تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : ذاكرة مبعثرة



حسن لشهب
04-02-2018, 12:49 PM
ذاكرة مبعثرة

أحدهم ساعده على ارتداء معطفه الأسود، وانحنت امرأة شابة تساعده على وضع قدميه المتعبتين داخل الحذاء المثقل بالمسافات ومخلفات الأيام …
كعادته كان صامتا مستغرقا في عالمه الداخلي، لمح ابتسامتها، كانت تلبس عباءتها المراكشية الخضراء...
هكذا يتذكرها دائما !!!
تعلو وجهه ابتسامة، وكأنه يستعيد حيويته من ابتسامتها... بكل هدوء تستقبله صدفته المغلقة ، تحميه من مكر الزمن والفراغ المهيمن على الذهن والمكان…
هو عالمه السري الدافئ...
لم يكن يرغب في إشراك أحد معه في هذه الأحلام... بلا جدوى يسألونه، يحاولون اقتحام صمته، ...وكأن الكلام غاب عن لسانه بإصرار...
يحرك رأسه أحيانا، وأحيانا يكتفي بالإيماء...
يتذكرها، فتغمره سعادة الكون كله………
يحاصرها بناظريه، يسيج صورتها برموشه، كالحراب تحميها من مكر اللحظات وألاعيب الذاكرة…
شيء ما سرق منه الرغبة في الحياة !!
كأنها رحلت لغاية ما، وعم الجليد حنايا الفؤاد والمدينة وكل الأشياء والناس.
أحيانا يعتقد أن الأمور كانت هكذا دائما، الحاضرون بلا حضور، والغائبة تملأ الكون، ويغمر القلب شوق حزين.
- عد بسرعة، نحن نقلق كلما تأخرت في العودة …
هكذا قالت المرأة الشابة التي ألبسته الحذاء.
يا لها من امرأة لطيفة !
نظر إلى من يحيطون به ….
غرباء؟ مجرد غرباء؟…
بنظراتهم حنان غريب غير مفهوم !!...
تذكره المسافات بألم قدميه ، بثقل المعطف فوق كتفيه... يحلم بالعيش بين وجوه مألوفة ...ولكن كل شيء صار بلا معنى أو يكاد، وسادت الأيام ولحظات الزمن رتابة كالموت أو يكاد...
هكذا هي الأماني والأيام، متفاوتة ككفتي ميزان. عسى أن يحدث ما يعيد للأيام حركيتها وللزمن رونقه…
من يكون هؤلاء الناس؟ بأعينهم حنان الكون كله...
يوما ما حمله الشاب الذي ألبسه المعطف من الشارع حين سقط بين جموع الناس !
وحدها نظراتها وهي تلبس العباءة الخضراء تعيد لروحه بعضا من حياة…
وهذه المدينة هادئة مثل مقبرة…مغرية كالموت…
يتنهد بحرقة، يخفف عن ذاته ضيق اللحظات، ولا يدفئ أيامه وفضاءاته إلا تذكر لحظات جمعتهما في أماكن لم ينس تفاصيلها رغم عتمة الذكرى.
حسرة ما كانت تغزو ذاته كلما حمل اللقمة ولاحظ غيابها. !؟
يشعر بها تخاطبه…
- دع عنك الهم والكآبة وابتسم للحياة
كانت تقول له.
يجيبها والقلب يرتجف..
- يشق علي إكمال الرحلة، والوهن غزا كل أنحاء جسدي يا رفيقة.
لم أعد أدرك وأتبين ما يجري، هل هو الحلم أم الحقيقة !؟
والناس كالأشياء فقدت نكهتها …وما زلت لا أقوى على تناول ما يقدم لي من طعام …
أنت هناك...
بعيدة وقريبة، وأنا هنا بين أناس لا أعرفهم، فكيف تحلو اللقمة وأنت غائبة.

كيف لها أن تكون كذلك وأنت بعيدة؟ !
ومن حيث لا يدري سالت فوق خديه دمعتان، وخر فوق الطاولة بلا حراك.


حسن لشهب

ناديه محمد الجابي
04-02-2018, 08:03 PM
غائب عن كل ما حوله، ومن حوله، مستغرقا في عالمه الداخلي..يعيش معها فقط
ذات العباءة المراكشية الخضراء.. هى عالمه السري الدافئ ـ حين يتذكرها تغمره سعادة الكون كله
برحيلها كسى الجليد الفؤاد والمدينة والدنيا كلها، وفقد الرغبة في الحياة
تملأ الغائبة كونه وتغمر قلبه بشوق حزين ـ بينما أصبح كل من حوله غرباء
تحثه على أن يبتسم للحياة فيجيبها بقلبه المرتجف.. لا حياة لي بعدك، لا طعم لها وانت بعيدة
تنهمر دموعه ، ويخر بلا حراك.

ياآلهي .. ما كل هذا الحب والوفاء ـ المحبة والود والوفاء بين الأزواج ليس من الأساطير
أو في الروايات ـ بل هو موجود بيننا،وأجمل ما يرسخه هو وفاء الأزواج المسنين لبعضهم
وحسن العشرة بينهم.
أحاسيس وعواطف صادقة نقية وجدتها هنا في حروفك
ما أجمل النص، وما أعمق الحس، وما أعذب هذا الانسياب السردي الذي يغمر الوجدان ويلامس القلب.
عواطف إنسانية ومشاعر دفاقة لا يمكن رسمها إلا بريشة أديب موهوب.
بورك القلب والقلم والمداد.
:vio::0014::0014::vio:

بهجت عبدالغني
05-02-2018, 12:04 PM
قلمك رشيق أنيق.. وحرفك جميل..
ولقصتك محمول إنساني صادق..

ننتظر مزيدك..

تحياتي ودعواتي

عبد السلام لشهب
05-02-2018, 12:14 PM
كلمات تلامس الإحساس وأسلوب سردي يشد العقل ويجعلنا نفكر في حجم وقيمة هذا الحب الساكن في وجدان البطل

أديبنا البارع حسن لشهب لك أصدق تحية وتقدير

حسن لشهب
06-02-2018, 01:17 AM
شكرا لكلماتك الطيبة وتشجيعك النبيل.
تقدير أتشرف به من أديبة أكن لها كثيرا من الاحترام.
كوني دائما بخير .

ناديه محمد الجابي
06-02-2018, 10:03 AM
أعبر عن إعجابي بالقصة
وأراها تستحق التقدير.
( للتثبيت)

عبد السلام دغمش
07-02-2018, 06:50 PM
الأستاذ حسن لشهب ..

عمل قصصي جميل ولغة متينة ..

تحياتي .

حسن لشهب
07-02-2018, 07:56 PM
الأستاذ بهجت الرشيد
شكرا لتشجيعك و لكلماتك الطيبة التي كان لها وقع جميل في نفسي
محبتي وتقديري

حسن لشهب
07-02-2018, 08:00 PM
الأستاذ عبد السلام
نشترك في نفس الإسم وهي فرصة طيبة وصدفة جميلة أسعدتني .
شكرا لمرورك أخي الكريم .
كل التقدير لكلامك الطيب في حقي.
كن بألف خير.

حسن لشهب
07-02-2018, 08:03 PM
المحترم عبد السلام دعمش
شكرا لمرورك
وسعيد لتقبلك لهذا النص المتواضع.
محبتي وتقديري

أريج اليوسف
08-02-2018, 12:24 AM
أحيانا يعتقد أن الأمور كانت هكذا دائما، الحاضرون بلا حضور، والغائبة تملأ الكون، ويغمر القلب شوق حزين.
.....
وهذه المدينة هادئة مثل مقبرة…مغرية كالموت…

ما أصعب أن يكون الموت مغريا
لكن من الوفاء ما قتل
بوركت أديبنا

علاء سعد حسن
11-02-2018, 08:17 PM
هذه قصة جميلة جدا وفعلا يا أستاذ حسن

مفعمة بالرومانسية مرصعة بالشجن

محبوكة الحرف والمعنى

حتى اختيار الألفاظ والدلالات والمترادفات والصور جاء محكما جدا

فعندما تغيب نكهة الأشخاص يفقد شهيته لتذوق الطعام.. صور بلاغية راقية وجميلة وعميقة، وعديدة مما جعلها كقصة قطعة بلاغية متكاملة