ثناء صالح
25-03-2018, 03:46 PM
دَنَــا مِــنَ الْــعَيْنِ قَــابَ اثْنَيْنِ ثُمَّ نَأَى=وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى
وَدَعْـــتُــهُ كَــرْبَــلَائِــيَّ الْأَنِــيــنِ إِلَـــى=غَــدٍ شَــهِــيدٍ عَــلَــى أَحْــزَانِــهِ انْــكَــفَأَ
تَــلَــعْثَمَ الــدَّرْبُ بِــالْعُنْــوَانِ وَارْتَــبَكَتْ=مَــلَامـ ـحُ الــلَّهْفَـــةِ الْـثَّــكْلَــى بِـمَا رَزَأَ
مَضَى وَفِــيَّ الْـمَدَى الْـمَنْفِيُّ شَاخَ وَلَـمْ=يُــجْــدِ الْإِبَـــاءَ لِــصُلْبِ الْــعُمْرِ مُــتَّكَــأَ
مُــسَــافِــرٌ يُـبْـحِــرُ الْــمِــينَاءُ فِــي دَمِــهِ=وَزَوْرَقُ الْــهَــمِّ فِـــي أَضْــلَاعِــهِ رَفَـــأَ
وَحَــــائِــرٌ نَــادَمَــتْــهُ الــبِــيــدُ غُــرْبَــتَــهُ=فَــلَمْ يَــجِدْ غَــيْرَ رَحْــمِ الْــغَيْبِ مُــلْتَجَأَ
لَـمَّــا وَقَــفْـتُ عَــلَـى أَعْـتَابِ ذَاكِرَتِـي=تَــوَضَّــأَ الْـــحُــزْنُ فِـــي عَــيْــنَيَّ وَادَّرَأَ
نَـفَضْتُ عَــنْهَا غُـبَـارَ الْوَقْتِ فَافْتَرَشَتْ=سَــجَّادَة الـصَّمْتِ تَــتْلُو بِــالْجَوَى الـنَّبَـأَ
لَــمْ أَدْرِ كَــيْفَ تَـعَرَّى وَجْــهُ دَمْعَتِهَـا=وَكَـيْــفَ إِقْــدَامُهَا فِــي خَــوْفِهَا اخْــتَبَـأَ
مَا رَفْرَفَ الْـهُدْهُدُ الْمَشْدُوهُ فِي خَلَدِي=إِلَّا وَحَــذَّرَ مِــنْ خَــمْطِ الْــهَوَى سَــبَأَ
هُــنَاكَ فِــي شُــرْفَةِ الْــقَلْبِ اسْــتَقَرَّ عَلَى=غُصْنِ التَّوَجُّسِ يَرْوِي الرَّأْيَ مَاءَ نُؤَى
لَــمْ يَأْتِ بِالْعَرْشِ عِفْرِيتٌ وَلَا أَثِـمَتْ=فِــي لُـجَّةِ الشَّوْقِ يَا بِلْقِيسُ مِنْكِ رُؤَى
تِـلْكَ الْـمَزَامِيرُ لَـمْ تُــحْشَرْ إِلَيْكِ ضـُحَى=إِلَّا لِــتَــسْفَعَ عَــنْ مِــحْــرَابِكِ الْــخَــطَأَ
وَمَــا امْــتِرى الــظَّنُّ فِي صَحْرَاءَ حِكْمَتِهَا=إِلَّا وَأَسْــدَى سُــلَيْمَانُ الــنَّدَى الْــكَـلَأَ
حَــطَمْتِ مِــنْ أَمَــلِي الْــمَهْزُومِ سُــنْبُلَةً=وَصِـبْتِ مِـنْ أَلَـمِي الْــمَكْتُومِ مَــا نَــكَأَ
وَغِـبْـتِ عَـنِّــي كَـأَنِّي مَـحْضُ أُحْـجِيَةٍ=تَــنْــسَلُّ عَـــدْوًا لِــمَا قَــدْ خِــلْتِهِ رَشَــأَ
وَإِذْ تَــأَذَّنَ شَــطْــرُ الْــبَـوْحِ فِــي لُــغَتِـي=أَلَّا يَـــؤُودَ وَلَـــكِــنَّ الْــــوَفَــاءَ وَأَى
مَا انْفَكَّ يَجْلِدُ سَوْطُ اللَّوْمِ صَوْتَ دَمِي=كَــأَنَّــهُ ارْتَـــدَّ كُــفْــرًا عِــنْدَمَا اجْــتَرَأَ
فَــهَــلْ تَـــأَبَّــطَ شُـــحْــرُورٌ مَــنِــيَّــتَــهُ=حِــي َ اشْــتَهَى الضَّوْءَ نَايًا أَيْقَظَ الـحَدَأَ
يَــلُــوكُ طَــعْمَ الــرَّحِيلِ الْــمُـرِّ مُــنْهَمِكًا=فِــي دَهْــشَةِ الْـنَوحِ مِـمَّنْ بِــالنُّهَى هَـزَأَ
لَــمْ يَـفْقَـأِ اللُّبُّ عَيْنَ الـْحُبِّ حِينَ أَرَى=عَــيْــنَ الْــعِــنَادِ وَلَــكِــنْ عَــيْــنَـهُ فَــقَــأَ
وَالْــمَرْءُ حِــلْمٌ وَوِجْــدَانٌ يُــضِيءُ عَــلَى=عَتْمِ الْـمَعَانِي وَلَيْسَ الْـمَرْءُ كَيْفَ رَأَى
لَا رَأْيَ يُــثْـمِرُ فِــي نَــيْــرُوزِ ذِي أَرِبْ=إِنْ دَارَ حَــوْلَ سِــيَاقِ الــزَّهْـرِ وَاجْــتَزَأَ
وَلَا رَحِــيقَ لِــنَحْلِ الْــحُبِّ فِــي جَدَلٍ=لَـمْ يَـفْـرِشِ الصَّـدْرَ نِسْرِينًـا وَإِنْ صَبَــأَ
مَا النَّفْسُ إِلَّا مِزَاجٌ مِـنْ سِرَاجِ هَــوًى=فَــالــنَّارُ وَالـنُّـورُ كُـنْــهٌ خَــالَطَ الـحَمَأَ
فِــيـهَــا الْــخَــيَالَاتُ أَحْــلَامٌ مُــؤَجَّــلَةٌ=فَــكَــي فَ يَــأْثَـمُ مِــنْــهَا خَــاطِــرٌ طَــرَأَ
مَـــا زَالَ يَــنْـمُو عَــلَــى شُــبَّاكِ أُمْــنِيَتِي=طَــيْفٌ يُــدَاعِبُ بِــالنَّجْوَى الَّذِي ذَرَأَ
يَــمْــتَدُّ فِــي نَــشْــوَتِي ظِـــلًّا وَيُــرْهِفُنِي=طَـــلَّا وَيُــؤْثِــرُنِي فِـــي رحْــبِــهِ حَــبَأَ
فَـفِـيمَ يَــحْــمِلُنِي الـمَعْنَـى إِلَــيْكِ هُــدَى=وَيَــجْــتَبِيكِ عَــلَــى مَــنْ أُزْلِــفُـوا مَــلَأَ
وَفِـيـمَ مَــاؤُكِ مَـهْمَا شَـحَّ مِـنْكِ رَوَى=وَمَـــاءُ غَــيْــرِكِ رَغْـــدًا عُــفْــتُـهُ ظَــمَأَ
وَإِنَّ فِــي لَــوْعَةِ الْــحِرْمَانِ مِــنْكِ أَسًــى=لَــوْ صـبَّ فِــي مُــلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ لَامْتَلَآ
يُـلِــحُّ بِــالــرَّيْبِ لَــهْــفًا كُــلَّــمَا أَمِــنَتْ=وَيُــشْعِلُ الْــقَلْبَ عَــطْفًا كُــلَّمَا انْــطَفَأَ
مَـهْـمَا جَـفَوْتِ فَـمَا إِلَّاكِ فِــي فَـلَكِـي=يُــثِـيــرُ دِفْءَ فَــوَادِي كُـلَّـمَـا هَـــدَأَ
بِــهِ كَــتَبْتُ الْــهَـوَى الْــعُذْرِيَّ فَــلْسَفَــةً=فَــكَيْفَ يَــقْسُو عَــلَى الأَسْفَارِ مَنْ قَـرَأَ
أَفْـدِيــكِ قَــلْبِي الَّــذِي ضَــحَّى بِــبَسْمَتِهِ=كَــيْ يَــخْتِمَ الْــعَهْدَ نُــبْلًا مِــثْلَمَا ابْــتَـدَأَ
على أعتاب ذاكرة
يحدد الشاعر بعنوان القصيدة سياقها العام . ويعلمنا بأن ما سيأتي به الشعر من أخبار، إنما هو محض ذاكرة . فالشاعر واقف على أعتاب ذاكرته ينوي الدخول إليها . وقد نستنتج أنها ليست بالذاكرة البعيدة النائية ، بدليل وقوفه على أعتابها لقربها. فالوقوف على الأعتاب يدني تصور البناء، حتى لو كان البناء محض ذاكرة .
لكن لأن القارئ سيفكر بأن لكل بناء أعتابه ،والذاكرة البعيدة أيضا لن تتجرد عن أعتابها . نستطيع القول إن الشاعر قد وكَّل للعنوان مهمة تمويه زمن الحدث الشعري . وأن ليس المطلوب من لفظة " أعتاب " تحديد بُعد الذاكرة عن الشاعر, وإنما التأكيد على أن الشاعر متأهب للدخول فيها .
دَنَــا مِــنَ الْــعَيْنِ قَــابَ اثْنَيْنِ ثُمَّ نَأَى=وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى
دَنَــا مِــنَ الْــعَيْنِ قَــابَ اثْنَيْنِ ثُمَّ نَأَى
الداني من العين مرئي، ومعتنى به .
ففي إطار الرؤية والعناية معا : ينبغي لفهم معنى (الدنو من العين) عكس الوضع.
أي أن عين الناظر هي التي تتابع وتلاحظ وتركَز على المرئي المنظور حال وجوده في مجال رؤيتها، فبذلك فقط يتمكن من الدنو منها .
ولو أشاحت عنه وهو في المجال المنظور نفسه لما رأته لإشاحتها عنه، ولما أمكنه الدنو منها.
وهنا دنا الداني من العين " قاب اثنين" :
القاب : هو المقدار .
وأما "الاثنين " فهما الإشارتان العامتان إلى شدة القرب . ولا يبعد عن ذهن القارئ أن الشاعر قد استنبطهما من "القوسين" في الآية الكريمة من سورة النجم فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura53-aya9.html) (9 (http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura53-aya9.html)) .
لكن ماذا فعل الداني من العين بعد كل هذا القرب؟
الجواب : " نأى " وابتعد .
ونحن الآن بين حالين هما القرب الشديد والابتعاد. وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى
وفي كلا الحالين كان المقترب والمبتعد مدينا بالعون لصاحبه .
فكيف دان بالعون في الحالين ؟
"دان" التي جاء بها الشاعر كجناس ناقص مع " دنا" لها احتمالان في الدلالة المعنوية هنا :
الأول دان : أي أصبح مَدينا، وعليه تسديد دَيْنه .
فما دَينُه؟َ
دَينُه "العون" أو المساعدة .
وكيف يسدد دينه ؟
يسدد دينه بتقديم العون للمحبوب في الحالين (قربه الشديد منه وابتعاده عنه).
فالمحبوب لا يستطيع تحمل القرب دون مساعدة، ولا يستطيع تحمل البعد دون مساعدة.
ولكن المشكلة أن المدين قد " لأى" ، أي أنه احتبس وتباطأ عن تسديد ديونه .
وهكذا يصبح حال المحبوب معلقا في الحالين ، ويبقى غير قادر لا على القرب ولا على البعد.
لقد أدهشني جمال المعنى الضارب في العمق في البيت .
لكن أدهشتني أكثر صياغة هذا المعنى بقليل كلام ، لا يكاد يفصح عن مخبوئه المعنوي إلا بفك شيفرة لفظة الفعل " لأى " في علاقته مع الفعل " دان" والتي احتكرها عجز البيت وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى مع تعلقه واتصاله بمضمون الصدر،عبر الرابطة في تعليق الجار والمجرور( في الحالين ).
والاحتمال الثاني أن معنى "دان" ( اعترف) بالعون .
أي أن المحبوب (الشاعر)هو من أعان الداني على دنوه ، وعلى ابتعاده ( في الحالين ) ، ومع هذا المعنى يبقى معنى الفعل " لأى" مناسباَ من حيث التباطؤ والاحتباس عن إكمال واجب الاعتراف بتلقي العون بعدم التنكر له ، وليس الابتعاد عن المحبوب إلا جحودا وتنكرا لما سبق واعترف به المدين .
فهل جزاء الإحسان " العون" إلا الإحسان ؟
وقد يكون الشاعر قصد أحد المعنيين ، أو قصدهما معا . فقد تعودنا تعدد مذاهب المعاني في اختياره لألفاظه، وهي إحدى سمات أسلوبه الخاص.
هذا ولا يفوتني التنبيه إلى جماليات الطباق المعنوي بين دنا ونأى ، ودان ولأى وما ترتب عليهما من مقابلة معنوية بديعة، شحنت عاطفة البيت بتوتر التناقضات العاطفية ، ومنحته بطاقة حسن الاستهلال، ليكون أول عتبة إلى ذاكرة جميلة تسكن القصيدة.
يتبع بإذن الله
وَدَعْـــتُــهُ كَــرْبَــلَائِــيَّ الْأَنِــيــنِ إِلَـــى=غَــدٍ شَــهِــيدٍ عَــلَــى أَحْــزَانِــهِ انْــكَــفَأَ
تَــلَــعْثَمَ الــدَّرْبُ بِــالْعُنْــوَانِ وَارْتَــبَكَتْ=مَــلَامـ ـحُ الــلَّهْفَـــةِ الْـثَّــكْلَــى بِـمَا رَزَأَ
مَضَى وَفِــيَّ الْـمَدَى الْـمَنْفِيُّ شَاخَ وَلَـمْ=يُــجْــدِ الْإِبَـــاءَ لِــصُلْبِ الْــعُمْرِ مُــتَّكَــأَ
مُــسَــافِــرٌ يُـبْـحِــرُ الْــمِــينَاءُ فِــي دَمِــهِ=وَزَوْرَقُ الْــهَــمِّ فِـــي أَضْــلَاعِــهِ رَفَـــأَ
وَحَــــائِــرٌ نَــادَمَــتْــهُ الــبِــيــدُ غُــرْبَــتَــهُ=فَــلَمْ يَــجِدْ غَــيْرَ رَحْــمِ الْــغَيْبِ مُــلْتَجَأَ
لَـمَّــا وَقَــفْـتُ عَــلَـى أَعْـتَابِ ذَاكِرَتِـي=تَــوَضَّــأَ الْـــحُــزْنُ فِـــي عَــيْــنَيَّ وَادَّرَأَ
نَـفَضْتُ عَــنْهَا غُـبَـارَ الْوَقْتِ فَافْتَرَشَتْ=سَــجَّادَة الـصَّمْتِ تَــتْلُو بِــالْجَوَى الـنَّبَـأَ
لَــمْ أَدْرِ كَــيْفَ تَـعَرَّى وَجْــهُ دَمْعَتِهَـا=وَكَـيْــفَ إِقْــدَامُهَا فِــي خَــوْفِهَا اخْــتَبَـأَ
مَا رَفْرَفَ الْـهُدْهُدُ الْمَشْدُوهُ فِي خَلَدِي=إِلَّا وَحَــذَّرَ مِــنْ خَــمْطِ الْــهَوَى سَــبَأَ
هُــنَاكَ فِــي شُــرْفَةِ الْــقَلْبِ اسْــتَقَرَّ عَلَى=غُصْنِ التَّوَجُّسِ يَرْوِي الرَّأْيَ مَاءَ نُؤَى
لَــمْ يَأْتِ بِالْعَرْشِ عِفْرِيتٌ وَلَا أَثِـمَتْ=فِــي لُـجَّةِ الشَّوْقِ يَا بِلْقِيسُ مِنْكِ رُؤَى
تِـلْكَ الْـمَزَامِيرُ لَـمْ تُــحْشَرْ إِلَيْكِ ضـُحَى=إِلَّا لِــتَــسْفَعَ عَــنْ مِــحْــرَابِكِ الْــخَــطَأَ
وَمَــا امْــتِرى الــظَّنُّ فِي صَحْرَاءَ حِكْمَتِهَا=إِلَّا وَأَسْــدَى سُــلَيْمَانُ الــنَّدَى الْــكَـلَأَ
حَــطَمْتِ مِــنْ أَمَــلِي الْــمَهْزُومِ سُــنْبُلَةً=وَصِـبْتِ مِـنْ أَلَـمِي الْــمَكْتُومِ مَــا نَــكَأَ
وَغِـبْـتِ عَـنِّــي كَـأَنِّي مَـحْضُ أُحْـجِيَةٍ=تَــنْــسَلُّ عَـــدْوًا لِــمَا قَــدْ خِــلْتِهِ رَشَــأَ
وَإِذْ تَــأَذَّنَ شَــطْــرُ الْــبَـوْحِ فِــي لُــغَتِـي=أَلَّا يَـــؤُودَ وَلَـــكِــنَّ الْــــوَفَــاءَ وَأَى
مَا انْفَكَّ يَجْلِدُ سَوْطُ اللَّوْمِ صَوْتَ دَمِي=كَــأَنَّــهُ ارْتَـــدَّ كُــفْــرًا عِــنْدَمَا اجْــتَرَأَ
فَــهَــلْ تَـــأَبَّــطَ شُـــحْــرُورٌ مَــنِــيَّــتَــهُ=حِــي َ اشْــتَهَى الضَّوْءَ نَايًا أَيْقَظَ الـحَدَأَ
يَــلُــوكُ طَــعْمَ الــرَّحِيلِ الْــمُـرِّ مُــنْهَمِكًا=فِــي دَهْــشَةِ الْـنَوحِ مِـمَّنْ بِــالنُّهَى هَـزَأَ
لَــمْ يَـفْقَـأِ اللُّبُّ عَيْنَ الـْحُبِّ حِينَ أَرَى=عَــيْــنَ الْــعِــنَادِ وَلَــكِــنْ عَــيْــنَـهُ فَــقَــأَ
وَالْــمَرْءُ حِــلْمٌ وَوِجْــدَانٌ يُــضِيءُ عَــلَى=عَتْمِ الْـمَعَانِي وَلَيْسَ الْـمَرْءُ كَيْفَ رَأَى
لَا رَأْيَ يُــثْـمِرُ فِــي نَــيْــرُوزِ ذِي أَرِبْ=إِنْ دَارَ حَــوْلَ سِــيَاقِ الــزَّهْـرِ وَاجْــتَزَأَ
وَلَا رَحِــيقَ لِــنَحْلِ الْــحُبِّ فِــي جَدَلٍ=لَـمْ يَـفْـرِشِ الصَّـدْرَ نِسْرِينًـا وَإِنْ صَبَــأَ
مَا النَّفْسُ إِلَّا مِزَاجٌ مِـنْ سِرَاجِ هَــوًى=فَــالــنَّارُ وَالـنُّـورُ كُـنْــهٌ خَــالَطَ الـحَمَأَ
فِــيـهَــا الْــخَــيَالَاتُ أَحْــلَامٌ مُــؤَجَّــلَةٌ=فَــكَــي فَ يَــأْثَـمُ مِــنْــهَا خَــاطِــرٌ طَــرَأَ
مَـــا زَالَ يَــنْـمُو عَــلَــى شُــبَّاكِ أُمْــنِيَتِي=طَــيْفٌ يُــدَاعِبُ بِــالنَّجْوَى الَّذِي ذَرَأَ
يَــمْــتَدُّ فِــي نَــشْــوَتِي ظِـــلًّا وَيُــرْهِفُنِي=طَـــلَّا وَيُــؤْثِــرُنِي فِـــي رحْــبِــهِ حَــبَأَ
فَـفِـيمَ يَــحْــمِلُنِي الـمَعْنَـى إِلَــيْكِ هُــدَى=وَيَــجْــتَبِيكِ عَــلَــى مَــنْ أُزْلِــفُـوا مَــلَأَ
وَفِـيـمَ مَــاؤُكِ مَـهْمَا شَـحَّ مِـنْكِ رَوَى=وَمَـــاءُ غَــيْــرِكِ رَغْـــدًا عُــفْــتُـهُ ظَــمَأَ
وَإِنَّ فِــي لَــوْعَةِ الْــحِرْمَانِ مِــنْكِ أَسًــى=لَــوْ صـبَّ فِــي مُــلْتَقَى الْبَحْرَيْنِ لَامْتَلَآ
يُـلِــحُّ بِــالــرَّيْبِ لَــهْــفًا كُــلَّــمَا أَمِــنَتْ=وَيُــشْعِلُ الْــقَلْبَ عَــطْفًا كُــلَّمَا انْــطَفَأَ
مَـهْـمَا جَـفَوْتِ فَـمَا إِلَّاكِ فِــي فَـلَكِـي=يُــثِـيــرُ دِفْءَ فَــوَادِي كُـلَّـمَـا هَـــدَأَ
بِــهِ كَــتَبْتُ الْــهَـوَى الْــعُذْرِيَّ فَــلْسَفَــةً=فَــكَيْفَ يَــقْسُو عَــلَى الأَسْفَارِ مَنْ قَـرَأَ
أَفْـدِيــكِ قَــلْبِي الَّــذِي ضَــحَّى بِــبَسْمَتِهِ=كَــيْ يَــخْتِمَ الْــعَهْدَ نُــبْلًا مِــثْلَمَا ابْــتَـدَأَ
على أعتاب ذاكرة
يحدد الشاعر بعنوان القصيدة سياقها العام . ويعلمنا بأن ما سيأتي به الشعر من أخبار، إنما هو محض ذاكرة . فالشاعر واقف على أعتاب ذاكرته ينوي الدخول إليها . وقد نستنتج أنها ليست بالذاكرة البعيدة النائية ، بدليل وقوفه على أعتابها لقربها. فالوقوف على الأعتاب يدني تصور البناء، حتى لو كان البناء محض ذاكرة .
لكن لأن القارئ سيفكر بأن لكل بناء أعتابه ،والذاكرة البعيدة أيضا لن تتجرد عن أعتابها . نستطيع القول إن الشاعر قد وكَّل للعنوان مهمة تمويه زمن الحدث الشعري . وأن ليس المطلوب من لفظة " أعتاب " تحديد بُعد الذاكرة عن الشاعر, وإنما التأكيد على أن الشاعر متأهب للدخول فيها .
دَنَــا مِــنَ الْــعَيْنِ قَــابَ اثْنَيْنِ ثُمَّ نَأَى=وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى
دَنَــا مِــنَ الْــعَيْنِ قَــابَ اثْنَيْنِ ثُمَّ نَأَى
الداني من العين مرئي، ومعتنى به .
ففي إطار الرؤية والعناية معا : ينبغي لفهم معنى (الدنو من العين) عكس الوضع.
أي أن عين الناظر هي التي تتابع وتلاحظ وتركَز على المرئي المنظور حال وجوده في مجال رؤيتها، فبذلك فقط يتمكن من الدنو منها .
ولو أشاحت عنه وهو في المجال المنظور نفسه لما رأته لإشاحتها عنه، ولما أمكنه الدنو منها.
وهنا دنا الداني من العين " قاب اثنين" :
القاب : هو المقدار .
وأما "الاثنين " فهما الإشارتان العامتان إلى شدة القرب . ولا يبعد عن ذهن القارئ أن الشاعر قد استنبطهما من "القوسين" في الآية الكريمة من سورة النجم فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ (http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura53-aya9.html) (9 (http://quran.ksu.edu.sa/tafseer/tabary/sura53-aya9.html)) .
لكن ماذا فعل الداني من العين بعد كل هذا القرب؟
الجواب : " نأى " وابتعد .
ونحن الآن بين حالين هما القرب الشديد والابتعاد. وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى
وفي كلا الحالين كان المقترب والمبتعد مدينا بالعون لصاحبه .
فكيف دان بالعون في الحالين ؟
"دان" التي جاء بها الشاعر كجناس ناقص مع " دنا" لها احتمالان في الدلالة المعنوية هنا :
الأول دان : أي أصبح مَدينا، وعليه تسديد دَيْنه .
فما دَينُه؟َ
دَينُه "العون" أو المساعدة .
وكيف يسدد دينه ؟
يسدد دينه بتقديم العون للمحبوب في الحالين (قربه الشديد منه وابتعاده عنه).
فالمحبوب لا يستطيع تحمل القرب دون مساعدة، ولا يستطيع تحمل البعد دون مساعدة.
ولكن المشكلة أن المدين قد " لأى" ، أي أنه احتبس وتباطأ عن تسديد ديونه .
وهكذا يصبح حال المحبوب معلقا في الحالين ، ويبقى غير قادر لا على القرب ولا على البعد.
لقد أدهشني جمال المعنى الضارب في العمق في البيت .
لكن أدهشتني أكثر صياغة هذا المعنى بقليل كلام ، لا يكاد يفصح عن مخبوئه المعنوي إلا بفك شيفرة لفظة الفعل " لأى " في علاقته مع الفعل " دان" والتي احتكرها عجز البيت وَدَانَ بِــالــعَوْنِ فِــي الْـحَالَيْنِ ثُــمَّ لَأَى مع تعلقه واتصاله بمضمون الصدر،عبر الرابطة في تعليق الجار والمجرور( في الحالين ).
والاحتمال الثاني أن معنى "دان" ( اعترف) بالعون .
أي أن المحبوب (الشاعر)هو من أعان الداني على دنوه ، وعلى ابتعاده ( في الحالين ) ، ومع هذا المعنى يبقى معنى الفعل " لأى" مناسباَ من حيث التباطؤ والاحتباس عن إكمال واجب الاعتراف بتلقي العون بعدم التنكر له ، وليس الابتعاد عن المحبوب إلا جحودا وتنكرا لما سبق واعترف به المدين .
فهل جزاء الإحسان " العون" إلا الإحسان ؟
وقد يكون الشاعر قصد أحد المعنيين ، أو قصدهما معا . فقد تعودنا تعدد مذاهب المعاني في اختياره لألفاظه، وهي إحدى سمات أسلوبه الخاص.
هذا ولا يفوتني التنبيه إلى جماليات الطباق المعنوي بين دنا ونأى ، ودان ولأى وما ترتب عليهما من مقابلة معنوية بديعة، شحنت عاطفة البيت بتوتر التناقضات العاطفية ، ومنحته بطاقة حسن الاستهلال، ليكون أول عتبة إلى ذاكرة جميلة تسكن القصيدة.
يتبع بإذن الله