المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بؤس وورود



أحمد العكيدي
28-11-2017, 01:41 PM
لم تكن هي نفسها عندما فتحت الباب وخرجت، لم تكن تحمل معها مجلتها النسوية وهاتفها الوردي الرائق، حتى عطرها الفرنسي الجميل لا يفوح في الفضاء كعادته، عيناها حمراوان وشفتاها ذابلتان من غير زينة، وجهها شاحب تغطيه سحنة الأموات...

مرت من أمامي في مكان التقائنا المألوف كأنني غير موجود، لم تنظر قط نحوي كأنها لم تراني، ابتاعت باقة ورد كبيرة، فازدادت حيرتي؛ الورود في قاموسي رمز الفرح والسرور وحالها ليس كذلك...
همست لها وهي عائدة بكلمات جميلة، فالتفتت نحوي في ذهول. حذقت بي شاردة الذهن للحظات حسبتها الدهر حتى كادت نظراتها تخترق فؤادي، تسللت قطرات العرق الباردة فوق جبيني، وأحسست بأن الجميع يراقبني، وبأعداء التضامن الطبقي يشمتون بي ويتبجحون بصحة نظرياتهم حول حتمية الصراع الطبقي. ثم ركبت سيارتها وذهبت من غير لوم ولا عتاب.

لعلي ضالع في حالتها هاته، ربما أزعجتها من حيت لا أدري، أو لم تعد تحب قصص البؤس التي تلون كل كلماتي رغم جهودي المضنية لإخفائها. لا بد أن في الأمر سرا ؟. ماذا يمكن أن يعكر صفو حياتها الباذخة إن لم أكن أنا السبب؟؛ ذلك الوباء الذي لوث حياتها المطمئنة. الأموال تصنع السعادة وهي تملكها، الجاه أيضا، المكانة.. ربما معرفتي بها لم تعد تروق لها بعدما خبرت جوانب التعاسة حولها وداخلها، ولم تعد ساحرة كما بدت لها عند لقائنا الأول في المحطة عندما سألتني عن موعد القطار، وطال بنا الحديث وبسطت أمامها معرفتي في الثقافة والفكر، وكانت تلك ضربة حظ...
سأذهب بدراجتي هاته، وأتقصى الوضع، وأعرف سر الورود المنتقاة بعناية فائقة، كأنها هدية ذكرى زواج سعيد أو عيد حب جميل.

ما بال هؤلاء يتصنعون الحزن بلباسهم الأسود، ويخفون عيونهم خلف نظارات ملونة، وكأن للحزن لون وشكل، حتى عطرهم المستورد كئيب. توجهت بسؤال إلى البواب، هل أصيب أحد أفراد عائلة الأنسة بمكروه؟.
تمتم بنصف جواب: "بخير"، رغم أن ملامح وجهه لا تدل على ذلك...
-ماذا إذا ؟ بانفعال.
رفع بصره نحوي بتأثر مصطنع، وأجهش بالبكاء، ثم أشار إلي بالدخول من غير تلكء كما يفعل عادة. دخلت إلى الحديقة مباشرة، وكانت هذه ثاني مرة أزور فيها هذا المنزل الفخم بعدما دعتني إلى حفلة عيد ميلادها، وتعللت بجميع الحجج وأبدعت كل أساليب التملص والتهرب، لكنها رفضت كل مصوغاتي، ووضعت في جيبي مبلغا من المال لأقتني أول بدلة في حياتي، وكان لذلك مفعولا سحريا جعلني ألبي طلبها.

مجموعة من النساء والرجال يلتفون حول شيء ما أو شخص معين، يتبادلون نظرات تشبه الحزن والشجن، لكن ملامحهم كانت في الواقع جامدة. تسللت بينهم بلطف، فرأيت الأنسة الصغيرة تضع باقة الورد فوق جثة كلبها المحبوب، وترثيه خير رثاء، وتصدح بخصلاته الكثيرة ومنجزاته العظيمة. تراجعت بخطوات هادئة وركدت بسرعة حتى وصلت إلى احد أحزمة التشرد في المدينة، وتأملت وجوه هؤلاء الأطفال المشردين البائسة، ثم صدحت بينهم: "ماذا لو خلقنا كلابا للأنسة ولم نخلق مواطنين".

مجلة طنجة الأدبية العدد 63

ناديه محمد الجابي
28-11-2017, 08:02 PM
ياليتني كنت كلب في بيت غني عنده قلب..
سخرية مريرة وناقدة وناقمة على من يعطفون على الحيوانات ويبجلونها
وينسون أن هناك طفولة مشردة بائسة في حاجة إلى من ينظر إليها نظرة عطف وحنان.
سرد شيق، وذكاء في اختيار الفكرة، ومهارة في رسم مشهدها
بلغة أنيقة متقنة.
أحسنت ـ بوركت واليراع.
:sb::sb:

أحمد العكيدي
12-12-2017, 10:37 AM
ياليتني كنت كلب في بيت غني عنده قلب..
سخرية مريرة وناقدة وناقمة على من يعطفون على الحيوانات ويبجلونها
وينسون أن هناك طفولة مشردة بائسة في حاجة إلى من ينظر إليها نظرة عطف وحنان.
سرد شيق، وذكاء في اختيار الفكرة، ومهارة في رسم مشهدها
بلغة أنيقة متقنة.
أحسنت ـ بوركت واليراع.
:sb::sb:


نفدت قراءتك أستاذة نادية إلى عمق النص، بحس مرهف يتماهى مع أحداث القصة. سعدت كثيرا بمرورك الكريم وبتشجيعك المتواصل الذي يحث على العطاء...
مع التقدير

أحمد العكيدي
13-02-2018, 09:59 AM
شكرا لك على هذه الإطلالة الجميلة.

حسن لشهب
13-02-2018, 01:28 PM
سردية جميلة وبناء متماسك
أعجبتني.
شكرا

أحمد العكيدي
19-02-2018, 11:03 AM
سردية جميلة وبناء متماسك
أعجبتني.
شكرا

شكرا على تعليقك الطيب أستاذ حسن لشهب، ويسعدني أن القصة أعجبتك.
مع أجمل التحايا

عبد السلام دغمش
24-03-2018, 10:15 AM
الأستاذ أحمد العكيدي

نص جميل .. وما تضمنه من سخرية العصر - عصر المفارقات .

تحياتي .

أحمد العكيدي
04-04-2018, 03:33 PM
الأستاذ أحمد العكيدي

نص جميل .. وما تضمنه من سخرية العصر - عصر المفارقات .

تحياتي .

الأستاذ عبد السلام دغمش مرورك أسعدني وأبهجني تعليقك الطيب ...
مع التقدير

عماد هلالى
18-05-2018, 08:04 PM
قصة جميلة جدا أستاذ أحمد العكيدي تحياتي الخالصة لك وللأصدقاء في المغرب الجار والشقيق
أعجبتني فكرة القصة وأسلوبها المميز , عندك أسلوب قصصي رائع ومميز ايضا , وقلمك جذاب , رقيق وأنيق
العنوان كان يمكن أن يكون جذابا أكثر , يواكب جاذبية القصة نفسها , مارأيك في " ورود بائسة " مثلا , مع كل احتراماتي لاختيارك , ومع أغلى وأخلص تحياتي وتقديري عزيزي

أحمد العكيدي
21-05-2018, 12:11 PM
قصة جميلة جدا أستاذ أحمد العكيدي تحياتي الخالصة لك وللأصدقاء في المغرب الجار والشقيق
أعجبتني فكرة القصة وأسلوبها المميز , عندك أسلوب قصصي رائع ومميز ايضا , وقلمك جذاب , رقيق وأنيق
العنوان كان يمكن أن يكون جذابا أكثر , يواكب جاذبية القصة نفسها , مارأيك في " ورود بائسة " مثلا , مع كل احتراماتي لاختيارك , ومع أغلى وأخلص تحياتي وتقديري عزيزي

شكرا لك أستاذ عماد على هذه الإطلالة الطيبة والكلمات الرقيقة والجميلة...
في الحقيقة العنوان هو مدخل مهم لفهم النص وأحيانا يكون اختياره صعبا. في هذا النص أردت من العنوان أن يكون نصا موازيا ومكملا، لعله يبرز ذلك التناقض الذي يحاول النص تسليط الضوء عليه من خلال الحمولة السيمائية والثقافية لكمتين: "بؤس" ثم "ورود". :كأن العنوان يتساءل مع القارئ هل يمكن للبؤس أن يصاحب الورود...؟
مع التقدير

ميسر العقاد
26-05-2018, 08:15 PM
نص جيد بلغة قوية وإن رأيتُ فيه مبالغة لا أظنها واقعية فيما ذكرت من اهتمام بالحيوان النافق (
فرأيت الأنسة الصغيرة تضع باقة الورد فوق جثة كلبها المحبوب، وترثيه خير رثاء، وتصدح بخصلاته الكثيرة ومنجزاته العظيمة)
هذا أيضا على اختلافنا معك في فكرته شرعا في شرحك للعلاقة بينك وبين الآنسة
يرجى الانتباه إلى كليمات قليلة خالفتَ فيها النحو وبعض الهمزات
بوركتم أخي الكريم ولكم التحية والتقدير

أحمد العكيدي
30-05-2018, 12:24 PM
نص جيد بلغة قوية وإن رأيتُ فيه مبالغة لا أظنها واقعية فيما ذكرت من اهتمام بالحيوان النافق (
فرأيت الأنسة الصغيرة تضع باقة الورد فوق جثة كلبها المحبوب، وترثيه خير رثاء، وتصدح بخصلاته الكثيرة ومنجزاته العظيمة)
هذا أيضا على اختلافنا معك في فكرته شرعا في شرحك للعلاقة بينك وبين الآنسة
يرجى الانتباه إلى كليمات قليلة خالفتَ فيها النحو وبعض الهمزات
بوركتم أخي الكريم ولكم التحية والتقدير

مرحبا بإطلالتك الجميلة أستاذ ميسر العقاد وسرني تعليقك الطيب.
في الحقيقة النص يميل أكثر إلى السخرية ولعل العنوان يدل على ذلك، وإذا شئت هناك نصوص لي منشورة على صفحات بعض المجلات وعلى مواقع ثقافية مختلفة تحتمل المنحى الذي ذهبت إليه...
علاقة الأدب والدين خاصة جدا إن لم أقل متوترة عموما ولها مداخل عديدة، لا أحبذ الخوض فيها، وفي اعتقادي ستستمر هذه الجدلية وسيبقى السؤال هل نخضع بالضرورة النص الأدبي للرقابة الشرعية وما إلى ذلك ؟
مع التقدير