أن يُؤخذ له ماءٌ جديد مستقل عن ماء اليدين، وهكذا أخذوا علَّة الاستعمال مرة وعلَّة الفصل بين الأعضاء مرة أُخرى.
وكمثال على ذلك أقدِّم لكم مقطعاً من كتاب المغني لابن قُدامة (مسألة : قال: [وأَخْذُ ماء جديد للأذنين ظاهرهما وباطنهما] المستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، قال أحمد: أنا أستحب أن يأخذ لأذنيه ماء جديداً، كان ابن عمر يأخذ لأذنيه ماء جديداً، وبهذا قال مالك والشافعي، وقال ابن المنذر: هذا الذي قالوه غير موجود في الأخبار، وقد روى أبو أُمامة وأبو هريرة وعبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الأذنان من الرأس» رواه ابن ماجة، وروى ابن عباس والرُّبيِّع بنت مُعوِّذ والمقدام بن معد يكرب أن النبي  مسح برأسه وأذنيه مرة واحدة، رواهن أبو داود، ولنا أن إفرادهما بماء جديد قد رُوي عن ابن عمر ، وقد ذهب الزُّهري إلى أنهما من الوجه، وقال الشعبي ما أقبل منهما من الوجه وظاهرهما من الرأس، وقال الشافعي وأبو ثَوْر: ليس من الوجه ولا من الرأس ففي إفرادهما بماء جديد خروج من الخلاف فكان أولى، وإنْ مسحهما بماء الرأس أجزأه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله). فهذا القول الذي ذكره صاحب المغني عن الشافعي وأحمد وغيرهما صريح في أن ما كان عضواً مستقلاً في الوضوء يُؤخذ له ماء جديد، وهم أصحاب القول بفقد المستعمَل في الوضوء للطُّهورية، فقد ذهبوا إلى أن العضو المستقل يؤخذ له ماء جديد، وهذا دليل واضح على أنهم فهموا من أخذ الماء الجديد ابتداء العمل بعضوٍ جديد مستقل في الوضوء، فعلَّة أخذ الماء الجديد عندهم هي الفصل بين الأعضاء، ثم هم مع ذلك يقولون إن طلب الرسول عليه الصلاة والسلام أخذَ ماءٍ جديد للرأس يدل على منع المستعمل في الوضوء من رفع الحدث؟!.
نخلص من ذلك كله إلى أن المستعمَل يجوز استعماله في الوضوء لأنه يظل ماء، وحكم الماء أنه لا يُجنِب وأنه طَهور، إلا ما غُلب على صفاته وسُلب اسمُه ، والوضوء لا يغيِّر صفات الماء ولا يسلبه اسمه، ولذا يظل طَهوراً وإن أصابه بعضُ الدنس القليل من أعضاء الوضوء، إلا أن يكون المتوضِّيء ملطَّخاً بالقَذَر، فيخرج ماء وضوئه ملطخاً وقد غُيِّرت صفاتُه وسُلب اسمه، فحينذاك لا يجوز التوضؤ به، أو أن يكون المتوضيء مُلطَّخاً بالنجاسة فيخرج ماء وضوئه نجساً، وهذا أندر من الكبريت الأحمر . وبذلك نفرغ من مناقشة رأي القائلين بأن المستعمَل في رفع الحدث طاهر غير مطهِّر، وقد بان الصواب في هذه المسألة .
7- وننتقل الآن لمناقشة الرأي الأخير. اعتمد أبو يوسف القاضي وشيخه أبو حنيفة في رواية عنه على حديث «لا يبولَنَّ أحدكم ...» فقالا: اقترن النهي عن الاغتسال من الماء الدائم بالنهي عن البول فيه، وبدلالة الاقتران والتسوية بين الأمرين نخرج بحكم تنجيس الماء بالاغتسال فيه مثل تنجيسه بالبول فيه ، وعند هذين الإمامين أن دلالة الاقتران تفيد التسوية في أصل الحكم، وفي تفاصيله.
ونجيب على هذه الشبهة إضافة إلى ما سبق بأن دلالة الاقتران ضعيفة عند الأصوليين، وحتى من يقولون بها، لا يشترطون التسوية بين طرفي الاقتران ، فقد يقترن نهيان أو أكثر، ويكون حكم الأول التحريم وحكم غيره الكراهة، وقد يقترن أمران أو أكثر، ويكون حكم أحدهما الوجوب وحكم الآخر الندب أو الإباحة، فهذه القاعدة التي استندا إليها ضعيفة بل خاطئة لا يجوز أن يُعوَّل عليها، وقد سبق أن أشرنا إلى هذه النقطة بما يكفي.
ثم إن هذا التنجيس من الاغتسال في الماء ليس منطوقاً، وإذا عارضه منطوق نفاه، لأن المنطوق أقوى في الحجة والعمل، وحديث الجَفْنة المار وهو «إن الماء لا يُجْنِب» منطوق فيُعمل به ويُترك العمل بالمفهوم من حديث «لا يبولَنَّ ...» هذا على فرض التسليم بصحة هذا المفهوم وبذلك يسقط الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه.
يتبع /5

تقي بن فالح
17-11-2017, 09:50 PM
الماءُ المستعمَل5
أما قولهما إن الماء الذي تُزال به الجنابة أو يُتوضأ منه هو ماء يُزال به مانع من الصلاة فانتقل المنع إليه كغُسالة النجس المتغيرة ، فإن هذا حكم عقلي وليس حكماً شرعياً، ثم إن هذا الحكم يقابله نص فلا يصح، وهذا مُجمَع عليه عند جميع الفقهاء والأصوليين ، قال الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا برأيي عُرضَ الحائط. وقد جاءت أحاديث كثيرة تدل على طهارة الماء المستعمَل ، فيُعمل بها ويُترك العمل بالقياس.
أما قولهما الأخير إن الغسل أو الوضوء يسمى طهارةً والطهارةُ لا تكون إلا عن نجاسة إذ تطهير الطاهر لا يُعقل، فإنا نقول إن هذه القاعدة خطأ، فما يُبنى عليها لا يصح، إذ الطهارة ليست بالضرورة عكس النجاسة ، فقوله تعالى فمَن شاءَ ذَكَرَهُ. في صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ . مرفوعةٍ مُطَهَّرة  وقوله تعالى رسولٌ من الله يتلو صُحُفَاً مُطَهَّرة وقوله سبحانه خُذْ من أموالِهِم صَدَقةً تُطهِّرهم وتُزكِّيهم بها  وقوله جل جلاله أولئك الذين لم يُرِد اللهُ أنْ يُطَهِّرَ قلوبَهم وقوله سبحانه لآل الرسول عليه الصلاة والسلام  ولكنْ يُريدُ لِيُطَهِّرَكم ولِيُتِمَّ نعمتَه عليكم وقوله سبحانه  أَخْرِجوا آلَ لوطٍ من قريتِكم إنهم أُناسٌ يَتطهَّرون وكثيرٌ غيرها في كتاب الله لا تعني أن الطهارة هي ضد النجاسة الحسية، فالله سبحانه لم يُرد من وصف الصحف بأنها مطهَّرة أنها أُزيلت منها النجاسة، ولا أراد سبحانه أن تكون الصدقة مزيلةً من الناس النجاسة، ولا أراد من قوله أنْ يُطهِّر قلوبَهم أن يزيل النجاسة من القلوب، ولا إلى آخر ما ورد، فهذه كلها طهارات ليست مقابلةً للنجاسة ولا بوجه من الوجوه.
وحين جاء مسلمٌ خاطيء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يقول له : يا رسول الله طهِّرني ، لم يكن يقصد أن يزيل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام نجاسته، بل قصد إقامةَ الحد عليه وسماها طهارة وهذه معلومة بالضرورة، فالطهارة تكون ضد النجاسة الحسية وتكون ضد النجاسة المعنوية ، وتأتي بمعان متعددة ، فتخصيصُها بالنجاسة الحسية في رفع الحدث يحتاج إلى مخصِّص ولا مخصِّص. بل إن عندنا أحاديث تنفي النجاسة الحسية عن المسلم وهو جُنُب، وعن المرأة وهي حائض، ونمثِّل للحالتين بما يلي:
أ- روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيه وهو جُنُب فحاد عنه، فاغتسل ثم جاء فقال: كنت جُنُباً ، قال : إن المسلم لا ينجَس» رواه مسلم . ورواه أحمد والبخاري من طريق أبي هريرة.
ب - وعن عائشة رضي الله عنها قالت «قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناوليني الخُمْرةَ من المسجد، قالت : فقلت : إني حائض ، فقال: إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم وأبو داود وأحمد.
ج - وعن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أشرب وأنــا حائـض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم، فيضع فاه على موضع فِيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فِيَّ» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ورواه أبو داود بتقديم وتأخير.
فالحديث الأول يدل بمنطوقه على أن الجُنُب غير نجس، والحديثان الثاني والثالث يدلان بمفهومهما على أن الحائض ليست نجسة، وإذن فمجيء الأحاديث بألفاظ الطهارة والتَّطهُّر على إزالة الجنابة لا يعني أنَّ الطهارة والتطهُّر يعنيان إزالة النجاسة، وإنما يعني شيئاً آخر هو التخلص من الآثام وإزالة المانع من الصلاة، يدل عليه الحديث التالي: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلمقال «إذا توضأ العبدُ المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قَطْر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قَطْر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب» رواه مسلم ومالك. وروى الدارمي جزءاً منه . فالوضوء يغسل الخطايا والذنوب وليس النجاسة كما يتوهَّمون.
ثم إن المسلم لو كان بالوضوء يتطهَّر من النجاسة، لقلنا إنه نجسٌ قبل الوضوء، وهذا منافٍ لقوله عليه الصلاة والسلام وقد مرَّ «إن المسلم لا ينجَس» ولكان مَن يلمسُه من المسلمين يتنجس وهذا لا يقوله مسلم . وبذلك يسقط الاحتجاج بهذه القاعدة ويسقط الرأي المبني عليها، هذا إضافةً إلى أنها حكمٌ عقليٌّ محض (إذ تطهير الطاهر لا يُعقل) والأحكام الشرعية لا تُستمدُّ من العقل، وإنما تستنبط من نصوص الشرع.
وأخيراً نقول إن كل الردود التي أوردناها على أصحاب الرأي الأول هي ردود على أصحاب هذا الرأي، وبذلك يظهر أنه لا وجه لقول من يقول بعدم طُهورية الماء المستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر من أصحاب الرأي القائلين بطهارته دون طُهوريته، ومن أصحاب الرأي الذين تطرَّفوا فقالوا بنجاسته . والصواب هو أن الماء المستعمَل في رفع الحدث طاهر مطهِّر طَهور، وهذا هو رأي الفريق الثالث، وقد بانت صحته.
8- وعوداً على بدء نقول إنهم قسموا الماء إلى ستة أقسام هي: الماء الطَّهور والماء الطاهر والماء النجس والمستعمَل الطَّهور والمستعمَل الطاهر والمستعمَل النجس. وقد بينا القسم الأعظم ، وبقي القليل.
لقد قالوا إن الماء المستعمَل في رفع الحدث إذا كان في المرة الثانية أو الثالثة في الوضوء يظل طَهوراً ، على خلافٍ بينهم، لأنه لم يُستعمل في رفع الحدث ، بل الحدث ارتفع في الغسلة الأولى لأعضاء الوضوء ، أما الثانية والثالثة فليستا واجبتين ، وبالتالي لم تشاركا في رفع الحدث ، فيظل الماء المستعمَل بهما طَهوراً أشبه ماء التبرُّد. وذلك يعني أنهم اشترطوا في الماء المستعمَل الذي يفقد طُهوريته أن يكون مستعمَلاً في الأغسال الواجبة دون المسنونة (على خلاف بينهم كما قلت) .
فالوضوء واجب ويحصل الوجوب بغسلته الأولى وما سواها فمستحبة، وأغسال الجنابة والحيض والنفاس واجبة، وبهذه الأغسال الواجبة يفقد الماء المستعمَل فيها طُهوريته. هكذا يُفرِّعون وهكذا يفكِّرون دون أن يأتوا بأي دليل من القرآن أو الحديث. ولا بأس بأن أعرض عليكم صورة لهذه التفريعات لتجدوا فيها الخلافات والآراء المختلفة دون وجود أدلة تدل عليها. قال ابن قُدامة في كتاب المغني ما يلي (وجميع الأحداث سواء فيمـا ذكرنا - الحدث الأصغر والجنابة والحيض والنفاس، وكذلك المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته، واختلفت الرواية في المنفصل عن غسل الذمية من الحيض، فرُوي أنه مُطهِّر لأنه لم يُزل مانعاً من الصلاة أشبه ماءً تبرَّد به، ورُوي أنه غير مطهِّر لأنها أزالت به المانع من وطء الزوج، أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة، فإن اغتسلت به من الجنابة كان مُطهراً وجهاً واحداً، لأنه لم يُزل مانعاً من الصلاة ولا استُعمل في عبادة أشبه ما لو تبرَّد به - ويحتمل أن يُمنع استعماله لأنه استُعمل في الغُسل من الجنابة، أشبه ما لو اغتسلت به مسلمة . [فصل] وإن استعمل في طهارة مستحبة غير واجبة كالتجديد والغسلة الثانية والثالثة في الوضوء والغسل للجمعة والعيدين وغيرهما ففيه روايتان [إحداهما] أنه كالمستعمَل في رفع الحدث لأنها طهارة مشروعة أشبه ما لو اغتسل به من جنابة، [والثانية] لا يمنع لأنه لم يُزِل مانعاً من الصلاة أشبه ما لو تبرَّد به، فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر استعمال الماء فيها شيئاً وكان كما لو تبرَّد به أو غسل به ثوبه، ولا تختلف الرواية أن ما استُعمل في التَّبرُّد والتنظيف أنه باق على إطلاقه، ولا نعلم فيه خلافاً. [فصل] فأما المستعمل في تعبُّد من غير حدث كغسل اليدين من نوم الليل فإن قلنا ليس ذلك بواجب لم يؤثر استعماله في الماء، وإن قلنا بوجوبه فقال القاضي هو طاهر غير مطهِّر ، وذكر أبو الخطاب فيه روايتين [إحداهما] أنه يخرج عن إطلاقه لأنه مستعمل في طهارةِ تعبُّدٍ أشبه المستعمَل في رفع الحدث، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يغمس القائم من نوم الليل يده في الإناء قبل غسلها فدل ذلك على أنه يفيد منعاً [والرواية الثانية] أنه باقٍ على إطلاقه لأنه لم يرفع حدثاً أشبه المُتبرَّد به، وعلى قياسه المستعمَل في غسل الذكر والأنثيين من المذي إذا قلنا بوجوبه لأنه في معناه). وليس عندي من تعليق على ما سبق فيما يتعلق بالماء المستعمَل أفضل من كلمة قالها الشوكاني في نيل الأوطار (وللحنفية والشافعية وغيرهم مقالات في المستعمَل ليس عليها أثارةٌ من علم وتفصيلاتٌ وتفريعاتٌ عن الشريعة السمحة السهلة بمعزل، وقد عرفت بما سلف أن هذه المسألة أعني خروج المستعمَل عن الطُّهورية مبنية على شفا جُرُفٍ هارٍ).
يتبع /6

تقي بن فالح
18-11-2017, 06:27 PM
الماءُ المستعمَل6
رابعاً : قلنا في بداية البحث ما يلي: [الماء المستعمَل قسمان : قسم مستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر ، وقسم مستعمَل فيما سوى ذلك، ونحن سنناقش القسم الأول ثم ننتقل لمناقشة القسم الثاني] وها قد فرغنا من مناقشة القسم الأول، وهو الماء المستعمَل في رفع الحدث الأكبر والحدث الأصغر، وتوصلنا إلى الرأي القائل بأن المستعمَل في رفع الحدث بقسميه طاهر طَهور. وننتقل الآن إلى موضوع القسم الثاني، وهو الماء المستعمَل فيما سوى رفع الحدث.

الماء المستعمَل في غير رفع الحدث يُحصر في حالات ثلاث، حالة إزالة النجاسة، وحالة إزالة القذارة والأوساخ، وحالة ثالثة غير هاتين الحالتين:

1- أما الماء المستعمَل في إزالة النجاسة فنقول فيه: إذا حمل محلٌ كثوبٍ مثلاً نجاسةً وأُريد تطهيره بالماء وأخذنا في صبِّ الماء عليه نُظر ، فما انفصل عن المحلِّ والنجاسةُ باقيةٌ فهو نجس، سواء تغير بالنجاسة تغيراً ظاهراً أو خفيفاً، لأن الماء إذا كان دون قُلَّتين، وأصابته نجاسة ولو يسيرة تنجس لحديث القُلَّتين، وهذا ماء أصابته نجاسة، فصار نجساً. أما ما انفصل بعد ذهاب عين النجاسة فقد مرَّ على مكان طاهر، ولم يتغير بنجاسة ولم تصبه ولم يُسلَب اسمُه ولم تتغير أوصافه، فيظل طَهوراً على أصله.

أما إذا كانت النجاسة واقعة على الأرض ، فإن الماء الذي يُراق عليها بحيث يزيل أثرها يُتجاوَز عن حاله، ويُحيل المكان طاهراً، ودليل ذلك حديث بول الأعرابي الذي رواه أنس بن مالك قال «بينما نحن في المسجد مع رسول الله  إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه مه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تَزْرِمُوه، دعوه ، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القَذَر، إنما هي لذِكْرِ الله عزَّ وجلَّ والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال: فأمر رجلاً من القوم فجاء بدلوٍ من ماء فشنَّه عليه» رواه مسلم والبخاري وأحمد وابن حِبَّان.

2- وأما الماء المستعمَل في التنظيف من القذارة والوسخ فيُنظَر فيه، فإن كان الماء الذي أزيلت به قذارة المحل كالثوب مثلاً وقد تلطخ بالأوساخ قد انفصل عنه وقد تغير كثيراً من القذارة، بحيث غلبت على اسمه وغيرت أوصافه، فإنَّ ما انفصل لا يُعدُّ ماء، وأما إن هو انفصل عن المحل وقد تغير قليلاً أو لم يتغيَّر فإنه يظل على أصله من الطُّهورية سواء بقيت القذارة أو لم تبق.

3- وما سوى هاتين الحالتين من استعمالات الماء فإن ظل الماء ماء، أي لم يتغير وصفه ولا سُلب اسمه، بقي طَهوراً دونما حاجة إلى تفصيل، وما سوى ذلك لا يكون ماء. ولْنكتف بمثال واحد عليه: إذا وضعنا حبوب الحمَّص في إناء فيه ماء لتطريتها قبل أكلها، ثم أخرجناها بعد فترة من الإناء ، ونظرنا في الماء، فإن وجدناه ماء لم يتغيَّر وصفه وظل يحمل اسمه، ولم تخالطه الصُّفْرة كثيراً حكمنا عليه بالطُّهورية على أصله، وأما إن وجدنا الماء قد صار أصفر ظاهر الصُّفْرة ، أو شممنا رائحته فوجدناها رائحة الحمص المنقوع ، أو ذقناه فوجودنا له طعماً ، حكمنا عليه بأنه ماء حمص، وأخرجناه آنذاك من أقسام الماء، وهكذا في كل استعمالٍ للماء. ودليل هذه المسألة حديث الرسول صلى الله عليه وسلم «الماء طَهور» وهو ما سبق وبيناه عند تحقيق مناط الماء.

هذه هي حالات استعمال الماء في غير العبادات ، وبالتدقيق فيها يتبين أن الماء في الأمثلة الثلاثة لا يخرج عن إحدى حالات ثلاث ، إما أن يظل ماء طَهوراً ، وإما أن يصير ماء نجساً، وإما أن يخرج عن كونه ماء، وبذلك يظهر تماماً من هذه الاستعمالات أيضاً أنه ليس للماء سوى حالتين أو قسمين لا غير: إما أن يكون طَهوراً، وإما أن يكون نجساً وبذلك أيضاً نكون قد فرغنا من تحديد أنواع الماء، وتوصلنا إلى اختصار الأنواع الستة إلى اثنين فقط، هما الطَّهور والنجس.
يتبع..........تطبيقاتٌ على الماء

تقي بن فالح
20-11-2017, 02:25 PM
تطبيقات على الماءُ
.
1- قلنا إن الماء إذا بلغ قُلَّتين فأكثر لا ينجس ، ونريد الآن أن نبين مقدار القُلَّتين، فنقول: إن القُلَّتين تعادلان اثنتي عشرة تنكة أو صفيحة مما نستعمله هذه الأيام لحفظ الزيت فيه. وقد وجدتُ البيهقي يروي عن ابن جُرَيْج - وهو عبد الملك بن عبد العزيز فقيه الحرم المكي في القرن الثاني للهجرة - قوله (وقد رأيت قِلال هَجَر، فالقُلَّة تسع قِربتين، أو قِربتين وشيئاً ) وأضاف، أي البيهقي (قال الشافعي: كان مسلم يذهب إلى أن ذلك أقل من نصف القربة، أو نصف القربة، فيقول خمسُ قِرَب هو أكثر ما يسع قُلَّتين وقد تكون القُلَّتان أقل من خمس قِرَب، قال الشافعي: فالاحتياط أن تكون القُلَّة قربتين ونصفاً فإذا كان الماء خمس قِرَب لم يحمل نجساً...) إذن فالقُلَّتان خمس قِرب، وقدَّرها الخبراء - أي القِرَب الخمس - باثنتي عشرة تنكة، وهذه تعادل برميلاً كبيراً تقريباً، فإذا وُجد ماءٌ مِلءَ برميل وبال فيه شخص، أو سكب فيه دماً، أو ألقى فيه ميتةً ظل الماء طَهوراً، إلا إذا تغير وصف الماء، فإذا لم يتغير وصفُه ولا سُلب اسمُه ظل الماء على أصله من الطَّهارة.
2- ما دون قُلَّتين - أي ما دون برميل - إذا وقعت فيه نجاسة نجَّسته، ووجبت حينئذ إراقتُه، قليلةً كانت النجاسة أو كثيرةً، فلو قُطر فيه بضعُ قَطَرات من بولٍ تنجَّس دون اعتبارٍ لتغيُّر اللون أو الطعم أو الرائحة، ويُستثنى من ذلك حالة ما إذا وقعت فيه نجاسة جدُّ يسيرة كنقطة بول واحدة أو نقطة دم واحدة ، أو وقع فه صرصور أرجلُه ملطَّخةٌ بنجاسة، ففي مثل هذه الحالة لا ينجس الماء بل يظل طهوراً. وكذلك إذا وقع في الماء من الدوابِّ ما لا دمَ سائلاً له، كالذبابة والجُنْدُب والخنفساء وأشباهها فإن الماء يظل طَهوراً ، لما روى أبو هريرة أن رسول الله  قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فلْيغمسه كله ثم ليطرحه، فإن في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً » رواه البخاري وأبو داود. ولما رُوي عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله  «أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد ...» رواه أحمد وابن ماجة. وسيأتي بتمامه.
دلالة الحديث الأول أن رسول الله  لا يأمر بإراقة الطعام الذي يقع فيه الذباب، ولو كان الطعام يتنجس بوقوعه فيه لما أذن بأكله، ودلالة الحديث الثاني أن الجراد وهو ميت يُؤكل، ولو كان يتنجس بالموت لما جاز أكله، وهكذا كل الدوابِّ التي لا دم سائلاً لها ، فكلها طاهرة حيَّة وميتة . وقد روى البيهقي عن إبراهيم النخعي أنه رخَّص في الخنفساء والعقرب والجراد والجُدْجُد إذا وقعن في الرِّكاء فلا بأس به، وقال البيهقي (روينا معناه عن الحسن البصري وعطاء وعكرمة).
ومن زاوية أخرى فإنه إذا وقع أي حيوان سوى الكلب والخنزير في الماء وخرج حياً ظل الماء على أصله من الطهارة ، سواء أكان فأراً أم قطاً أم طيراً ، لأن جميع الحيوانات الحية طاهرة باستثناء الكلب والخنزير . أما إن وقع فيه الحيوان فمات نُظر، فإن كان من الذباب أو العقارب أو الخنافس أو الصراصير- ومثلها جميع الحيوانات البحرية كالسمك والسرطانات - ظل الماء طاهراً قليلاً كان أو كثيراً ، أما إن كان مما سوى هذه الأصناف التي يطلق عليها وصف [ما ليست لها نفسٌ سائلة] ومثلُها الحيوانات البحرية، إن هي وقعت في الماء فماتت، تنجس الماء وفقد طهارته. وإذا شربت من الماء القليل الحيواناتُ كلها سوى الكلب والخنزير، ظل الماء طَاهراً لا فرق بين الهرة والحمار والضبع وغيرها وسيأتي دليل ذلك في بحث [سُؤْر الحيوان] .
3- الماء الآجِن، وهو الماء الذي يظهر عليه تغيُّرٌ نتيجة طول المكث، ومثله الماء العَكِر، كلاهما طاهر طَهور ما داما يحملان اسم الماء. قال ابن المنذر (أجمع كل من يُحفظ قوله من أهل العلم على أن الوضوء بالماء الآجن من غير نجاسة حلَّت فيه جائز غير ابن سيرين فإنه كره ذلك، وقول الجمهور أولى، فإنه يُروى أن النبي  توضأ من بئرٍ كأنَّ ماءها نُقاعة الحنَّاء) وقال ابن قدامة في كتاب المغني (وحكى ابن المنذر عن الزُّهري في كِسَرٍ بُلَّت بالماء غيرت لونه أو لم تغير لونه لم يتوضأ به، والذي عليه الجمهور أولى لأنه طاهر لم يُغيِّر صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات إذا لم تغيره، وقد اغتسل النبي  وزوجته من جَفْنة فيه أثر العجين، رواه النَّسائي وابن ماجة والأثرم) .
4- الأصل في الماء الطُّهورية، ولذا فإنَّ المسلم إن شكَّ في نجاسة الماء أيِّ ماء، لم يمنعه الشك من التوضُّؤ به وإزالة النجاسات به، سواء وجده متغيراً أو غير متغير، إلا إذا غَلَب التغيُّرُ عليه وسلبه اسمه، وعلى هذا فإن ماء الميازيب طاهر طَهور ولو كان متغيِّراً ، لأن المارَّ في الطريق لا يتيقَّن من نجاسته أو طهارته فيبني على الأصل، ولا يجب على المارِّ أن يسأل صاحب الميزاب عن الماء النازل إن كان طاهراً أو نجساً.
وإذا كان المسلم في مكان وليس عنده سوى إنائي ماء، وأُخبر بأن أحدهما نجس دون تعيين والثاني طاهر وأراد أن يتوضأ، لم يَجُز له التوضؤ من أيِّ من الإناءين، بل يجب عليه إراقتهما وأن يتيمَّم، لأنه ربما توضأ بالنجس فيتنجس ولا يرتـفع حدثه، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن عند المسلم سوى ثوبين أحدهما نجس والآخر طاهر دون تمييز بينهما وأراد الصلاة، فإنه يلبس أحدهما ويصلي، ثم يخلعه ويلبس الآخر ويصلي، ففي هذه الحالة يكون قد ضمن لنفسه صلاة على الوجه الصحيح.
5- إذا جاء مسلم إلى حوض ماء فأخبره فاسق أو كافر أو صبي أو مجنون أن الماء نجس لم يَقبل قولهم، لأن هؤلاء ليسوا أهلاً للشهادة، أما إن أخبره بنجاسة الماء من هو أهلٌ للشهادة، وهو المشهود له بالعدالة، أو كان غير مجروح العدالة من الرجال أو النساء، وجب عليه قبول خبره إن هو عيَّن سبب النجاسة ، أما إن وصف الماء بالنجاسة دون بيِّنة، فإن المسلم لا يجب عليه قبول قوله، لأن هذا المُخبِر ربما جهل أسباب النجاسات، أو لم يكن متيقناً من نجاسة الماء، وحكم على الماء بالنجاسة خطأً.
6- إذا تنجس ماء وأُريد تطهيرُه وإزالةُ نجاسته نُظر، فإن كــان دون قُلَّتين، أي دون برميل، نُظر، فإن كان غير متغيرٍ بالنجاسة فيكفــي أن يضاف إليه مــاء طاهــر حتــى يبلـغ قُلَّتين، أي برميلاً ، فيصبح المــاء طاهــراً كله، وإن كان الماء متغيراً بالنجاسة صب عليه الماء حتى يبلغ قُلَّتين، أي برميلاً ، فإن زال التغير فقد زالت النجاسة، وإن لم يزُل التغير يُزَد المــاء حتــى يزول التغير دون اعتبارٍ للكمية المضافـة. أما إن كان الماء قُلَّتين، أي برميلاً فأكثر، فإنه لا ينجس بوقوع النجاسة فيه ، إلا أن تغيِّره، فإن لم يتغير بقي على أصله من الطَّهارة، وإن هو تغير بالنجاسة أُضيف إليه ماء حتى يزول التغيُّر دون اعتبارٍ للكمية المضافة. ولا فرق في كل ذلك بين أن يُصَبَّ الماء النجس علـى الماء الطاهر أو الطاهرُ على النجس، كما لا فرق بين الصَّبِّ دفعة واحدة وبين الصَّبِّ بالتدريج، فكل ذلك سواء.
يتبع..........سُؤْر الحيوان

تقي بن فالح
21-11-2017, 10:40 AM
سؤر الحيوان
.السُّؤْر - بالهمز - هو ما يبقى في الإناء بعد شرب الحيوان، أو أكله منه. قال النووي (مُرادُ الفقهاء بقولهم - سُؤر الحيوان طاهر أو نجس - لعابُه، ورطوبةُ فمه). وقال ابن المنذر (أجمع أهل العلم على أن سُؤر ما أُكل لحمه يجوز شربُه والوضوءُ به) . وهذا يعني أن سُؤر الإبل والأغنام والأبقار والغزلان وأمثالها طاهر يجوز استعماله في سائر استعمالات الماء. وافترقوا فيما سوى ذلك على ثلاثة آراء:
أ- ذهب أبو حنيفة والثوري وإسحق بن راهُويه والشعبي وابن سيرين إلى نجاسة أسآر السباع من الحيوان والجوارح من الطير والحُمُر الأهلية والبغال، واستدلوا على رأيهم بالأدلة الآتية:
1- عن عبد الله بن عمر قال «سمعت رسول الله صلى الله غليه وسلم وهو يُسأل عن الماء يكون في الفلاة من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب، قال : فقال رسول الله صلى الله غليه وسلم : إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» رواه الترمذي وأحمد وأبو داود. فقالوا: لولا أن سُؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام هذا القول، لأن السُّؤر لو كان طاهراً لما كان لقوله عليه الصلاة والسلام «إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث» معنى ولكان عبثاً، فدل قوله هذا على نجاسة سُؤر السباع والدواب .
2- عن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله غليه وسلم «السِّنَّوْر سَبُع» رواه البيهقي وأحمد والدار قطني. واستدلوا به على نجاسة الهرة، لأن الهرة كما جاء في الحديث سبع، والسبع كما جاء في حديث القُلَّتين سُؤره نجس.
3- عن أنس قال «لما فتح رسول الله صلى الله غليه وسلم خيبر، أصبنا حُمُراً خارجاً من القرية فطبخنا منها، فنادى منادي رسول الله صلى الله غليه وسلم : ألا إنَّ الله ورسوله ينهيانكم عنها فإنها رجس من عمل الشيطان، فأُكْفِئت القدور بما فيها، وإنها لتفور بما فيها» رواه مسلم والبخاري . فاستدلوا بقوله عن الحمير وهي هنا الأهلية «فإنها رجس» على أن الحمير نجسة.
4- وقالوا إن السباع حيوانات حُرِّم أكلها، مثلها مثل الكلاب، ولأن السباع والجوارح الغالب عليها أكل الميتات والنجاسات فتنجس أفواهها، ولا يتحقق وجود مطهِّرها.
ب- وذهب مالك والأوزاعي وداود إلى طهارة أسآر جميع الحيوانات والطيور دون استثناء حتى الكلب والخنزير. وذهب الزُّهري إلى كراهة سُؤر الكلب وقال: يتوضأ به إذا لم يجد غيره. وذهب ابن الماجَشُون إلى كراهة سُؤره وقال: يتوضأ به ويتيمَّم. واستدلوا على رأيهم بالأدلة التالية:
1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «سُئل رسول الله صلى الله غليه وسلم عن الحياض التي تكون فيما بين مكة والمدينة، فقيل له إن الكلاب والسباع ترد عليها فقال: لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدار قطني. ورواه الطبراني من طريق سهل. والبيهقي من طريق أبي سعيد.
2- عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله غليه وسلم « أنه سُئل: أنتوضأ بما أفضلت الحُمُرُ؟ قال: نعم وبما أفضلت السباعُ كلها» رواه الشافعي والبيهقي.
3- عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب « أن عمر بن الخطاب خرج في رَكْب فيهم عمرو بن العاص حتى وردوا حوضاً، فقال عمرو بن العاص لصاحب الحوض: يا صاحب الحوض هل تَرِدُ حوضَك السباعُ ؟ فقال عمر بن الخطاب: يا صاحب الحوض لا تخبرنا، فإنَّا نَرِدُ على السباع وتَرِدُ علينا » رواه مالك والبيهقي والدار قطني.
4- عن ابن عمر قال «خرج رسول الله صلى الله غليه وسلم في بعض أسفاره فسار ليلاً، فمرُّوا على رجل جالس عند مِقْراةٍ له - وهو الحوض الذي يجتمع فيه الماء - فقال عمر: يا صاحب المِقراة أَوَلَغت السباعُ الليلة في مِقْراتك؟ فقال له النبي ïپ²: يا صاحب المِقْراةِ لا تخبره، هذا متكلِّف، لها ما حملت في بطونها، ولنا ما بقي شراب وطَهور» رواه الدار قطني.
5- عن كبشة بنت كعب «أن أبا قتادة دخل عليها ثم ذكرت كلمة معناها فسكبت له وَضوءاً، فجاءت هرة فشربت منه فأصغى لها الإناء حتى شربت، قالت كبشة: فرآني أنظر إليه، فقال: أتعجبين يا ابنة أخي؟ فقلت: نعم، قال : إن رسول الله ïپ² قال: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات» رواه النَّسائي ومالك وأبو داود وأحمد وابن ماجة . ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح . وصححه العُقَيلي والبخاري والدار قطني وابن حِبَّان وابن خُزَيمة والحاكم.
6- وعن حديث ولوغ الكلب قالوا : إن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بغسل الإناء سبعاً إحداهن بالتراب تعبُّداً وليس لإزالة النجاسة ، وإن الخنزير لم يرد في نجاسته نص، وحيث أنه لا نصَّ في نجاسة أي حيوان ، فيبقى الحِل والطهارة على الأصل.
ج - وذهب الشافعي وأحمد وربيعة والحسن البصري وعطاء، ومن الصحابة عمر وعلي إلى طهارة أَسْآر جميع الحيوانات والطيور سوى الكلب والخنزير، إلا أن أحمد كره سُؤر البغل والحمار وقال: إذا لم يجد المسلم غيره يتوضأ به ويتيمَّم. وكره ابن عمر سُؤر الحمار، وكره ابن أبي ليلى سُؤر الهرة ، واعتبر ابن المنذر وطاووس سُؤر الهرة نجساً. واستدلوا على رأيهم بالأحاديث الخمسة الأولى التي استشهد بها الفريق الثاني، وفارقوهم في البند السادس. وسيأتي تفصيل ذلك في أثناء مناقشة رأي الفريق الأول ورأي الفريق الثاني بإذن الله . وأبدأ بمناقشة رأي الفريق الأول فأقول:
يتبع

تقي بن فالح
22-11-2017, 09:53 AM
1- من استعراض أدلة هذا الفريق يتبين أن ما يصح اعتباره دليلاً هو الحديث الأول فحسب، والمستغرب أن هؤلاء قد رفضوا هذا الحديث حين بحث الماء النجس والماء الطَّهور، واعتبروه ضعيفاً للاضطراب في سنده وفي متنه، وها هم الآن يحتجون به على ما ذهبوا إليه من نجاسة سُؤر السبع والجارح من الطير، وسنغض الطرف عن هذا التناقض الواضح بين الموقفين. هذا الحديث له منطوق وله مفهوم ، أما منطوقه فهو أن الماء الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس بحلول النجاسة فيه ، وهذا المنطوق لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب، وأما مفهومه فهو أن الماء الذي يقل عن قُلَّتين يتنجس بحلول النجاسة فيه، وهذا المفهوم أيضاً لا يسعفهم في القول بنجاسة سؤر السباع والدواب. أما قولهم: لولا أن سؤر السباع والدواب نجس لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، فنجيبهم بأننا لا نسلِّم لهم بهذا الاستنتاج ، إذ هناك أمر آخر أراده الرسول صلى الله عليه وسلم، هو إعطاء المسلمين قاعدة عامة في المياه تقول إن الماء الكثير الذي يبلغ قُلَّتين لا يتنجس ، دون أن يذكر إنْ كان سُؤر السباع والدواب نجساً أو لا، ولو أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى الذي يقولونه لبيَّنه.
ومن ناحية أخرى نقول : إن قولهم محتمل وليس قطعياً، والقاعدة الأصولية تقول: مع الاحتمال يسقط الاستدلال. وإذن فإن هذا الحديث ليس دليلاً على نجاسة سؤر السِّباع والدواب، وإنَّ أقصى ما يقال فيه إن فيه شبهة دليل فحسب. والآن لننتقل إلى الأدلة الأخرى.
أما الحديث الثاني فهو لا يفيدهم شيئاً ، وغاية ما فيه أن الهرة حكمها حكم السباع، وهذا مسلَّم به، لأن واقع الهرة أنها سبُع ، وأنها من الحيوانات المفترسة ذوات الناب، وحكمها حكم السباع سواء بسواء، ولكنهم أفردوه بالاستشهاد ليُقوُّوا رأيهم في نجاسة سُؤر السباع، إلا أن ذلك لا يُلحَظ، إذ لا يفيد هذا الحديث حكماً، لا بالطهارة ولا بالنجاسة، فليس فيه أن سُؤر الهرة نجس ليقيسوا عليه أسآر السباع ويخرجوا بحكم نجاستها، وكل ما فيه أنه ذكر فرداً من أفراد السباع فقط وسكت عن الحكم، فأيَّة دلالة فيه على ما يدَّعون ؟! إنْ ثبت أنَّ حكم سُؤر السباع الطهارة انسحب هذا الحكم على سُؤر الهرة، وإن ثبت أن سُؤر السِّباع نجس، انسحب ذلك على سُؤر الهرة، وهذا مسلَّم به بدون هذا الحديث، فكان الأَوْلى بهم عدم الاستشهاد به.
أما الحديث الثالث فهو ليس حجة لهم على دعواهم، فهم يريدون إثبات أن سُؤر الحمير نجس، ولا يتحقق لهم ذلك إلا بطريقتين لا غير: فإما أن يأتوا بنصٍّ يتناول سُؤر الحمير يبين نجاسته، وإما أن يثبتوا أن الحمير نفسها نجسة فيستنبطوا من ذلك نجاسة سُؤرها. هذا هو ما يحتاجون إليه. وبالعودة إلى الحديث لا نجد فيه أياً من الطريقتين، فالحديث ذكر حادثة حصلت مع الصحابة في غزوة خيبر . ولنفسِّر هذا الحديث تفسيراً يزيل اللَّبس تماماً إن شاء الله.
كان المسلمون يستحلُّون أكل لحم الحمير ، فكانوا يذبحونها ويطبخونها ويأكلونها لأنها حلال لهم طاهرة عليهم ، فحينما نزل حكم التحريم نزل وهم في حالة ذبح الحمير ووضعِها في القدور وطبخِها، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس من عمل الشيطان» فالقول إنها رجس إنما نزل على لحم الحمير المذبوح المطبوخ وليس على الحمير وهي حية ، إذ المعلوم أن الحمير حين كانت حلالاً كانت طاهرة وهي حية، وكانت طاهرة وهي مذبوحة مُذَكَّاة، ولكنها كانت نجسة وهي ميتة لأن الميتة نجسة بالاتفاق لا أعلم أحداً خالف في هذا. فالحمير وهي حلال الأكل ومذبوحة طاهرة بالاتفاق أيضاً، أما عندما تكون الحمير غير حلال الأكل وماتت أو ذُبحت أو كما يقولون ذُكِّيت فإن ذبحها وذَكاتها لا يجعلانها طاهرة، بل تكون نجسة لأنها تكون ميتة. أرأيتم لو ذكَّينا فأرة أو ذبحناها وسمَّينا عليها أتكون بذلك طاهرة حلال الأكل ؟ قطعاً لا، وهذا لا يخالف فيه أحد أيضاً، فالحمير في هذا الحديث جاء حكمٌ بتحريم أكلها، وإذن فإن ذبحها وذَكاتها - وهي حرامٌ أكلُها - لا يُحِلاَّنها ولا يجعلانها طاهرة، وإنما تأخذ حكم النجاسة لأنها تكون ميتة، وحكمهما في هذه الحالة البطلان. أي أن الذبح لِمُحرَّم الأكل لا يفيد شيئاً، بل يكون المذبوح نجساً لأنه ميتة، فذبح النمر يبقيه نجساً، وذبح النسر يبقيه نجساً، وهذا معلوم بالضرورة، فما جاء به الحديث إنما هو إبطال حكم الحِلِّ للحم الحمير والإعلان بالتحريم، وبذلك يسقط حكم الذبح والذكاة عما كان في قدروهم، ويصير المذبوح من الحمير ميتة والميتة نجسة، فجاء قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنها رجس» فالقول إنها رجس هو بوصفها ميتة، لأن ما حُرِّم أكلُه لا يعطيه الذبح طهارة ولا يفيده حِلاَّ، بل يظل حراماً ويظل نجساً.
هذا هو ما يُفهم من الحديث، فالاستشهاد بالحديث على نجاسة الحمير هو استشهاد باطل، فالحديث جاء في نجاسة الميتة، وألحق لحم الحمير الميتة بها، وهذا ينسحب على الشاة الميتة، وعلى الجمل الميت، وعلى الغزال الميت، فكلها وهي ميتة نجسة، وكلها وهي حية طاهرة . ولذا يسقط استشهادهم بهذا الحديث على دعواهم.
بقي الاستشهاد الأخير وهو قياسُهم السباع على الكلب وإعطاؤُها حكمَه ، وزادوا على ذلك أنها - أي السباع - تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها، فتكون لذلك نجسة. وردُّنا عليهم أن القياس في العبادات لا يجوز إلا أنْ تكون العلة ظاهرة في النص، ولا علة ظاهرة هنا. وإن كان لا بد لهم من القياس هنا فإنه يتوجب أن يتوفَّر في طرفيه التماثل وإلا فلا قياس، فالكلاب نجاسة أسآرها مغلَّظة تجب إزالتها بغسل ما أُصيب بها سبع مرات مع التراب، وهذا مسلَّم به عندهم فلماذا لا يقولون بوجوب إزالة نجاسة أسآر السباع كالأسود والصقور والنمور بالغسل سبعاً مع التراب؟ إن الاختلاف بين الكلب وسائر السباع اختلاف ظاهر يلغي التماثل الذي هو شرط لصحة القياس، فالواجب عليهم أن يقولوا إن السباع كالكلب تأخذ سائر أحكامه في النجاسة، وحينئذ يكون للقياس وجه، أما إنْ هم اعترفوا بوجود اختلاف بينها وبين الكلب، فعندئذ يمتنع القياس.
أما قولهم إنها تأكل النجاسات ولا مُطهِّر لها فتكون نجسة، فنردُّ عليهم بأن الضِّباع تأكل النجاسات لأنها حيوانات مفترسة طعامها الجِيَف النجسة، وهي لا مُطهِّر لها أيضاً، فلماذا أحلَّ الله لنا أكلها، واعتُبرت من ثَمَّ طاهرة كالشياه والبقر والإبل ؟ عن ابن أبي عمَّار قال «قلت لجابر: الضَّبُعُ أصيدٌ هي؟ قال: نعم، قلت : آكُلُها ؟ قال: نعم ، قلت: أقاله رسول الله ؟ قال : نعم» رواه الترمذي وأحمد و النَّسائي. قال الترمذي (هذا حديث حسن صحيح) . وبذلك تسقط حججهم، ولا يبقى لهم إلا شُبهتهم فحسب في الحديث الأول.
2 - أما أصحاب الرأي الثاني فقالوا بطهارة أسآر كل الحيوانات بما فيها الكلب والخنزير. ومن استعراض أدلتهم يتبين أن الدليل الثالث هو قولٌ لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، أي أن الحديث موقوف، وأقوال الصحابة ليست أدلة وإنما هي أحكام شرعية يجوز تقليدها، هذا فضلاً عن أن إسناده منقطع ، فيحيى لم يدرك عمر كما قال النووي. وقال يحيى ابن معين: يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل. لهذا فإنه لا يصلح للاستدلال فنطرحه ونطرح كذلك الحديث الثاني الذي رواه الشافعي والبيهقي لأنه ضعيف جداً. قال النووي (هذا الحديث ضعيف لأن الإبراهيمَين ضعيفان جداً عند أهل الحديث لا يُحتج بهما).
أما الحديث الأول والحديث الرابع فيكادان يكونان حديثاً واحداً، إذ لفظ الرسول عليه الصلاة والسلام فيهما لفظ واحد ، فنعاملهما معاملة حديث واحد. هذا الحديث وإن ضعَّفه بعضهم فقد حسَّنه البيهقي فيصح الاحتجاج به، وهو دليل على طهارة أسآر السباع، ودلالته واضحة، ومثله في وضوح الدلالة الحديث الخامس ، فالهرة حيوان مفترس، وسبع من السباع آكلةِ الجيف، وكون الحديث يقرِّر طهارة سُؤرها، فذلك دليلٌ على طهارة أسآر السِّباع.
ثم ما لنا نبتعد كثيراً فنبحث عن دليلٍ على طهارة أسآر السباع، وكأن طهارة الأشياء بحاجة إلى دليل ، فالشرع قد أعطى حكم الطهارة لكل شيء إلا ما استثناه، وأسآر الدواب والسباع هي أشياء داخلة في عموم الأشياء الطاهرة، فعلى من يقول إنها نجسة أن يأتينا بدليل، لا أن نُجهد أنفسنا في إثبات طهارتها والبحث عن الأدلة لذلك.

تقي بن فالح
22-11-2017, 09:57 AM
نخلص من كل ذلك إلى أن أسآر البهائم والسباع والدواب طاهرة، وباستثناء الكلب والخنزير يلتقي أصحاب هذا الرأي مع أصحاب الرأي الثالث في طهارة أسآر جميع الحيوانات. وإذن فإن المناقشة الآتية في حكم سُؤر كلٍّ من الكلب والخنزير ستتناول كلا الرأيين في وقت واحد:
3- قولهم في حديث ولوغ الكلب إن الأمر بغسل الإناء سبعاً معها التراب هو أمرٌ تعبُّدي وليس بسبب النجاسة ، هذا القول أراه خطأ . نعم ربما قبلنا رأيهم هذا لو كان الحديث الشريف يطلب الغسل فقط ، أما وأن الحديث وردت في رواية له عبارة (فَلْيُرِقْه) مضافةً إلى الأمر بالغسل، فإننا لذلك لا نستطيع قبول رأيهم هذا، وهذه العبارة وردت في الحديث الذي رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرِقْه، ثم ليغسله سبع مِرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي. فهذا الأمر بالإراقة ينفي الناحية التعبُّديَّة وأنا لا أعلم أحداً يقول إن الأمر بالإراقة هو أيضاً تعبُّديٌّ. وحيث أن الحديث يأمر بإراقة الشراب أو الطعام الذي يلغ فيه الكلب، ثم بغسل الإناء سبعاً مع التراب، وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يأمر بإتلاف مال حلال طاهر، ولا يأمر بإراقة ما يلغ فيه الكلب إلا لأنه لم يعد حلالاً ولم يعد طاهراً يحل أكله أو شربه، فإن ذلك يدل على نجاسة سُؤر الكلب.
أما استشهادهم على طهارة سُؤر الكلب بالآية فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ الآية 4 من سورة المائدة. وبما رُوي عن أبي ثعلبة الخُشني قال «قلت : يا رسول الله إني أصيد بكلبي المُعلَّم وبكلبي الذي ليس بمُعلَّم ، قال : ما صدت بكلبك المُعلَّم فاذكر اسم الله وكل، وما أَصَّدْتَ بكلبك الذي ليس بمُعلَّم فأدركت ذكاتَه فكل» رواه أبو داود. ورواه البخاري وابن ماجة وأحمد باختلاف في الألفاظ، قائلين : لم يُذكر غُسل لا في الآية ولا في الحديث، ولم يفرَّق بين كلب الصيد المُعلَّم وغير المُعلَّم، فهذا دليل على طهارة الكلاب.
فالجواب عليه أن هذين النصين - الآية والحديث - سكتا عن الطلب من المسلمين غسل ما أمسك الكلب من الصيد، وحديث الولوغ لم يسكت عن هذا الطلب بل نطق بطلب الغسل، والمعلوم أن السكوت لا يقوى على معارضة النطق وإبطاله، ثم إن الآية والحديث قد جاءا في موضوع الصيد من حيث جواز استعمال الكلاب في الصيد، وجواز أكل ما تصيده هذه الكلاب، ولم يأتيا في موضوع الطهارة والنجاسة ، فهذا موضوع وذاك موضوع آخر. ولا يمتنع عقلاً ولا شرعاً أن يعالج نصٌ جانباً من موضوع ويعالج نصٌّ آخر جانباً آخَر ، إذ لا يجب أن يعالج النص جميع ما يتعلق بالموضوع الذي جاء لمعالجته ما دامت هناك نصوص أخرى تكمل المعالجة، وهذا أمرٌ معروف. بل إن عندنا دليلاً على نجاسة الكلب كله وليس سُؤره فقط، هو ما رُوي عن أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله أصبح يوماً واجماً، فقالت ميمونة: يا رسول الله لقد استنكرتُ هيئتك منذ اليوم، قال رسول الله : إن جبريل كان وعدني أن يلقاني الليلة فلم يلقني، أَمَ واللهِ ما أخلفني، قال فظل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومه ذلك على ذلك، ثم وقع في نفسه جروُ كلبٍ تحت فسطاط لنا، فأمر به فأُخرج ، ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل، فقال له : قد كنتَ وعدتَني أن تلقاني البارحة قال: أجل ولكنَّا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ فأمر بقتل الكلاب ، حتى إنه يأمر بقتل كلب الحائط الصغير ويترك كلب الحائط الكبير» رواه مسلم وأبو داود والبيهقي والنَّسائي. قوله الحائط : أي البستان. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأخذ بيده ماء فينضح مكان الكلب إنما هو من أجل تطهير الموضع، فهذا دليل على نجاسة الكلب. وبذلك يثبت أن الكلب نجس، وأن سُؤره مِن ثَمَّ نجس، وأن نجاسته مغلَّظة، ويثبت أيضاً أن استثناء سُؤر الكلب من أسآر السباع الطاهرة واجب شرعاً، ويُثبِت الحديثُ بمنطوقه الصريح أن الهرة طاهرة ، وإذن فإن سُؤْرها طاهر.
بقي سُؤر الخنزير. إنه ليس لدينا نص في نجاسة سُؤر الخنزير، وإنما لدينا نصَّان اثنان في نجاسة الخنزير كله، وإنَّ ثبوت نجاسة الخنزير كله يستلزم ثبوت نجاسة سُؤره بالضرورة، فلنستعرض هذين النصين:
أ- عن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إنَّا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير، ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضوها بالماء، وكلوا واشربوا » رواه أبو داود بإسناد صحيح. وفي روايةٍ للترمذي «قال أَنْقُوها غُسلاً واطبخوا فيها». وفي روايةٍ للدارقطني «قال : قلت : يا رسول الله إنَّا نخالط المشركين وليس لنا قدور ولا آنية غير آنيتهم قال: فقال: استغنوا عنها ما استطعتم، فإن لم تجدوا فارحضوها بالماء فإن الماء طهورها، ثم اطبخوا فيها». وحديث أبي ثعلبة الخُشني رواه البخاري وأحمد والدارمي وابن ماجة وابن حِبَّان بروايات متعددة.
ب - قال تعالى:  قُل لا أَجِدُ في ما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أن يَكُوْن مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوْحَـاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنه رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لغيرِ اللهِ بِهِ  الآية 145 من سورة الأنعام.
الحديث يطلب من المسلمين أن يَرْحَضوا القُدور التي طُبخ فيها لحم الخنزير بالماء، والرَّحض معناه الغسل، ويطلب الحديث منهم أن يُنقوها غسلاً، أي يبالغوا في غسلها كما جاء في روايةٍ للترمذي، ولا يكون طلب الغسل والمبالغة فيه إلا لأنها نجسة، وليس أدلَّ على ذلك من أن الرواية الثالثة للدارقطني جاء فيها «فارحضوها بالماء فإن الماء طُهورها» ولا يقال طهَّرتُ الإناء أو طهَّرتُ الثوب أو طهَّرتُ النعل إلا إذا عنيت إزالة النجاسة منها. وأما الآية الكريمة فإنها وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولفظة رِجس في العربية تعني القذر والنتن، هذا هو أصل معناها، إلا أن العرب توسَّعوا في استعمالها حتى صارت لفظةً محتمِلةً لمعانٍ عدة، فصارت تطلق على الإثم وتطلق على النجاسة وتطلق على السُّخط والغضب وتطلق على معانٍ أخرى، حتى صار ذكرها لا يؤدي معنى محدداً إلا بقرينة تعيِّنه وتنفي غيره، فمثلاً قوله سبحانه وتعالى قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ  رجس هنا بمعنى سخط ، وقوله سبحانه وتعالى إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ ويُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيَراً  لفظةُ (رجس) هنا تعني الإثم والمعصية.
أما الآية الكريمة التي نحن بصددها فتُفَسَّر لفظةُ (رجس) الواردة فيها بأنها نجس، أما لماذا؟ فلأن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن ويبيِّنه، وهنا جاء الحديث مفسِّراً للفظة رجس الواردة في الآية بأنها تعني النجس بمنطوقه وبمفهومه ، فقول الحديث «فإن الماء طهورها» هو منطوق، وكون الحديث يأمر بالمبالغة في غسل القدور التي تحتوي على لحم الخنزير هو مفهوم، ذلك أن المبالغة في الغسل هي قرينة على أن لحم الخنزير نجس، وإذن فقد تضافر المنطوق والمفهوم على اعتبار لحم الخنزير نجساً، وعلى تفسير الآية بأنها تعني نجاسة لحم الخنزير.
ورب قائل يقول: إن الآية وصفت لحم الخنزير بأنه رجس، ولم تصف عظمه ولا شعره مثلاً بأنه رجس، وكذلك الحديث، فلماذا لا نعتبر النجاسة في النَّصَّين تنسحب على الخنزير الميت والمطبوخ ، وليس على الخنزير الحي ؟ فنجيبه بما يلي:

تقي بن فالح
24-11-2017, 03:42 PM
أولاً : ما دام قد ثبت أن لحم الخنزير نجس حتى ولو طبخه أهل الكتاب، فإن ذلك يدل على أن نجاسة لحم الخنزير هي نجاسة أصلية فيه، إذ أن الشرع الحنيف قد أقرَّ ذبحَ أهل الكتاب واعتبر ذبائحهم مُذكَّاة، أي طاهرة ، يحل للمسلمين أكلها، فلما ذكَّى أهل الكتاب لحم الخنزير وجاء الشرع يصف هذا المُذكَّى بأنه نجس، فإن ذلك يدل على أن نجاسة هذا الخنزير هي نجاسة أصلية لم تنفع فيها الذكاة أي التطهير، ولهذا نقول إن لحم الخنزير نجس لأنه نجس، وليس لأنه مذبوح أو ميت.

ثانياً: إننا لو قلنا إن لحم الخنزير النجس، يعني الخنزير الميت وليس الخنزير الحي، لكان تفسيرنا في غاية التهافت، إذ أنَّ الآية الكريمة مُصدَّرة بلفظة (ميتة) فلا حاجةَ لذكر الخنزير الميت حينئذ، لأنه يكون داخلاً في لفظة (ميتة) في صدر الآية، فإضافة الخنزير الميت إضافة غير مفيدة، فهذا التفسير لا يليق بنا القول به.

ثالثاً: أمَّا وقد ثبت أن لحم الخنزير نجس، سواء منه ما كان بعد الموت أو قبله، فإن ذلك يدل على نجاسة الخنزير كله، لأن شعر الخنزير وعظمه وسائر أجزائه مختلطة كلها باللحم فلا تُتصور طهارتُها مع نجاسة اللحم ، فنجاسة اللحم تنسحب حتماً على كل أجزاء الخنزير فيكون الخنزير كله نجساً. أما لماذا ذُكِر لحمُ الخنزير في الآية ولم يُذكر الخنزير؟ فلأن الآية تحدثت عن المطعومات المحرَّمة، والمعلوم أن المطعوم في الخنزير هو لحمه فذُكِرَ اللحمُ ليتناسب مع سياق الآية، وذُكِرت نجاسة الخنزير كله زيادة في المعنى. وإذن وقد بان أن الخنزير نجس فإنا نقول إن لحمه وشعره وعظمه وكل جزء فيه نجس، وهذا يستلزم اعتبار سُؤره نجساً أيضاً، وبذلك يسقط رأيهم بطهارة سُؤر الخنزير.
وفي ختام البحث أُلفت النظر إلى أنني لم استدلَّ على نجاسة الخنزير بما استدل به العديد من الفقهاء من قياس الخنزير على الكلب ، ذلك أن هذا القياس خطأ، لأن لفظة (الكلب) لا تشمل الخنزير، ولأنه لا عِلَّةَ ظاهرةً لنجاسة الكلب فيقاس عليها، فقياس الخنزير على الكلب قياس دون علَّة ظاهرة مشتركة، ودون أن تتوفر فيه شرائط القياس الصحيحة.

أما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثاني من قِبَل الزُّهري وابن الماجَشُون في سُؤر الكلب فتسقط هي الأخرى بعدما تبين بوضوح نجاسة سُؤر الكلب.

وأما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثالث من قِبَل أحمد في سُؤر البغل والحمار، وابن عمر - فيما رُوي عنه - في سُؤر الحمار فقط ، وابن أبي ليلى في كراهة سُؤر الهرة، وابن المنذر والحسن وطاووس في تحريم ونجاسة سُؤر الهرة فتسقط كلها، لأن طهارة سُؤر البغال والحمير تدخل في طهارة أسآر عموم الدواب. وكما أسلفنا من قبل فإن الطهارة لا تحتاج إلى دليل خاص، وطهارة سُؤر الهرة ورد فيه نص خاص بطهارته، هو حديث كبشة الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وقد مرَّ، إضافة إلى دخوله في طهارة أسآر عموم السباع.

وثمَّةَ نقطةٌ أخرى هي أننا سجلنا للفريق الأول شُبهة في نجاسة أسآر السباع مأخوذة من حديث القُلَّتين، فردُّنا عليها الآن هو أننا أثبتنا في المناقشة طهارة أسآر السباع مستدلِّين بحديث أبي هريرة الذي أخرجه الدار قطني «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» وهذا منطوق في طهارة الأسآر، وما دام أن حديث القُلَّتين ظني الدلالة على نجاسة الأسآر، فيُعمل بحديث طهارة الأسآر، ويُرجَّح على حديث النجاسة الظني الدلالة، لا سيما إذا علمنا أن الأصل في الأشياء الطهارة ومنها الأسآر، إلا ما استثناه الشرع بدليل خاص، ولا دليل هنا صالحاً على نجاسة أسآر السباع والدواب.

نخلص من المناقشة إلى صحة رأي الفريق الثالث القائل بطهارة أسآر البهائم والسباع والحيوانات والطيور كلها سوى سُؤر الكلب والخنزير فحسب، بعد إسقاط ما ورد فيه من استثناءات لبعض الأئمة، وهو رأي الفريق الثاني نفسُه باستثناء سُؤر الكلب والخنزير الذين أخطأوا في اعتباره طاهراً .

وعليه فإن الماء قَلَّ أو كَثُر، إذا شرب منه أيُّ حيوان يُؤكل لحمه أو لا يُؤكل، أو أيُّ طيرٍ جارح أو غير جارح - باستثناء الكلب والخنزير - يظل طاهراً طهوراً يصلح للوضوء والأغسال وإزالة النجاسات، ويُصنَّف في باب أقسام المياه تحت قسم الماء الطَّهور. وما أقوله عن سُؤر هذه الحيوانات أقوله عن سائر أجسامها، فلو غمس أي حيوان نفسه في الماء وخرج منه حياً ظل الماء طَهوراً ، وهذا القول الأخير ربما أتينا على بحثه مستقبلاً.

بقيت نقطة كان الأصل فيها عدم بحثها لوضوحها ، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيها، فرأيت من الواجب إبداء الرأي فيها وهي: هل سُؤر الآدمي طاهر أم نجس؟.

ذهب عدد من الفقهاء إلى القول بنجاسة سُؤر الكافر، وزاد بعضهم بنجاسة سُؤر الجُنُب والحائض، مستدلين بقوله تعالى إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوْا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا  الآية 28 من سورة التوبة. على نجاسة الكافر ومن ثَمَّ سُؤره، وبالحديث الذي رواه أبو ثعلبةَ الخُشني وقد سأل الرسول صلى الله عليبه وسلم عن آنية الكفار - في روايةٍ من أهل الكتاب، وفي روايةٍ ثانيةٍ من المشركين – «فقال رسول الله صلى الله عليبه وسلم: إنْ وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ...» الحديث وقد سبق. مستدلين به على نجاسة آنيتهم وقدورهم ومن ثَمَّ على نجاسة أبدانهم، وأخذوا من أحاديث تطهُّرِ الجُنُب والحائض نجاستهما ما داما جُنُباً وحائضاً، ومن الآيات مثل قوله سبحانه وتعالى وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطَّهَّروا وقوله سبحانه ويَسْأَلُونَكَ عَن المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ فاْتُوهُنَّ مِن حَيْثُُ أَمَرَكُمُ اللهُ الآية 222 من سورة البقرة نجاسةَ الجُنُب والحائض أيضاً، وقالوا إن القرآن الكريم وصف الكافر بأنه نجس، وإنَّ الآيات والأحاديث طلبت من الجُنُب والحائض التَّطهُّر، ولا يكون التَّطهُّر إلا من نجاسة، فدلَّ ذلك على نجاستهما ومن ثم نجاسة سُؤرهما. هذا هو مجمل ما قالوه.

وقبل الإجابة نُذَكِّر بأن قسماً من قولهم هذا قد سبق ذِكْره في بحث [الماء المستعمَل] ، وكشفنا هناك عن خطأ ما ذهبوا إليه، فلا نعيده بتفصيله، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الحديث يقول «إن رسول الله صلى الله عليبه وسلم لقيه - أي حذيفة راوي الحديث - وهو جُنُب فحاد عنه فاغتسل، ثم جاء فقال : كنت جُنُباً، قال: إن المسلم لا ينجُس» وأن الحديث يقول: عن عائشة قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليبه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ» رواهما مسلم وغيره . وقد مرَّا . وهذان دليلان صالحان على طهارة الجُنُب والحائض.

بقيت نجاسة الكافر، هل الآية الكريمة تفيد النجاسة الحسية أم النجاسة المعنوية؟ إنه لم يَرِدْ في كتاب الله العزيز لفظة (نجس) إلا مرة واحدة فحسب، هي الواردة في قوله سبحانه وتعالى إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا الآية 28 من سورة التوبة وهذه اللفظة الوحيدة في الكتاب العزيز لم تجيء على ظاهر معناها، وإنما جاءت بمعنى النجاسة المعنوية، ومعناها هو نجاسة الاعتقاد وسوء الباطن والسريرة. والأدلة على أن نجاسة الكافر نجاسة معنوية ما يلي:

تقي بن فالح
25-11-2017, 08:45 PM
أولاً : ما دام قد ثبت أن لحم الخنزير نجس حتى ولو طبخه أهل الكتاب، فإن ذلك يدل على أن نجاسة لحم الخنزير هي نجاسة أصلية فيه، إذ أن الشرع الحنيف قد أقرَّ ذبحَ أهل الكتاب واعتبر ذبائحهم مُذكَّاة، أي طاهرة ، يحل للمسلمين أكلها، فلما ذكَّى أهل الكتاب لحم الخنزير وجاء الشرع يصف هذا المُذكَّى بأنه نجس، فإن ذلك يدل على أن نجاسة هذا الخنزير هي نجاسة أصلية لم تنفع فيها الذكاة أي التطهير، ولهذا نقول إن لحم الخنزير نجس لأنه نجس، وليس لأنه مذبوح أو ميت.
ثانياً: إننا لو قلنا إن لحم الخنزير النجس، يعني الخنزير الميت وليس الخنزير الحي، لكان تفسيرنا في غاية التهافت، إذ أنَّ الآية الكريمة مُصدَّرة بلفظة (ميتة) فلا حاجةَ لذكر الخنزير الميت حينئذ، لأنه يكون داخلاً في لفظة (ميتة) في صدر الآية، فإضافة الخنزير الميت إضافة غير مفيدة، فهذا التفسير لا يليق بنا القول به.
ثالثاً: أمَّا وقد ثبت أن لحم الخنزير نجس، سواء منه ما كان بعد الموت أو قبله، فإن ذلك يدل على نجاسة الخنزير كله، لأن شعر الخنزير وعظمه وسائر أجزائه مختلطة كلها باللحم فلا تُتصور طهارتُها مع نجاسة اللحم ، فنجاسة اللحم تنسحب حتماً على كل أجزاء الخنزير فيكون الخنزير كله نجساً. أما لماذا ذُكِر لحمُ الخنزير في الآية ولم يُذكر الخنزير؟ فلأن الآية تحدثت عن المطعومات المحرَّمة، والمعلوم أن المطعوم في الخنزير هو لحمه فذُكِرَ اللحمُ ليتناسب مع سياق الآية، وذُكِرت نجاسة الخنزير كله زيادة في المعنى. وإذن وقد بان أن الخنزير نجس فإنا نقول إن لحمه وشعره وعظمه وكل جزء فيه نجس، وهذا يستلزم اعتبار سُؤره نجساً أيضاً، وبذلك يسقط رأيهم بطهارة سُؤر الخنزير.
وفي ختام البحث أُلفت النظر إلى أنني لم استدلَّ على نجاسة الخنزير بما استدل به العديد من الفقهاء من قياس الخنزير على الكلب ، ذلك أن هذا القياس خطأ، لأن لفظة (الكلب) لا تشمل الخنزير، ولأنه لا عِلَّةَ ظاهرةً لنجاسة الكلب فيقاس عليها، فقياس الخنزير على الكلب قياس دون علَّة ظاهرة مشتركة، ودون أن تتوفر فيه شرائط القياس الصحيحة.
أما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثاني من قِبَل الزُّهري وابن الماجَشُون في سُؤر الكلب فتسقط هي الأخرى بعدما تبين بوضوح نجاسة سُؤر الكلب.
وأما الاستثناءات الواردة في رأي الفريق الثالث من قِبَل أحمد في سُؤر البغل والحمار، وابن عمر - فيما رُوي عنه - في سُؤر الحمار فقط ، وابن أبي ليلى في كراهة سُؤر الهرة، وابن المنذر والحسن وطاووس في تحريم ونجاسة سُؤر الهرة فتسقط كلها، لأن طهارة سُؤر البغال والحمير تدخل في طهارة أسآر عموم الدواب. وكما أسلفنا من قبل فإن الطهارة لا تحتاج إلى دليل خاص، وطهارة سُؤر الهرة ورد فيه نص خاص بطهارته، هو حديث كبشة الصحيح الذي رواه أصحاب السنن، وقد مرَّ، إضافة إلى دخوله في طهارة أسآر عموم السباع.
وثمَّةَ نقطةٌ أخرى هي أننا سجلنا للفريق الأول شُبهة في نجاسة أسآر السباع مأخوذة من حديث القُلَّتين، فردُّنا عليها الآن هو أننا أثبتنا في المناقشة طهارة أسآر السباع مستدلِّين بحديث أبي هريرة الذي أخرجه الدار قطني «لها ما أخذت في بطونها ولنا ما بقي شراب وطهور» وهذا منطوق في طهارة الأسآر، وما دام أن حديث القُلَّتين ظني الدلالة على نجاسة الأسآر، فيُعمل بحديث طهارة الأسآر، ويُرجَّح على حديث النجاسة الظني الدلالة، لا سيما إذا علمنا أن الأصل في الأشياء الطهارة ومنها الأسآر، إلا ما استثناه الشرع بدليل خاص، ولا دليل هنا صالحاً على نجاسة أسآر السباع والدواب.
نخلص من المناقشة إلى صحة رأي الفريق الثالث القائل بطهارة أسآر البهائم والسباع والحيوانات والطيور كلها سوى سُؤر الكلب والخنزير فحسب، بعد إسقاط ما ورد فيه من استثناءات لبعض الأئمة، وهو رأي الفريق الثاني نفسُه باستثناء سُؤر الكلب والخنزير الذين أخطأوا في اعتباره طاهراً .
وعليه فإن الماء قَلَّ أو كَثُر، إذا شرب منه أيُّ حيوان يُؤكل لحمه أو لا يُؤكل، أو أيُّ طيرٍ جارح أو غير جارح - باستثناء الكلب والخنزير - يظل طاهراً طهوراً يصلح للوضوء والأغسال وإزالة النجاسات، ويُصنَّف في باب أقسام المياه تحت قسم الماء الطَّهور. وما أقوله عن سُؤر هذه الحيوانات أقوله عن سائر أجسامها، فلو غمس أي حيوان نفسه في الماء وخرج منه حياً ظل الماء طَهوراً ، وهذا القول الأخير ربما أتينا على بحثه مستقبلاً.
بقيت نقطة كان الأصل فيها عدم بحثها لوضوحها ، إلا أن الفقهاء اختلفوا فيها، فرأيت من الواجب إبداء الرأي فيها وهي: هل سُؤر الآدمي طاهر أم نجس؟.
ذهب عدد من الفقهاء إلى القول بنجاسة سُؤر الكافر، وزاد بعضهم بنجاسة سُؤر الجُنُب والحائض، مستدلين بقوله تعالى ïپ*إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوْا المَسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا ïپ› الآية 28 من سورة التوبة. على نجاسة الكافر ومن ثَمَّ سُؤره، وبالحديث الذي رواه أبو ثعلبةَ الخُشني وقد سأل الرسول صلى الله عليبه وسلم عن آنية الكفار - في روايةٍ من أهل الكتاب، وفي روايةٍ ثانيةٍ من المشركين – «فقال رسول الله صلى الله عليبه وسلم: إنْ وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا، وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء ...» الحديث وقد سبق. مستدلين به على نجاسة آنيتهم وقدورهم ومن ثَمَّ على نجاسة أبدانهم، وأخذوا من أحاديث تطهُّرِ الجُنُب والحائض نجاستهما ما داما جُنُباً وحائضاً، ومن الآيات مثل قوله سبحانه وتعالى ïپ*وإنْ كُنْتُمْ جُنُبَاً فاطَّهَّرواïپ› وقوله سبحانه ïپ*ويَسْأَلُونَكَ عَن المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذَىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ في المَحِيضِ ولا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ، فإذا تَطَهَّرْنَ فاْتُوهُنَّ مِن حَيْثُُ أَمَرَكُمُ اللهُïپ› الآية 222 من سورة البقرة نجاسةَ الجُنُب والحائض أيضاً، وقالوا إن القرآن الكريم وصف الكافر بأنه نجس، وإنَّ الآيات والأحاديث طلبت من الجُنُب والحائض التَّطهُّر، ولا يكون التَّطهُّر إلا من نجاسة، فدلَّ ذلك على نجاستهما ومن ثم نجاسة سُؤرهما. هذا هو مجمل ما قالوه.
وقبل الإجابة نُذَكِّر بأن قسماً من قولهم هذا قد سبق ذِكْره في بحث [الماء المستعمَل] ، وكشفنا هناك عن خطأ ما ذهبوا إليه، فلا نعيده بتفصيله، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الحديث يقول «إن رسول الله صلى الله عليبه وسلم لقيه - أي حذيفة راوي الحديث - وهو جُنُب فحاد عنه فاغتسل، ثم جاء فقال : كنت جُنُباً، قال: إن المسلم لا ينجُس» وأن الحديث يقول: عن عائشة قالت «كنت أشرب وأنا حائض، ثم أُناوله النبي ïپ² فيضع فاه على موضع فيَّ فيشرب، وأتعرَّق العَرْقَ وأنا حائض، ثم أناوله النبي صلى الله عليبه وسلم، فيضع فاه على موضع فيَّ» رواهما مسلم وغيره . وقد مرَّا . وهذان دليلان صالحان على طهارة الجُنُب والحائض.
بقيت نجاسة الكافر، هل الآية الكريمة تفيد النجاسة الحسية أم النجاسة المعنوية؟ إنه لم يَرِدْ في كتاب الله العزيز لفظة (نجس) إلا مرة واحدة فحسب، هي الواردة في قوله سبحانه وتعالى ïپ*إنَّمَا المُشْرِكُوْنَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا المسْجِدَ الحَرَامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَاïپ› الآية 28 من سورة التوبة وهذه اللفظة الوحيدة في الكتاب العزيز لم تجيء على ظاهر معناها، وإنما جاءت بمعنى النجاسة المعنوية، ومعناها هو نجاسة الاعتقاد وسوء الباطن والسريرة. والأدلة على أن نجاسة الكافر نجاسة معنوية ما يلي:

تقي بن فالح
25-11-2017, 08:49 PM
أ - روى البخاري وأحمد والنَّسائي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «بعث النبي صلى الله غليه وسلم خيلاً قِبَلَ نجد، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثُمامة بن أُثال، فربطوه بسارية من سَواري المسجد ... ».
ب - زواج المسلم من النصرانية واليهودية وما يستتبعه ذلك من المضاجعة وانتقال عرقها إليه، وغمس يديها في طعامه وشرابه ، وقيامها بسائر الأعمال البيتية ببدنها، وإنجابها منه أولادَه المسلمين الطاهرين.
ج - قوله تعالى(وَطَعَامُ الذِيْنَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ) الآية 5 من سورة المائدة.
د - عن أنس رضي الله عنه «أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى خبز شعير وإهالةٍ سَنِخةٍ فأجابه» رواه أحمد . قوله إهالة : أي شحمٌ وزيت. وقوله سَنِخة: أي متغيرة الرائحة.
هـ - عن جابر رضي الله عنه قال «كنا نغزو مع رسول الله صلى الله غليه وسلم، فنُصيب من آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها، فلا يعيب ذلك علينا» رواه أبو داود وأحمد.
الحديث الأول يدل على أن المشرك - وهو هنا ثُمامة - طاهرٌ ، وإلا لَما أدخله المسلمون إلى المسجد ولَما ربطوه فيه. والبند (ب) دلالته ظاهرة ظهور الشمس على أن أبدان الكفار طاهرة ، والآية الكريمة في البند ( ج ) تماثل في وضوح دلالتها البند (ب) إذ لو كانت أبدان الكفار من اليهود والنصارى وأيديهم نجسة لما جاز تناول طعامهم، لأنه يكون عندئذ نجساً، يؤكِّده ما جاء في البند (د) أما البند (هـ) فواضح الدلالة على أن آنية المشركين وأسقيتهم طاهرة .
فالكفار طاهرةٌ أبدانهم، طاهرةٌ أسآرهم، طاهرةٌ آنيتهم، إلا أن هذه الآنية إن عُلِم أنهم يطبخون فيها طعاماً نجساً أو شراباً نجساً اعتُبرت متنجسةً ووجب عندئذ غسلها وتطهيرها فعن أبي ثعلبة الخُشني أنه سأل رسول الله صلى الله غليه وسلم قال «إنَّا نُجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر، فقال : إن وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا ، وإن لم تجدوا غيرها فارحَضُوها بالماء، وكلوا واشربوا » رواه أبو داود. وقد سبق.
أما الكفار من غير أهل الكتاب، كالمجوس والمشركين والهندوس والبوذيين والملحدين، فتُعامل أوانيهم وقدورُهم معاملةَ أواني أهل الكتاب وقدورِهم، سواء بسواء، فنقـوم بغسلهـا وتطهيرهـا إن علمنـا أنهم وضعـوا فيها مـواد نجسة، لمـا رُوي عـن أبي ثعلبـة قـال «سُئل رسول الله صلى الله غليه وسلم عـن قدور المجوس، قال: أنقوها غسلاً واطبخوا فيها... » رواه الترمـذي. فالواجب المساواة في التعامل بين أواني أهل الكتاب وأواني سائر الكفار من مجوس وغيرهم، يدل عليه أيضاً ما رُوي عن أبي ثعلبة الخُشني مرفوعاً «... قلت: إنَّا أهلُ سفر نمرُّ باليهود والنصارى والمجوس ولا نجد غير آنيتهم، قال: فإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها واشربوا» رواه أحمد.
يتبع .... الفصل الثاني / أعيانُ النجاسات

تقي بن فالح
28-11-2017, 03:19 PM
الفصل الثاني / أعيانُ النجاسات

القذارة أو القذر منها ما هو بالغُ السوء ويسمى النجاسة، ومنها ما هو دون ذلك وهو الدَّنس والوسخ وما في معناهما، وجاء الشرع يحرِّم المُغلَّظ منها وهو النجاسة ، ويكره ما دون ذلك وهو الوسخ . فالنجاسة قذارة ، والقذارة ليست بالضرورة نجاسة، فقد تكون نجاسة ، وقد تكون وسخاً أو دَرَناً أو ما في هذا المعنى.

والقَذَر المخفَّف جاء الشرع يأمر بإزالته وغسله واجتنابه أمراً غير جازم، وهو ما يسمى النَّدب، وسَمَّى ذلك تنظيفاً ونظافة . فالنظافة في البدن وفي الثوب وفي المكان كلها أمور حث الشرع عليها، وجعل لمن يقوم بها ثواباً ، دون أن يتوعده بالإثم إن هو لم يفعل ذلك.

أما النجاسة فقد أمر الشارع باجتنابها أمراً جازماً وجعل اجتنابها فرضاً، وهي قسمان: نجاسة حسِّيَّة ، ونجاسة حُكميَّة. أما الحِسِّيَّة فكالبول والغائط والدم والكلب وغيرها، وأما الحُكميَّة فكالجنابة والحيض والنفاس، وانتقاض الوضوء. وهـذه النجاسة بشِقَّيها الإثنين يجب اجتنابها في عبادات ثلاث تشريفاً لهن، وهن الصلاة والطواف ومسُّ المصحف، ولم يشترط الشرع ذلك في سواهن على تفصيلٍ في ذلك.

فقراءةُ القرآن اشترط لها الشرع زوال الجنابة دون الوضوء، وذكرُ الله لم يشترط له ذلك، وكذلك الجهاد وهو عبادة، والزكاة وهي عبادة ، وسائر التصرفات من بيع وهبة ووكالة، والنكاح والسفر والأكل والنوم والصيد لم يشترط لها ذلك أيضاً. فكل العبادات والتصرفات تُقبل من المسلم دون اشتراط الطهارة الحُكميَّة إلا الصلاة والطواف ومس المصحف فقط.

أما النجاسة الحسِّية فقد أمر الشارع باجتنابها وعدم التعامل بها على أية حال، فالماء النجس لا يجوز استعماله بحال، والدم والبول وما سواهما من النجاسات حكمها الاجتناب وجوباً ، إلا ما رخَّص في كلب الصيد وكلب الحراسة، لما رُوي عن ابن عمر أنه قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول «مَن اقتنى كلباً إلا كلباً ضارياً لصيدٍ ، أو كلبَ ماشية - فإنه ينقص من أجره كلَّ يوم قيراطان» رواه البخاري ومسلم وأحمد. وإلا ما رخَّص في جلد الميتة وسيأتي.

إن السُّنة النبوية - فضلاً عن القرآن الكريم - لم يرد فيها تفصيل قطعيٌّ لأعيان النجاسات وأنواع المُطهِّرات، ولذا اختلفت فيها آراء المجتهدين. قال ابن رشد المالكيُّ المذهب: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة: ميتة الحيوان ذي الدم السائل الذي ليس بمائي، وعلى لحم الخنزير بأي سبب اتفق أن تذهب حياته، وعلى الدم نفسه من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحاً ، أعني كثيراً، وعلى بول ابن آدم ورجيعه، وأكثرهم على نجاسة الخمر، وفي ذلك اختلاف عن بعض المُحدِّثين، واختلفوا في غير ذلك.

وقال الشوكاني (والنجاسات هي غائط الإنسان مطلقاً، وبوله - إلا الذَّكر الرضيع- ولُعاب كلب، وروث، ودم حيض، ولحم خنزير، وفيما عدا ذلك خلاف، والأصل الطهارة فلا يَنْقُل عنها إلا ناقلٌ صحيح لم يعارضه ما يساويه أو يُقدَّم عليه) وفي كتاب الكافي لابن قُدامة أن النجاسات هي بول الآدميِّ، وما لا يؤكل لحمه من الحيوان، والغائط، والودي، والقيء، والدم، والقيح، والخمر، والكلب، والخنزير، والميتة، ودخان النجاسة وبخارها. وذكر رأيين في المذي، والعلقة، ورطوبة فرج المرأة، والمني. وقال غيرهم غير ذلك. وإنما اختلفوا في هذا الباب اختلافاً كثيراً ، لأن السُّنة كما ذكرنا لم تُفصِّل أعيان النجاسات، وقلما ذكرت نجاسةً بالتنصيص الصريح.

وقد شدد الشافعيون والحنابلة في موضوع الطهارة والنجاسة، في حين خفف المالكيون كثيراً في هذا الموضوع، ووقف الأحناف بين هؤلاء وأولئك، فشددوا في أمور وخففوا في أمور أخرى. ونحن نبحث بإذن الله هذه المسألة ، مسترشدين بالأدلة الصحيحة، ومجتنبين الأخذ بالأدلة الضعيفة، أو القياس الفاسد أو الشُّبهات، أو التقليد لمذهب أو إمام، فلعل الله يُمكِّننا من كشف القناع عن هذه المسألة الشائكة، واستخلاص الصحيح الذي تطمئن له النفس.

قلنا في تمهيد [والنجاسات تسع : أربع من الإنسان هي البول والغائط والمذي والودي، وثلاث من الحيوان هي الكلب والخنزير والميتة، وواحدة مشتركة بينهما هي الدم المسفوح، وواحدة من غيرهما هي الخمر] هذه هي النجاسات التي استخلصناها من النصوص، وسنورد الأدلة على كل نجاسة منها بشيء من التفصيل، وبعدئذ نناقش ما قاله الآخرون مما خالفونا فيه دون ما وافقونا فيه.

تقي بن فالح
29-11-2017, 11:02 PM
النجاساتُ من الإنسان
أ*. البول:

وردت فيه أحاديث كثيرة رواها عدد من الصحابة أذكر منها ما رُوي عن ابن عباس أنه قال «مرَّ النبي  بقبرين فقال: إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستنزه من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والنَّسائي. هذا الحديث نصٌّ في بول الإنسان، ومعاقبةُ من لا يستنزه من البول قرينة على نجاسة البول، لأن المعلوم أن الله سبحانه لا يعذب على دنسٍ أو وسخٍ، وما دام الحديث يقرر عذاب من لا يجتنب البول فهو يقرر إذن نجاسته، وكذلك ما رُوي عن أبي هريرة أنه قال «قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي : دعوه وهَريقوا على بوله سَجْلاً من ماء - أو ذَنُوباً من ماء - فإنما بُعثتم مُيسِّرين ولم تُبعثوا مُعسِّرين» رواه البخاري وأحمد وأبو داود. قوله سَجْلاً وذَنُوباً: أي الدلو المملوءة.

وكذلك انعقد إجماع الصحابة على نجاسة البول، إلا أن الشرع خفف في بول الرضيع الذكر واكتفى في تطهيره بالرش، لحديث أم قيس «أنها أتت رسول الله  بابنٍ لها لم يبلغ أن يأكل الطعام، قال عبيد الله: أخبرتني أن ابنها ذاك بال في حِجْر رسول الله ، فدعا رسول الله  بماء فنضحه على ثوبه ولم يغسله غسلاً » رواه مسلم والبخاري وأحمد . ولحديث علي رضي الله عنه قال: قال  «بول الغلام يُنضح عليه، وبول الجارية يُغسل. قال قتادة: هذا ما لم يَطعما، فإذا طَعما غُسل بولُهما» رواه أحمد والترمذي وأبو داود . وصححه ابن حجر والحاكم والذهبي .

قال الصَّنعاني صاحب كتاب سُبُل السلام ( واعلم أن النضح كما قاله النووي في شرح مسلم هو أن الشيء الذي أصابه البول يُغمر ويُكاثَر بالماء مكاثرة لا تبلغ جريان الماء وتردُّدَه وتقاطُرَه ، بخلاف المكاثرة في غيره ، فإنه يشترط أن تكون بحيث يجري عليها بعض الماء ، ويتقاطر في المحل وإن لم يشترط عصره ، وهذا هو الصحيح المختار) .

ب*. الغائط:

دليله إجماع الصحابة ، فقد انعقد إجماعهم على نجاسته ، ولم يخالف أحد منهم في هذا. وثانياً أحاديث الاستنجاء من الغائط أدلة من السُّنَّة ، أذكر كمثالٍ الحديث التالي: عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله  قال «إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلْيذهب معه بثلاثة أحجار يستطبُّ بهن، فإنها تُجْزِيءُ عنه» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي والدارمي. ورواه الدار قطني وقال: إسنادٌ صحيح. فالأمر بالاستطباب بالأحجار الثلاثة وأنها تُجزيء عنه دليل على نجاسة الغائط.

ج. المَذِي:

هو سائل أبيض لزج، يخرج عند تحرك الشهوة بفعلٍ أو قولٍ أو نظرٍ أو تفكُّر . دليل نجاسته ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال «كنت رجلاً مَذَّاءً فأمرت رجلاً أن يسأل النبي  لمكان ابنته، فسأله فقال: توضأ واغسل ذَكَرَك» رواه البخاري وأحمد وغيرهما. إلا أن الشرع خفف في المذي إن أصاب الثوب، وجعل حكمه كحكم بول الذكر الرضيع، لما رُوي أن سهل بن حُنَيف قال «كنت ألقى من المذي شدةً وعناء فكنت أُكثر منه الغسل، فذكرت ذلك لرسول الله  وسألته عنه فقال: إنما يُجْزِئُك من ذلك الوضوء، فقلت: يا رسول الله كيف بما يصيب ثوبي منه؟ قال: يكفيك أن تأخذ كفَّاً من ماء فتنضح به ثوبك، حيث ترى أنه أصاب منه» رواه الترمذي وابن ماجة وأحمد وأبو داود. قال الترمذي (حسن صحيح). فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر بغسل الذَّكَر في الحديث الأول وبنضح الثوب في الحديث الثاني، فهو دليل على نجاسة المذي.
د. الوَدِي:

الودي هو سائل أبيض ثخين يخرج عقب البول، وهو نجس بغير خلاف أعلمه، وذلك لكونه يخرج عقب البول مباشرة فيكون مختلطاً به، فيأخذ حكمه في النجاسة. والودي لم يَرِد فيه حديثٌ، إلا أن عدداً من صحابة رسول الله  قد تحدثوا عن نجاسته. قال ابن المنذر (قالت عائشة «وأما الودي فإنه يكون بعد البول فيغسل ذكره وأُنثييه ويتوضأ، ولا يغتسل») وعن ابن عباس قال «المني والودي والمذي، أما المني فهو الذي منه الغُسل، وأما الودي والمذي فقال: اغسل ذكرك أو مذاكيرك، وتوضأ وضوءك للصلاة» رواه البيهقي والأثرم.

تقي بن فالح
30-11-2017, 08:18 AM
النجاساتُ من الحيوان
1. الكلب:

الكلب نجس كله :سُؤرُه وشعرُه ولحمُه ولُعابُه، وكلُّ عضو منه، وقد تقدم بحثه، والدليل هو ما روى مسلم «... ثم وقع في نفسه جروُ كلبٍ تحت فسطاط لنا فأمر به فأُخرج ثم أخذ بيده ماء فنضح مكانه ...» وقد سبق بتمامه في بحث [سُؤر الحيوان]. وما روى مسلم والنَّسائي بلفظ «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرِقْه، ثم لِيغسلْه سبعَ مِرارٍ» وقد سبق هو أيضاً في بحث [سُؤر الحيوان].

2. الخنزير:

الخنزير نجس، وقد تقدم تحقيق ذلك، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر بغسل آنية أهل الكتاب وقدورهم المستعملةِ في شرب الخمر وأكل لحم الخنزير وبالغ في طلب الغسل، وكذلك آية سورة الأنعام 145 ، ما يدل على نجاسة الخنزير كله. يُراجع بحث [سُؤر الحيوان] .

3. الميتة:

الميتة هي الحيوان الذي مات حتف أنفه ودون تذكية ، وهي نجسة. ويلحق بها ما انفصل من الحي من أعضاء، لحديث أبي واقد الليثي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة » رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه. ودليل نجاسة الميتة إجماع الصحابة، وقد سبق تحقيق القول في حديث لحوم الحُمُر الأهلية وأن الرسول عليه الصلاة والسلام اعتبرها نجسة لأنها أخذت واقع الميتة، وكذلك رُوي أن ابن عباس رضي الله عنه قال «أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سِقاء ، فقيل له : إنه ميتة، قال: دِباغُه يَذهب بخَبَثِه أو نَجَسِه أو رِجْسِه» رواه ابن خزيمة. ورواه البيهقي والحاكم وصححاه. كما صححه الذَّهَبي. فهو منطوق في نجاسة الميتة، كمــا أن عائشة رضــي اللــه عنهــا قالت: قــال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دِباغ جلد الميتة طُهورها» رواه ابن حِبَّان والطبراني والدار قطني.
للبحث بقية .... تابعونا رجاءا

تقي بن فالح
30-11-2017, 05:09 PM
النجاسةُ المشتركة بين الإنسان والحيوان
الدم المسفوح

وهو نجس للحديثين التاليين:

أ- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت «جاءت فاطمة بنت حُبَيْش إلى النبي  فقالت: يا رسول الله إني امرأة أُستحاض فلا أطهر، أفأدعُ الصلاة؟ فقال: لا، إنما ذلك عِرْقٌ وليس بالحَيضة، فإذا أقبلت الحَيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلِّي» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود. فهذا الحديث نصٌ في غُسل دم المستحاضة، والمعلوم أن المستحاضة ينزف دمها من عرق، فهو دم صافٍ مغايرٌ لدم الحيض. والمستحاضة تغسل دمها وتتوضأ لكل صلاة ، وهذا الأمر بالغسل يدل على نجاسة الدم.

ب- عن أسماء قالت «جاءت امرأة إلى النبي  فقالت : إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال : تَحُتُّه ثم تَقْرُصه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم والبخاري. وهذا نصٌّ في دم الحيض والتشديد في غسله دليل قوي على نجاسته « تحُتُّه ثم تَقْرُصه بالماء ثم تنضحه» ويدخل في حكم الدم العَلَقة لأنها دمٌ متجمِّع يخرج من الفرج أشبه الحيض، ويدخل كذلك القيح لأنه دم فاسد ، أو هو مادة نتجت من الدم فيأخذ حكمه. ويُستثنى من الدمِ النجسِ دمُ السمك، والكبدُ، والطحالُ ، ودمُ ما لا نفسَ له سائلةً.

أما دم السمك فلأنَّ ميتة السمك طاهرة والدم جزء منها فيكون طاهراً . وكذلك الكبد والطحال، لما رُوي أن ابن عمر قال : قال رسول الله  « أُحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» رواه أحمد وابن ماجــة. وصحَّحــه ابن حجــر وأبو حاتم. ولمــا رُوي أن أبا هريــرة قال «سأل رجلٌ رسولَ الله  فقال: إنَّا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ من ماء البحر؟ قال: فقال النبي : هو الطَّهور ماؤُه الحِلُّ مَيْتَتُه» رواه أحمد والترمذي. وصححه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان والترمذي . فهذان الحديثان يدلان على حِلَّ ميتةِ البحر كالسمك، ودمُه منه فيأخذ حكمه. ويدل الحديث الأول على طهارة الكبد والطحال، لأن حِلَّهما يعني طهارتهما.

أما الدليل على طهارة دم ما لا نفس له سائلة، فالحديث المار في بحث [تطبيقات على الماء] وهو ما روى أبو هريرة أن رسول الله  قال «إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فلْيغمسه كله، ثم ليطرحه، فإنَّ في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داءً» رواه البخاري وأبو داود. والحديث المار قبل قليل عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله  «أُحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال» رواه أحمد وابن ماجة.

أما قدر الدم المسفوح الذي يعتبر نجساً ، فالحكم فيه راجع لتقدير الشخص، ولكن الاعتدال في التقدير أن يقال : إنه الذي يسيل إذا صادف سطحاً مائلاً، فتخرج منه النقطة والنقطان، لأنهما ليستا دماً مسفوحاً، والشرع يعفو عن القليل.
يتبع ..... النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان

تقي بن فالح
02-12-2017, 08:21 AM
النجاسةُ من غير الإنسان والحيوان
الخمر:
دليلها هو دليل نجاسة الخمر نفسه ، وهو حديث أبي ثعلبة الخُشني في وجوب غسل آنية أهل الكتاب وقدورهم التي يستعملونها في طبخ لحم الخنزير وشرب الخمر ، وهذا الحديث قد مرَّ في بحث [سؤر الحيوان].

شُبُـهــــات
والآن نود أن نزيل شُبُهاتٍ تثور في أثناء استعراض أعيان النجاسات، ونبدأ بشُبهة نجاسة بول الحيوان.

أولاً: بول ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل:

ذكر عدد من الأئمة أن بول ما يُؤكل لحمه طاهر ، وأن بول ما لا يُؤكل لحمه نجس، وذكر آخرون أن بول ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل لحمه نجسٌ كله. فذهب إلى الرأي الأول مالك وأحمد والزُّهري والنخعي والأوزاعي والثوري والشوكاني، وجماعة من الأحناف منهم محمد ابن الحسن وزُفَر، وجماعة من الشافعيين منهم ابن المنذر وابن خُزيمة وابن حِبَّان والإصطخري والروياني. وذهب إلى الرأي الثاني الشافعي وأبو حنيفة وأبو ثور والحسن.
وقد استدل أصحاب الرأي الأول بما يلي:

أ - عن أنس قال «قدم أُناس من عُكَلٍ - أو عُرَينة - فاجتَوَوْا المدينة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بلِقاح، وأن يشربوا من أبوالها وألبانها» رواه البخاري ومسلم وأحمد. قوله اجتوَوْا: أي استوخموا . وقوله اللقاح: أي النوق ذوات اللبن واحدتها لِقحة. فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يأمرهم بشرب أبوال الإبل وهي من مأكول اللحم فهو دليل على طهارة بولها وبول ما يُؤكل لحمه. أي أنهم قد استنبطوا من هذا الحديث علة كون الإبل يُؤكل لحمها، فقاسوا عليها كل ما يُؤكل لحمه كالغنم والبقر والغزلان والدجاج والحمام وغيرها.

ب - عن أنس رضي الله عنه قال «كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قبل أن يُبنى المسجد في مرابض الغنم» رواه البخاري ومسلم. فقالوا هذا دليل ثانٍ على طهارة بول الغنم والبقر، لأن الصلاة في مرابض الغنم دليل على طهارتهما، إذ لا يخلو المِرْبض من البول والبعَر، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي في مكان فيه بول وبعر من الغنم فهو دليل على طهارتهما ، وقاسوا عليهما سائر أبوال ما يُؤكل لحمه.

ج - عن جابر بن سمرة رضي الله عنه «أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تَوَضَّأ، قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم فتوضأ من لحوم الإبل، قال: أصلي في مرابض الغنم؟ قال: نعم، قال: أصلي في مبارك الإبل؟ قال: لا» رواه مسلم وأحمد والبيهقي.

د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الغنم من دوابِّ الجنة، فامسحوا رُغامها وصلوا في مرابضها» رواه البيهقي والخطيب، وإسناده حسن. وفي روايةٍ للبيهقي وابن عديٍّ عن أبي هريرة أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال «صلوا في مُراح الغنم، امسحوا رُغامَها فإنها من دوابِّ الجنة ». قوله مُراح: أي مأوى. وقوله رُغامها: أي مُخاطها. فهذه نصوص أُخر في جواز الصلاة في مرابض الغنم مع ما فيها من أبوال ورجيع، وهو دليل على طهارتها.

وأما نهيه عليه الصلاة والسلام عن الصلاة في معاطن الإبل فإنه ليس للنجاسة، وإنما هو معلَّل بأن الإبل من الشياطين. فعن البراء بن عازب قال «... وسُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في مبارك الإبل فقال: لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها من الشياطين، وسُئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال: صلوا فيها فإنها بركة» رواه أبو داود. ورواه ابن ماجة وأحمد وابن حِبَّان من طريق عبد الله بن مغفل بلفظ «صلوا في مرابض الغنم، ولا تصلُّوا في أعطان الإبل، فإنها خُلقت من الشياطين» وفي لفظٍ لأحمد من طريقه «فإنها من الجن خُلقت» فكون الحديث ينهى عن الصلاة في معاطن الإبل لعلة أنها من الشياطين - بمعنى أنها تُؤذي من يقترب منها إذا نفرت - فهو بذلك ينفي علَّة النجاسة.

هـ - عن أم سلمة رضي الله عنها ، قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يجعل شفاءَكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار.

و- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء ، فتداوَوْا ولا تداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي.
ز- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي.

وبهذه الأحاديث ردُّوا على من يقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم أَذِنَ بأبوال الإبل للدواء، وأنَّ هذا خاص بالعلاج، وإلا فأبوال الإبل نجسة. وقالوا إن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن التداوي بالخبيث أي بالنجس وبالحرام عموماً، وكونه أذن بالتداوي بالأبوال فهو دليل على خروجها على حكم النجاسة والتحريم. واستدل بعضهم بالحديث المرفوع الذي رواه البراء وجابر ولفظه «لا بأس ببول ما أُكل لحمه » رواه الدار قطني بسندٍ واهٍ جداً. وأورده ابن حزم في الموضوعات. هذا هو مُجمل رأيهم في طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه من الحيوان، وهذه هي أدلتهم.

أمّا قولهم إن ما سوى ما يُؤكل لحمه نجس ، فلهذه الأدلة التي عللوها بأنها مأكولة اللحم وقالوا : بما أن ما سواهـا غير مأكـول فيكون نجساً. وللحـديث الآتـي: عن عبد الله ابن مسعـود قال «أتى النبي صلى الله عليه وسلم الغائط، فأمـرني أن آتيــه بثلاثة أحجـار، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده، فأخذت رَوْثة فأتيته بها فأخذ الحجرين وألقى الرَّوْثة وقال: هذا رِكْس» رواه البخــاري وأحمــد والترمذي. ورواه ابن خُزَيمة عنه هكذا « أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتبرَّز فقال: ائتني بثلاثة أحجــار، فوجــدت له حجرين وروثة حمار، فأمسك الحجرين وطرح الرَّوْثة وقال: هي رِجْس ». فقالوا : إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد وصف الرَّوْثة بأنها رِكْس أو رِجْس، أي نجسة، وهي رَوْثة حيوان لا يُؤكل لحمه، فدل ذلك على أن بول أو روث أو رجيع ما لا يُؤكل لحمه نجس.

أما أصحاب الرأي الثاني وهم الشافعيون والأحناف الذين اعتبروا رجيع وأبوال ما يُؤكل لحمه وما لا يُؤكل نجس كله، فقد استندوا إلى حديثين: هذا الحديث الذي ذكرناه قبل قليل، أي حديث الرِّكس، فعمَّموه على أبوال وأرواث كل الحيوانات، وحديث القبرين وهو: عن ابن عباس قال «مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : إنهما ليُعذَّبان وما يُعذَّبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة...» رواه البخاري وأحمد . وفي رواية لابن ماجــة وأحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أكثر عذاب القبر من البول». وفي روايةٍ للدارقطني عن أنس رضي الله عنه، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «تنزَّهوا من البول، فإن عامَّة عذاب القبر منه» فعمَّموا البول على سائر الإنسان والحيوان، لأن لفظ (البول) اسم جنس فيعمُّ، وأن البول ينسحب على بول الإنسان وبول الحيوان، فدل ذلك على نجاستهما.

تقي بن فالح
03-12-2017, 05:51 PM
أما صلاة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك أمره بالصلاة في مرابض الغنم، فقال الشافعي هذا محمول على أن تكون الصلاة بعيداً عن البَعَر والبول. وأما شُرب أبوال الإبل فقالوا هذا للعلاج، وفي العلاج يجوز شرب النجِس، وحمَلوا حديث الرسول عليه الصلاة والسلام في النهي عن الدواء الخبيث أو التداوي بالحرام على حالة الاختيار، أما في حالة الضرورة فلا بأس، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى وقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضْطُرِرتُمْ إليه  الآية 119 من سورة الأنعام.
هذه هي آراء الفريقين وأدلتهما، وبالنظر يتبين أنهما يلتقيان عند نجاسة بول ما لا يُؤكل لحمه كبول الأسد والذئب والنمر والحمار والبغل وغيرها ، ويفترقان عند بول ما يُؤكل لحمه من الأنعام والغزلان والدواجن والطيور المأكولة وغيرها.
وقبل أن نناقش هذين الرأيين بالتفصيل، نذكر في المسألة رأياً ثالثاً قال به الشعبي وداود ومال إليه البخاري يقول: إن جميع أبوال الحيوانات طاهرة دون استثناء، ولم يُنقل عنهم إن كانوا استثْنَوْا بول الكلب والخنزير أو لا. وإنما قلت مال إليه البخاري ولم أقل قال به، وذلك لأنه اكتفى بأنْ عقد في صحيحه باباً سمَّاه [باب أبوال الإبل والدوابِّ والغنم ومرابضها، وصلى أبو موسى في دار البريد والسِّرقين، والبرية إلى جنبه، فقال: ها هنا وثَمَّ سواء] ولم يُفصح بالحكم ، ولكنَّ إيراده حديث العُرَنيين يُشعر باختياره الطهارة، ويدل على ذلك قوله في حديث صاحب القبر (ولم يذكر سوى بول الناس) قال ابن بطال: أراد البخاري أن المراد بقوله كان لا يستتر من البول بول الإنسان لا بول سائر الحيوان ، فلا يكون حجة لمن حمله على العموم في بول جميع الحيوان.
ولست أريد في المناقشة أن أتناول كل رأي من الآراء الثلاثة على حدة، وإنما سأناقش المسألة كلها دفعة واحدة، ليتضح من ثَمَّ الرأي الصواب بإذن الله ، فأقول : إنَّ استشهاد من استشهد على نجاسة أبوال الحيوانات بحديث البخاري وروايتي ابن ماجة والدار قطني هو استشهاد غير دقيق، فقولهم إن كلمة البول تشمل بول الإنسان وبول الحيوان إنما هو كالقول: الماء كله طَهور بدليل قوله عليه الصلاة والسلام «الماء طَهور لا يُنجِّسه شيء» دون التفاتٍ إلى حديث القُلَّتين الذي خصص العموم. فقول الرسول  «لا يستتر من البول» أو قوله في رواية أخرى «لا يستنزه من البول» أخرجها أحمد. وفي روايةٍ «لا يستبريء» أخرجها النَّسائي. هو عام في جميع الأبوال بلا خلاف أعلمه، إلا ممن قال إن البول هنا للعهد، وإنَّ كلمة (أل) هنا جاءت نيابة عن المضاف إليه. وإذن فإنَّ البول يعني بول الإنسان، أو من مثل القرطبي الذي يقول ( قوله من البول اسم مفرد لا يقتضي العموم، ولو سُلِّم فهو مخصوص بالأدلة المقتضية لطهارة بول ما يؤكل).
ولكنَّ هذا القول مجمل، وجاءت روايات أُخر للأحاديث السابقة نفسها تبينه بأنه بول الإنسان، ففي روايةٍ للبخاري «لا يستتر من بوله » وفي رواية لأحمد وابن ماجة «لا يستنزه من بوله » وهذان نصان في بول الإنسان، وهما مبيِّنان للمُجمَل في الأحاديث الأخرى، والمعلوم عند الأصوليين العملُ بالمُبيِّن وحمل المُجمَل عليه، وهذا ما خفي على أصحاب الرأي القائل بنجاسة جميع الأبوال لدخولها تحت لفظ البول. فالأحاديث التي استشهدوا بها لا تصلح لتأييد دعواهم لأنها مجملة وروايات لفظة (بوله) تردُّ هذا الرأي، وتبين أن البول الوارد في تلك الأحاديث هو بول الإنسان. وهذا التفسير والفهم لألفاظ الأحاديث ينسجمان مع أحاديث طهارة بول الغنم وبول الإبل وأبعارها. والمعلوم أن الأصل في جميع الأشياء الطهارة، بدلالة قوله تعالى في سورة الحج أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا في الأَرْضِ  الآية 65. وقوله في سورة الجاثية وسَخَّرَ لَكُمْ مَا في السَّمواتِ ومَا في الأَرْضِ جَمِيْعَاً مِنْهُ  الآية 13. فالله سبحانه قد سخَّر لنا ما في الأرض وما في السموات جميعاً ، والتسخير يقتضي الاستعمال والاستفادة ، والنجس لا يُستعمل ولا يُستفاد منه، وإذن فإنَّ الطهارة هي الأصل، ونجاسة أي شيء هي التي تحتاج إلى دليل. قال ابن المنذر (إن الأشياء على الطهارة حتى تثبت النجاسة) ولذا فإنهم إما أن يأتوا بدليل ينص منطوقه أو يُؤخذ من مفهومه أن أبوال الحيوانات نجسة، وإما أن تظل على أصلها من الطهارة. وقد أتوا بحديث ظنُّوه نصاً في نجاسة بول الحيوان، هو حديث الرَّوْثة الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود، فإنْ بان بعد المناقشة أن الحديث ليس حجة لهم ولا يسند لهم رأياً، وأنه ليس لهم سواه من أدلة بان خطأُ رأيهم.
الحديث الذي رواه البخاري وغيره وصفَ الروثة بأنها رِكس بالكاف، وحديث ابن خُزَيمة الذي رواه ابن ماجة أيضاً وصف الروثة بأنها رِجس بالجيم ، وذكر ابن خُزَيمة أن الروثة كانت روثة حمار. والجواب عليه ما يلي : إن الرواية الصحيحة القوية تُقدَّم على الرواية الأضعف منها، حتى وإن كانت هي الأخرى صحيحة. فرواية البخاري أقوى من رواية ابن خُزَيمة وابن ماجة، فالأصل العمل بحديث البخاري دون حديث ابن خُزَيمة وابن ماجة، ومع ذلك، وإقامةً للحُجَّة على هؤلاء، سنَعمل بالروايتين معاً ، ولنبدأ برواية البخاري.
إن كلمة رِكس الواردة في الحديث وصفاً للروثة لا تعني النجاسة، ومن فسرها بذلك فقد أخطأ، فاللغة العربية لم تُستعمل فيها كلمة رِكس بمعنى نجِس، وما ورد في بعض المعاجم من تفسيرها بنجس إنما كان بتأثيرٍ من أقوال الفقهاء . فالقاموس المحيط فسرها بمعنيين رِكس بالكسر: رِجس ، ورَكس بالفتح : ردُّ الشيء مقلوباً وقلب أوَّله على آخره . وجاء في لسان العرب لابن منظور: الرَّكس : قلب الشيء على رأسه أو ردُّ أوله على آخره، وجاء في مكان ثانٍ له : الرَّكس: ردُّ الشيء مقلوباً . قال ابن حجر العسقلاني (الأوْلى أن يُقال ردٌّ من حالة الطعام إلى حالة الروث) ونُقل عن أبي عبد الملك أن معناه الردُّ كما قال تعالى : أُرْكِسوا فيها ، أي رُدُّوا . وعلَّق ابن حجر على هذا القول (ولو ثبت ما قال لكان بفتح الراء يقال أركسه رَكساً إذا ردَّه) وبمثل هذا فسرها ابن عباس فقال : أَرْكَسهم ردَّهم. وقال ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى كلَّ ما رُدُّوا إلى الفتنةِ أُركِسوا فيها قال ( يقول الله كلما رُدوا إلى الفتنة أُركِسوا فيها، يعني كلما دعاهم إلى الشرك بالله ارتدوا ، فصاروا مشركين مثلهم) وقال النَّسائي (الرِّكس طعام الجن ) فعقَّب عليه ابن حجر العسقلاني بقوله (وهذا إن ثبت في اللغة فهو مُريحٌ من الإشكال).
إذن أئمة اللغة والحديث اختلفوا في تفسير هذه اللفظة، وجُلُّهم يفسرها بالردِّ والقلب، وما ترددهم إلا لأن اللغة استعملت اللفظة بالفتح، والحديث قُرئت فيه الكلمة بالكسر، وإذا اختلفت الآراء فلا بد من مُرجِّح وإلا ظل تفسيرها يحتمل أكثر من وجه، ومع الاحتمال يسقط الاستدلال كما يقول الأصوليون. أي إما أن يظل الاحتمال قائماً فلا تصلح للاحتجاج ، وإما أن يُزال الاحتمال بمرجِّح فيصح الاستدلال.
وبالرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف نجد المرجِّح واضحاً تماماً. أما القرآن الكريم فقد استعمل جذر هذه الكلمة في موضعين: الأول في الآية 88 من سورة النساء، والثاني في الآية 91 من السورة نفسها. الآية الأولى تقول فَمَا لَكُمْ في المنَافِقِيْنَ فِئَتَيْنِ واللهُ أَرْكَسَهم بما كَسَبُوا والآية الثانية تقول كُلَّ مَا رُدُّوا إلى الفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيْها وهاتان الآيتان تشيران إلى معنى واحد للرَّكس هو الرد والقلب، وهو ما يوافق تفسير القاموس المحيط وتفسير لسان العرب، وتفسير ابن عباس وابن حجر وابن جرير وأبي عبد الملك. فالصواب هو أن كلمة رَكس بالفتح معناها القلب والرد. هذا هو معناها في القرآن الكريم، وهو معناها في اللغة.

وللبحث بقية

تقي بن فالح
04-12-2017, 02:13 PM
فإن قالوا إن القرآن استعمل جذر كلمة ركس بالفتح، أما الحديث فقد ورد فيه اللفظ بالكسر رِكس، ورِكس معناها نجس، قلنا لهم : وأين اللغة التي تحدد هذا المعنى أيضاً؟ فالقاموس المحيط فسَّر كلمة رِكس بالكسر بأن معناها رِجس وكذلك فسرها مختار الصحاح، ولم يُفسِّراها بنجس، وكلمة رِجس لا تعني النجس إلا بقرينة ، ولا قرينة هنا.

والآن لننتقل إلى تفسير كلمة رِجس، وهي اللفظة الواردة في رواية ابن ماجة وابن خُزَيمة .
ب- قالت معاجم اللغة إن كلمة رِجس معناها القَذَر، وإن القذر منه المادِّي، ومنه غير المادي من الأعمال، وقد فسَّرتها بالغضب وبالقبح وبالإعاقة وبالاختلاط وبالالتباس وبالشك وبالعقاب، وفسرتها بعض المعاجم بالنجس. فهي إذن ذات معانٍ متعددة ليست النجاسة أبرزها. هذا في اللغة.
أما في القرآن الكريم فقد وردت هذه اللفظة في عشرة مواضع في تسع آيات، لا بأس بأن أذكرها كلها:

1- إنما الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِن عَمَلِ الشَّيْطَانِ الآية 90 من سورة المائدة.

2- كذلك يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلى الذِينَ لا يُؤْمِنُونَ  الآية 125 من سورة الأنعام.

3- إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ  الآية 145 من سورة الأنعام.

4- قال قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ ربِّكُمْ رِجْسٌ وغَضَبٌ الآية 71 من سورة الأعراف.

5- فأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إنَّهُمْ رِجْسٌ الآية 95 من سورة التوبة.

6- ويَجْعَلُ الرِّجْسَ على الذِينَ لا يَعْقِلُونَ الآية 100 من سورة يونس.

7- فاجْتَنِبوا الرِّجْسَ مِن الأَوْثَانِ واجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ  الآية 30 من سورة الحـج.

8- إنَّمَا يُريدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُم الرِّجْسَ أَهْلَ البَيْتِ الآية 33 من سورة الأحزاب.

9- وأَما الذِينَ في قُلُوْبِهِمْ مَرَضٌ فزَادتْهُمْ رِجْسَاً إلى رِجْسِهِمْ الآية 125من سورة التوبة.

وبالتدقيق في هؤلاء الآيات يتبين أن كلمة رِجس الواردة فيها لها عدة معان ، ليس منها النجاسة إلا في موضعٍ واحد وبالقرينة، كما سبق بحثه في بحث [سُؤر الحيوان] هو الآية الثالثة إلا أَنْ يَكُوْنَ مَيتةً أو دَمَاً مَسْفُوحاً أو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنَّه رِجْسٌ وجميع المعاني الباقية تغاير هذا المعنى. ففي الآية الأولى ليس الميسر وليست الأنصاب نجسة، وفي الثانية تفيد معنى السوء ، وفي الرابعة تفيد معنى العذاب، وفي الخامسة تفيد نجاسةً معنوية كما سبق تحقيقه، وفي السادسة تفيد عقاباً وسوءاً ، وفي السابعة لم يقل أحد إن الأوثان نجسة، وفي الثامنة لا يقول أحد إن الله يريد أن يُذهب النجاسة عن أهل البيت، وفي التاسعة لا تفيد لفظة رِجس النجاسةَ في موضعيها من الآية. ولو شئتُ أن أجمع هذه المعاني كلها في كلمة واحدة لقلت إن معناها (سوء)، وخذ الآيات كلها وفسِّرها بهذا المعنى فستجد انطباقها عليه . فكلمة رِجس تعني السوء، ولا تعني النجاسة إلا بقرينة كما أسلفنا. إذن فليس في القرآن ما يوجب تفسير الرِّجس بأنه النجس، فيكون معنى الحديث أن الروثة رَكس أي ردٌّ وقلبٌ، أو رِجس، بمعنى سوء. هذه هي دلالتها في اللغة وفي القرآن الكريم.

أما الحديث فقد فسَّر هذه اللفظة بأوضح بيان وأجلى عبارة ، ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً.

1- عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «أتاني داعي الجن فذهبت معه، فقرأت عليهم القرآن، قال فانطَلَق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد فقال: لكم كل عظم ذُكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكلُّ بعرة علفٌ لدوابِّكم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم»رواه مسلم وأحمد. ورواه ابن حِبَّان ولفظه «فلا تستنجوا بالعظم ولا بالبعر فإنه زاد إخوانكم من الجن». ورواه الترمذي ولفظه «لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجنِّ» وقال (والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم) .

2- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يُستنجَى بروثٍ أو عظمٍ وقال: إنهما لا تُطهِّران» رواه الدار قطني وقال: إسنادٌ صحيح.

3- عن أبي هريرة «أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إِداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها فقال: مَن هذا؟ فقال: أنا أبو هريرة، فقال: ابغني أحجاراً أستنفضُ بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة، فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي حتى وضعت إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بالُ العظم والروثة ؟ قال: هما من طعام الجنِّ، وإنه أتاني وفد جنِّ نَصِيبِين - ونعم الجنُّ - فسألوني الزاد فدعوت الله لهم أن لا يمرُّوا بعظم، ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاماً » رواه البخاري.

4- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال «سأَلَت الجنُّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في آخر ليلة لقيهم في بعض شعاب مكة الزاد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلُّ عظم يقع في أيديكم قد ذُكر اسمُ الله عليه أوفرُ ما يكون لحماً، والبعرُ يكون علفاً لدوابكم، فقال: إن بني آدم يُنَجِّسونه علينا، فعند ذلك قال : لا تستنجوا بروث دابَّة ولا بعظمٍ ، إنه زاد إخوانكم من الجن» رواه الطَّحاوي. ففي هذه الأحاديث الدليل القوي الواضح على أن كلمة رِجس وكلمة ركس هنا لا تعنيان النجاسة ، وأن علة منع الاستنجاء بالعظم وبالروث هي أنهما من طعام الجن وليس لأنهما نجستان.

القرآن الكريم استعمل كلمة رَكس بمعنى الردِّ والقلب ، واستعمل كلمة رِجس بمعانٍ عدة يجمعها كلها كلمةُ سوء، والرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بالروثة قال عنها:

أ- إنها رَكس، أي ردٌّ وقلبٌ ، بمعنى أنها سترتدُّ وستنقلب ، أي ستتحول من حال إلى حال. وجاءت الأحاديث الأخرى تبين ماهية التحول هذا، وأن ذلك يعني تحولَها من جديد إلى طعام أي سترتدُّ إلى حالها الأُولى من الغذاء. هذا هو معنى الردِّ والقلب كما جاء في معاجم اللغة، وكما جاء في استعمالات القرآن الكريم. فالقرآن الكريم والسنة الشريفة ومعاجم اللغة التقت كلُّها عند معنى واحد لكلمة رَكس، هو الارتداد والانقلاب إلى ما كان عليه من قبل. وإذا التقت هذه الثلاثة على معنى واحد لم يجُزْ لأحدٍ كأنناً مَن كان أن يخالف ذلك.
يتبع ان شاء الله

تقي بن فالح
06-12-2017, 03:14 PM
ب- إنها رِجس، ورِجس معناها سوء، ومعناها سُخط كما فسَّرها عبد الله بن عباس. والسوء عكس الصلاح، قال سبحانه وآخَرونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطَوا عَمَلاً صَالِحَاً وآخَرَ سيِّئاً  الآية 102 من سورة التوبة . وقال سبحانه ومَنْ يُؤْمِنْ باللهِ ويَعْمَلْ صَالِحَاً يُكفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ  الآية 9 من سورة التغابن . وقال جلَّ جلاله ومَا يَسْتَوِي الأعْمَى والبَصِيرُ والذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ولا المُسِيءُ الآية 58 من سورة غافر. فهؤلاء الآيات الكريمات قد ذكرن الصلاح والسوء وجعلن الصلاح عكس السوء، فالسوء غير الصلاح والسَّيِّءُ غير الصالح فهما متضادتان. وإذن فإن لفظة (رِجس) معناها سوء وسخط وعدم صلاح. هذه هي أجمع معانيها، فقول الرسول عليه الصلاة والسلام عن الروثة إنها رِجس، يفيد أنها سيئةٌ في الاستنجاء، أو أنها سُخط ، أو أنها غير صالحة. هذه هي معاني رِجس هنا، وليس من معانيها هنا النجاسة لا من قريب ولا من بعيد.
وباختصار نقول إن الرسول عليه الصلاة والسلام حين أُتي بروثةٍ أراد أن يبين أنها لا تُستعمل في الاستنجاء، فاستعمل كلمة رَكس ومعناها أنها ستتحول إلى حالها الأولى من الطعام أي أنها ستكون طعام الجنِّ بعد تحولها في أيديهم إلى طعام، وإذا أوردنا لفظة رِجس قلنا إنه عليه الصلاة والسلام أراد بها إظهار رفضه لاستعمالها فقال إنها سيئة أي غير صالحة وإنها سخط أي مخالفة للوعد الذي قطعه عليه الصلاة والسلام لإخواننا الجن.
هذه هي معاني الحديث بلفظتيه رَكس ورِجس ، وهي معانٍ متعاضدةٌ متناسبة مع استعمال القرآن الكريم والأحاديث النبوية الكثيرة التي اجتزأنا بعضاً منها، وليس منها معنى النجاسة. بل لماذا نذهب بعيداً والحديث الرابع يقول «إن بني آدم يُنجِّسونه علينا» فهذا نصٌّ يدلُّ دلالة قطعية على طهارة الروث والعظم، لأن ما كان نجساً لا يُطلب عدم تنجيسه ، فكون الحديث يقول ما قال فهو دليل أكيد على طهارتهما.
وإذن وبعد أن ظهر خطأُ استشهادهم على نجاسة الروث ، فإن الرَّوث يظل على أصله من الطهارة، ويظل بول الآدمي فحسب هو النجس ، وهذا وحده يكفي للتدليل على طهارة جميع الأبوال لجميع الحيوانات، باستثناء أبوال الكلاب والخنازير ، لما سبق تحقيقه من نجاسة الكلب ونجاسة الخنزير، إذ أنهما ما داما نجسين فأبوالهما نجسة قطعاً.
وإنَّ الأمر ليزيد عن حد الكفاية إلى حد الاطمئنان حين نستشهد بالأحاديث الثلاثة التي سبق أن استشهد بها أصحاب الرأي الأول على طهارة أبوال ما يُؤكل لحمه، فهي في الواقع يُستشهد بها للاطمئنان على صحة الرأي القائل بطهارة أبوال وأزبال الدوابِّ كلها، وأن هذه النصوص الثلاثة إنما تناولت أفراداً من المباح ولم تستقص المباح كله، فالمباح ثبت حين أبطلنا أدلة من قال بنجاسة الأبوال، لأن الأصل في الأشياء أن تكون طاهرة.
بقيت النقطة الأخيرة، وهي التداوي: هل يجوز التداوي بالدواء الخبيث أو النجس، أو الحرام أم لا يجوز؟ الصحيح أن التداوي بالنجس أو بالمُحرَّم حرام لا يجوز لما يلي:
أ- عن وائل الحضرمي أن طارق بن سويد الجعفي «سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال : إنما أصنعها للدواء ، فقال: إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي.
ب - عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء فتداوَوْا ولا تَداوَوْا بحرام» رواه أبو داود والبيهقي وقد سبق.
ج - عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله لم يجعل شفاءكم في حرام» رواه ابن حِبَّان وأبو يعلى والبزَّار وقد سبق.
د - عن أبي هريرة رضي الله عنه قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدواء الخبيث» رواه أبو داود وابن ماجة وأحمد والترمذي وقد سبق.
فقوله عليه الصلاة السلام (في حرام) وقوله (الدواء الخبيث) وكذلك نهيه عن التداوي بالخمر يشمل كل نجس وحرام ، ولم يستثن الرسول صلى الله عليه وسلم أية نجاسة أو أي مُحَرَّم من هذا العموم، ولذا يظل الحكم عاماً في كل حرام وكل نجس.
وأما حديث العُرَنيين الذي سمح بالتداوي بأبوال الإبل، فهو متَّسق مع هذا الحكم العام لأن أبوال الإبل طاهرة فلا يشملها النهي، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن في أبوال الإبل وألبانها شفاءً للذَّرِبَةِ بطونُهم» رواه أحمد. ورواه ابن المنذر بلفظ «اشربوا من ألبانها وأبوالها» . قوله الذَّرِبة - من الذَّرَب بالتحريك -: هو داء يصيب المعدة فيمنعها من هضم الطعام فيفسد فيها. وقال ابن المنذر تعقيباً على حديث العُرَنيين (فإن قال قائل بأن ذلك للعُرَنيين خاصة، قيل له : لو جاز أن يقال في شيء من الأشياء خاصة بغير حجة لجاز لكل من أراد فيما لا يوافق من السنن مذاهب أصحابه أن يقول ذلك خاص... واستعمال الخاصَّة والعامَّة أبوالَ الإبل في الأدوية ، وبيع الناس ذلك في أسواقهم، وكذلك الأبعار تباع في الأسواق، ومرابض الغنم يُصلَّى فيها، والسنن الثابتة دليل على طهارة ذلك، ولو كــان بيع ذلك محــرماً لأنكر ذلك أهــل العلم، وفـي ترك أهل العلم إنكار بيع ذلك فـي القديم والحديث، واستعمــال ذلك معتمدين فيهــا علــى السُّنة الثابتة بيــان لما ذكرنــاه) وهكـذا فهم المسلمون الأوائل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يصنعـون الأدويــة من أبوال الإبــل وهم يعلمـون نهــي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التــداوي بالنجـس، ممــا يوضح أنهم كانـوا يعتبرون أبوال الإبل طاهرة.
أما استشهاد بعضهم بحديث ترخيص رسول الله عليه الصلاة والسلام لعبد الرحمن ابن عوف بلبس الحرير في الحكة مع أن لبس الحرير للرجال حرام، فنزيل هذه الشبهة بإيراد نص الحديث ثم بيان دلالته. عن أنس قال «رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم للزبير وعبد الرحمن في لبس الحرير لحكَّة بهما» رواه البخاري وأحمد والنَّسائي والترمذي وأبو داود. ورواه مسلم ولفظه «إن عبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام شَكَوَا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم القمل، فرخص لهما في قُمُص الحرير في غزاة لهما». فهذا الحديث ليس في موضوع العلاج ، وليس هو في باب التداوي، ولا يُدرج هنا، بل مكانه باب الرخص للمريض، فلبس الحرير ليس دواء وليس علاجاً، ولا يُصنَّف في قائمة العلاجات والأدوية لمرض الحكَّة، وإنما يقال إن الحكَّة مرض يُرخَّص لصاحبها في لبس الحرير، وبحث الرخص معلوم في الفقه، وهو حالات استثنائية يجوز فيها للمريض ما لا يجوز لغيره، فالمريض في رمضان يُرخَّص له في الإفطار، ولا يقال إن الإفطار - وهو في الأصل إثم - علاجٌ للمريض الصائم، وإنما يقال هو رخصة، والمريض يُرخَّص له في الصلاة قاعداً ، ولا يقال إن الصلاة قاعداً علاج، وإنما يُقال إنها رخصة، والمريض إذا كان الماء يضرُّه يُرخَّص له في التيمُّم مع وجود الماء ، ولا يقال إن التيمُّم علاج، وكذلك المريض بالحكَّة يُرخَّص له في لبس الحرير، ولبس الحرير ليس علاجاً، وإنما هو رخصة، وهكذا الرُّخص كلها حالات استثنائية يباح فيها فعل الحرام أو ترك الواجب، وليست علاجات وليست أدوية، والقاسم المشترك بينها هو دفع المشقَّة والأذى عن المريض، فالصيام مشقة، والوضوء بالماء مشقة وأذى، ولبس الملابس الخشنة مشقة. هكذا يجب أن يُفهم حديث لبس الحرير للحكَّة، وهو أنه رخصة في حالة مرض الحكة وليس علاجاً وليس دواء. وبذلك يظل الحكم العام قائماً ، وتظل النصوص كلها منسجمة بعضها مع بعض. فالتداوي بالحرام حرام، والتداوي بالنجس حرام، ولا يجوز استعمالهما في العلاج مطلقاً، وليس في النصوص أيُّ نسخٍ لهذا الحكم ولا أي مخصِّص ولا أي معارِض.
وللبحث بقية

تقي بن فالح
07-12-2017, 02:21 PM
أما قولهم إن الدواء الخبيث يُحمل على حالة الاضطرار، والدواء الخبيث لا يحل في حالة الاختيار، فهو تأويل يشبه تأويلهم لحديث الصلاة في مرابض الغنم من أنه يُحمل على الصلاة في الأماكن التي ليس فيها بول أو بَعَر، وتأويلهم لحديث التداوي بأبوال الإبل من أنه يُحمل على حالة الاضطرار، فهم يتبنَّون حكماً يرونه صحيحاً ثم يؤولِّون الأحاديث والنصوص التي تخالف هذه الحكم، وكان الواجب عليهم العمل بجميع النصوص عندما تكون منسجمة بعضها مع بعض ولا تَعارُض بينها.
أما هذه الحالة التي وضعوها للدواء - وهي حالة الاختيار والاضطرار - فإنا نقول إن الله سبحانه أباح لنا في حالة الاضطرار أن نفعل الحرام، فنأكل الميتة ونشرب الخمر ونسرق الطعام ولكن هذا شيء والتداوي بالخبيث في حالة الاضطرار شيء آخر، بمعنى أنه لو وُجد شخص أشرف على الموت عطشاً وليس عنده شراب إلا الخمر جاز له شُربُها لينقذ نفسه، وإذا كان المسلم سجيناً ومنع السَّجَّان عنه الطعام حتى أوشك على الهلاك جاز له أن يقتل السَّجَّان ويخلِّص نفسه ، فهذا هو غير الباب الذي نحن بصدده، وهذا هو معنى الآية الكريمة التي استشهدوا بها على خطأ رأيهم ( وَقَدْ فَصَّلَ لكُمْ مَا حُرِّمَ عَلَيْكُمْ إلا مَا اضطُرِرتُمْ إليه). فالاضطرار حالة غير حالة المرض ، وأدلتها غير أدلة المريض وأدلة العلاج، لأن الاضطرار هو الحالة التي يشرف فيها الإنسان على الموت ، وهو الحالة التي أشارت إليها الآية الكريمة (فمَنْ اضطُرَّ غَيْرَ باغٍ ولا عادٍ) ففي حالة الاضطرار يجوز فعل الحرام من أجل الخروج والخلاص منها ، أما موضوعنا فشيء آخَرُ تماماً.
فالمرض ليس حالة اضطرار ولا يجوز خلط الاضطرار بحالة المرض أو الدواء للاختلاف بينهما، ففي حالة المرض يظل الحكم عاماً، وهو حرمة التداوي بالنجس أو بالحرام. وهكذا فإنه ليس لهم حجة على ما أوردوه، ويظل الأمر كله بجميع فروعه منسجماً مع بعضه، فأبوال الإبل طاهرة، ولذلك يجوز التداوي بها، والخمر نجسة ولذلك لا يجوز التداوي بها.
ونحن نستطيع الوصول إلى الحكم نفسه بأن نقول إن الشرع حرَّم الانتفاع بالنجس، وإن الشرع حرَّم الحرام بداهة، وجعل الانتفاع بالنجس وفعل الحرام حراماً وليس مباحاً ولا مكروهاً ، وما دام الدواء النجس نجساً فإنه يحرم الانتفاع به وما دام الدواء محرَّماً فإنه يحرُم تعاطيه.
ويجوز أن نستثني من هذه الحكم العام ما نشاء إن وجدنا نصوصاً مخصِّصة ومستثنِية، ولكننا رغم بحثنا لم نجد أي نص مخصِّص أو مُستثنٍ، فالتداوي بأبوال الإبل ليس مُخصِّصاً، والترخيص بلبس الحرير ليس مستثنياً، وإذن فإن انتفاء التخصيص والاستثناء يقود بالضرورة إلى إعمال الحكم العام، وهو حرمة التداوي بالنجس وبالحرام . وما قلناه من عدم وجود التخصيص وعدم وجود الاستثناء نقوله أيضاً من عدم وجود التعارض، فليس في النصوص أي نص يعارض الحكم بالتحريم.
ومن أجمل ما قرأت في هذا الموضوع كلمات كتبها ابن القيم في كتاب الطب النبوي أنقلها إليكم كما وردت (إنما حرَّم الله على هذه الأمة ما حرَّم لخبثه ، وتحريمه له حمية لهم وصيانة عن تناوله، فلا يناسب أن يطلب به الشفاء من الأسقام والعلل، فإنه وإن أثَّر في إزالتها لكنه يُعقِب سَقَماً أعظم منه في القلب بقوة الخبث الذي فيه، فيكون المداوي به قد سعى في إزالة سُقْم البدن بسَقَم القلب ، وأيضاً فإن تحريمه يقتضي تجنَّبه والبعد عنه بكل طريق وفي اتخاذه دواءً حضٌّ على الترغيب فيه وملابسته، وهذا ضد مقصود الشارع) وأضاف ابن القيم (إن في إباحة التداوي به ولا سيما إذا كانت النفوس تميل إليه ذريعة إلى تناوله للشهوة واللذة، لا سيما إذا عرفت النفوس أنه نافع لها مزيلٌ لأسقامها جالب لشفائها، فهذا أحبُّ شيء إليها، والشارع سدَّ الذريعة إلى تناوله بكل ممكن، ولا ريب أن بين سدِّ الذريعة إلى تناوله وفتحِ الذريعة إلى تناوله تناقضاً وتعارضاً، وأيضاً فإن هذا الدواء المُحـرَّم من الأدواء ما يزيد على ما يظن فيه من الشفاء) وأضاف (ومعلوم أن اعتقاد المسلم تحريم هذه العين مما يحول بينه وبين اعتقاد بركتها ومنفعتها وبين حسن ظنه بها وتلقِّي طبعه لها بالقبول، بل كلما كان العبد أعظم إيماناً كان أكره لها وأسوأ اعتقاداً فيها، وطبعه أكره شيء لها فإذا تناولها في هذه الحال كانت داء له لا دواء) فهو قول مُشرقٌ بليغ. وبذلك لا نكون في حالة نحتاج معها إلى التأويل الذي يؤدي إلى تعطيل الأدلة الشرعية، أو صرفها عن الجهة التي جاءت لعلاجها. من كل ذلك نخلص إلى القول إن أصحاب الفريق الأول أصابوا وأخطأوا وإنَّ أصحاب الفريق الثاني أخطأوا ولم يُصيبوا، وإنَّ أصحاب الفريق الثالث أصابوا ولم يُخطئوا، اللهم إلا إذا لم يستثنوا الكلب والخنزير، وهو استثناءٌ لا أعلم إِن كانوا قالوه أو لا.
وبعد أن فرغنا من إزالة الشُّبهات في موضوع الأبوال، نودُّ أن نبحث موضوع الميتة وما يتعلق بجلدها وعظمها وشعرها، وهل هذه الثلاثة تلحق بالميتة من حيث النجاسة، أم أن لها حكماً آخر؟
ثانياً: الميتة وأجزاؤها من حيث النجاسة:
لقد اختلف الأئمة والفقهاء في موضوع الميتة وأجزائها من حيث النجاسة اختلافاً كبيراً، وذهبوا في ذلك مذاهب شتَّى، وقد ظهر ذلك في موضوعين رئيسيين منها:
أ - عظمها وشعرها وما يلحق بهما من العاج والسِّنِّ والقرن والوبر والصوف.
ب - جلدها.
فذهب إلى نجاسة عظمها مالك والشافعي وإسحق وأحمد ، وذهب إلى حكم الكراهة فيها عطاء وطاووس والحسن وعمر بن عبد العزيز ، وذهب إلى طهارتها ابن سيرين وابن جُرَيْج والثوري وأبو حنيفة والزُّهري، ومن الصحابة ابن عباس. فالفقهاء والأئمة اختلفوا في العظم على ثلاثة آراء، واختلفوا في جلد الميتة هل يَطْهُر بالدباغ أم لا يَطْهُر وأيُّ الجلود تَطْهُر، على آراءٍ كثيرة نفصِّلها كما يلي:
1- ذهب عبدالله بن مسعود وسعيد بن المسيِّب وعطاء والحسن والشعبي وسالم والنخعي وقتادة والضحاك وسعيد بن جبير ويحيى بن سعيد ومالك والليث والثوري وأبو حنيفة وابن المبارك والشافعي وأحمد في آخر قوليه إلى أن جلود الميتات تَطهر بالدباغ ما عدا جلد الكلب وجلد الخنزير.
للبحث بقية .... تابعوا معنا

تقي بن فالح
09-12-2017, 06:54 PM
2- ورُوي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وعِمران بن حصين وعائشة أم المؤمنين وأحمد في أُولى الروايتين عنه، ومالك في رواية عنه إلى أن الدباغ لا يُطَهِّر جلد الميتة إطلاقاً.

3- وذهب الأوزاعي وأبو ثور وإسحق بن راهُوَيه إلى تطهير جلد الميتة لمأكول اللحم فقط.

4- وذهب مالك إلى أن الدِّباغ يُطَهِّر ظاهر الجلد دون باطنه، بمعنى أنه لا يصلح لوضع المائعات والسوائل فيه.

5- وذهب داود وأبو يوسف ومالك في رواية عنه إلى أن الدِّباغ يُطَهِّر جميع الجلود حتى جلد الكلب والخنزير.

6- وانفرد الزُّهري بالرأي القائل بطهارة جلود الميتة دون دباغ.

هذه هي الآراء في هذه المسألة، فلنناقشها للوقوف على الرأي الصحيح بتوفيق الله سبحانه. الذي ظهر لي هو أن عظم الميتة وشعَرها وسِنَّها وظِلْفها كله طاهر، وأن جلود الميتات جميعها تطهر بالدباغ لما يلي:

1- قوله تعالى قُلْ لا أجِدُ في مَا أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أنْ يكون مَيْتَةً أو دَماً مَسْفُوحاً أو لحمَ خِنزيرٍ فإنَّه رِجْسٌ أو فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ الآية 145 من سورة الأنعام.

2- عن ثوبان أن رسول الله  قال «يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عَصَبٍ وسِوارين من عاج» رواه أبو داود وأحمد.

3- عن ابن عباس قال «تُصُدِّق على مولاةٍ لميمونة بشاة فماتت، فمرَّ بها رسول الله  فقال: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به؟ فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حَرُمَ أكلُها» رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.

4- عن ميمونة زوج النبي عليه الصلاة والسلام قالت «مرَّ رسول الله  برجال من قريش يجُرُّون شاة لهم مثل الحمار، فقال لهم رسول الله : لو أخذتم إهابَها قالوا: إنها ميتة، قال رسول الله  : يُطهِّرها الماء والقَرَظُ» رواه أحمد والدار قطني وابن حِبَّان ومالك. وصححه الدار قطني والحاكم وابن السكن . قوله القَرَظ: هو مادَّةٌ يُدبغ بها.

5- عن ابن عباس «أن داجنةً لميمونة ماتت فقال رسول الله : ألا انتفعتم بإهابها، ألا دبغتموه فإنه ذكاتُه» رواه أحمـد. وقال ابن حزم : إسناده في غاية الصحة.

6- عن عبد الرحمن بن وعلة عن ابن عباس رضي الله عنه قال «قلت له : إنا نغزو فنُؤتى بالإهاب والأَسْقية، قال: ما أدري ما أقول لك، إلا أني سمعت رسول الله  يقول: أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر» رواه أحمد ومسلم وابن ماجة وابن حِبَّان والبيهقي.

7- عن ابن عبــاس رضي اللــه عنه قال «أراد النبي  أن يتوضأ من سِقاء، فقيل له : إنه ميتة ، قال : دباغه يذهب بخَبَثه أو نجَسه أو رِجْسه » رواه ابن خُزَيمة . ورواه البيهقي والحاكم وصححاه، وقد سبق.

8- عن عائشة رضي الله عنها قالت «سُئِل النبي  عن جلود الميتة، فقال : دباغها طُهورها» رواه أحمد والنَّسائي.

9- عن ابن عباس رضي الله عنه قال «ماتت شاة لسَوْدة بنت زِمْعة، فقالت: يا رسول الله ماتت فلانة، يعني الشاة، فقال : فلولا أخذتم مَسْكَها، فقالت: نأخذ مَسْك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله : إنما قال الله عز وجل قُلْ لا أَجِدُ فِيْما أُوحِيَ إليَّ مُحَرَّماً علي طاعِمٍ يَطْعَمُه إلا أَنْ يكُونَ مَيْتةً أو دماً مَسْفُوحاً أَو لَحْمَ خِنْزِيرٍ فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به، فأرسلت إليها فسلخت مَسْكها فدبغته فأخذت منه قِربة حتى تخرَّقت عندها» رواه أحمد بإسناد صحيح. ورواه البخاري والنَّسائي. ووردت أحاديث أخرى في تطهير الجلود بالدباغ، إلا أننا اقتصرنا على هذا القدر للكفاية فلا نطيل.

باستعراض الأدلة التسعة نجد أن الدليل التاسع هو تفسيرٌ فقهي للدَّليل الأول وهو الآية، وعلى هذين الدليلين مدار البحث إلا قليلاً. قول الرسول عليه الصلاة والسلام «فإنكم لا تطعمونه أن تدبغوه فتنتفعوا به» إذا أضيف إلى نصِّ الآية الكريمة قُلْ لا أَجِدُ في ما أُوحيَ إليَّ مُحَرَّماً على طاعمٍ يَطْعَمُه نخرج منه بفهمٍ لطيف، هو أن التحريم الواقع على الميتة إنما هو على أكلها وعلى المأكول منها «وأنتم لا تطعمونه»، «على طاعمٍ يطعمه» فالتحريم هو على أكل الميتة ، والمادة المحرَّمة في الأكل منها هي ما يُؤكل منها. هذا هو فقه الحديث التاسع مقروناً بالآية الكريمة، وإذن فإنَّ كل ما يصلح للأكل من الميتة حرام أكله ونجس أيضاً، وهو الذي يحتوي على أحكام الميتة لا غير ، فيخرج من الموضوع ما لا يُؤكل منها كعظمها وظِلْفها وشعرها وسنِّها. وعلى ذلك فكل ما في الميتة مما لا يؤكل لا ينطبق عليه حكم الميتة من حيث التحريم والنجاسة، بل يظل على البراءة الأصلية من الطهارة، وهذا الفهم أيضاً هو لشيخ الإسلام ابن تيمية. وأيضاً فإن أدلةً عدة على جواز استعمال ما سوى المأكول من الميتة واعتبارها طاهرة تدعم وتقوي هذا الفهم.

أ - حديث ثوبان بند 2 السابق نصٌّ في جواز استعمال العاج ، والعاج هو عظم الفيل، وحكم العاج حكم العظم في الحلِّ والحرمة وهو دليل على طهارته لأنه لو كان نجساً ما جاز استعماله، فإذا عُلم أن تجارة العاج لم تكن زمن الرسول عليه الصلاة والسلام فيما بين المسلمين وحدهم - لأن الهند وإفريقية لم تكونا دخلتا بعدُ في دولة الإسلام - بل كان المسلمون يشترون العاج من الكفار الهندوس في الهند والوثنيين في إفريقية، وهؤلاء لم يكونوا يذبحون أو يُذكُّون الفيلة ذكاةً يقرها الإسلام، هذا إن كانوا أصلاً يذبحون، وإنما كانت أنياب الفيلة تقطع منها وهي ميتة، وتظل مع ذلك طاهرة مستعملة زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا دليل واضح على استثناء العظم من الميتة يؤيد الفهم السابق. ورُبَّ قائلٍ يقول: إن العاج يُقطع من الفيلة وهي حية، وبالتالي تظل طاهرة لأنها لم تقطع من ميتة ، فنجيبه بإجابتين:

إحداهما : أنه لم يكن المسلمون يفرِّقون أو يسألون إن كان العاج الوارد إليهم هو من فيلة حية أو ميتة، ولو سألوا لما حصلوا على جواب أكيد، مما يدل على عدم الفارق عندهم.

والثانية : أن أبا واقد الليثي قال «قدم رسول الله  المدينة، وبها ناسٌ يعمدون إلى أليات الغنم وأسْنِمة الإبل فَيَجُبُّونها، فقال رسول الله : ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة» رواه أحمد. ورواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم) فهذا الحديث يدل بما لا يدع مجالاً للشك على أن أي عضو يُقطع من الفيلة وهي حية هو ميِّت وهو نجس، والنجس حرام استعماله، فلما جاز استعمال العاج دلَّ ذلك على أنه شيء آخر لا ينطبق عليه الحديث، وما ذلك إلا لأنه ليس ميتة، ولا ينطبق عليه حكم الميتة. وبذلك يسقط القول بأنه طاهر لأنه قُطع من حيوان حيٍّ طاهر ، وإنما هو طاهر لأنه ليس ميتة فحسب.

تقي بن فالح
10-12-2017, 04:09 PM
هذا في العاج، ويلحق به السنُّ والظِّلف والعظم. قال الزُّهري في عظام الموتى من الحيوان كالفيل (أدركتُ ناساً من سَلَف العلماء يمتشطون بها ويدَّهِنون فيها لا يرون به بأساً) ذكره البخاري. والمعلوم أن الزُّهري تابعي، وإذن فإنَّ سَلَفَ العلماء الذي أدركهم هم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ب - إجماع الصحابة واتِّفاق العلماء سلفاً وخلفاً على طهارة الشعر والصوف والوبر. والمعلوم إنها تُجَزُّ من الأنعام وهي حية كما تُجَزُّ منها بعد ذبحها، وتعامل كلها معاملة واحدة من حيث الطهارة وجواز الاستعمال دون أي فارق. وحيث أن ما يُؤخذ من الحي ميت ونجس كما بيَّنا، وحيث أن بعض هذه الأصناف الثلاثة تؤخذ من الأنعام وهي حية ومع ذلك تعتبر طاهرة، فإن ذلك يدل على أن حكم الميتة لا ينطبق عليها، وأن الميتة هي ما يُؤكل فقط، والشَّعَر والصوف لا يُؤكلان، وينطبق عليهما ما ينطبق على العاج الذي يقطع من الفيلة ويكون طاهراً، وصدق الله العظيم إذ يقول ومِنْ أََصْوافِها وأَوْبارِها وأَشْعَارِها أَثاثاً ومَتَاعَاً إِلى حِين الآية 80 من سورة النحل، ولم تفرِّق الآية بين صنف وصنف من حيث الجزُّ والقطعُ.

ج - قول الحديث 3 «فقالوا إنها ميتة، فقال: إنما حَرُم أكلُها» هذا نص صريح لا يحتمل التأويل بأن التحريم إنما ينطبق على الأكل، وحيث أن الأكل لا يقع من الميتة إلا على المأكول فقد دل ذلك على صواب فهمنا.

بقي جلد الميتة : قُلت من قبل (وعلى هذين الدليلين مدار البحث إلا قليلاً) فالقليل هو هذا البحث الخاص بجلد الميتة. إن الجلد يؤكل، ولذلك يشمله تحريم الأكل والنجاسة، لأنه يدخل في مدلول الميتة، وهذا الدخول آتٍ من ناحيتين:

أ - تحقيق المناط.

ب - النصوص الصريحة في ذلك.

أما تحقيق المناط ، فحيث أن الجلد يُؤكل أو يمكن أن يُؤكل، فإنه يدخل تحت قوله تعالى عَلَى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ وتحت قول الرسول عليه الصلاة والسلام «إنما حَرُم أكلُها» فجلد الطير كالدجاج والحمام والبط يُؤكل، وجلد الأرنب يُؤكل، وهذا ظاهر، أما جلود المواشي فيمكن أن تُؤكل، فقد روى البخاري ومسلم والترمذي وأحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال « ... إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا قريشاً إلى الإسلام، فأبطأوا عليه فقال: اللهم أعِنِّي عليهن بسبعٍ كسبعِ يوسُف، فأخذتهم سَنةٌ، فحَصَّت كلَّ شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، حتى جعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من الجوع ...» وإذن فما دام الجلد يُؤكل أو يمكن أن يُؤكل فهو داخل في حكم الميتة تحريماً ونجاسة .

أما من حيث النصوص الصريحة، فإنَّ قراءةً متأنِّية للحديث الخامس «ألا دبغتموه فإنه ذكاته» وللحديث الرابع «يُطهِّرها الماءُ والقَرَظ» وللحديث السابع «دباغه يذهب بخَبَثِه أو نَجَسِه أو رِجْسِه» وللحديث السادس «أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طهُر» وللحديث الثامن «دِباغُها طُهُورها» تكشف المعنى المراد ، فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقول عن الجلد إن الدِّباغ هو ذكاة له، وإنه يُطهَّر بالماء والقَرَظ - والقَرَظُ مادةٌ تُستعمل في الدِّباغة - وإن الدباغ يُزيل نجسه، وإن طُهور الجلد دِباغُه، فإن ذلك يدل بشكل جازم على أن جلد الميتة نجس، وإلا لما طَلب تَطْهِيرَه بالدِّباغ.

وأصرح نصٍّ في ذلك الحديث (7) فكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقول إن جلد الميتة نجس فإن ذلك يدل على إلحاقه بالميتة في النجاسة، وأنه بالتالي يأخذ حكمها، وأنه بالتالي أيضاً ليس مستثنىً من الميتة كالشعر والعظم بل هو من الميتة يأخذ حكمها في التحريم والنجاسة. وأيضاً فإن العظم والشعر والصوف يستعمل دون تطهير، إذ لم يُرو عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أمر بتطهيره قبل استعماله، ولم يقع إجماع الصحابة على ذلك، في حين أن الرسول عليه وآله الصلاة والسلام طلب في أحاديث عديدة صحيحة متضافرة تطهيرَ الجلد بالدباغ قبل الانتفاع به، فهذا فارق واضح بين الجلد وبين العظم والشعر، وبذلك يتبين وجه الاختلاف بين العظم والجلد.

ومن ناحية ثانية فإن الجلد مستثنىً من عمــوم منع الاستعمال والانتفــاع بالميتة وبالنجس، فهو حكمٌ استثنائي، وكــان حقــه أن يكون ممنوعـــاً مـن الاستعمــال لنجاستــه، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استثناه من الميتة استثناءً خاصاً، فبيَّن أن هذا الجزء النجس من الميتة يجوز الانتفاع به دون سائر أجـــزاء الميتة بشرطٍ واحد هو تطهيره بالدباغ، ولم يُجِزْ ذلك في غيره من أجزاء الميتة، فهو حكم خاصٌّ لا يقاس عليه. وقد يَرِدُ سؤال : إن القول باستثناء الجلد من الميتة غير مسلَّم به، وإن للموضوع وجهاً آخر هو أنه يجوز استعمال الجلد من الميتة، لأنه يُنتفع به في غير الأكل، ولو كان استعماله في الأكل لأخذ حكم الميتة سواء بسواء؟ وربما كان السؤال: إنَّ علة جواز استعمال الجلد إنما هي لكونه لا يُؤكل، وبالتالي فإنه يقاس عليه كل عضو من الميتة يُنتفع به في غير الأكل؟.

فنرد بالقول: إن هذا السؤال وجيه وصحيح لو لم يكن لدينا نصٌّ يمنع منه، وهذا النص هو: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول عام الفتح وهو بمكة «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل: يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنه يُطلى بها السفن ويُدهنُ بها الجلود ويَستصبحُ بها الناس؟ فقال: لا، هو حرام، ثم قال رسول الله  عند ذلك: قاتل الله اليهود، إن الله لما حرَّم شحومها جَمَلوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه » رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن. قوله جَمَلوه: أي أذابوه. فهذا الحديث ذكر جزءاً من أجزاء الميتة داخلاً في حكمها من حيث التحريم والنجاسة هو الشحوم لأنها مما يُؤكل، هذا الجزء سُئل عنه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولم يكن السؤال عن الأكل وإنما عن انتفاعٍ آخر هو استعماله في طلاء السفن ودهــن الجلود والإضـاءة فـي البيوت، فجاء الرد الحاسم «لا هو حرام» أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أبقاه على أصله من التحريم، وبالتالي أبقاه على أصله من النجاسة، فالميتة نجسة وحرامٌ الانتفاع بها على أي وجه وعلى أية حالة. قال الجصَّاص: والتحريم يتناول سائر وجوه المنافع فلا يجوز الانتفاع بالميتة على وجه، ولا يُطعمها الكلاب والجوارح، لأن ذلك ضرب من الانتفاع بها، وقد حرَّم الله الميتة تحريماً مُعلَّقاً بعينها، فلا يجوز الانتفاع بشيء منها إلا أن يُخصَّ بدليل يجب التسليم له.

وبذلك يظهر بوضوح أن الميتة النجسة والمُحرَّم أكلها والانتفاع بها على أي وجه من وجوه الانتفاع - وهي ما سوى العظم والشعر - يُستنثى منها الجلد فحسب إذا دُبغ.
وللبحث بقية

تقي بن فالح
11-12-2017, 09:51 AM
وننتقل الآن إلى استعراض الأدلة التي استشهد بها من قالوا خلاف ما قلنا، ومناقشتها وبيان خطأ استدلالهم.
أ - عن عبد الله بن عُكَيم قال «كَتَب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بشهرٍ أن لا تنتفعوا من الميتة بإهابٍ ولا عَصَبٍ» رواه أحمد وأبو داود. وعند أحمد وأبي داود والنَّسائي وابن ماجة روايةٌ أخرى ليس فيها تقييدٌ بزمن. وعند أحمد رواية ثالثة بلفظ «قبل وفاته بشهْرٍ أو شهرين». ورواه الترمذي بلفظ «قبل وفاته بشهرين».
ب - عن عبد الله بن عُكَيم قال «كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في أرض جُهَينة: إني كنت رخَّصت لكم في جلود الميتة، فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عَصَب» رواه الطبراني . وفيه فضالة بن مفضل قـال عنه أبو حاتم : لم يكن أهلاً أن يُروى عنه. وقال العُقَيلي: في حديثه نظر.
ج - عن عبد الله بن عُكَيم قال: حدثني أشياخُ جُهينة قالوا «أتانا كتاب رسول الله ، أو قُرِئ علينا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا تنتفعوا من الميتة بشيء» رواه الطَّحاوي.
د - الحديث الذي مرَّ سابقاً تحت رقم (5) الذي رواه أحمد «أنَّ داجنةً لميمونة ماتت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا انتفعتم بإهابها ألا دبغتموه فإنه ذَكاتُه».
هـ - قوله تعالى وضَرَبَ لنــا مثَلاً ونَسِيَ خَلْقَــهُ قال مَنْ يُحْيِي العِظامَ وهِيَ رَمِيمٌ. قُل يُحْيِيها الذِي أََنْشأََها أَوَّلَ مَرَّةٍ وهُو بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الآيتان 78 و79 من سورة يس.
و - قوله تعالى حُرِّمَتْ عَلَيْكُم المَيْتَةُ ... الآية 3 من سورة المائدة.
ز- الحديث الذي مرَّ سابقاً والذي رواه أحمد والترمذي «ما قُطع من البهيمة وهي حيَّة فهي ميتة». هذا ما تمسَّكوا به من أدلة.
أما الأحاديث الثلاثة الأولى (أ،ب ،ج) فهي حديثٌ واحد رُوي بألفاظ متعددة، وكلُّها من طريق عبد الله بن عُكَيم، وهذا الحديث هو مستنَد مَن لم يُجيزوا دباغة جلود الميتة، ولم يجيزوا تطهيرها من النجاسة. وبالنظر في هذا الحديث نجد أنه ضعيف سنداً ومضطرب متناً. أما من حيث السند، فقد رُوي مرة بلفظ «قُرِيء علينا كتاب رسول الله» رواه أبو داود. ومرة بلفظ «أتانا كتاب النبي» رواه ابن ماجة. ومرة بلفظ «حدَّثني أشياخ جُهَينة» رواه الطحاوي. وهذه الألفاظ كلها تدل على أن عبد الله قد نقل الحديث عن مجهولين، إضافة إلى أن الحديث (ب) في إسناده راو ضعيف.
وأما من حيث المتن فقد رُوي مرة مقيَّداً بزمن ومرة أخرى غير مقيَّد، وحتى المقيَّد بزمن رُوي مقيَّداً بشهر، ومقيَّداً بشهرين، وجاء في روايات أخرى مقيَّداً بأربعين يوماً ومقيَّداً بثلاثة أيام، وحيث أن الراوي لهذه الأحاديث كلها هو راو واحد هو عبد الله بن عُكَيم وحصل هذا التفاوت في المتن فإن ذلك كافٍ لوصفه بالاضطراب في المتن. فالحديث ضعيف سنداً مضطرب متناً، فلا يقوى على معارضة أحاديث الدباغ الكثيرة الصحيحة فيردُّ.
قال الترمذي (سمعت أحمد بن الحسن يقول : كان أحمد بن حنبل يذهب إلى هذا الحديث لِما ذُكِــر فيه: قبل وفاته بشهرين، وكـــان يقول: هذا آخِر أمر النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ترك أحمد هذا الحديث لمَّا اضطربوا في إسناده، حيث روى بعضهم وقال: عن عبد الله بن عُكَيم عن أشياخٍ من جهينة). وقــال الخلال : لما رأى أبو عبد الله - أي أحمد - تزلزلَ الروايـةِ فيه توقف. وقال ابن تيمية : أكثر أهـــل العلم على أن الدبــاغ يُطهِّــر فــي الجملة، لصحَّة النصوص به ، وخبر ابن عُكَيم لا يقاربها في الصحة والقوة لينسخها.
أما الحديث (د) الذي فيه «ألا دبغتموه فإنه ذكاته» فقد استدل به مَن قالوا إن الدباغ يُطهِّر جلود ميتات ما يُؤكل لحمها دون ما لا يُؤكل، فهؤلاء نظروا في قوله  «فإنه ذكاته» فقالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم شبَّه الدَّبغ بالذكاة ، والذكاة تعمل في مأكول اللحم، ولأنه أحد المُطهِّرَين للجلد فلم يُؤثِّر في غير مأكولٍ كالذبح. وقد نُقل عن أحمد بن حنبل أنه قال: إن كل طاهر في الحياة يُطَهَّر بالدبغ لعموم لفظه في ذلك، ولأن قوله عليه الصلاة والسلام «أيُّما إهابٍ دُبغ فقد طَهُر» يتناول المأكول وغيره خرج منه ما كان نجساً في الحياة، لكون الذبح إنما يؤثِّر في دفع نجاسةٍ حادثةٍ بالموت، فيبقى ما عداه على قضية العموم.
فأقول: أما القول الأول وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام شبَّه الدبغ بالذكاة، والذكاة تعمل في مأكول اللحم، فهو قول صحيح إن كان الجلد الذي يُدبغ إنما يُدبغ من أجل أكله، وهذا ما لا يقولون به، فهم أرادوا أن يكون التشبيه كاملاً، وهذا يقتضي أن الذكاة تطهير، وأن التطهير يكون في المأكول ، وأن الدِّباغ يُحوِّل غير المأكول لنجاسته إلى مأكولٍ لطهارته، وهذا اقتضاء فاسد، إذ لو كان القول في الدِّباغ لعضوٍ نجس في الميتة يُراد تحليله للأكل لصحَّ قولهم، فلما لم يَعْنُوا ذلك ولم يقولوا به، وأن الجلد لا يُدبغ لأجل الأكل ، دلَّ ذلك على أن تشبيه ذكاة الجلد بذكاة الحيوان مأكول اللحم تشبيهاً كاملاً هو خطأ، وأن الصواب هو أن الذكاة للجلد لا تزيد عن كونها تعني التطهير فحسب، أي هي كلمة لغوية وليست هنا شرعية، وأن الدباغ لا يزيد عن كونه يُطهِّر الجلد، أي يُزيل نجاسته فحسب، أي يطيِّبه ليصبح صالحاً للاستعمال بعد أن كان نجساً لا يصح الانتفاع به.
هذا هو معنى الحديث ولا يصح أن تُفَسَّر التذكية بأنها ما تزيل عن النَّجِس نجاسته ليصلح للأكل. فلما أخطأوا في تفسير كلمة الذكاة هنا، فقد أخطأوا في الحكم، فتاهوا في موضوع مأكول اللحم وغير المأكول.
أما ما رُوي عن الإمام أحمد من قول فهو وجه آخر من وجوه التأويل البعيد، إذ أننا لم نسمع أن هناك نجاسة حادثة ونجاسة قديمة يختلف حكماهما، وإنما النجاسة نجاسة، قديمةً كانت أو حادثةً لا فرق بينهما ، ولم يرد هذا التفريق في نصٍّ من القرآن أو الحديث، وما دعاهم إلى هذا القول إلا ليستطيعوا تفسير كلمة التطهير أو الذكاة تفسيراً ينسجم مع سابق رأيهم ، وهو أن مأكول اللحم طاهر، وغير المأكول نجس، وهذا غير صحيح. وليته رحمه الله توقف عند أول عبارته وعند آخرها، واستغنى عن الكلام المتوسط بينهما إذن لصح قوله، فقوله
« أيُّما إِهاب» عام ، ولا يوجد نصٌّ يخصِّص، وهذا ما قاله في أول عبارته وآخرها ، والتخصيص الذي أتى به لم يسنده بدليل.
وقد فطن ابن قدامة لهذا المعنى، إلا أنه تلطُّفاً مع قول إمامه أحمد بن حنبل صاغه بصيغة الاحتمال، فقال (وحديثهم يحتمل أنه أراد بالذكاة التطييب من قولهم رائحة ذكية أي طيبة، وهذا يطيب الجميع، ويدل على هذا أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة، والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته، أما الذكاة التي هي الذبح فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله ، ويحتمل أنه أراد بالذكاة الطهارة فسمى الطهارة ذكاة، فيكون اللفظ عاماً في كل جلد فيتناول ما اختلفنا فيه).
محصِّلة القول هي أن الرسول عليه الصلاة والسلام عنى بالذكاة الذكاة اللغوية، أي مجرَّد التطهير والتطييب دون الذكاة الشرعية للحيوانات، فيكون التشبيه ناقصاً.

تقي بن فالح
12-12-2017, 06:28 PM
أما البند (هـ) وهو قوله تعالى قُلْ يُحْيِيها الذي أَنشأَها فقد استدلوا به على أن العظام تدخلها الحياة وتحل فيها، وأن العظم يحيا ويموت بحياة الحيوان وموته ، وبالتالي فإنَّ عظم الحيوان الميت ميت، فيدخل في الميتة ويأخذ حكمها من حيث النجاسة والتحريم. هكذا حمَّلوا الآية ، وهكذا استدلوا بها على مذهبهم. والذي دفعهم إلى هذا الغوص هو ما انتهى إليه اجتهاد الإمامين الثوري وأبي حنيفة من القول بطهارة عظام الميتة، لأن الموت لا يحل فيها فلا تنجس به كالشعر ، ولأن علة التنجيس في اللحم والجلد اتصال الدماء والرطوبات به ، ولا يوجد ذلك في العظام ، فردُّوا عليهما بالقول إن هذا القول منهما خطأ، والدليل على ذلك قوله تعالى قال مَنْ يُحْيِي العِظامَ وهِي رَمِيمٌ ... وقالوا إن ما يحيا فهو يموت ، ولأن دليل الحياة الإحساس والألم، والألم في العظم أشد من الألم في اللحم والجلد، والضِّرس يألــم ويُحس ببرد المــاء وحرارتــه، وما تحلُّ فيه الحياة يحل فيه الموت إذ الموت مفارقة الحياة ، وما يَحل فيه الموت ينجس به كاللحم ... إلخ. وهكذا لما جاء أبو حنيفة رحمه الله بهذا التعليل أخطأ الآخرون في الرد عليه، وخرج الاثنان عن فقه حديث الرسول عليه الصلاة والسلام الذي بيَّن العلَّة في ذلك، وهي ما يؤكل من الحيوان دون ما لا يؤكل، دون نظرٍ في الحياة والممات والإحساس والألم والحلول وغيره.

أما الآية الكريمة في البند (و) حُرِّمَتْ عليكُم المَيتةُ والحديث الأخير في البند (ز) «ما قُطع من البهيمة وهي حية فهي ميتة» فهذه نصوص عامة تُستنبط منها أحكام عامة صحيحة لا يختلف عليها أحد، ولكن الأدلة والشواهد التي اعتمدنا عليها هي أدلة تخصِّص هذا العموم، والخاص يُعمل به ويبقى العام فيما سواه. أما الاستشهاد على العموم بأدلة تفيد العموم فإنه لا يفيدهم في الرد على أدلة الخصوص وأحكام التخصيص، ولا نطيل أكثر من ذلك.

بقيت مسألتان لا بد من ذكرهما هما:

أ - البيضة تُؤخذ من دجاجة ميتة هل هي طاهرة أم نجسة؟

ب - لبن الميتة وأَنْفِحَّتُها، هل هما طاهران أم نجسان؟

فأقول: إن البيضة إن كانت مكتملة النمو بحيث يطلق عليها اسم البيضة إذا وجدت في بطن دجاجة أو حمامة ميتة، فهي طاهرة غير نجسة، وحال البيضة في هذه الحالة كحال شاة أو بقرة أو ناقة ماتت وفي بطنها جنينُها فشُقَّ بطنُها وأخرج جنينها حياً، فهو طاهر يجري عليه ما يجري على أي وليد، والبيضة كهذا الوليد تعتبر طاهرة يحلُّ أكلها وبيعها وترقيدها.

أما لبن الميتة وأنِفحَّتُها فهما نجسان، قولاً واحداً، لأنهما مادَّتان من مواد الميتة أخذا حكمها في الطهارة والنجاسة، وذلك أن الميتة نجسة فضرعها ينجس بالموت، فيكون ما حوى من اللبن نجساً لذلك بالاحتواء والمخالطة، وكذلك الأنْفِحَّة - وهي ما نسميها (المسَاة)، وهي تُستعمل في تخثير الحليب لصنع الجبن - هي نجسة للسبب نفسه.

وقد ذهب إلى طهارة البيضة من الميتة أبو حنيفة وبعض الشافعيين كابن المنذر، وابن قُدامة من الحنابلة، وكرهها مالك والليث وبعض الشافعيين. وذهب إلى نجاسة لبن الميتة وأنفِحَّتِها أحمد ومالك والشافعي. وقال أبو حنيفة وداود إنهما طاهران.

تقي بن فالح
12-12-2017, 06:30 PM
ثالثاً: نجاسة الدم:

وأخيراً نقف وقفة قصيرة مع نجاسة الدم . لقد استدلَّ بعض الفقهاء على طهارة الدم بالآثار التالية:

أ - عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنا نأكل اللحم والدم خطوط على القِدْر».

ب - قال الحسن «ما زال المسلمون يُصَلُّون في جراحاتهم» ذكره البخاري.

ج - عن المِسْور بن مَخْرَمة قال «... فصلى عمر وجرحه يثعب دماً» ذكره مالك والدار قطني.

د - كان أبو هريرة لا يرى بأساً بالقطرة والقطرتين في الصلاة.
ولم يأتوا بأي نصٍّ من القرآن أو الحديث . فنقول : إن جميع هذه الآثار وما يشبهها هي أقوال وأفعال من صحابة رسول الله ، وإذا تعارضت مع الأحاديث النبوية لم تصمد أمامها، فقد صحَّ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه أمر بغَسل الدم للصلاة، وأن الأحاديث التي سُقناها فيما سبق تدل على نجاسة الدم ، فيُعمل بالأحاديث، ويُترك ما رُوي عن الصحابة من آثار مخالِفة.

وأيضاً فإننا لا نُسلِّم بأن هذه الآثار تدل على طهارة الدم، فرأْيُ أبي هريرة من أنه لا يرى بأساً بالقطرة والقطرتين في الصلاة، يفيد نجاسة الدم وليس طهارته، إذ لو كان الدم عنده طاهراً لما قيَّده بالنقطة والنقطتين، فالطاهر لو سال على الثياب وجرى بغزارة لا يؤثِّر في الصلاة، فلا يقال لا بأس بالقطرتين من الماء أو الزيت على الثوب أو البدن في الصلاة. أما قول عائشة في دم القِدْر، فهو أيضاً ليس دليلاً على طهارة الدم، لأن الشرع عفا عما لا يمكن التحرُّز منه، واللحم لا يمكن التَّحرُّز من الدم القليل الذي يخالطه، وإلا للزم تحريم أكل اللحم، فهذا القول من عائشة والرأي من أبي هريرة يُحملان على الدم اليسير غير المسفوح، لأن المحرَّم النجس هو الدم الكثير المسفوح.

أما ما صحَّ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه صلى والدم يثعب من جُرحه، فهذا الأثر ليس مكانه هنا، وإنما مكانه في موضعين: حالة الاضطرار، وحالة السيلان غير المنقطع كالمستحاضة ومَن به سَلَسُ البول. لأن عمر حين طُعن واندلقت أمعاؤه أيقن أنه ميت وأنه في حالة النزع، وأن دمه سيظل ينزف حتى يموت، ولن يمهله الطب أو العلاج شيئاً، ولا يستطيع أن يغسل جراحه، لأن غسلها ربما يُعجِّل في القضاء عليه فصلَّى على حاله، وهذا أمر مقبول في مثل حاله، فلا يُستدل به على طهارة الدم. وكذلك فإنه ما دام الدم يسيل بشكلٍ متواصل ولا يمكن وقفه، فإنه يأخذ حكم من به سَلَس البول أو حكم المستحاضة، فيصلي ولو قطر البول ولو سال الدم، ولا يدل ذلك في الحالتين على طهارة البول أو على طهارة الدم، فلا يصلح ما حصل من عمر دليلاً على طهارة الدم.

فلم يبق إذن سوى ما رواه البخاري من قول الحسن «ما زال المسلمون يصلُّون في جراحاتهم». والحسن هذا هو الحسن البصري وهو تابعي، وهذا القول منه على فرض أنه يشمل الصحابة رضوان الله عليهم فإنه ليس قولاً وليس نصاً في طهارة الدم، بل ليس فيه ذِكرٌ للدم، وإنما فيه أنهم كانوا يصلُّون وهم جرحى، والجريح قد يكون دمه يسيل، وقد يكون جرحه مربوطاً باللفائف، وقد يكون جرحه قد أوشك على الاندمال، وكل هؤلاء جرحى، ثم قد يكون الجرح يسيل دماً كثيراً، وقد يكون الجرح يرشح قليلاً ، فكيف يُراد من هذا القول أن يُستنبط منه حكمٌ في طهارة الدم؟.

تقي بن فالح
15-12-2017, 08:34 AM
رابعاً: ما يُظنُّ أنه نجس:

أما الأشياء التي يُظَنُّ أنها نجسة، وهي النبيذ ولحوم الحُمُر الأهلية والصديد والمني والقيء فنفرد لها هذا البحث.

أ - النبيذ: هو منقوع التمر، وذلك أنهم ينبذون حباتٍ من التمر في إناء فيه ماء في المساء ويتركونه حتى الصباح، ثم يدعكونه ويفرُكونه في الماء، ثم يُصفُّونه ، يصنعون منه شراباً حلواً فهذا هو النبيذ. فهو ماء وتمر لا غير، وإذا استمر المزيج فوق يومين أو ثلاثة أيام خاصةً في الجو الحار صار يَنِشُّ، أي صار له نشيشٌ وتخمَّرَ، وخرجت منه رائحة نفاذة، فإذا حصل ذلك صار خمراً وبطل كونه نبيذاً ، وآنذاك يُراق ولا يستعمل لنجاسته وحرمته.

وبهذا الوصف والشرح يتضح أن النبيذ طاهر وليس نجساً، والرسول عليه الصلاة والسلام والصحابة كانوا يصنعونه ويشربونه، فعن أنس قال «لقد سقيت رسول الله  بقدحي هذا الشراب كلَّه: العسل والنبيذ والماء واللبن» رواه مسلم. وهذا معلوم لدى جميع الأئمة والفقهاء، حتى إن أبا حنيفة والحسن والأوزاعي وعكرمة وإسحق يُجيزون الوضوء به لشهرة طهارته وحِلِّه، وبذلك لا يكون هناك أدنى شك في طهارة النبيذ. أما إن هو تخمَّر بطول المُكْث حتى صار خمراً فقد خرج عن كونه نبيذاً وصار آنذاك خمراً نجسة. أي أنه لا يكون نجساً ما دام نبيذاً، فلعلَّ مَن اعتبروه نجساً إنما عنَوْا به النبيذ بعد التَّخمُّر، أو لعلهم عَنَوْا به صنفاً من الخمر الموجودة الآن تحت اسم النبيذ، فهذا وذاك نجسان.

ب - لحوم الحُمُر الأهلية: لقد صنَّفها ناسٌ في باب النجاسات مستقلَّة بنفسها واستنبطوا حكم نجاستها من حديث أَمْرِ الرسول عليه الصلاة والسلام المسلمين في غزوة خيبر بإراقة ما طبخوه من لحوم الحُمُر الأهلية، أي من قوله في الحديث «فإنها رِجس» وقد سبق هذا الحديث في بحث [سُؤر الحيوان] فنقول ما يلي: أما أن هذه اللحوم نجسة فهذا لا يخالف فيه فقيه، ولكن ذلك لا يعني إفرادها في باب النجاسات، بل الصواب وضعها أو إدراجها في باب نجاسة الميتة، فكل حيوان لا يُؤكل شرعاً لا يُذبح، ولو ذُبح لما جاز أكله، ولما ذكَّاه الذبح، وفي هذه الحالة يصبح ميتة يجري عليه ما يجري على أية ميتة، فالحمار الميت نجس، والثور الميت نجس ، والأسد الميت نجس، وهكذا ، وهذه كلها تدخل تحت مدلول كلمة ميتة ، ولا حاجة لوضعها في بند منفصل.

ج - الصَّديد: هو سائل يفرزه الجلد المحروق أو المجروح . هذا السائل طاهر، وليس بنجس لأنه لم تثبت نجاسته في القرآن ولا في الحديـث ولا بإجماع الصحابة ، ولذلك يظل حكمه على أصله من الطهارة، ولم يضعه فقيه في باب النجاسات إلا بالقياس على الدم ، ولا قياس هنا لأنه ليس دماً ولا يشبه الدم في أوصافه وخصائصه ، وليست بينهما علة مشتركة فيظل طاهراً .
د - المني: لقد وردت فيه الأحاديث التالية:

1- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أفرُكُ المنيَّ من ثوب النبي  ثم يذهب فيصلي فيه» رواه أحمد وأبو داود. وفي رواية ثانية لأحمد «أَحُتُّ المنيَّ».

2- عن عبد الله بن شهاب الخَوْلاني قال «كنت نازلاً على عائشة فاحتلمــت فـي ثوبيَّ فغمستهما فــي الماء، فرأتني جاريةٌ لعائشة فأخبرَتها، فبعثت إليَّ عائشة فقالت : ما حملك على ما صنعتَ بثوبيك؟ قال قلت : رأيت ما يرى النائم في منامه قالت : هل رأيتَ فيهما شيئاً ؟ قلت : لا قالت: فلو رأيتَ شيئاً غسلتَه ، لقد رأيتُني وإني لأحكُّه من ثوب رسول الله  يابساً بظُفري» رواه مسلم. ورواه الترمذي وأحمد بلفظ «ربما فركْتُه».

3- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كنت أغسله من ثوب رسول الله ، فيخرج إلى الصلاة وأَثر الغسل في ثوبه بُقَعُ الماء» رواه البخاري.

4- عن عائشة رضي الله عنها قالت «كان رسول الله  يسلِتُ المنيَّ من ثوبه بعرق الإذْخِر، ثم يصلي فيه، ويحتُّه من ثوبه يابساً ثم يصلي فيه» رواه أحمد والبيهقي.

5 - عن ابن عباس رضي الله عنه قال «سُئل النبي  عن المنيِّ يصيب الثوب، قال: إنما هو بمنزلة المُخاط والبُزاق، وإنما يكفيك أن تمسحه بخرقةٍ أو بإذْخِرة» رواه الدار قطني والبيهقي والطحاوي. وأخرجه أيضاً البيهقي موقوفاً على ابن عباس وقال (الموقوف هو الصحيح).

6 - عن عائشة رضي الله عنهــا «أنها كانت تحُتُّ المنيَّ مــن ثوب رسول اللــه  وهو يصلي» رواه ابن خُزَيمــة. وروى ابن حِبَّـــان عــن عائشة رضــي الله عنهـــا بلفـظ «لقد رأيتُني أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله  وهو يصلي فيه» ورجاله رجال الصحيح.

وقد وردت أحاديث أخرى لا تخرج في محتواها عن هذه الأحاديث ، فاقتصرنا على هذا القدر منها.

وقد فهمت طائفة من الفقهاء من هذه الأحاديث أن المنيَّ نجس، وهؤلاء هم: أبو حنيفة ومالك والليث والأوزاعي والثوري. وذهب إلى طهارته الشافعي وأحمد وداود وأبو ثور وسعيد بن المسيِّب، ومن الصحابة علي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة وابن عباس فيما رُوي عنهم.

والحق أن هذه المسألة شائكة ودقيقة ، ذلك أن مجمل الأحاديث ورد فيها الغَسل والحتُّ والفَرك والسَّلت والمسح، ولكن المتفحِّص والمدقِّق يكتشف أشياء تُنير سبيل البحث، فالحديث الأول بروايتيه فيه أن عائشة كانت تفرُك المنيَّ وتحتُّه، دون بيان إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً، والحديث الثاني بروايتيه فيه أن عائشة كانت تحُكُّ المنيَّ وهو يابس ، وأنها كانت تفْرُكه وهو يابس وأنها قد خطَّأت عملية الغَسل، ولكنها في الحديث الثالث قامت بعملية الغَسل، دون أن تبين إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً . أما الحديث الرابع ففيه أن الرسول  قام بنفسه بعملية السَّلت وبعملية الحتِّ للمنيِّ اليابس. وأما في الحديث السادس، فقد ورد فيه الحتُّ في رواية ابن خُزَيمة، والفرك في رواية ابن حِبَّان، دون بيان إن كان المنيُّ رطباً أو يابساً. إذن قد ورد الغَسل والفرك والحكُّ والحتُّ والسَّلت حيناً مقيدةً بالمنيِّ اليابس وحيناً آخر مطلقةً غير مقيدة.

تقي بن فالح
17-12-2017, 07:39 PM
أما الغسل فلا خلاف في أنه يُزيل المنيَّ الرطب واليابس ، وأما السَّلْت فقد يزيل وقد لا يزيل، ولْنقل بغلبة الظَّنِّ إنه يُزيل المنيَّ الرطب واليابس. إذن الغَسل والسَّلت إنما قُصد منهما إزالة المنيِّ ، وهذا يدل في ذاته وحده على نجاسة المنيِّ ، وهذا هو دليل من قالوا بنجاسة المنيِّ، وهو دليل وجيه لو كان وحده أي لو اقتصرت النصوص عليهما فحسب، ولكن ورد الفرك والحكُّ والحتُّ للمنيِّ اليابس، والمعروف أن المنيَّ اليابس يُمسِك بالثوب ويُصَلِّبه ويُقسِّيه فضلاً عن كونه يعطي المكان اصفراراً خفيفاً، وحيث أن الفرك - وهو أقوى في الإزالة من الحك والحتِّ - لا يزيل المنيَّ ولا يقلعه، وإنما يخفِّفه فحسب، فذلك يدل على أن الأمر بهذه الأفعال الثلاثة إنما قُصد منه التخفيف، وهذا ما استدلَّ به من قالوا بطهارة المنيِّ، فقد قالوا : إن الفرك لا يزيل المنيَّ، وذلك يدل على أن الإزالة غير مطلوبة ، وبالتالي فالمنيُّ طاهر، وحملوا الأمر بالفرك على الاستحباب والنظافة.

ولكن المُنْصِفَ لا تكفيه هذه الحجة للقول بطهارة المنيِّ ، إذ تقابلها حجة أقوى هي ما ورد في الأحاديث من فعل الغَسل، والغَسل يزيل المنيَّ تماماً، وهذا دليل من قالوا بنجاسة المنيِّ وحملوا الفرك على عدم التشديد كعدم التشديد في غَسل الثوب من المذي مع أن المذي نجس. ولكن الموضوع لم ينته عند هذا المدى، فالحديث السادس يقول «أنها كانت تحتُّ المنيَّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي» ورواية ابن حِبَّان «لقد رأيتُني أفرك المنيَّ من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فيه» والحديث صحيح وهو يحسم الخلاف، لأنه يدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد صلى وفي ثوبه منيٌّ، فلو كان المنيُّ نجساً لما ابتدأ الصلاة به، وهذا دليل قوي على طهارة المني.

ولا يقال : إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يعلم بوجود المنيِّ في ثوبه. لا يقال ذلك، لأن الذي يقول هذا القول يجب أن يُثْبته أولاً وهو لا يملك إثباتاً، وثانياً إن الله سبحانه قد عصمه من الصلاة وهو يحمل النَّجاسة كما حصل معه حين نزل الوحي يخبره أن نعله تحمل نجاسة، فنزعها وهو في الصلاة، فالحديث قوي في الاحتجاج على طهارة المني. فإذا أُضيف إلى هذا الحديثِ الحديثُ الخامس المروي من طريق ابن عباس رضي الله عنه حصل اطمئنان إلى صحة القول بطهارة المنيِّ، فالحديث يقول «إنما هو بمنزلة المُخاط والبُزاق» وهو صريح في طهارة المنيِّ ، لأن المُخاط والبُزاق طاهران بلا خلاف أعلمه.

وقد يقال إن البيهقي قد روى الحديث موقوفاً على ابن عباس، وأنه قال (الموقوف هو الصحيح) والحديث الموقوف هو قول صحابي وهو ليس حُجة، وأن الدار قطني قد انفرد برفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام. فنقول : إن الدار قطني لم ينفرد برفع الحديث بل شاركه في ذلك الطَّحاوي والبيهقي أيضاً. إنَّ الدار قطني بعد أن ساق الحديث قال (لم يرفعه غير إسحق الأزرق عن شريك) فإذا علمنا أن إسحق إمامٌ مُخرَّج عنه في الصحيحين كما يقول ابن تيمية وابن الجوزي، فذلك يعني أن انفراده بالرفع لا يضرُّ ، وأن رفع الحديث زيادة، والزيادة يتعين المصير إليها كما هو معلوم . فالحديث صحيح ومرفوع ، وهو كاف في ترجيح حُجَّة من يقول بطهارة المنيِّ. وبذلك يظهر وجه الحق في هذه المسألة، وتُحمل أحاديث الغَسل والفرك والسَّلت وغيرها على إزالة الوسخ والتنظيف المندوب فحسب.

بقيت شُبهةٌ هي قولهم إن المنيَّ نجسٌ باستثناء منيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عندهم طاهر، فنقول لهؤلاء: من أين لكم هذا التفريق؟ وأين هو الدليل على نجاسة منيِّ مَن سواه؟ ولا دليل سوى ما أوردناه من أحاديث منيِّه عليه الصلاة والسلام بل إن حديث عائشة الثاني يساوي بين منيِّه عليه الصلاة والسلام ومنيِّ مَن سواه، فتبطُل هذه الشبهة، ويَثبت حكم طهارة المنيِّ.

أما ما خاض فيه الفقهاء من طهارة منيِّ الحيوانات أو نجاسته، وتفريقهم بين منيِّ مأكول اللحم ومني غير المأكول، فلا أجدني محتاجاً للخوض فيه، وحسبي أن أقول إنه لم يرد أي دليل على نجاسته، فهو باق على أصله من الطهارة.

هـ- القيء: إنه لم يَرِد في القيء نصٌّ صحيح ولا حسن ولا إجماع صحابة على نجاسته فيظل على أصله من الطهارة. ولقد اعتمد القائلون بنجاسة القيء على أمرين:

أحدهما: هو ما رواه مَعْدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فتوضأ، فلقِيتُ ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له، فقال: صدق أنا صببتُ له وَضوءه» رواه الترمذي وقال (هذا أصح شيء في هذا الباب) . وما رواه ابن أبي مُلَيكة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم«من أصابه قَيءٌ أو رُعافٌ أو قَلَسٌ أو مَذِي فلْينصرف فلْيتوضأ، ثم لِيَبْنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم» رواه ابن ماجة والدار قطني. وضعفه الهيثمي.

الثاني: أنهم وضعوا قاعدة تقول (أن الخارج من البدن من غير السبيل ينقسم قسمين : طاهراً ونجساً، فالطاهر لا ينقض الوضوء على حال ما والنجس ينقض الوضوء في الجملة رواية واحدة) ذكرها صاحب المغني، وذكروا أن ذلك مروي عن عدد من الصحابة والتابعين والفقهاء، فطبَّقوا الأمر الأول وهو الحديث على الأمر الثاني وهو القاعدة، فخرجوا بحكم نجاسة القيء، أي أنهم قالوا إن الحديث يدل على أن القيء ينقض الوضوء، وأن القاعدة تقول إن أي خارج من غير السبيل ينقض إن كان نجساً، وإذن فالقيء نجِس. فنجيبهم بأن هذه القاعدة غير مُسلَّم بها، فها هو المنيُّ ينقض خروجه الوضوء، بل ويُوجب الغُسل رغم طهارته، وأما قولهم إن النجس ينقض الوضوء في الجملة روايةً واحدة والطَّاهر لا ينقض الوضوء، فقد خالفهم فيه آخرون، فقد قال مكحول: لا وضوء إلا فيما خرج من قُبُل أو دُبر. ومالك وربيعة والشافعي وأبو ثور وابن المنذر لا يُوجبون من القيء وضوءاً. فالقاعدة التي وضعوها ليست صحيحة وغير مُسلَّم بها، فلا يصح استنباط الأحكام بحسبها.

أما الحديثان اللذان استشهدوا بهما، فالثاني منهما ضعيف فلا يصلح للاحتجاج، وأما الأول فإن غاية ما فيه أن القيء ينقض الوضوء فحسب على افتراض أن الفاء التي في (فتوضأ) هي فاء السَّببية. نعم روى البزَّار والدراقطني والبيهقي وأبو نعيم وابن عديٍّ وأبو يعلى من طريق عمار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا عمَّار، إنما تغسل الثوب من الغائط والبول والقيء والدم» إلا أن هذا الحديث يبلغ من الضعف درجة جعلت المُحدِّثين يرمونه بالوضع، وقد جاء هذا الاتهام من كون ثابت بن حمَّاد أحدَ رُواته وهو متَّهم بالوضع. قال البيهقي (هذا باطل لا أصل له). وأضاف (ثابت بن حمَّاد مُتَّهم بالوضع). وقال الهيثمي (ضعيف جداً). فالحديث لا يصلح للاحتجاج، فلا يصلح دليلاً على نجاسة القيء.

تقي بن فالح
20-12-2017, 09:14 AM
الفصـل الثالـث أحكامُ النجاسة
يتضمَّن هذا الفصل ست مسائل والتمهيد لها، وهذه المسائل هي:

1 - حكم الانتفاع بالنجس.

2 - هل يجب العدد في إزالة النجاسة ؟

3 - المواطن الثلاثة التي ورد فيها عدد

4- ما يُستعمل في إزالة النجس.

5 - تطهير المتنجِّس.

6 - الاستحالة.


تمهيد

قلنا في بحث [أعيان النجاسات] إن حكم النجاسة هو الاجتناب وجوباً، وإن الشرع لم يستثن من النجاسات من حيث الاجتناب سوى كلب الصيد وكلب الحراسة وجلد الحيوان الميت عند معالجته بالدباغ ، وما سوى ذلك من النجاسات يظل الحكم في حقـه وجوب الاجتناب. وهذا الاجتناب للنجاسات وكيفيته - وهو ما يسمى إزالة النجاسـة - لا يحتاج إلى نية، بل تكفي فيه الإزالة فحسب، فسواء زالت النجاسة بنية أو بدون نية، وسواء زالت بفعلٍ منا أو بفعل غيرنا فقد تم المطلوب وقُضي الأمر.

والنَّجِس عكسه الطاهر، فما سوى النجاسات التي سبق تحديدها فهو طاهر دون حاجة إلى دليل على طهارته، أي إذا لم يكن لدينا دليل على نجاسة شيء حكمنا بطهارته، لأن الله سبحانه سخَّر لنا كلَّ شيء، الأرضَ والحيوان والنبات، وحتى السموات قد سخَّر الله سبحانه ما فيها للإنسان، قال الله تعالى في سورة الجاثية وسَخَّرَ لكُم ما في السَّمواتِ ومَا في الأرضِ جميعاً مِنْهُ  والتسخير يقتضي جواز الاستعمال والانتفاع، ولا يكون الاستعمال وارداً مع النجاسة، ولذا فإنَّ كلُّ ما في السموات وما في الأرض مُسخَّر وطاهر إلا ما استثناه النص. فالطهارة هي الأصل والنجاسة خروجٌ عليه جاء الشرع يطلب نبذها وعدم التعامل معها. ثم إن الله سبحانه خلق الكون وعرض عليه التكليف فأبى وأشفق من حملِه، إلا الإنسان الظالم لنفسه الجاهل لمصير هذا الحمل، فقد وافق عليه، ولذا فإن كل ما في الوجود يسير في طاعة الله والإنسان المؤمن الصالح يسير مع الكون في طاعة الله، ولا يخرج على هذه المسيرة ويشذُّ عنها سوى الكافر من البشر، فهو الشاذ الخارج على الأصل، الذي هو طاعة الله، ويلحق به الكافر من الجنِّ والشياطين، فليس غريباً ولا مفاجئاً أن يُطلِق الشرع على الكفار لفظة النَّجَس تشبيهاً لهم بالنجاسات الخارجة على الأصل، فكما أن النجاسات خرجت على أصل الأشياء من الطهارة وسميت نجسة، فكذلك الكفار خرجوا على أصل الأشياء من الطاعة وسُمُّوا نَجَسَاً، قال سبحانه إنما المُشْرِكونَ نَجَسٌ فلا يَقْرَبوا المَسجِدَ الحرامَ بعدَ عامِهم هذا الآية 28 من التوبة. ولم يستعمل القرآن لفظة نجس سوى مرة واحدة هي هذه في وصف الكفار المشركين، ولذا فإن الأصل أن يُنبذ الكافر المشرك كما تنبذ النجاسات، ولكن باختلافٍ بين النبذين. أما التعامل مع الكافر فليس هذا مكانه، وأما التعامل مع النجاسات فهو مدار هذا البحث.

هناك نجِسٌ، وهناك متنجِّسٌ ،فأعيان النجاسات السابق بحثها وتحديدها هي من فئة النَّجِس، وإذا خالط النَّجِس غيره نجَّسَه فصار متنجِّساً، والحكم بالاجتناب والإزالة إنما يتعلق بالنَّجِس دون المتنجِّس، فالمتنجِّس يمكن إعادته إلى أصله من الطهارة بتخليصه من النَّجِس إلا أشياء نادرة، وأما النَّجِس فأصله النجاسة، ويظل نجِساً ولا يَطْهر إلا في حالة واحدة نادرة أيضاً.

تقي بن فالح
23-12-2017, 06:57 PM
حكمُ الانتفاعِ بالنَّجِس

حرَّم الشرع الانتفاع بالنَّجِس تحريماً عاماً مطلقاً ، وأوجب على المسلمين الابتعاد عنه دون إيجابه على الكافرين، فالكافرون سمح الإسلام لهم بالانتفاع بالنجس، فقد سمح لهم بالانتفاع بالخمر وهي نجسة، وسمح لهم بالانتفاع بالخنزير وهو نَجِس، وسمح لهم بالانتفاع بما يشاءون من النَّجاسات دون ممانعة من دولة الخلافة، فلو شربوا أبوالهم وخلطوا دماءهم في أدويتهم وأكلوا الميتة لم يعترض المسلمون عليهم، فالإسلام أمر المسلمين بترك الكفار وما يعبدون وما يأكلون، أما المسلمون فهم طاهرون متطهِّرون يأنفون من النجاسات ويعافون الاقتراب منها ، ويلزمهم إزالتُها وعدمُ الانتفاع بها بأي وجه من وجوه الانتفاع، إلا ما خصَّه الدليل ككلب الصيد وكلب الحراسة، وكجلد الميتة بعد دباغه، وما سوى هذه الثلاثة لا يجوز الانتفاع بالنَّجِس مطلقاً. ونسوق عدداً من الأدلة على ذلك:

أ - عن جابر أنه سمع رسول الله  يقول عام الفتح وهو بمكة «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخِنزير والأصنام فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة، فإنها يُطلَى بها السفن ويُدهنُ بها الجلود ويَستصبحُ بها الناس، فقال: لا هو حرام، ثم قال رسول الله  عند ذلك: قاتل الله اليهود إن الله لمَّا حرَّم شحومها جَمَلوه، ثم باعوه فأكلوا ثمنه» رواه البخاري وأحمد وأصحاب السُّنن . وقد سبق.

ب - عن ابن عباس أن رسول الله  قال «لعن الله اليهود - ثلاثاً - إن الله حرَّم عليهم الشُّحوم فباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرَّم على قومٍ أكل شيء حرَّم عليهم ثمنه» رواه أبو داود وأحمد والبيهقي.

ج - عن عون بن أبي جُحَيفة عن أبيه «أنه اشترى غلاماً حجَّاماً فأمر بمحاجمه فكُسِرت، فقلت له: أتكسرها ؟ قال: نعم، إن رسول الله  نهى عن ثمن الدم وثمن الكلب وكسب البَغِيِّ ، ولعَنَ آكِلَ الربا ومُوكِله والواشمة والمستوشمة ولعن المُصوِّر» رواه أحمد والبخاري ومسلم . قوله المحاجم - واحدتها مِحْجَم: هي الأداة التي يُحجَم بها .

د - عن ابن عباس قال «نهى رسول الله  عن ثمن الكلب، وإن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفَّه تراباً» رواه أبو داود. ورجاله ثِقات، ورواه أحمد بلفظ «ثمن الكلب خبيث، قال : فإذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفيه تراباً».

هـ - عن ميمونة رضي الله عنها «أن رسول الله  سُئل عن فأرة سقطت في سمن، فقال: أَلقوها وما حولها، فاطرحوه وكلوا سمنكم» رواه البخاري ومالك وأحمد والنَّسائي وأبو داود.
و- عن وائل الحضرمي « أن طارق بن سُويد الجُعفي سأل النبي  عن الخمر فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال : إنما أصنعها للدواء، فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء» رواه مسلم وأحمد والدارمي وأبو داود والترمذي.

الحديث الأول ذكر ثلاثة أصناف من النجاسات هي الخمر والميتة والخنزير، وفرَّع على الثاني وهو الميتة الشحوم، وذكر أن هذه النجاسات حرام بيعها، وحرام الانتفاع بالشحوم في طلاء السفن ودهن الجلود والإضاءة ، فالحديث نص صريح في عدم الانتفاع بهذه النجاسات بيعاً واستعمالاً. وفي الحديث الثاني قاعدة فقهية عريضة في موضوع الانتفاع بالمحرَّمات، ومنها النجاسات، هي أن كل مُحرَّم الأكل مُحرَّم البيع. وفي الحديث الثالث تحريم بيع صنفين من النجاسات هما الدم والكلب، والبيع انتفاع. والحديث الرابع يدل على تحريم بيع الكلب «إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه تراباً» والحديث الخامس أمر من الرسول  بإتلاف السمن المتنجس بالميتة. وفي الحديث السادس رفض الرسول  الانتفاع بالخمر حتى ولو صُنعت واستعملت كدواء.

فهذه أمثلة على تحريم الانتفاع بالميتة وشحومها، وتحريم الكلب والخنزير والدم والسمن المتنجس، ولو لم يكن من أدلة سوى الحديث الخامس لكفى، ذلك أن الأصناف السابقة هي من فئة النجس سوى ما جاء في الحديث الخامس، فهو من فئة المتنجس، ومع ذلك أمر الرسول  بإلقائه وعدم الانتفاع به فإذا كان المتنجِّس يُتْلف فكيف بالنَّجس؟ ثم إذا علمنا أن الشرع قد نهى عن إتلاف المال ، بل عن إتلاف أو إضاعة أدنى كمية منه، كاللقمة تسقط من اليد، لما روى جابر أنه سمع النبي  يقول «إذا طَعِم أحدكم فسقطت لقمته من يده، فلْيُمط ما رابه منها ولْيطعمها ولا يدعها للشيطان، ولا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق يده، فإن الرجل لا يدري في أي طعامه يبارَك له ...» رواه ابن حِبَّان ومسلم وأحمد. أقول إذا كان الشرع قد نهى عن إضاعة اللقمة تسقط من اليد فكيف يأمر بإتلاف ما هو أثمن منها كالسمن تقع فيه نجاسة لولا أن الانتفاع به لا يجوز؟

ولقد أجاز عدد من كبار الأئمة الانتفاع بالنجس منهم أبو حنيفة ومالك والشافعي والليث، مستدلين على رأيهم بالأدلة التالية:

أ - الحديث الأول المشار إليه آنفاً وهو حديث البخاري وغيره من طريق جابر.

ب - عن ابن عمر« أن الناس نزلوا مع رسول الله  على الحِجْر، أرض ثمود، فاستَقَوْا من آبارها، وعجنوا به العجين، فأمرهم رسول الله  أن يهريقوا ما استقَوْا، ويعلفوا الإبل العجين ...» رواه مسلم والبخاري.

ج - عن مُحيِّصة أخي بني حارثة «أنه أستأذن النبي  في إجارة الحَجَّام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى قال: اعلفْهُ ناضحَك وأَطْعِمْه رقيقَك» رواه الترمذي وحسنه.

فنرد عليهم بأن الحديث الثاني الذي رواه الشيخان ، والحديث الثالث الذي رواه الترمذي لا يصلحان للاستدلال في موضوعنا ، فهما ليسا في موضوع النجاسات والانتفاع بها، وإنما موضوعهما استعمال المُحرَّم ، والمُحرَّم ليس بالضرورة نجساً، فالحشيشة محرَّمة ولكنهـا ليست نجسة، والصُّلبان محرمة وهي ليست نجسة ، والتصاوير، أي التماثيل، محرمة وهي ليست نجسة، فكذلك كسب الحجَّام، وماء آبار من ظلموا أنفسهم، بل إن كسب الحجَّام لم يتفق الفقهاء على تحريمه، فقد أباحه قوم وكرهه آخرون. ولست أريد أن أدخل في هذا الباب حتى لا أخرج عن الموضوع، ولذا أقول إن الحديثين الثاني والثالث لا يصلحان هنا، وليست فيهما دلالة على جواز الانتفاع بالنجس، فيُتركان ويسقط الاحتجاج بهما في المسألة.

تقي بن فالح
26-12-2017, 02:32 PM
بقي الحديث الأول، وهو الذي رواه البخاري وغيره من طريق جابر، هذا الحديث لا يصلح للاستشهاد به على جواز الانتفاع بالنجس بل هو على العكس من ذلك تماماً. الحديث يقول «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة فإنه يُطلى به السفن ويُدهن به الجلود ويَستصبحُ به الناس، فقال: لا هو حــرام» نظـروا فـي الحديث وتساءلوا : هل الضمير (هــو) في قولــه (هو حــرام) راجع إلى البيع (إن الله ورسوله حرَّم بيع)، أم هو راجع إلى الانتفاع (يُطلى ... يُدهن ... يَستصبح)؟ فقالوا: الظاهر أن مرجع الضمير للبيع، لأنه المذكور صريحاً والكلام فيه، ويؤيد ذلك قوله في آخر الحديث (باعوه) ومن قال إن الضمير يرجع إلى البيع، قال بجواز الانتفاع بالنجس مطلقاً، ولكن فقط يحرم بيعه. ويستدل أيضاً بالإجماع على جواز إطعام الميتة للكلاب، وقالوا: إذا كان التحريم للبيع جاز الانتفاع بشحوم الميتة والأدهان المتنجسة في كل شيء غير أكل الآدمي ودهن بدنه، فيحرمان كحرمة أكل الميتة والترطُّبِ بالنجاسة. هكذا قالوا ، وهكذا استدلوا واستشهدوا ، ولكن الناظر في النص يتبين خطأ هذا الاستدلال لما يلي:

أ - إن الضمير لغةً يعود إلى أقرب اسم، وليس إلى أبعده ، والأقرب هنا هو ما جاء من ألفاظ تفيد الانتفاع (يُطلى ... يُدهن ... يَستصبح) وليس لفظةَ البيع التي هي أبعد كلمة في النص.

ب - إن قولهم الضمير يعود إلى البيع لأنه المذكور صريحاً قول غير دقيق، لأن الشحوم وما اتصل بها من أفعال هي أيضاً صريحة.

ج - إننا لو فسرنا الحديث على ضوء عودة الضمير إلى البيع لما أفاد القول الأخير شيئاً، لأن شحوم الميتة تابعة للميتة في حكم تحريم البيع لأنها منها، في حين أن تفسيره على ضوء عودة الضمير إلى الشحوم يفيد معنى جديداً، وهذه الإضافة أولى من إلغائها.

د - إن النصف الأول من الحديث مكتمل تام بنفسه «إن الله ورسوله حرَّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام» وهو ليس بحاجة إلى تكملة، ولو لم يُسأل عليه الصلاة والسلام عن شحوم الميتة لانتهى الحديث عند كلمة الأصنام، ولكن لما سُئل عن الشحوم التي يُفعل بها كذا وكذا، أي يُنتفع بها بكذا وكذا وكذا قال (لا، هو حرام) والضمير (هو) يبعد أن يعود إلى البيع، لأن الحديث جملتان تامتان منفصلتان، فكلمة (إن الله ورسوله حرَّم) أفادت تحريم الأربعة المذكورة أولاً، وكلمة (لا، هو حرام) أفادت تحريم الطلاء والدهن والاستصباح بالشحوم. هكذا يجب فهم الحديث، وهكذا يفهمه من أخذ بظاهره وترك التعمق والتكلف. ومن ذلك يظهر خطأ الرأي القائل بجواز الانتفاع بالنجس.

أما ما يقولونه بخصوص إطعام الميتة للكلاب ،فهو ليس من باب الانتفاع الذي نبحث فيه ، فالكلاب نجسة وإطعامها الميتة النجسة هو حالة خاصة، إذ هو ضم نجاسة إلى نجاسة ولا مانع من ذلك، أما إطعامها للحيوانات الطاهرة، أو استعمالها في شيء طاهر فهو تنجيس له، وهذا لا يجوز. وقد ورد النهي عن ركوب الجَلاَّلة وأكل لحمها وشرب لبنها، لا لشيء إلا لأنها تأكل العذرة النجسة. فعن ابن عباس قال «نهى رسول الله صلى الله عيه وسلم عن لبن شاة الجَلاَّلة، وعن المُجثِّمة، وعن الشرب مِن في السِّقاء» رواه أحمــد وأبو داود والترمــذي والنَّسائي. وعن عمرو بن شعيب عــن أبيه عــن جــــده، قـال «نهى رسول الله صلى الله عيه وسلم عن لحوم الحُمُر الأهلية وعن الجَلاَّلة وعن ركوبها وأكل لحومها» رواه أحمد والنَّسائي بسند جيد رجاله ثقات ما عدا مؤمِّل وثَّقه ابن مُعين. فإذا أكلت الإبل والأبقار والأغنام والدجاج النجاسات فقد نُهينا ليس عن أكلها فحسب، بل عن ركوب ما يُركب منها أيضاً، فانظر إلى أي أثرٍ لاستعمال النجاسة في الأشياء الطاهرة. ويُكره أكل الجَلاَّلة إلا أن تُعلف بالعلف الطاهر فترة تكفي لتخلِّصها مما أكلت من النجس.

تقي بن فالح
27-12-2017, 10:58 PM
هل يجب العدد في إزالة النجاسة؟
إن إزالة عين النجاسة هي التطهير أو الطهارة ، وهذه الطهارة لا يلزمها تحديد عدد الغسلات، وإنما المطلوب فحسب هو إزالة النجاسة. أمَّا أَن تُزال النجاسة بعدد محدد من الغسلات فليس بلازم، فجميع النصوص التي ورد فيها الأمر بإزالة النجاسة أو غسل الأشياء المتنجسة لم تطلب عدداً محدداً من الغسلات إلا في ثلاثة مواضع لا غير: هي الاستنجاء بأحجار ثلاثة، وغسل اليدين بعد نوم الليل ثلاث مرات ، وغسل ما ولغ فيه الكلب من الآنية سبعاً أُولاهن بالتراب، وما سوى هذه المواطن الثلاثة جاءت النصوص مطلقة دون تقييد الغسلات بعدد محدد. فحديث بول الأعرابي لم يرد فيه عدد، وأحاديث غسل دم الحيض ودم المستحاضة لم يرد فيها عدد، وأحاديث غسل المذي والبول وآنية الكفار مما وضع فيها من لحم الخنزير والخمر لم يرد فيها عدد مطلقاً، ولم يرد العدد إلا في المواطن الثلاثة المارة فحسب، وإذن فإنَّ الأصل في الطهارة أو التطهير أن تُزيل أعيان النجاسات فقط، بمعنى أن يُغسل الثوب أو البدن أو الأرض أو أي شيء حتى تزايله النجاسة، سواء احتجنا في إزالتها إلى غسلة واحدة أو ثلاثٍ أو عشرين، فالعدد غير مقصود وغير مطلوب، وإنما المطلوب فقط الغسل الذي يزيل النجاسة.

تقي بن فالح
30-12-2017, 02:56 PM
المواطنُ الثلاثة التي ورد فيها عدد
أ - غسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « إذا استيقظ أحدكم من الليل فلا يُدخلْ يدَه في الإناء حتى يغسلها ثلاث مرات ، فإنه لا يدري أين باتت يده» رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة.
ب - الاستنجاء من الغائط: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «... لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أحمد ومسلم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذهب أحدكم للحاجة فلْيَسْتطبَّ بثلاثة أحجار فإنها تُجْزِئه» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي. ورواه الدار قطني وصحَّحه.
ج - غسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أُولاهن بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود.
أما الحديث الأول فإنه معلَّل «فإنه لا يدري أين باتت يده» فالأمر بغسل اليدين حين الاستيقاظ من نوم الليل معلَّل بوَهْمِ النجاسة أو بالشك في النجاسة، ولولا ذلك لما أمر بالغسل فضلاً عن أن يأمر بالغسل ثلاثاً ، وكون العلَّة هي وَهْمُ النجاسة، فهي قرينة صارفة للأمر عن الوجوب، لأن الواجب هو غسل المتيقَّن من نجاسته، وحيث أن النجاسة هنا غير متيقنة، فإن الأمر في الحديث يُحمل عن الندب فقط. فغسل اليدين عقب القيام من النوم مندوب، فيكون غسلهما ثلاثاً داخلاً في المندوب وليس ذلك واجباً، فالعدد هنا مندوب ولا يجب.
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا استيقظ أحدكم من منامه فلْيستنثر ثلاث مرات، فإن الشيطان يبيت على خياشيمه» رواه مسلم وأحمد والنَّسائي. ولم يقل الفقهاء والعلماء بوجوب الاستنثار هذا، وإن هذا الطلب إنما قُصد منه إذهاب ما يلصق بمجرى النفس من الأوساخ، ليكون سبباً في نشاط القارئ وطرد الشيطان.
وقد ذكر الشافعي وغيره من العلماء أن السبب في حديث غسل اليدين أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن تطوف يده على دُبُره الذي فيه أثر الغائط. وقد روى ابن خُزَيمة هذا الحديث بلفظ يقوِّي هذا الفهم، فعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في إنائه أو في وَضوئه حتى يغسلها، فإنه لا يدري أين أتت يده منه» أي من جسده. فالأمر إذن إنما هو لدفع وهْم النجاسة بالغائط، فإذا نام أحدنا الآن وقد لبس ملابس تحول دون وصول يديه إلى دُبُره، فإن غسل يديه حين الاستيقاظ يكون غير مطلوب إلا أن يفعله تعبُّداً محضاً، سيما ونحن اليوم نستنجي بالماء الذي ينقِّي الدبر من الغائط تماماً. فالعدد إذن هنا غير واجب، وهو لا يزيد عن كونه يعالج وهم النجاسة.
أما الحديث الثاني فهو في موضوع تنظيف الدُّبُر من الغائط وقد طلب الحديث استعمال ثلاثة أحجار على الأقل وقال «فإنها تُجْزِئه» ففهم من هذا النص جماعة من العلماء أن العدد هنا واجب وأن الاستجمار لا يجوز بأقل من ثلاثة، واعتبروا أن العدد يدخل في إزالة النجاسة وقاسوا غسل النجاسات كلها على هذا الحديث فقالوا بغسل كل نجاسة ثلاثاً، وقد وَهَمَ هؤلاء جميعاً، فإن لدينا حديثاً يردُّ عليهم ويبطل العدد حتى في الاستنجاء، فقد روى الدار قطني بسند حسن عن سهل بن سعد «أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الاستطابة، فقال: أَوَلا يجد أحدُكم ثلاثة أحجار: حجرين للصَّفحتين، وحجرٍ للمسربة ؟» فأي نصٍّ أبلغ وأوضح من هذا النص الذي يقرر أن تنظيف الموضع الواحد يكفيه حجر واحد؟ فقد جعل حجراً واحداً للمسربة، وحجراً واحداً للصفحة اليمنى، وحجراً واحداً للصفحة اليسرى، أي أن هذا الحديث اكتفى في الاستنجاء بحجر واحد للموضع الواحد ولم يطلب عدداً، وبيَّن في الوقت نفسه سبب طلب الأحجار الثلاثة للاستنجاء، وأنها ثلاثة أحجار لثلاثة مواضع ، فأي تفسير أبلغ من هذا التفسير؟ وأي رد أبلغ من هذا الرد على من اشترطوا العدد في الاستنجاء وعمَّموه على سائر الأغسال؟ ونحن نعلم أن الحديث يفسر بعضه بعضاً.
هذا هو منطوق الحديث، وهو واضح الدلالة على نفي العدد في إزالة النجاسة، فإذا علمنا أن المسربة مثلاً يكفيها حجر واحد، علمنا أن المسربة سيظل بها أثر الغائط، ومع ذلك لم يطلب الشرع إتْباع الحجر الأول بحجر ثان، فإذا كان الموضع يبقى فيه أثر النجاسة، ومع ذلك لا يطلب منا إزالته بحجر ثان أو ثالث، فأي رد أبلغ عليهم من ذلك؟ وما هذا العدد الذي أَتوْا به في إزالة النجاسات؟ وكيف يقال إن الغسل يجب له عدد؟ وهذا هو ما يفسِّر قول الشافعي وغيره في سبب طلب الرسول عليه الصلاة والسلام غسل اليدين عند الاستيقاظ، وهو أن الدبر يظل فيه أثر النجاسة. وبذلك ينتفي استدلالهم بهذا الحديث وبالذي قبله على وجوب العدد في إزالة النجاسات.
وإذا أضفنا إلى ما سبق القول، إن الغسل هو مجرد إزالة النجاسة لتنقية الموضع فحسب وليس للتعبُّد بعدد مخصوص، وإن ما جاء في الأحاديث هو طلب إزالة النجاسة دون أية إضافة أدركنا تماماً عُقم القول بوجوب العدد. وليس أدل على هذا من حديث أبي ثعلبة الخشني وقد مرَّ ، فهذا الحديث يطلب غسل آنية الكفار وقدورهم ولا يطلب عدداً، وقد بيَّن الغاية من الغسل وهي الإنقاء «فقال أَنْقُوها غسلاً واطبخوا فيها» رواه الترمذي. فالغاية من كل غسل هي الإنقاء، وهكذا يجب عند غسل أي شيء متنجس تحقيق هذه الغاية فحسب، ولا بأس بعدئذ من بقاء آثار يسيرة من النجاسة، فالشرع يسَّر على الناس، وتجاوز عن اليسير والنادر.

تقي بن فالح
02-01-2018, 03:02 PM
بقي الحديث الثالث، والجواب عليه من وجهين:

أ- إن العدد الوارد في أحاديث ولوغ الكلب غير معلَّل، وإذن فلا يجب الوقوف عنده ولا يصح قياس غيره عليه، فنجاسة الإناء من ولوغ الكلب تُزال بالغسل بعدد، ولا يُزال غيرها به، فالعدد محصور ومقصور على غسل نجاسة الولوغ.

ب - ورد حديث الولوغ أو أحاديث الولوغ بألفاظ وروايات عديدة نجتزيء منها ما يفي بالغرض هكذا:

1- «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسلْه سبعاً» رواه البخاري ومسلم وأحمد والنَّسائي ومالك.

2- «طُهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسلَه سبع مرات أُولاهنَّ بالتراب» رواه مسلم والترمذي وأبو داود.

3 – «إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفِّروه الثامنة في التراب» رواه مسلم وابن ماجة وأبو داود والنَّسائي.

4 – «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فلْيُرقه ثم ليغسله سبع مرارٍ» رواه مسلم والنَّسائي والبيهقي.

5- «إذا ولغ الكلب في إناء أحدٍ فلْيغسله سبع مرات أحسبه قال: إحداهن بالتراب» رواه البزَّار .

6-«إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سـبع مرَّات، السابعة بالتراب» رواه أبو داود والدار قطني.

7 – «يغسل الإناء إذا ولغ فيه الكلب سبع مرات أُولاهن أو أُخراهن بالتراب» رواه الترمذي والشافعي بسند صحيح.

جميع هذه الروايات مرويَّة من طريق أبي هريرة إلا الثالثة «وعفِّروه الثامنة في التراب» فمرويَّــة من طريق عبد اللــه بن مغفــل - مسلــم وابن ماجــه وأبو داود والنَّسـائي -. وقد اختلف الأئمة حيال هذه الروايات اختلافاً واسعاً، فقال أحمد ومالك في رواية عنه، إن الغسل يكون بالماء سبع مرات والثامنة بالتراب، وقال الأحناف بعدم وجوب التتريب وعدم وجوب التسبيع بالماء. وقال المالكيون بوجوب التسبيع بالماء دون وجوب التتريب . وقال الشافعي بوجوب التسبيع بالماء ، ووجوب التتريب في الغسلة الأولى.

وقد بحث الصنعاني في كتابه سبل السلام هذه المسألة بحثاً جيداً ، أنقل لكم قوله كله فيه (بعض من قال بإيجاب التسبيع قال : لا تجب غُسلة التراب لعدم ثبوتها عنده، وَرُدَّ بأنها قد ثبتت في الرواية الصحيحة بلا ريب، والزيادة من الثقة مقبولة، وأورد على رواية التراب بأنها قد اضطربت فيها الرواية، فرُوي أولاهن أو أخراهن أو إحداهن أو السابعة أو الثامنة، والاضطراب قادح فيجب الاطِّراح لها، وأجيب عنه بأنه لا يكون الاضطراب قادحاً إلا مع استواء الروايات وليس ذلك هنا كذلك، فإن رواية أُولاهن أرجح لكثرة رواتها، وبإخراج الشيخين لها، وذلك من وجوه الترجيح عند التعارض، وألفاظ الروايات التي عورضت بها أولاهن لا تقاومها، وبيان ذلك أن رواية أُخراهن منفردة لا توجد في شيء من كتب الحديث مسندة، ورواية السابعة بالتراب اختُلف فيها فلا تقاوم رواية أولاهن بالتراب، ورواية إحداهن رواها الراوي على الشك، فهي إذن ضعيفة لا تصلح للاحتجاج، ثم إن هذه الرواية مطلقة فيجب حملها على المقيدة ، ورواية أولاهن أو أخراهن بالتخيير ، إن كان ذلك من الراوي فهو شك منه فيرجع إلى الترجيح، ورواية أُولاهن أرجح، وإن كان من كلامه  فهو تخيير منه ، ويرجع إلى ترجيح أولاهن لثبوتها فقط عند الشيخين كما عرفـت) وأضاف في موضع آخر (وقــد ثبت عند مسلم - وعفِّروه الثامنة بالتراب - قــال ابن دقيق العيد: إنه قــال بها الحسن البصري، ولم يقل بهــا غيره ولعــل المراد بذلك من المتقدمين) فالصنعاني يأخذ بأرجح الروايات عنده وهي رواية رقم (2) المتقدمة، ورأيه صحيح ، وهو يطابق رأي الشافعي.

وأُضيف لمزيد بيان: إن الرواية رقم 1 والرواية رقم 4 ذكرتا أن الغسل سبعٌ دون أن تأتيا على ذكر التراب، وجاءت روايات أخرى بذكر التراب وهذه زيادة يتعين المصير إليها والعمل بها . أما السادسة فجعلت التراب في المرة السابعة ، والثالثة جعلته في الثامنة، والثانية جعلته في الأولى. أما رواية أبي داود وهي السادسة فلا تستوي مع الروايتين الثانية والثالثة من حيث السند فتقدمان عليها . نأتي للروايتين الثانية والثالثة فنقول: أما الرواية الثالثة «الثامنة في التراب» فقد أضافت غسلة ثامنة، بينما جميع الروايات الأخرى ذكرت أن الغسلات سبع ، فهي رواية منفردة خالفت جميع الروايات، فهي إذن شاذَّة فتترك، فتبقى الرواية الثانية ، وهذه حوت ما حوت جميع الروايات من حيث عدد الغسلات السبع، وهي التي تقول «أُولاهن بالتراب» فهي رواية محفوظة وصحيحة يُحتجُّ بها. قال البيهقي (إن أبا هريرة أحفظُ مَن روى الحديث في دهره فروايته أولى) يعني أولى من الرواية الثالثة ، فلم تبق سوى الرواية الثانية التي تقول بجعل التراب في الأولى، والرواية السابعة التي تقول بالتخيير بين الأولى والأخرى، ونحن نرجح الرواية الثانية لأمرين: أحدهما أن الثانية أقوى إسناداً والأقوى مقدَّم حين التعارض أو الاختلاف. وثانيهما أن التخيير فيه معنى التردُّد، في حين أن تحديد التراب في الأولى حسم، والحسم أقوى من التردُّد. فتقدَّم الرواية الثانية على رواية التخييـر ويُعمل بها، وبالعمل بها لا نكون خالفنا العمل برواية التخيير، وهذا مرجِّح ثالث.

والمحصِّلة أنه لا يجب في غسل أية نجاسة أي عدد سوى نجاسة ولوغ الكلب، فتحتاج إلى سبعٍ أُولاهن بالتراب والست الباقية تكون بالماء، وما دام أن جميع هذه الروايات لم تظهر فيها علَّة فالحكم غير معلَّل ، فلا يصلح لتقاس عليه إزالة سائر النجاسات. ثم إن غسل الإناء من الولوغ من حيث هو غسل ليس تعبُّديَّاً محضاً، بل هو مثل إزالة أية نجاسة، ولكن ذكر العدد بهذا البيان هو الناحية التعبدية المحضة فيه، فيُعمل بهذا العدد المخصوص تعبُّداً وطاعة دون إعمال الذهن في الأسباب والعلل الموجِبة، كتلك التي أوردها الأطبَّاء مؤخراً من أن في لُعاب الكلاب جرثومةً ضارَّة لا يزيلها إلا التراب والماء، فهذا لا يعنينا في شيء، ولا يُلتفت إليه ، وليحذر المسلمون من التعليلات العلمية الحديثة لأحاديث وآيات سكتت عن التعليل ولْيعلموا أن الشرع وقد سكت عن التعليل إِنما سكت عن قصد، ولو أراد التعليل لعلَّل ، فكونه لم يعلِّل فهو يعني أنه أراد أمراً أخفى علته عنا فلا ينبغي لنا أن نحاول كشفها فإن ذلك تطاول على النص.
وإذن فإن تطهير الثوب المتنجِّس والأرض المتنجِّسة والبدن المتنجِّس، والأداة والوعاء والحذاء والورق والخشب والحبوب المتنجِّسة إنما يُطلب له إزالة النجاسة دون اعتبارٍ للعدد مطلقاً، وحتى الكلب لو أقعى في إناء ماء ، أو وضع رجله فيه، أو أدلى ذنبه فيه، أو غمس بعض شعره فيه، فإنه يُغسل مرَّة واحدة كسائر النجاسات، والعدد إنما هو فحسب في ولوغ الكلب، وهو عبادة غير معلَّلة ، فلا يقاس عليها غيرها من أجزاء الكلب أو الخنزير أو سائر النجاسات.

تقي بن فالح
02-01-2018, 05:39 PM
https://scontent.fjrs4-1.fna.fbcdn.net/v/t1.0-9/26113977_313004092552491_2089672716621599271_n.jpg ?oh=db511adc45ab7132aa2b4a653824d2f2&oe=5AC51AD3

ألعالم الجليل المجتهد المطلق

محمود بن عبد اللطيف بن محمود (عويضة)

" أبو إياس "

تقي بن فالح
02-01-2018, 05:44 PM
ما يُستعمل في إزالة النَّجِس
حيث أن الشرع أراد من إزالة النجاسات عن الشيء الإنقاء، فإن كل ما يصلح للإنقاء يعتبر صالحاً لإزالة النجاسة عنه وتطهيرِه، دون تخصيص ذلك بالماء أو بالتراب كما ذكر عدد من الأئمة، فكل ما يصلح لإزالة النجاسة وإنقاء المحلِّ به يصح التطهير به شرعاً. ولننظر في النصوص الدالة على هذا الرأي:

1 - عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت «جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحتُّه ثم تقرُصُه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم. ورواه البخاري وأحمد بألفاظ متقاربة.

2 - عـن أم ولدٍ لإبراهيم بن عبدالرحمن بن عوف أنهــا سألــت أم سلمــة زوج النبــي صلى الله عليه وسلم فقالت «إني أمرأة أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، قالت أم سَلَمة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يطهِّره ما بعده» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة والدرامي. وسنده جيد.

3- عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إذا دُبِغ الإهاب فقد طهُر» رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي ومالك.

4 - عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إذا وطيء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور» رواه أبو داود وابن حِبَّان.

5 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إذا ذهب أحدكم للحاجة فلْيستطبَّ بثلاثة أحجار، فإنها تُجزئه» رواه أحمد وأبو داود والنَّسائي والدارمي . ورواه الدار قطني وصحَّحه.

الحديث الأول يفيد أن الماء يصلح لإزالة النجاسة «ثم تقْرُصُه بالماء» والحديثان الثاني والرابع يفيدان أن التراب أو مطلق الأرض يصلح للتطهير «يطهِّره ما بعده»، «فإن التراب له طهور» والحديث الثالث يفيد أن الدِّباغ يصلح للتطهير. وفي الحديث الخامس أن الحجارة تصلح للتطهير «فلْيستطبَّ بثلاثة أحجار».

وإذن فالماء والتراب والدباغ والحجارة كلها أشياء تصلح للتطهير وإزالة النجاسة بنصوص شرعية . إذن فالتطهير لا يقتصر على مادة واحدة أو مادتين كما يقول بعضهم بل يصح التطهير بهذه الأشياء وبغيرها أيضاً كالصابون والخل، وبالحك والحرق، وأي شيء وأي فعل يؤدي إلى إزالة النجاسة، لأن إزالة النجاسة هي المطلوبة، فكل ما يحققها مشروع ومُجزيء، فلو غسلنا ثوباً متنجِّساً بصابونٍ سائل فزالت نجاسته، أو غسلناه بالخل فزالت، أو حككناه فزالت، صار طاهراً. ولو حرقنا خشباً متنجِّساً فصار رماداً صار طاهراً، ولو سخَّنَّا حديداً متنجِّساً بالنار حتى زالت نجاسته صار الحديد طاهراً، ولو مسحنا سطح مرآة عليها نجاسة بورقة ناعمة، أو خِرقة قماش أو حتى باليد فزالت صارت المرآة طاهرة، ولو التقطنا النجاسة العالقة بثوبٍ باليد، أو بملقط فزالت عنه، ولم يبق منها شيء صار الثوب طاهراً، وهكذا من أشياء جامدة أو سائلة أو أدوات مختلفة أو أفعال، كلها تصلح للتطهير بشرط وحيد هو أن تزول النجاسة بها.

والآن لنستعرض الآراء المختلفة في هذه المسألة وأدلة القائلين بها ومناقشتها: قال الشافعي ومالك ومحمد بن الحسن وزُفَر إن الطهارة من النجاسة لا تحصل إلا بما تحصل به طهارة الحدث لدخوله في عموم الطهارة. وقال أبو حنيفة وأحمد تجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر مزيلٍ للعين والأثر، كالخل وماء الورد ونحوهما.
وقد استدل أصحاب الرأي الأول بما رُوي أن رسول الله  قال لامرأةٍ سألته عن دم الحيض يصيب الثوب «كيف تصنع به؟ قال: تحتُّه ثم تقرُصُه بالماء، ثم تنضحه ثم تصلي فيه» رواه مسلم والبخاري وأحمد. وقد مرَّ قبل قليل، وبحديث بول الأعرابي في المسجد وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذَنوبٍ من ماء فأُهريق على بول الأعرابي، وقالوا هذا أمر يفيد الوجوب ولأنها طهارة تُراد للصلاة فلا تحصل بغير الماء كطهارة الحدث، واستدلوا كذلك بقوله تعالىفَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الآية 6 من سورة المائدة، والآية 43 من سورة النساء .

واستدل أصحاب الرأي الثاني بالحديث «إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فلْيغسله سبعاً» رواه البخاري ومسلم وغيرهما من طريق أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما. وقد مرَّ ، فأطلق الحديثُ الغسلَ، وتقييده بالماء يحتاج إلى دليل، ولأنه مائع طاهر مزيل فجازت إزالة النجاسة به كالماء، فأما ما لا يزيل كالمرق واللبن فلا خلاف في أن النجاسة لا تُزال به.

والجواب على أصحاب الرأي الأول هو أن حديث دم الحيض ليس دليلاً على الحصر، وأن وجوب امتثال أمره صلى الله عليه وسلم بإِهراق الماء على بول الأعرابي في المسجد لا يفيد حصراً أيضاً، ولا يدل على أن الماء وحده تجب به إزالة كل نجاسة، لأن حادث بول الأعرابي هو واقعة حال وليس قاعدة كلِّيَّة للتطهير، وقــد بيَّنا سابقــاً أن إزالـــة النجاسة لا تشترط فيهـــا النِّية ، ومــا دام أن المطلوب شرعــاً هو إزالة النجــاسة وهــي مـــا يطلق عليها التطهير أو الطهارة، فإن الإزالة تحصل بكل مزيل لها حسب اختلاف الأحوال كما أسلفنا أيضاً، فقول حديث دم الحيض «تحتُّه ثم تَقْرُصُه بالماء» ليس فيه أداة من أدوات الحصر وليست صياغته مفيدة للحصر ، وقد ذَكــر المــــاء وذِكْرُه خرج على الأعــمِّ الأغلــب، ذلك أن الماء هو الغالــب في التطهير وهـــذا مُسَلَّم به، وما قلتــه عن حديث دم الحيض أقولــه عـن حديث بول الأعــرابي، ففيه «أَمَر بذَنوبٍ من ماء» فهذا النص ليست فيه دلالـــة علـــى حصر التطهير بالمـــاء، وبذلك لا يصلح الحديثـــان للاحتجاج بهما على حصر التطهير بالماء مطلقاً.

أما عن استشهادهم بالآية فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا فأقول: نعم هذا نصٌ يفيد حصر الوضوء والاغتسال من الجنابة والحيض والنفاس بالمــــاء ، وهــــذا لا خــــلاف فيه بيننا، لأن طلب الآية عدم الانتقال إلى التراب إلا إذا عدم المــــاء ، دليل علـــى وجوب استعمال المــــاء في هــذا الصنف من الطَّهارات، ولكن أَنْ يُستشهد بهذه الآية وهـــذا الحصر على موضوع البحـــث فهو خلط وخطأ، لأن البحـــث موضوعـــه إزالـــة النجاسة وليس الوضوء والأغسال المطلوبـــة شرعـــاً ، فهذان موضوعان مختلفان. فالوضوء والأغسال عبادات محضة تحتاج إلى نيَّة، وإزالة النجاسات ليست كذلك فافترقا، وإذن فلا قياس. فالماء واجبٌ وحده في الطَّهارات الخاصة بالعبادة، ولكنه ليس واجباً مطلقاً في إزالة النجاسات، لأن الاثنين مختلفان تماماً فيسقط الاستدلال بهذه الآية الكريمة على ما ذهبوا إليه.

أما الرأي الثاني فهو صحيحٌ جملةً ولكنَّ أصحابه وقعوا في أخطاء، فاستشهادهم بحديث الولوغ ضعيف ولا يفيدهم ، وكان الأَوْلى بهم أن يستشهدوا بما استشهدنا به من أدلة مختلفة على إزالة النجاسات بوسائل متعددة ويكتفوا به، أما قولهم إن الحديث أطلق الغسل ولم يقيده بالماء فهو تعِلَّة، فإن معظم أحاديث إزالة النجاسات ذكرت الماء، فماذا يقولون بها؟.
والخلاصة هي أن كل ما يصلح لقلع النجاسة من المكان المراد تطهيره يصح استعماله في الإزالة شرعاً، وأن الشرع طلب قلع النجاسة دون تحديد ودون تقييد.
يتبع ......تطهيرُ المتنجس

تقي بن فالح
04-01-2018, 08:26 AM
تطهيرُ المتنجس
الأصل في تطهير المتنجِّس إزالة عين النجاسة وقلعها من الموضع الذي حلت فيه دون أن تُخلِّف أثراً ، ولكن هناك نجاسات إذا أصابت الموضع أحدثت فيه أثراً ثابتاً يصعب خلعه أو قلعه كلِّيَّة من الموضع كدم الحيض مثلاً وكالدَّم عموماً، خاصة إن جفَّ، ولكن الله الرحيم اللطيف خفف عن المسلمين في هذه الحال، فعفا عن بقاء الأثر بعد عملية الغسل، فعن أبي هريرة «أن خولة بنت يسار أتت النبي  في حج أو عمرة فقالت: يا رسول الله ليس لي إلا ثوب واحد وأنا أحيض فيه، قال: فإذا طهُرتِ فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه، قالت : يا رسول الله إن لم يخرج أَثرُه؟ قال: يكفيك الماء ولا يضرُّك أثره» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود. فقول رسول الله عليه الصلاة والسلام «ولا يضرُّك أثره» صريح الدلالة على العفو عن بقاء أثر الدم في الثوب بعد عملية الغسل.

ولكن الأفضل والأَوْلى أن يُغسل بموادَّ حادةٍ تزيله أو تغيِّر لونه على الأقل، لما رُوي عن معاذة قالت «سألتُ عائشة رضي الله عنها عن الحائض يصيب ثوبَها الدم، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره فلْتغيِّره بشيء من صُفْرة ، قالت: ولقد كنت أحيض عند رسول الله  ثلاث حِيَضٍ جميعاً لا أغسل لي ثوباً » رواه أبو داود والدارمي. ولما رُوي عن عدي بن دينار أنه قال: سمعت أم قيس بنت محصن تقول «سألت النبي  عن دم الحيض يكون في الثوب قال: حُكِّيه بضِلْع واغسليه بماء وسدر» رواه أبو داود وأحمد والنَّسائي وابن ماجة ورواه ابن خُزَيمة وابن حِبَّان . قال ابن القطان : إسناده في غاية الصحَّة. قوله الضلع - بتسكين اللام وفتحها -: أي هو العود. فقول الحديث «اغسليه بماء وسِدْر» يدل على طلب استعمال الحادِّ لأن السِّدر آنذاك يماثل الصابون عندنا، فهذا الحديث يطلب من المسلم أن يجتهد في إزالة أثر النجاسة باستعمال مادَّة حادَّة. وروى سليمان بن سُحيم عن أمية بنت أبي الصَّلت عــن امــرأة من بنــي غِفــار قــد سمَّاها لي، قالت «أردفني رسول الله  علـى حقيبة رحله، قالت: فواللــه لــم يزل رسول الله  إلى الصبح فأنــاخ، ونزلتُ عن حقيبة رحله فإذا بها دم مني، فكانت أول حيضة حضتها، قالت : فتقبَّضْتُ إلى الناقة واستحييت، فلما رأى رسول الله  ما بي ورأى الدم قال : ما لك لعلك نُفِستِ ؟ قلت: نعم قال : فأصلحي من نفسك ثم خذي إناء من ماء فاطرحي فيه ملحاً ، ثم اغسلي ما أصاب الحقيبة من الدم ، ثم عودي لمركبك ...» رواه أبو داود . فهذه الأحاديث متعاضدة في الطلب من المسلمين إزالة النجاسة باستعمال الموادِّ الحادَّة ، ولكن سائر الأحاديث تطلب استعمال الماء فحسب في الإزالة، مما يدل على أن المواد الحادَّة ليست واجبة بل مستحبَّة فحسب.

أما ما يقوله بعض الأئمة من تطهير السمن المتنجِّس بصبِّ ماء كثير عليه وخضِّه فيه، ثم تركه يهدأ حتى يطفو فوق الماء فيُؤخذ طاهراً فلا أذهب إليه، لأن الرسول  حين سُئِل عن السمن وقعت فيه فأرة فماتت فنجَّسته قال «ألقوها وما حولها فاطرحوه، وكلوا سمنكم » رواه البخاري وغيره وقد مرَّ. فقد أمر بإلقاء الميتة وما حولها من السمن وطرحه ولم يأمرهم بتطهيره. وأما ما قاله الفقهاء من أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر، أو لم يأذن بتطهيره لأن ذلك أمرٌ يشق على الناس فهو قولٌ لا دليل عليه.

أما تطهير النِّعال، فيكفي فيه الدلك بالأرض دون الغسل، خلافاً لمن أوجبوا الغسل، لحديث أبي هريرة المار «إذا وطيء أحدكم بنعليه الأذى فإن التراب له طهور» رواه أبو داود وابن حِبَّان. وقولهم بغسل النعل هو قياس على غسل ما أصابه الدم والخمر وغيرهما، والقياس لا يصمد أمام النص القائل بالوطء والمسح بالأرض.

وحبل الغسيل المتنجِّس تطهِّره الشمس بالتجفيف، والأرض التي بال فيها الإنسان أو الكلب مثلاً تطهِّره الشمس كذلك بالتجفيف دون فعلٍ من الإنسان ، والأرض المتنجِّسة تطهِّرها مياه الأمطار دون فعلٍ من الإنسان، لأن إزالة النجاسة كما أسلفنا لا تحتاج إلى نيَّة، ولا تحتاج بالضرورة إلى فعل الإنسان، فكل متنجِّس يمكن تطهيره بفعل الإنسان بالماء وبغير الماء كما يمكن اعتباره طاهراً بغير فعل الإنسان ، خلافاً للوضوء وأغسال الجنابة وأمثالها التي لا تحصل إلا بفعل الإنسان وبِنيَّة معاً. فالمسلم إذا انتقض وضوؤه أو أصابته جنابة ثم سبح في بركة ماء أو في البحر لا يصير متوضئاً ولا رافعاً للحدث الأكبر بمجرد السباحة، خلافاً لرأي بعض الفقهاء.

إن كل متنجِّس - وقد نُطلق عليه كلمة نجِس تجاوزاً - يمكن تطهيره إلا أشياء وحالات نادرة لا ينفع فيها التطهير، كما أشرنا إلى ذلك في آخر بحث [تمهيد] وهذه الأشياء الطاهرة التي إن تنجست لا يُستطاع تطهيرها هي: العجين إذا عُجن بماء نجس، أو الحبوب التي تُنقع في الماء النَّجس حتى تزول يبوستها ، وتصبح طريَّة متشرِّبة بالنجاسة، وأمثال هذه الأشياء لا يمكن تطهيرها، وليس لها إلا الإتلاف، لأن النجاسة تشرَّبتها ولا يُستطاع إخراجها منها ، وما سوى هذه الحالات النادرة فإن كل متنجِّس يمكن تطهيره.

أما النقطة الأخيرة فهي الشك في نجاسة الشيء ، فلو شككنا في نجاسة ثوب مثلاً فإن الشرع لا يُلزمنا بغسله وتطهيره، ولكن لو فعلنا ذلك احتياطاً فلا بأس، ولا نُلْزَم بتطهيره إلا إذا تيقَّنَّا من نجاسته. وقريبٌ منه الثوب وقد أصابته نجاسة يسيرة، كأن وقعت عليه ذبابة أو صرصور كانا قد وقعا على نجاسةٍ كغائط مثلاً، أو أصاب الثوبَ رشاشٌ جِدُّ يسير من البول لا يتجاوز النقطة مثلاً، وهو ما يطلق عليه (ما لا يدركه الطَّرْف) ففي هذه الحالة يظل الثوب طاهراً ولا يجب غسله، ولا يخالف في هذا إلا المُوَسْوَسون.

تقي بن فالح
05-01-2018, 08:41 PM
الاستحـــالة
المقصود من الاستحالة هو تحويل المادة النجسة إلى مادة طاهرة كالخمر تُحوَّل إلى خلٍّ مثلاً، وكالبول والغائط يُحوَّلان، أو يؤخذ منهما ماء نقي بالتقطير، وكشحوم الميتة تُحوَّل بالصناعة إلى صابون، وأشباه ذلك. هذا الأمر لا يحل القيام به شرعاً، لأن النجس كما أسلفنا لا يجوز الانتفاع به مطلقاً لا بالاستعمال ولا بالبيع ولا بالإهداء ولا بالإرث، ولا يُعدُّ مالاً محترماً مُقوَّماً شرعاً، بمعنى أنه لو سرق مسلم خمراً أو خنزيراً من مسلم فإنه لا يُحدُّ ولا يعاقب، ولا يحاسب إلا من حيث كونه صار يملك خمراً ويحملها ويستعملها، لأن الأحاديث قد نصَّت على حرمة الانتفاع بالنجاسات، ولم تسمح إلا بكلب الصيد وكلب الحراسة، وجلد الميتة بعد دباغه لا غير، وهذا الحكم عامٌّ في كل نجاسة، ولم يرد نص يستثني منه شيئاً من النجاسات، ومن قال غير ذلك طالبناه بالدليل.
والمعروف أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين نزل قوله تعالى (إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنْصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُوْنَ) الآية 90 من سورة المائدة. بتحريم الخمر طاف عليه الصلاة والسلام في أسواق المدينة يُريق الخمر في الطرقات، ويشقُّ دِنانها بمُدية كانت بيده ، ولم يأذن لأحد من المسلمين بالانتفاع بها كدواء أو بتحويلها إلى خل. أما الدليل على عدم إذنه عليه الصلاة والسلام بالانتفاع بها كدواء، فالحديث الذي رواه مسلم والترمذي وأبو داود والدرامي وأحمد من طريق طارق الجُعفي، وقد مرَّ، ولفظه «إنَّ طارق بن سُويد الجُعفي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر، فنهاه أو كره أن يصنعها، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال : إنه ليس بدواء ولكنه داء» . وأما الدليل على عدم إذنه بتحويلها إلى خل ، فما روى أنس رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الخمر تُتَّخذ خلاً ، فقال : لا» رواه مسلم والترمذي. وما روى أنس أيضاً «أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً ، فقال : اهرِقْها، قال : أفلا نجعلها خلاً ؟ قال: لا» رواه أحمد وأبو داود . وهذا كافٍ لإثبات حُرمة الانتفاع بالخمر وحرمة تحويلها إلى أشياء نافعة أو طاهرة.

ولكن السؤال الذي لا بد منه هو: كيف أحل الإسلام الخل وهو متحوِّل عن خمر؟ فالجواب على هذا السؤال هو أن الخل يُصنع بوضع العنب أو التفاح مثلاً في إناء، ويُترك شهراً أو شهرين حسب حرارة الجو وتعرُّضِه لأشعة الشمس ليتحول إلى خل، فالعنب والتفاح مثلاً يتحولان إلى خل بفعل الزمن ، وبالتخمُّر الذاتي، دون فعلٍ أو تدخل من الإنسان. هذه هي الطريقة الشائعة لصنع الخل، وهذه الطريقة قد أحلَّها الإسلام . والفرق بين هذه الطريقة وبين تحويل الخمر إلى خل، هو أن الشخص حسب هذه الطريقة لا يفعل سوى وضع عنب أو تفاح طاهرين في إناء طاهر، وتركه فترةً زمنية ليستخرج منه خلاً طاهراً، فكانت جائزة.
أما الطريقة التي حرَّمها الإسلام فهي وضع الخمر وهي نجسةٌ في إناء ، وتركها فترة حتى تتحول إلى خل، إمَّا بإضافة مواد أخرى وإما بدون إضافة. والفارق بين الطريقتين هو أن الطريقة الأولى هي استعمال شيء طاهر للوصول إلى شيء طاهر ، وأما الثانية فهي استعمال شيء نجس للوصول إلى شيء طاهر ، فالفارق واضح لا سيما إذا علمنا أن الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلم قد حرَّما الخمر ، وحرَّم الرسول عليه الصلاة والسلام في الخمر عشرة منها حملُها وعصرُها، ولا تتم الطريقة الثانية إلا بحملها وإلا بعصرها أو شرائها، وما دام أنه لا يحل لمسلم أن يعصرها أو أن يشتريها أو أن يحملها فإنه لا يتسنى له أن يصنع منها الخل.
أما الطريقة الأولى فليس فيها أي فعل من المسلم يتعلق بالخمر، فالمسلم حين وضع العنب أو التفاح مثلاً في الإناء، تحوَّل العنب أو التفاح بفعل نفسه، لا بفعل المسلم إلى خمر، ثم تحول الخمر بفعل نفسه لا بفعل المسلم إلى خل، ولذا جازت هذه الطريقة. روى الطحاوي في كتابه مُشْكل الآثار عن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب رضي الله قال «لا نأكل من خمرٍ أُفْسِدت حتى يكون الله تعالى بدأ فسادَها». وفي رواية أُخرى «... لا نشرب خلاً من خمر أُفْسِدت حتى يبدأ الله عزَّ وجلَّ فسادَها، فعند ذلك يطيب الخل ...».
ومن جواز صنع الخل بالطريقة الأولى نستنبط حكماً شرعياً هو أن الشيء النجس إن تحوَّل بغير فعل المسلم إلى شيء طاهر جاز استعماله كسائر الطاهرات، لأن هذا الشيء الطاهر الذي خرج من النجس بالتحوُّل هو طاهر وليس نجساً، فلا يصح اعتباره نجساً عند ذلك، والمحظور على المسلم فيما يتعلق بالنجاسات هو الانتفاع بها ما دامت على حالها من النجاسة، وإنَّ من الانتفاع بها تحويلها بفعل نفسه، وهو لا يجوز.
أما إن حوَّلها كافر، أو تحوَّلت ذاتياً إلى طاهرة صار حكمها في التعامل حكم الطاهرات وهو ما يفسر حِلَّ الخل الذي يستعمله المسلمون، ذلك أنه قد وصلهم خلاً طاهراً من طريقتين: من الطريقة الأولى التي ذكرناها، ومن طريقة ثانية هي شراء الخل من الكفار، والكفار إما أنهم قد صنعوه حسب طريقتنا، وإما أنهم صنعوه بتحويل الخمر إلى خل، واشتريناه نحن منهم خلاً طاهراً دون أن نسألهم عن الطريقة التي استخدموها في صناعة الخل، مما يدل على أن النجس إن تحول بفعل غير المسلم إلى طاهر حل استعماله والانتفاع به.
والنتيجة هي أن الشيء النجس إن تحول بغير فعل المسلم إلى شيء طاهر جاز استعماله والانتفاع به وحكمنا بطهارته، سواء حصل التحوُّل ذاتياً دون فعل الإنسان، أو حصل بفعل كافر. وبتطبيق هذه القاعدة على بعض الأشياء نقول: إن المسلمين لا يحل لهم أن يقطِّروا الأبوال والعِذَر كمياه مجاري المدن ليستخرجوا منها الماء المقطَّر، فإن هذا حرام لا يجوز، ولكن إنْ قطَّر كافرٌ مياه المجاري، واستخلص منها ماء نقيَّاً مقطَّراً، جاز للمسلمين شراؤه واستعماله والتَّطهُّر به، ولكن شرطَ أن لا يقوم به الكافر وِكالةً عن المسلم، وإنما يفعله بنفسه دون تكليف منه، وذلك لأن الفعل في حالة الوكالة يظل للمسلم ومن المسلم، ويكون الكافر مجرد أجير أو وكيل، والفعل يُنسَب لصاحب الأمر وليس للأجير فحسب، ولو حصل ذلك لكان تحايلاً لا يجعل الحرام حلالاً، وإلا لجاز للمسلم أن يسلِّم ماله لكافر ليرابي له فيه ، أو لينشيء له به مزرعة خنازير، ويفعل سائر المحرمات.
والخمر نجسة لا يحل الانتفاع بها مطلقاً إلا إن تحولت من ذاتها أو حوَّلها كفار إلى ماهيَّة طاهرة جديدة، فتأخذ الماهية الجديدة حكماً آخر هو الحِل والطهارة، لأنها لم تعد خمراً، ولم تعد نجسة. ولنقف هنا وقفة نفصِّل فيها القول.

تقي بن فالح
06-01-2018, 05:48 PM
الخمر لغةً: هي كل مُسكرٍ مُخامرٍ للعقل مغطٍّ عليه، من خمر الشيء إذا ستره، وأخمر توارى، وخامر الشيء خالطه. وفي اصطلاح الفقهاء: هي كل ما كان مُسكراً ، سواء كان متَّخَذاً من الفواكه كالعنب والرُّطب والتين والزبيب، أو من الحبوب كالقمح والشعير والذرة، أو من الحلويات كالعسل، وسواء كان مطبوخاً أو نيئاً. والخمر صنفان: صنف يُصنع بالطريقة التقليدية وهي المشروبات المخمَّرة كنبيذ البيرة أو الجعة المصنوعة من الشعير ونبيذ المزر المصنوع من القمح ونبيذ السَّكركة المصنوع من الذرة ونبيذ البتع المصنوع من العسل، وصنف ثانٍ هو المشروبات المقطَّرة كالوسكي والبراندي والجِن وأمثالها، وهذه المشروبات الأخيرة تعتمد على فكرة التقطير.

أما الكحول
أما الكحول - ويسميه العرب الغَوْل - فهو جملة عديدة من المركَّبات الكيماوية لها خصائص متشابهة ، ومن الكحول صنف اسمه الإثيلي وهو مسكر، ومنه صنف يسمى المثيلي وهو سامٌّ. والإثيلي هو المستعمل في المشروبات المسكرة، أما المثيلي فلا يستعمل في الشراب لأنه سامٌّ قاتل، وسبيرتو الوقود هو من النوع المثيلي، ويؤخذ من نشارة الخشب وغيرها، وشربه يسبب العمى ويؤدي إلى الوفاة خلال أيام. ومن ذلك يظهر أن المثيلي كسبيرتو الحريق ليس خمراً ، ولا يأخذ حكم الخمر من حيث النجاسة والحرمة فنخرجه من البحث. فيبقى الإثيلي (والسبيرتو الطبِّي هو من هذا النوع) .

الإثيلي هو الموجود في المشروبات المتخمِّرة والمشروبات المقطَّرة، وهذا الصنف يستعمل أيضاً في الصناعة فهو يستعمل كحافظٍ لبعض المواد، وكمادة منشِّفة للرطوبة، وكمُذيب لبعض القَلَويات والدُّهنيات، وكمقاوم للتَّجمُّد، وكمذيب لبعض الأدوية، وكمذيب للمواد العِطرية كالكالونيا والروائح ، ويدخل في صناعة بعض مواد النِّجارة. وهذه الاستعمالات قسمان: قسم يُستعمل فيه الكحول كمذيبٍ فحسب، أو كمُضاف إلى بعض المواد، وهذا الاستعمال لا يُفقد الكحول ماهيته ولا خصائصه، وإنما يظل على حاله من التركيب ومن الإسكار، فهذا القسم حرام استعماله مطلقاً، وكمثالٍ عليه الكالونيا، فالكالونيا لا يحل إستعمالها وتظل نجسة، لأن النجاسة خالطتها وظل فيها الكحول المسكر على حاله، فهي مواد مخلوطة بخمرٍ نجسة. أما القسم الثاني الذي يستعمل فيه الكحول ، ففيه يتحوَّل الكحول عن ماهيته ، ويفقد خاصِّيته في الإسكار، ويتشكل منه ومن المواد الأخرى مادة جديدة لها مواصفات غير مواصفات الكحول، ففي هذه الحالة يجوز شرعاً استعمال هذه المواد وتعتبر طاهرة لأنه لم يعد فيها كحول بعد أن استحال فيها إلى مادة أخرى مختلفة كما تستحيل الخمر إلى خل. هذا من حيث الطهارة والنجاسة، واستعمال المواد بعد الخلط في الحالتين.

أما من الذي يتولى عملية الخلط في الحالتين ؟ فالجواب هو أنه لا يجوز أن يتولاها المسلم مطلقاً، فالمسلم لا يحل له أن يحمل الكحول ليخلطه بغيره، أما إن خلطه كافر وكان من القسم الثاني فإن هذه المادة الجديدة يجوز للمسلم استعمالها، وذلك كبعض مواد النِّجارة في الدِّهان، ففيها يختلط الكحول بمادة أخرى ليخرج من الخليط مادة جديدة، فهذه المادة لا يجوز للمسلم أن يصنعها، ولكن إن صنعها كافر جاز للمسلم أن يشتريها منه، ويستعملها كسائر المواد الطاهرة المباحة.

هذه هي القاعدة في الخمر، وهذه هي الاستحالة ، وحسب هذه القاعدة يُسار في جميع الحالات وجميع المواد. وإِنَّ من أعظم ما ابتُلي به المسلمون في هذه الأيام صناعة الأدوية وصناعة العطور ، ففي الكثير منهما يدخل الكحول، لذا فالواجب على المسلم أن يتحرى حين شرائهما، فإن كان الدواء أو العطر يظل الكحول فيه على ماهيته وخاصِّيته فإن الدواءَ هذا والعطرَ لا يحل استعماله ويظل نجساً، أما إن استحال الكحول فيهما إلى مادة جديدة ذات خاصية جديدة فإنه يجوز حينئذ استعماله.

وما يقال عن الخمر يقال عن شحوم الخنزير وشحوم الميتة مثلاً، فهذه الشحوم قد تدخل في صناعة الصابون فتفقد في هذه الصناعة ماهيَّتها وخصائصَها، ففي هذه الحالة يكون الصابون حلالاً ويكون طاهراً، ولا شيء في الانتفاع به، لأن الشحوم في صناعة الصابون تتحول إلى مادة أخرى مغايرة في الوصف والخاصِّية للشحوم فتحل لأجل ذلك. وكما قلنا في الخمور نقول في الشحوم، وهو أنه في صناعة الصابون لا يحل لمسلم أن يستعمل هذه الشحوم النجسة، أما إن صنعها الكافر وحوِّلها مع مواد أخرى إلى صابون، فإنه يجوز للمسلم حينئذ أن يستعملها وتكون طاهرة.

فالقاعدة في الاستعمال والانتفاع هي أن النجاسات لا يحل لمسلمٍ الانتفاع بها استعمالاً أو بيعاً أو شراء أو هبة أو تحويلاً، ولكن إن تحولت ذاتياً إلى مواد جديدة ، أو حوَّلها كفار إلى مواد جديدة حلَّت حينئذ، لأنها لم تعد نجاسات، وصار حكمها حكم أي شيء طاهر.

تقي بن فالح
14-01-2018, 10:22 AM
الفصـل الرابـع - أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة
هناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البر والخلاء ، وهناك أحكام وآداب تتعلق بقضاء الحاجة في البيوت والعمران. وقديماً أطلق الفقهاء على هذا الفصل آداب التَّخلِّي، يعنون بذلك أحكام الأفعال التي يُقام بها حين التبوُّل والتَّغوُّط.

أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في الخلاء
1- يُسنُّ لمن أراد التبوُّل أو التغوُّط في الخلاء أن ينطلق بعيداً عن أعين الناس خاصة إذا أراد التغوط، بحيث لا يرى عورته أحد، ولا يُسمَع منه صوت، ولا تُشَمُّ منه رائحة، لحديث جابر قال «خرجنا مع رسول الله  في سفر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأتي البرَاز حتى يتغيَّب فلا يُرى» رواه ابن ماجة . ورواه أبو داود ولفظه «انطلق حتى لا يراه أحد» وهذا الحديث رجاله رجال الصحيح، إلا إسماعيل بن عبد الملك قال فيه البخاري (يُكتب حديثه). وروى النَّسائي وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ذهب المذهب أبعد» قال الترمذي (حديث حسن صحيح).
2- ويُسن أن يستتر بشيء وأن يطلب مكاناً منخفضاً - وهو ما يسمى لغة بالغائط، إذ الغائط هو المكان المنخفض - بحيث يختفي عن الأنظار. وقد جرى التوسُّع في استعمال لفظة الغائط حتى صارت تطلق على البِراز نفسه، وعلى عملية التبرُّز، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرتاد لبوله مكاناً منخفضاً يتوارى فيه، وكان يتَّخذ لحاجته سِتراً ، فعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنه قال «... وكان أحبَّ ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هَدَفٌ أو حائشُ نخل» رواه مسلم وابن ماجة والبيهقي وابن حِبَّان. قوله الهدف: أي كل مرتفع من كُومة رمل أو صخر أو جبل . وقوله الحائش: أي مجموعة أشجار متقاربة تستر مَن يقف خلفها. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبرْه فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. قال ابن حجر (إسناده حسن).
3- وإذا لم يكن مع المسلم ماء أخذ معه ثلاثة أحجار أو أكثر ، إلا أن تكون الأرض ذات حجارة فيأخذ الحجارة منها، ويُغْني عن الأحجار أيُّ صلب طاهر أملس يصلح للإنقاء. أَمَّا أنْ يكون صلباً فلأنَّ المَدَر من التراب مثلاً إذا ابتلَّ تفتت فلم يُزِل النجاسة، وأَمَّا أن يكون طاهراً فواضح، فالنجس لا يصلح للتطهير، وأَمَّا أَنْ يكون أملس صالحاً للإنقاء فلأن الحجارة الخشنة مثلاً لا تصلح لإزالة النجاسة، وربما جرحت الموضع.
قد يُقال بوجوب الاستطباب بالحجارة فحسب دون سواها من الأشياء لأن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يذكر سواها، ولم يُنقل أنه استعمل غيرها فتكون هي المطلوبة وحدها، فنجيب على ذلك بالحديث الذي رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «إنما أنا لكم مثل الوالد أُعلِّمكم، إذا ذهب أحدكم إلى الخلاء فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها ولا يستنج بيمينه، وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الرَّوث والرِّمَّة» أخرجه النَّسائي وابن ماجة وابن خُزَيمة والبيهقي. قوله الرِّمَّة : أي العظم البالي، والمراد مطلق العظم. فهذا الحديث استثنى الروث والرِّمَّة من المواد الصالحة للاستجمار، وتخصيصهما بالنهي هو دليل على صلاح ما سواهما، إذ لو كان الأمر بالاستجمار محصوراً بالأحجار فقط لنهى الرسول عليه الصلاة والسلام عما سواها مطلقاً ولم يخصِّص، ولَمَا كان لتخصيص الرَّوث والرِّمَّة بالنهي فائدة.
وبذلك يظهر أن كل ما يصلح لإزالة النجاسة يجوز الاستجمار به كالخشب والورق والخِرق والمعدن، وما ذِكْرُ الحجارة في الأحاديث إلا من باب الأعمِّ الأغلب لا غير . وقد سبق أن بيَّنَّا أن الغاية من الغسل، أيِّ غسلٍ، هي الإنقاء، ونقول هنا إن ثلاثة من الأحجار ليست مقصودة لذاتها بقدر ما يُقصد بها الإنقاء، فإن تحقَّق الإنقاء بثلاثة أو أكثر أو أقل فقد حصل المطلوب، ولا يجب فيه عدد مخصوص.
4- ويُسنّ لمن أراد التخلي أن يرتاد المكان الرَّخو حتى لا يصيبه رشاش البولِ للحديث الذي مرَّ سابقاً وفيه «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» ومدلول القول هذا أن من بال في موضع صلب لم يأمن رَشاش البول، فيقع تحت النهي الوارد في الحديث، ولذا وجب أن يبول في مكان رخو ذي تراب ناعم، إلا أن يبول على سطح صلب مائل يبعد عنه الرَّشاش فلا بأس. فالعبرة هي الاستتار والتَّنزُّه من رشاش البول، فهو العلة ، فكل ما يحقق الاستتار والتَّنزُّه واجب.
5- ولا يجوز لمسلم أن يتخلَّى في ظـلٍّ يستظلُّ فيه الناس، أو فــي طريق يسلكها الناس، أو في مكـان يجلسون فيه ، لأن فيه إضراراً بالناس وهو لا يجوز، وللحديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول الله  قال «اتَّقوا اللعَّانَيْن، قالوا : وما اللعَّانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلَّى في طريق الناس، أو في ظلهم» رواه مسلم وأحمد. ورواه أبو داود والبيهقي بلفظ
«اتَّقوا اللاعِنَيْن، قالوا: وما اللاعِنان؟». قال الخطَّابي: المراد باللاعِنَيْن الأمران الجالبان للَّعن الحاملان الناس عليه والداعيان إليه، وذلك أن مَنْ فعلهما لُعن وشُتم، يعني عادة الناس لعنه، فلمَّا صارا سبباً أُسند اللعن إليهما على طريق المجاز العقلي. أما إن كان الظِّلُّ لا يصل إليه الناس أو لا يستظلون فيه فلا بأس بالبول فيه.

تقي بن فالح
26-01-2018, 09:33 PM
6- ويُكره للمسلم أن يتخلى في الحُفَر والشقوق والجُحور، لأنها مساكن كائنات حيَّة أخرى يُؤذيها البول، فتؤذي المتبوِّل مِن ثَمَّ، لما روى قتادة عن عبد الله بن سرجس أن نبي الله  قال «لا يبولنَّ أَحدكم في جُحر، قالوا لقتادة: وما يُكره من البول في الجُحْر؟ قال : يقال إنها مساكن الجن» رواه النَّسائي وأحمد وأبو داود والبيهقي. وصححه ابن خُزَيمة.

7- يُشرع للمسلم أن يستعمل يده اليسرى لا اليمنى في الاستنجاء والاستجمار لما رُوي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال «قال لنا المشركون : إني أرى صاحبكم يعلمكم، حتى يعلمكم الخِراءَة، فقال: أجل ، إنه نهانا أن يستنجي أحدنا بيمينه، أو يستقبل القِبلة، ونهى عن الرَّوث والعظام وقال: لا يستنجي أحدكم بدون ثلاثة أحجار» رواه أبو داود والبيهقي. ورواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح. ولما رُوي عن أبي قتادة «أن النبي  نهى أن يمسَّ الرجل ذَكَره بيمينه» رواه الترمذي وقال (هذا حديث حسن صحيح).

8- ويُكره أن يتكلم مع غيره أو مع نفسه بصوت مسموع، لما رُوي عن ابن عمر «أن رجلاً مرَّ ورسولُ الله  يبول ، فسلم فلم يرد عليه» رواه مسلم وابن ماجة والنَّسائي وأبو داود والترمذي.

وقد يتساءل أحدهم: لماذا لا يكون حكم الكلام في أثناء التَّغوُّط التحريم وليس الكراهة للحديث الذي رواه أبو سعيد، قال: سمعت رسول الله  قال «لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفَيْن عورتهما يتحدثان، فإن الله يمقت على ذلك» رواه أحمد والبيهقي وأبو داود وابن ماجة؟ فأجيب : إن هذا الحديث لا يدل على أن المقت واقع على الكلام في أثناء التغوط، وإلا لكان الحديث صالحاً للدلالة على التحريم، وإنما يدل الحديث على أن المقت واقع على كشف العورة للغير والحديث معه وهو على حاله فهذا لا شك حرام، فقد روى ابن حِبَّان الحديث بسياق يفيد هذا المعنى «لا يقعد الرجلان على الغائط يتحدثان، يرى كل واحد منهما عورة صاحبه فإن الله يمقت على ذلك» فالمقت الذي يفيد التحريم واقع على رؤية كل واحد منهما عورة صاحبه، وليس على مجرَّد التحدُّث والكلام.

ويدل على كراهة الكلام أيضاً أن حديث ابن عمر المارَّ رواه أبو داود ثم قال: ورُوي عن ابن عمر وغيره «أن رسول الله  تيمَّم ، ثم ردَّ على الرجل السلام» ورواه أيضاً ابن ماجة. وكذلك الحديث المروي عن المُهاجِر بن قُنفذ «أنه أتى النبي  وهو يبول، فسلم عليه فلم يردَّ عليه حتى توضأ ثم اعتذر إليه فقال: إني كرهت أن أذكر الله عزَّ وجلَّ إلا على طُهر أو قال: على طهارة» رواه أبو داود وأحمد . فهذان الحديثان يبيِّنان العلَّة من عدم التكلم وهي كراهة ذكر الله بدون طهارة وهذه قرينة صالحة لصرف الحكم إلى الكراهة فحسب، وإلى هذا ذهب عامة الفقهاء قديماً وحديثاً.

9- ويُكره أن يستقبل القبلة وأن يستدبرها في أثناء قضاء الحاجة، إلا أن يستتر بشيء فلا بأس، هذا إن كان قضاء الحاجة في الخلاء. أما إن كان ذلك في المراحيض المتَّخَذة في البيوت فلا بأس من الاستقبال والاستدبار، لأن الجدران تستر مَن خلفها. وقد وردت عدة أحاديث تعالج هذا الموضوع ، فلْنستعرضها لاستنباط الأحكام منها:

1- عن أبي هريرة عن رسول الله  قال «إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبل القِبلة ولا يستدبرها» رواه مسلم وأحمد والدارمي.

2- عن أبي أيوب الأنصاري أن النبي  قال «إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القِبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شَرِّقوا أو غرِّبوا ، قال أبو أيوب: فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله، قال: نعم» رواه مسلم وأحمد والبخاري وابن ماجة وأبو داود.

3- عن ابن عمر قال «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله  قاعداً لحاجته مستقبل الشام مستدبر القِبلة» رواه مسلم والبخاري.

4- عن أبن عمر قال «... فحانت مني التفاتة، فرأيت كنيف رسول الله  مستقبل القِبلة » رواه البيهقي وابن ماجة بسند ليِّن.

5- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال «... فرأيت رسول الله  على لَبِنَتين مستقبل بيت المقدس لحاجته» رواه ابن حِبَّان والدار قطني والنَّسائي وابن ماجة.

6- عن عائشة رضي الله عنها قالت «ذُكِر عند رسول الله  قومٌ يكرهون أن يستقبلوا بفروجهم القِبلة، فقال: أراهم قد فعلوها، استقبلوا بمقعدتي القبلة» رواه ابن ماجة وأحمد. ورواه الدار قطني وقال (هذا أضبط إسناد) ، وحسَّنه النووي.

7- عن مروان الأصفر قال «رأيت ابن عمر أناخ راحلته مستقبِل القِبلة، ثم جلس يبول إليها، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نُهي عن هذا؟ قال : بلى إنما نُهي عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القِبلة شيء يسترك فلا بأس» رواه أبو داود والبيهقي وابن خُزَيمة . قال ابن جحر (أخرجه أبو داود والحاكم بسند لا بأس به).

8- عن جابر بن عبد الله قال «نهى نبي الله أن نستقبل القِبلة ببول فرأيته قبل أن يُقبَض بعام يستقبلها» رواه أبو داود وأحمد وابن ماجة. ورواه التِّرمذي وحسَّنه وصحَّحه البخاري وابن خُزَيمة.

9 - عن أبي هريرة عن النبي  قال «من أتى الغائط فلْيستتر، فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيباً من رمل فلْيستدبره، فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج» رواه أحمد والبيهقي. ورواه ابن ماجة وأبو داود جزءاً من حديث. وقد مرَّ.

الحديث الأول يفيد عموم النهي عن استقبال القِبلة واستدبارها، وكذلك الحديث الثاني والشطر الأول من الحديث الثامن دون تخصصٍ بالفضاء - أي بالخلاء - أو بالعمران. والحديث الثالث والحديث الرابع والحديث الخامس والحديث السادس والشطر الثاني من الحديث الثامن، تفيد كلها استقبال القِبلة أو استدبارها من فعل الرسول  وقوله، وجاء الحديث الثامن خاصةً بتوقيت الاستقبال بعامٍ قبل وفاته عليه الصلاة والسلام.

تقي بن فالح
20-02-2018, 12:22 PM
والناظر في هذه النصوص يتوهم للوهلة الأولى أن هناك تعارضاً بينها يستوجب الذهاب بسببه إلى القول بالنَّسخ ، فيقول إن أحاديث الاستقبال نسخت أحاديث النهي، لا سيما وأن الحديث الثامن هو المتأخر ، والمتأخر ينسخ المتقدم. ولكن حيث أن إعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها، وحيث أنه لا يُقال بالنسخ إلا عند تعذُّر الجمع، وبالتدقيق في هذه النصوص نجد أن الجمع والتوفيق بينها ممكن، وأن أحاديث النَّهى تُحمل على الفضاء والصحراء، وتبقى أحاديث الاستقبال والاستدبار معمولاً بها في البيوت والعمران. ذلك أن أحاديث الاستقبال والاستدبار تصلح لتخصيص عموم النهى الوارد في عدد من الأحاديث ولا تنسخها، والقول بالتخصيص أولى من القول بالنسخ، يشهد لهذا الفهم أمران اثنان:

أ - إنَّ الأحاديث التي ذكرت الاستقبال والاستدبار واضح فيها بالقرائن أنها في البيوت والعُمران بدلالة «فرأيت كنيف رسول الله صلى الله عليه وسلم» و « على لَبِنَتين مستقبلَ بيت المقدس» و «استقبلوا بمقعدتي القِبلة» فهذه النصوص تعالج الاستقبال والاستدبــار فـي البيوت، لأن الكُنُف واللَّبِنــات تكون فــي البيوت والعُمــران، وحديــث ابن عمــر الثالــث يفيد المعنــى نفسه، إذ يقـول ابن عمــر «رَقِيتُ على بيت أختي حفصة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلمقاعداً لحاجته» والمعلوم أن بيت حفصة زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم يقع في وسط بيوت المدينة إلى جوار المسجد، ولا يُتصوَّر أن يرى ابن عمر وهو على ظهر بيت أخته رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يبول أو يتبرَّز ، إلا أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قريباً منه في أحد البيوت وليس في الصحراء، لا سيما وأنه عليه الصلاة والسلام كان إذا ذهب لحاجته أبعد وتغيَّب حتى لا يُرى.

ب - الحديث السابع نصٌّ صريح في التفريق بين الصَّحراء وبين العمران، فقول ابن عمر «إنما نُهي عن ذلك في الفضاء» وإن كان قولاً لصحابي ، إلا أنه يأخذ حكم الرفع بدلالة لفظة ( نُهي)، فهذه اللفظة تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي نهى عن ذلك في الفضاء، ومفهوم النص هذا أن النهي لا يشمل البيوت والعمران ، أي بدلالة مفهوم المخالفة. فهذان الأمران يفيدان أن النهي عن الاستقبال والاستدبار إنما هو في الفضاء، أي في الخلاء وليس في البيوت، وعلى هذا المعنى يُحمل الحديث الثامن، أي أن جابراً لا بد وأن يكون قد رآه في البيوت وليس في الصحراء، أي يُحمل الحديث العام على الأحاديث المخصِّصة.


بقيت شُبهتان لا بد من التنويه بهما، هما:

أ - من أين جاء القول إن اللَّبِنَات والكُنُف تكون في العمران؟

ب - كيف نفسر قول أبي أيوب الأنصاري «فوجدنا مراحيض قد بُنيت قِبَل القِبلة فننحرف عنها ونستغفر الله »؟.

أما الشبهة الأولى فإنه وإن كان الواقع يكشفها، فإن عندنا نصاً يزيلها، هو ما جاء على لسان عائشة في حديث الإفك الطَّويل «... فخرجتُ أنا وأم مِسْطح قِبَل المناصع مُتَبَرَّزِنا، لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتَّخذ الكُنُف قريباً من بيوتنا ...» رواه البخاري ومسلم وأحمد . والدلالة واضحة.

وأما الشبهة الثانية فهي أن قول أبي أيوب وفعله وفعل عدد من الصحابة تحتمل أن هؤلاء الصحابة لم يصلهم التخصيص، فظلوا يعممون حكم النهي، وهو على أية حال لا يخرج عن كونه فهماً لصحابةٍ ، وليس دليلاً يصمد أمام الأحاديث المرفوعة.

بقي الحديث التاسع « من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج» فهذا النص هو قرينة تصرف أحاديث النهي إلى الكراهة، وليس إلى التحريم كما يقول مالك والشافعي، وأحمد في إحدى الروايات عنه، وإسحق والشعبي.

والخلاصة هي أن المكروه هو استقبال القِبلة أو استدبارها في أثناء قضاء الحاجة في الخلاء دون اتخاذ سترة، أما إن اتخذ سُترة له ثم استقبلها أو استدبرها فلا حرج عليه بعد ذلك، كمـا أنه لا حـرج عليه في استقبال القِبلة واستدبارها في البيوت، لأن الكُنُف لا قِبلـة لها.

تقي بن فالح
23-02-2018, 09:04 AM
أحكامُ وآدابُ قضاء الحاجة في البيوت والعُمران
1- يُسن للمسلم إذا أراد الدخول إلى المرحاض أن يقدِّم رجله اليسرى، ويؤخِّر اليمنى تكريماً لها، ويقول [بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث] لما روى أنس بن مالك «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» رواه البخاري وأحمد ومسلم والتِّرمذي والنَّسائي. وفي رواية للبيهقي بلفظ «إذا أراد أن يدخل». ورواه ابن أبي شيبة بلفظ «كان إذا دخل الكنيف قال : بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث» بزيادة «بسم الله». يشهد لهذه الزيادة ما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل الكنيف أن يقول : بسم الله» رواه ابن ماجة بسند صحيح. قوله الخُبُث: أي ذُكْران الجن. وقوله الخبائث: أي إناثُهم. وإذا خرج الشخص قدَّم الرِّجل اليمنى إكراماً لها وأخَّر اليسرى وقال [غُفْرانَك] لما روى يوسف بن أبي بُردة قال: سمعت أبي يقول: دخلت على عائشة فسمعتها تقول «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط قال : غُفرانَك» رواه ابن ماجة والترمذي وأحمد وأبو داود وابن خُزَيمة.

2- الأصل في المراحيض والحمَّامات أن يكون فيها ماء ، أو أن يكون الماء قريباً منها، والمستحبُّ أن يستنجي بالماء لأنه أبلغ في الإنقاء، ولكن إن استجمر بالأحجار في البيت جاز له ذلك، وإنْ جمع بين الأحجار والماء جاز له ذلك أيضاً، لأن الأحاديث ورد فيها الأمران.

3- يكره له أن يبول في مُسْتَحَمِّه، وهو المكان الذي يستحم فيه عادة، لأن البول ربما بقي على أرض الحمَّام، فإذا استحمَّ فيه أصابه منه رشاشٌ فتنجَّس، وقد نهى الرسول عليه الصلاة والسلام عنه، فعن عبد الله بن مغفَّل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لا يبولَنَّ أحدُكم في مُستَحَمِّه، فإنَّ عامَّة الوسواس منه» رواه ابن ماجة والنَّسائي وأبو داود وأحمد والترمذي. وهذا إن لم يكن للمُسْتَحَمِّ بالوعةٌ أو لم تكن أرضه ليِّنة تشرب البول فإن كان هذا أو ذاك فلا كراهة.

4- يجوز التبول في الأواني للحاجة خاصةً لمن به مرض، للحديث الذي روته أُميمة بنت رُقَيْقة قالت «كان للنبي صلى الله عليه وسلم قدح من عَيْدانٍ تحت سريره يبول فيه بالليل» رواه البيهقي وأبو داود والنَّسائي. قوله العَيْدان : أي خشب النخل. ولما رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت «يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي لقد دعا بالطَّسْت ليبول فيها فانْخَنَثَتْ نفسُه وما أشعر، فإلى مَن أوصى؟» رواه النَّسائي والبيهقي. ورواه مسلم والبخاري من طريق الأسود بن يزيد قال «ذكروا عند عائشة أن علياً كان وصيَّاً فقالت: متى أَوْصَى إليه؟ فقد كنت مُسْنِدَتَه إلى صدري، أو قالت: حَجْري، فدعا بالطَّست، فلقد انخنثَ في حَجْري وما شعرت أنه مات، فمتى أَوْصَى إليه ؟».

5- يجوز للمسلم البول جالساً وقائماً أيَّهما فعل جاز ولكن إن كانت الأرض التي يبول عليها صلبة، وخشي من رشاش البول بال جالساً، فقد رُوى عنه صلى الله عليه وسلم أنه بال واقفاً في مكان رخو، فعن أبي وائل قال «كان أبو موسى يُشدِّد في البول ويبول في قارورة ويقول: إن بني إسرائيل كان إذا أصاب جِلدَ أحدهم بولٌ قرضه بالمقاريض ، فقال حذيفة: لَوَدِدْتُ أن صاحبكم لا يُشدد هذا التَّشديد، فلقد رأيتُني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى، فأتى سُباطةً خلف حائط ، فقام كما يقوم أحدكم، فبال فانتبذت منه، فأشار إليَّ ، فجئت فقمت عند عَقِبِه حتى فرغ» رواه مسلم والبخاري وأحمد. قوله سُباطة : أي كُناسة ومزبلة. ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم بال جالساً، فعن عبد الرحمن بن حَسَنة قال «خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كهيئة الدَّرَقة فوضعها ثم جلس خلفها فبال إليها، فقال بعض القوم: انظروا يبول كما تبول المرأة ...» رواه النَّسائي والبيهقي. قوله الدَّرَقة: أي التُّرس إذا كان من الجلد.

أما حديث جابر بن عبد الله قال «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبول الرجل قائماً» رواه البيهقي وابن ماجة. فهو ضعيف جداً ، في سنده عدي بن الفضل وهو متروك متفق على تضعيفه. وأما ما رُوي أن عائشة رضي الله عنها قالت «مَن حدَّثكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بال قائماً فلا تُصدِّقوه، ما كان يبول إلا جالساً» رواه النَّسائي وأحمد وابن ماجة والترمذي. فلا يقوى على معارضة حديث حذيفة، لأن حديث حذيفة أصح من حديث عائشة الذي فيه شَرِيك، وشريك صدوق يخطيء كثيراً ، على أن حديث عائشة يدل على مبلغ علمها فحسب، وهي تحدَّثت عن بول الرسول عليه الصلاة والسلام جالساً ولم تره يبول واقفاً، والمعلوم أن الرجل يبول جالساً في الكنيف، ويبعُد جداً أن يبول فيه قائماً لصلابة أرضه عادة، ولذا فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يبول في الكنيف إلا جالساً، وهذا ما علمت به عائشة ورأته وتحدثت عنه ، فلا ينفي بولَه عليه الصلاة والسلام في العراء واقفاً لرخاوة الأرض هناك، وبذلك فلا تعارض بين الحديثين. قال ابن حجر (لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن البول قائماً شيء).
والخلاصة هي أن البول قائماً يجوز كجواز البول جالساً، ويتحرَّى في الحالتين ألا يصيبه رَشاش البول.

تقي بن فالح
26-02-2018, 01:40 PM
الفصـل الخامـس - سُنَنُ الفِطرة

اختلف العلماء في معنى لفظة الفِطْرة، فقال الخطَّابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السُّنَّة، أي سنن الأنبياء. وقال أبو هريرة والزُّهري وأحمد: هي الإسلام. قال ابن عبد البرِّ: وهو المعروف عند عامَّة السلف. وقال ابن حجر: هي الدين، وعزاه إلى طائفة من العلماء. وجزم به أبو نُعيم . وقد استدل الفريقان من جملة ما استدلا به بقوله تعالى فَأَقِمْ وَجْهَكَ للدِّيْنِ حَنِيْفاً فِطْرَةَ اللهِ التي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيْلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّيْنُ القَيِّمُ ولكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُوْنَ الآية 30 من سورة الروم. وبما روى مسلم عن عياض بن حمار المُجاشِعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خُطبته «ألا إنَّ ربي أمرني أن أُعلِّمكم ما جهلتم مما علَّمني يومي هذا، كل مال نَحلتُه عبداً حلال، وإني خلقتُ عبادي حُنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ...». وذكر ابن عطيَّة في تفسيره أن جماعة من العلماء قالوا: إن الفطرة هي الملَّة، دون أن يُسمِّيهم، ويظهر أنهم استدلُّوا على رأيهم بما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من مولود يولد إلا وهو على الملَّة». وفي رواية ثانية له «إلا على هذه الملَّة حتى يبين عنه لسانُه». وقال أبو شامة: أصل الفطرة الخِلقة المبتدأة، ومنه قوله عزَّ وجلَّ فاطِرَ السمواتِ والأرضِ أي المبتديء خلقهن.

والناظر في هذه الأقوال يجد أنها غير متعارضة، فالخلقة المبتدأة هي أصل الفطرة، والسُّنة والدين والإسلام والملَّة هي المقصودة من هذه اللفظة في الأحاديث كقوله عليه الصلاة والسلام «كل مولود يولد على الفطرة ...» وقوله عليه الصلاة والسلم «عشْرٌ من الفطرة...» ذلك أنَّ السُّنة والدين والإسلام والملة قد جاءت متوافقة مع فطرة الإنسان وخَلْقِهِ، وإن شئتَ قلتَ إن معناها في الأحاديث النبوية الإيمان الفطري.

أما السُّنن فالمقصود بها مجموعة الأفعال التي اتفقت عليها الشرائع كلها. وهذه السنن كثيرة نصَّت الأحاديث على إحدى عشرة سُنة منها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عشرٌ من الفطرة: قصُّ الشارب، وإعفاءُ اللحية، والسواكُ، واستنشاقُ الماء، وقصُّ الأظفار، وغسلُ البراجم، ونتفُ الإبط، وحلقُ العانة، وانتقاصُ الماء، قال زكرياء: قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي. قوله البراجم : أي عُقَد الأصابع. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «الفِطرة خمسٌ: الاختتان والاستحداد وقصُّ الشارب وتقليمُ الأظفار ونتفُ الإبط»رواه مسلم والبخاري وأحمد. قوله الاستحداد: أي حلق العانة.

وهذه السنن في الأحاديث بلغت إحدى عشرة سُنَّة، وقد سبق أن بحثنا الاستنجاء، وسنبحث بإذن الله الاستنشاق والمضمضة في بحث الوضو، فيتبقى منها ثمانٍ هي: السواك وقص الشارب وإعفاء اللحية ونتف الإبط وقصُّ الأظفار وغسل البراجم وحلق العانة والختان. ونبدأ بالسواك.

تقي بن فالح
04-03-2018, 03:52 AM
الســـــواك
السِّواك - بكسر السين - يطلق على الفعل، ويطلق على العود أو الشيء الذي يُتسوَّك به فيقال ساك فمه يسُوكُه سَوْكاً إذا نظَّفه بالسواك ، والجمع سُوُكٌ ككُتُب، هذا في اللغة. ولا يختلف تعريفه في اللغة عنه في اصطلاح الفقهاء، فقد عرفوه بأنه استعمال عود ونحوه في الأسنان لإزالة ما يعلق بها من فضلات الطعام، وما يعلوها من صُفرة. وقد وردت في السواك الأحاديث التالية:

1- عن عائشة رضي الله عنها أن النبي قال «السِّواك مَطْهرةٌ للفم مرضاةٌ للرَّبِّ» رواه أحمد والنَّسائي وابن حِبَّان وابن خُزَيمة. وصحَّحه النووي.

2- عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» رواه مسلم والبخاري وابن خُزَيمة وأبو داود والترمذي. وفي روايةٍ لأحمد «...لأمرتهم بالسواك مع الوضوء». وفي رواية للبيهقي «... لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء».

3- عن المِقْدام بن شريح عن أبيه قال «سألت عائشة قلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسِّواك» رواه مسلم وأبو داود وأحمد والنَّسائي والبيهقي.

4- عن حذيفة قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام ليتهجَّد يشُوصُ فاهُ بالسواك» رواه مسلم والبخاري وأحمد وأبو داود والنَّسائي.

5- عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه «... فقال ائتني بكوز من ماء، فغسل كفَّيه ووجهه ثلاثاً، وتمضمض ثلاثاً، فأدخل بعض أصابعه في فيه، واستنشق ثلاثاً، وغسل ذراعيه ثلاثاً، ومسح رأسه واحدة ... فقال : أين السائل عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كذا كان وضوء نبي الله صلى الله عليه وسلم» رواه أحمد وحسَّنه ابن حجر.

6- عن عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أعُدُّ وما لا أُحصي يستاك وهو صائم» رواه أحمد وأبو داود. ورواه الترمذي وحسَّنه هو وابن حجر.

7- عن أبي سعيد رضي الله عنه قال «أشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وأن يَستنَّ ، وأن يمَسَّ طيباً إن وجد» رواه البخاري ومسلم وأحمد.

ووردت أحاديث أخرى، إلا أننا نكتفي بهذه الأحاديث السبعة لأن فيها الغُنية.
هذه الأحاديث كلها تفيد مشروعية السواك، وتحثُّ عليه وتندب إليه حتى عدَّه الفقهاء من السُّنن المؤكَّدة. قال النووي (بإجماعِ مَن يُعتدُّ به في الإجماع) وتشدَّد داود وإسحق بن راهُويه في السواك، فرُوي عن داود أنه قال بوجوبه في الصلاة، إلا أن الصلاة لا تبطل بتركه، وقال إسحق بن راهُويه إنه واجب تبطل الصلاة بتركه عمداً.

والسواك مسنون في كل وقت لهذه الأحاديث، ولقد أحسن النووي في بحثه لهذا الموضوع بقوله (السواك مستحبٌّ في جميع الأوقات، ولكن في خمسة أوقات أشد استحباباً: أحدها عند الصلاة سواء كان متطهِّراً بماء أو تراب أو غير متطهِّر، كمن لم يجد ماء ولا تراباً، الثاني عند الوضوء، الثالث عند قراءة القرآن، الرابع عند الاستيقاظ من النوم، الخامس عند تغيُّر الفم، وتغيُّره يكون بأشياء منها ترك الأكل والشرب، ومنها أكل ما له رائحة كريهة، ومنها طول السكوت، ومنها كثرة الكلام).

أما أن السواك مندوب وليس فرضاً، فلأن الحديث الأول يقول «مرضاة للرب» ولا تكون مرضاة الله سبحانه إلا بالقيام بواجب أو بمندوب، فجاء قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الثاني «لولا أن أشقَّ على أمتي» قرينة تصرف الأمر إلى الندب، وعلى ذلك يُحمل الحديث السابع على إفادة الندب، والحديث الخامس يدل على أن التسوك لا يجب له عود الأراك ولا حتى فرشاة بل يكفي فيه إمرار الأصابع على الأسنان «فأدخل بعض أصابعه في فيه» وروى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «تُجْزِيء من السواك الأصابع» رواه البيهقي من عدة طرق . ورواه ابن عدي والدار قطني . وقال فيه ابن حجر ( لا أرى بسنده بأساً) فإذا كانت الأصابع تكفي لنيل الثواب، فإن ما هو أفضل منها في التنظيف كالفرشاة أو وضع معاجين خاصة على الأصابع لدلك الأسنان بها هو أولى وأحق، لأن النظافة هي المطلوبة وهي بالعود أو بفرشاة الأسنان تتحقق بشكل أفضل . ولسنا نريد أن نذكر فوائد المسواك الطِّبِّيَّة التي توصل إليها الطب الحديث، فهذا ليس عملنا، ويمكن تصنيفه في باب دلائل النبوَّة.

والسواك مسنون في الليل والنهار، وفي الإفطار والصوم على السواء، وإن ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة وإسحق وأبو ثور ونُسب إلــى عطــاء ومجاهـــد، مــن كراهيــة السواك بعد الزوال للصائم مستدلين عليه بحديث رواه أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «... والذي نفسي بيده لَخُلوفُ فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك...» رواه البخاري ومسلم. هو رأي غير صحيح خالف الشافعيَّ فيه حتى أتباعه، أذكر منهم أبا شامة والعِزَّ بن عبد السلام والنووي والمُزَني وابن حجر.

قال العِزُّ: وقد فضَّل الشافعي تحمُّل الصائم مشقة رائحة الخُلوف على إزالته بالسواك، مستدلاً بأن ثوابه أطيب من ريح المسك، ولا يُوافَق الشافعيُّ على ذلك، إذ لا يلزم من ذكر ثواب العمل أن يكون أفضل من غيره، لأنه لا يلزم من ذكر الفضيلة حصول الرُّجحان بالأفضلية، ألا ترى أن الوِتر عند الشافعي في قوله الجديد أفضل من ركعتي الفجر، مع قوله عليه الصلاة والسلام «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» وكم من عبادة قد أثنى الشارع عليها وذكر فضيلتها وغيرُها أفضلُ منها، وهذا من باب تزاحم المصلحتين اللتين لا يمكن الجمع بينهما، فإن السواك نوع من التَّطهُّر المشروع لأجل الرَّبِّ سبحانه، لأن مخاطبة العظماء مع طهارة الأفواه تعظيم لا شك فيه، ولأجله شُرع السواك، وليس في الخُلُوف تعظيم ولا إجلال فكيف يقال إن فضيلة الخُلُوف تربو على تعظيم ذي الجلال بتطييب الأفواه؟ . وخلص العزُّ إلى القول : والذي ذكره الشافعي رحمه الله تخصيصٌ للعام بمجرد الاستدلال المذكور المعارَض بما ذكرنا. وقال ابن حجر العسقلاني (استدلال أصحابنا بحديث خُلُوف فم الصائم على كراهة الاستياك بعد الزوال لمن يكون صائماً فيه نظر).

والصحيح هو أن استدلال هؤلاء على كراهة الاستياك بعد الزوال للصائم بحديث الخُلُوف هو استدلال لا يصلح لتخصيص الأحاديث الحاثَّة على استحباب السواك على العموم لأن حديث الخُلُوف هو في موضوع مغاير لموضوع أحاديث الاستياك، فلا يصلح مخصِّصاً. وممن ذهب إلى عدم كراهة الاستياك بعد الزوال إبراهيم النخعي وابن سيرين وعروة ومالك بن أنس وأصحاب الرأي، ورُوي عن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أجمعين.

تقي بن فالح
08-03-2018, 01:02 PM
قصُّ الشَّـارب
وردت في قص الشَّارب الأحاديث التالية:

1- عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «خالفوا المشركين، وَفِّروا اللحى وأَحفُوا الشَّوارب» رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أَحفوا الشوارب وأَوفُوا اللحى».

2- عن زيد بن أرقم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» رواه أحمد والنَّسائي. ورواه الترمذي وقال : هذا حديث حسن صحيح.

3- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «جُزُّوا الشَّوارب وأَرْخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد.

4- عن أنس رضي الله عنه قال «وُقِّتَ لنا في قصِّ الشَّارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة» رواه مسلم وابن ماجة والترمذي وأحمد.

5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «أَعْفُوا اللحى، وخُذوا الشَّوارب، وغيِّروا شيبكم ولا تشبَّهوا باليهود والنصارى» رواه أحمد وسنده حسن.

وقد ذهب الفقهاء في تفسير ألفاظ الأحاديث هذه ودلالاتها مذاهب شتى، فقال النووي (المختار أنه يقُص حتى يبدو طرف الشَّفة ولا يُحفيه من أصله) وفسَّر رواية «أَحفُوا الشوارب» بأنها تعني أَحفُوا ما طال عن الشَّفتين. وتعقَّبه الشَّوكاني فقال (الإحفاء ليس كما ذكره النووي من أن معناه أَحفوا ما طال عن الشفتين، بل الإحفاء الاستئصال كما في الصِّحاح والقاموس والكشَّاف وسائر كتب اللغة) . وقال مالك (يُؤخذ من الشَّارب حتى تبدو أطراف الشَّفة) وذهب إلى منع الحلق والاستئصال، بل كان يرى تأديب من حلق الشارب، ورُوي عنه أنه قال : إحفاء الشارب مُثْلَة. وذهب أبو حنيفة وتلاميذه زُفَر وأبو يوسف ومحمد إلى أن الإحفاء أفضل من التقصير . وإلى قولهم ذهب المُزَني والربيع من الشافعيين، ورُوي عن أحمد أنه كان يُحفي شاربه إحفاءً شديداً، ويُفتي بجواز الإحفاء والقص، وبالتخيير بينهما. وممن ذهب إلى الإحفاء من الصحابة عبد الله بن عمر وأبو هريرة وجابر وأبو سعيد ورافع بن خديج.

وبالرجوع إلى ألفاظ الأحاديث والتدقيق فيها يتبين أنها في مجملها تفيد التَّقصير الذي يتحقق فيه قطع ما يصل إلى الشَّفة والفم ، وأن هــذه الألفــاظ لا تخرج عــن هــذا المعنى، فالقصُّ والأخــذ من الشارب والإحفــاء والجزُّ كلها تؤدِّي معاً هذا المعنى، ولا يخرج عنه إلا الحلق ، وإلا التطويل بحيث يتهدَّل الشارب على الشَّفة والفم . والدليل على هذا الاستثناء الحديث الرابع «وُقِّت لنا في قصِّ الشارب ... ألاَّ نترك أكثر من أربعين ليلة» فهذا التوقيت للقصِّ بأربعين ليلة يدل على عدم الحلق وعدم التطويل، أما كيف؟ فذلك أن من يترك شاربه أربعين ليلة دون قصٍّ لا شك سيطول بحيث يتنافى مع القول بحلق الشارب ، إذ لو كان الحلق هو المطلوب لكان التوقيت لا يتعدَّى الأسبوع، ثم إن التوقيت بأربعين ليلة يتنافى أيضاً مع القول بالتطويل إلى درجة التَّهدُّل على الشَّفة والفم، فالحكم المستنبط من مجمل النصوص هو التقصير وليس الحلق ولا التطويل الكثير.

أما حكم التقصير وقصِّ للشارب فهو الندب، وهو سُنَّة مؤكدة ، لا أعلم فقيهاً خالف هذا. أما ما جاء في الأحاديث من ألفاظ مثل «ولا تَشَبَّهوا باليهود والنصـارى» و«خالفوا المشركين» و «خالفوا المجوس»و «مَن لم يأخــذ من شاربــه فليس منا» فهي لا تدل على الوجــوب، وهي لا تخــرج عن كونهــا تفيد تشديـــداً في طلـب هــذا المندوب ليس غير، فهــذه مثلهـــا مثل مــا جاء في الحـديث المروي عــن أبي هريرة قال: قـال النبــي صلى الله عليه وسلم «إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهـــم» رواه البخـــاري ومسلم وأحمد وأبو داود والنَّسائي. فهذا الحديث طلب مخالفة اليهود والنصارى في صبغ الشعر الأشيب، ولم يقل فقيه إن صبغ الشيب فرض، ولا نُقل القول بالوجوب عن أحد من الصحابة. ومثل ما جاء في الحديث المروي عن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «خالفوا اليهود فإنهم لا يُصلُّون في نعالهم ولا خِفافهم» رواه أبو داود. ولم يقل فقيه إن الصلاة في النعال والخفاف واجبة . وقد روى أحمد حديثاً - قال عنه الهيثمي: رجاله رجال الصحيح خلا القاسم وهو ثقة - يجمع ما سبق ويزيد عليه أنقله بتمامه، عن أبي أُمامة رضي الله عنه قال «خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لِحاهم فقال: يا معشر الأنصار حمِّروا وصفِّروا وخالفوا أهل الكتاب، قال: فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يتسرولون ولا يأْتزرون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تسرولوا واتَّزِروا، وخالفوا أهل الكتاب، قال، فقلنا : يا رسول الله إن أهل الكتاب يتخفَّفون ولا ينتعلون، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم : فتخفَّفوا وانتعلوا وخالفوا أهل الكتاب، قال فقلنا: يا رسول الله إن أهل الكتاب يقصُّون عثانينهم ويُوفِّرون سِبالَهم، قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم : قُصُّوا سِبالَكم ووفِّروا عثانينَكم، وخالفوا أهل الكتاب». ولا يجهل أحد أن صبغ الشعر بالأحمر كالحنَّاء أو بالأصفر كالكَتَم، ولبس السراويل والأُزُر ، والصلاة في النعال والخفاف كل ذلك غير واجب، فكذلك قصُّ السِّبال أي الشوارب وتوفير العثانين أي اللحى غير واجبين، وإن جاء النص بأن يُفعل كله من باب مخالفة أهل الكتاب.

والخلاصة، هي أن قص الشارب وتقصيره، بحيث لا يطول كثيراً ، أو لا يتهدل على الشفتين هو سُنَّة مؤكدة، وأنَّ كلا الحلقِ والتطويلِ مخالف لهذه السُّنَّة.

تقي بن فالح
28-03-2018, 04:27 PM
إعفاءُ اللحية
وردت في إعفاء اللحية الأحاديث التالية:


1- حديث عائشة المار، وفيه «عشْرٌ من الفطرة: قصًّ الشارب، وإعفاء اللحية...» رواه مسلم وأحمد وأبو داود وابن ماجة والنَّسائي.


2- حديث ابن عمر المار، وفيه «خالفوا المشركين، وفِّروا اللحى ...» رواه البخاري. ورواه مسلم بلفظ «خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوْفُوا اللحى».


3- حديث أبي هريرة المار وفيه «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى، خالفوا المجوس» رواه مسلم وأحمد.


هذه الروايات تتضمن الألفاظ التالية: إعفاء ، وفِّروا، أَوفوا ، أرخوا ، وكلها تعني معنى واحداً هو تركها تطول دون حلق أو قصٍّ أو إحفاء، أي افعلوا فيها عكس ما تفعلون في الشوارب، وقد كان من عادة الكفار قصُّ اللحية فنهى الشارع عن ذلك، وأمر بإعفائها وتوفيرها مخالفة لهم.


وإعفاء اللحية من سُنن الفطرة، وهو سُنَّة مؤكَّدة كقص الشارب، قال القاضي عياض: يُكْره حلق اللحية وقصها وتحليقها. وقال الشوكاني عند كلامه على حديث عشر من الفطرة ما يلي (الكلمات العشر ليست واجبة). وقال شمس الدين بن قُدامة في الشرح الكبير (ويُسْتحب إعفاء اللحية). وما قلته في قص الشارب أقوله في إعفاء اللحية، فحكمهما واحد وقرائنهما واحدة وإن كان التشديد على قصِّ الشارب أكثر منه على إعفاء اللحية لوجود «مَن لم يأخذ من شاربه فليس منا» فهذا التشديد لا يوجد ما يضارعه في إعفاء اللحية.


والسُّنَّة أن تُترك اللحية حتى تظهر وتبرز على الوجه. ولا حدَّ لطولها، وإنَّ ما كان ابن عمر يفعله من قص لحيته بحيث لا تزيد على قبضة اليد يمكن الأخذ به، قال البخاري (كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه) وهذا الفعل من ابن عمر ليس دليلاً، ولكنه يُعتبر حكماً شرعياً يجوز اتِّباعه. وفي المقابل لا يتحقق المطلوب بتقصيرها تقصيراً يؤدي إلى ظهور لون الجلد تحتها ، ولذلك فالأصل الاعتدال، وحدُّه أن يتوارى لون بشرة الوجه خلف شعر اللحية، وله بعدئذ أن يقص أو يدع ما يزيد على ذلك.


وإعفاء اللحية اهتم به المتصوِّفـة والمشايخ اهتماماً جاوز حد الاعتدال إلى الغلو، حتى عدُّوا الحليق فاسقاً لا تُقبل شهادته ولا يُصلى خلفه وكأنه أتى معصية من أكبر المعاصي، رغم أن الأحاديث ذكرت إعفاء اللحية ضمن العشر من الفطرة، ولم تحُثَّ عليه بأكثر من مخالفة المشركين كحال الحث على قصِّ الشارب، ومع ذلك لم يُولِ المشايخ اهتماماً بأي من السنن العشر اهتمامهم بإعفاء اللحية، والأصل أن لا تصل هذه المسألة إلى حجم أكبر من حجمها، وأن ما يقوله بعضهم من أنها علامة على الرجولة والفحولة هو قول ساقط متهافت. وكمثال على هذا التَّشدُّد أُورد رأياً للشيخ محمد ناصر الدين الألباني في هذه المسألة أنقله بكامله من كتابه [آداب الزفاف] وأناقشه بالتفصيل:


حلق اللحى. الخامس: ومثلها في القُبح ـ إن لم تكن أقبح منها عند ذوي الفِطَر السليمة ـ ما ابتُلي به أكثر الرجال من التَّزين بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار، حتى صار من العار عندهم أن يدخل العروس على عروسه وهو غير حليق وفي ذلك عدة مخالفات:


أ- تغيير خلق الله ، قال تعالى في حق الشيطان لعَنَهُ الله وقال لأتَّخِذَنَّ مِنْ عبادِك نصيباً مفروضاً ولأُضِلَّنَّهم ولأُمنِّينَّهم ولآمُرنَّهم فَلَيبتِّكُنَّ آذانَ الأنعام ولآمُرنَّهم فلَيُغيِّرُنَّ خلقَ الله ومَنْ يتَّخِذ الشيطانَ وليَّاً من دونِ الله فقد خَسِرَ خُسراناً مُبيناً فهذا نص صريح في أن تغيير خلق الله بدون إذن منه تعالى إطاعة لأمر الشيطان وعصيان للرحمن جل جلاله، فلا جَرَم أنْ لعنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيِّرات خلقَ الله للحُسن كما سبق قريباً، ولا شك في دخول حلق اللحية للحسن في اللَّعن المذكور بجامع الاشتراك في العلة كما لا يخفى، وإنما قلت: بدون إذن من الله تعالى، لكي لا يُتوهم أنه يدخل في التَّغيير المذكور مثل حلق العانة ونحوها مما أذن فيه الشارع بل استحبه وأوجبه.


ب- مخالفة أمره صلى الله عليه وسلم وهو قوله «أَنهِكوا الشوارب وأَعْفوا عن اللحى» ومن المعلوم أن الأمر يفيد الوجوب إلا لقرينة، والقرينة هنا مُؤكِّدة للوجوب وهو:


ج - التَّشبُّه بالكفار ، قال صلى الله عليه وسلم «جُزُّوا الشوارب وأَرخوا اللحى خالفوا المجوس» ويؤيد الوجوب أيضاً:


د - التَّشبُّه بالنساء، فقد «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبِّهين من الرجال بالنساء، والمتشبِّهات من النساء بالرجال» ولا يخفى أن في حلق الرجل لحيته التي ميَّزه الله بها على المرأة أكبر تشبُّه بها، فلعل فيما أوردنا من الأدلة ما يقنع المُبتَلَيْن بهذه المخالفة، عافانا الله وإياهم من كل ما لا يحبه ولا يرضاه.


وقال في هامش الكتاب ما يلي (ومما لا ريب فيه ـ عند من سلمت فطرته وحسُنت
طويته - أنَّ كل دليل من هذه الأدلة الأربعة كاف لإثبات وجوب إعفاء اللحية وحُرمة حلقها فكيف بها مجتمعة ؟!).


والجواب عليه من وجوه:


أ ـ أقف عند قوله (من التَّزيُّن بحلق اللحية بحكم تقليدهم للأوروبيين الكفار) فهو قد جعل حلق اللحية زينة ولم يذكر أن إعفاء اللحية زينة هو الآخر، إذ ربما كان إعفاء اللحية أجمل من حلقها، ثم إنه اعتبر التَّزيُّن بحلق اللحية داخلاً تحت تقليد الكفار، وهذا يضطرنا إلى تبيين معنى تقليد الكفار وحكمه.


تقليد الكفار تقليدان :تقليد في شؤون الدين ، وتقليد في شؤون الحياة، فما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم المتصلة بدينهم فهو تقليد في شؤون الدين، وما كان من تقليدٍ لأفعالهم وأُمورهم غيرِ المتصلة بالدين عندهم فهو تقليد في شؤون الحياة. أما ما كان من تقليدٍ في شؤون دينهم فهو حرام ، ومخالفته واجبة، وأما ما كان من تقليدٍ لهم في شؤون الحياة فليس بحرام ولا إثم فيه، وإن كان الأَوْلى تركه ، إلا أن يكون ذاتُه محرَّماً في ديننا نحن فيحرم. فتقليدهم بلبس البدلات وربطات العنق، وتقليدهم بإلباس جنودنا ما يلبسه جنودهم من غطاء الرأس، وتقليدهم باستقبال رؤساء الدول الأجنبية بإطلاق إحدى وعشرين طلقة واصطفاف حرس الشرف لهم، وتقليدهم بافتتاح المشاريع الحيوية بقص الشريط، وأمثال ذلك كله تقليد لا إثم فيه وليس بحرام، لأن هذه الأفعال والأمور ليست من دينهم هم، وهم لا يفعلونها ولا يتخذونها امتثالاً لعقيدتهم، ثم هي ليست مما ورد في شرعنا تحريم له ، وما دام ذلك كذلك فتقليدهم فيها لا حرمة فيه، وإن كان الأولى تركه، بينما تقليدهم بجعل التعليم مختلطاً في الجامعات وتقليدهم بتبرُّج النساء حرام لا يجوز، وإن كان ذلك ليس من شؤون الدين عندهم ولكنه حرام عندنا فيظل حراماً.